مقتل الحسين للخوارزمي - ج ١

أبي المؤيّد بن أحمد المكّي أخطب خوارزم [ خوارزمي ]

مقتل الحسين للخوارزمي - ج ١

المؤلف:

أبي المؤيّد بن أحمد المكّي أخطب خوارزم [ خوارزمي ]


المحقق: الشيخ محمّد السماوي
الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: أنوار الهدى
المطبعة: مهر
الطبعة: ١
ISBN: 964-6223-01-X
الصفحات: ٣٦٠
الجزء ١ الجزء ٢

ثم قال للمرأة : رحمك الله ، وجزاك خيرا ، اعلمي أني ابتليت من قبل ابنك ، فافتحي الباب ففتحته ، وخرج مسلم في وجوه القوم كالأسد المغضب ، فجعل يضاربهم بسيفه حتى قتل جماعة ، وبلغ ذلك ابن زياد ، فأرسل إلى محمد بن الأشعث : سبحان الله ، أبا عبد الرحمن! بعثناك إلى رجل واحد لتأتينا به ، فثلم من أصحابك ثلمة عظيمة ، فأرسل إليه محمد ابن الأشعث : أيها الأمير! أتظن أنك بعثتني إلى بقال من بقاقيل الكوفة أو جرمقاني من جرامقة الحيرة ، أفلا تعلم أيها الأمير أنك بعثتني إلى أسد ضرغام ؛ وبطل همام ؛ في كفه سيف حسام ، يقطر منه الموت الزؤام؟ فأرسل إليه ابن زياد : أن اعطه الأمان فانّك لن تقدر عليه إلّا بالأمان المؤكد بالايمان.

فجعل محمد بن الأشعث يناديه : ويحك ، يا بن عقيل! لا تقتل نفسك ، لك الأمان ، فيقول مسلم : لا حاجة لي في أمان الغدرة الفجرة وينشد :

أقسمت لا اقتل إلّا حرّا

وإن رأيت الموت شيئا مرّا

كل امرئ يوما ملاق شرّا

ردّ شعاع النفس فاستقرّا

أضربكم ولا أخاف ضرّا

ضرب همام يستهين الدهرا

ويخلط البارد سخنا مرّا

ولا اقيم للأمان قدرا

أخاف أن اخدع أو اغرّا

فناداه محمد بن الأشعث : ويحك ، يا مسلم! إنّك لن تغر ، ولن تخدع والقوم ليسوا بقاتليك ، فلا تقتل نفسك ، فلم يلتفت إليه ، فجعل يقاتلهم حتى اثخن بالجراح ، وضعف عن الكفاح ، وتكاثروا عليه من كل جانب ، وجعلوا يرمونه بالنبل والحجارة. فقال مسلم : ويلكم ، مالكم

٣٠١

ترموني بالحجارة ، كما ترمى الكفار؟ وأنا من أهل بيت النبي المختار ، ويلكم ، أما ترعون حقّ رسول الله ، ولا حقّ قرباه ، ثمّ حمل عليهم في ضعفه فهزمهم وكسرهم في الدروب والسكك ، ثم رجع وأسند ظهره على باب دار من تلك الدور ورجع القوم إليه فصاح بهم محمد بن الأشعث : ذروه ، حتّى اكلمه بما اريد ، فدنا منه ، وقال : ويحك ، يا ابن عقيل! لا تقتل نفسك ، أنت آمن ، ودمك في عنقي ، وأنت في ذمتي.

فقال مسلم : أتظن يا ابن الأشعث! إني اعطي بيدي ، وأنا أقدر على القتال؟ لا ، والله ، لا يكون ذلك أبدا ، ثم حمل عليه فألحقه بأصحابه ، ثم رجع إلى موضعه ، وهو يقول : اللهمّ! إنّ العطش قد بلغ مني فلم يجترئ أحد أن يسقيه الماء ويدنو منه ، فقال ابن الأشعث لأصحابه : إن هذا لهو العار والشنار ، أتجزعون من رجل واحد هذا الجزع؟ احملوا عليه بأجمعكم حملة رجل واحد ، فحملوا عليه وحمل عليهم وقصده رجل من أهل الكوفة ، يقال له : «بكير بن حمران الأحمري» فاختلفا بضربتين ، ضربه «بكير» على شفته العليا ، وضربه مسلم فبلغت الضربة جوفه ، فأسقطه قتيلا ، وطعن من ورائه فسقط إلى الأرض ، فاخذ أسيرا ، ثم اخذ فرسه وسلاحه ، وتقدم رجل من بني سليم يقال له : «عبيد الله بن العباس» فأخذ عمامته ، فجعل يقول : اسقوني شربة من الماء ؛ فقال له مسلم بن عمرو الباهلي : لا ، والله ، لا تذوق الماء ، يا ابن عقيل! حتى تذوق الموت ، فقال له مسلم : ويلك ، ما أجفاك ، وأفظك ، وأقسى قلبك؟ أشهد عليك إن كنت من قريش فإنّك ملصق ، وإن كنت من غير قريش فأنت دعي ، من أنت؟ يا عدو الله! قال : أنا من عرف الحق إذ أنكرته ، ونصح الإمام إذ غششته ، وأطاع إذ خالفته ، أنا مسلم بن عمرو الباهلي ، فقال له مسلم : لامّك الهبل ، يا ابن

٣٠٢

باهلة! أنت أولى بالحميم ؛ والخلود في نار الجحيم ؛ إذ آثرت طاعة آل أبي سفيان على طاعة آل محمد.

ثم قال : ويحكم ، يا أهل الكوفة! اسقوني شربة من ماء ، فأتاه غلام لعمرو بن حريث المخزومي بقلة فيها ماء وقدح من قوارير ، فصب القلّة في القدح وناوله ، فأخذ مسلم القدح بيده ، فكلما أراد أن يشرب امتلأ القدح دما ، فلم يقدر أن يشرب من كثرة الدم ، وسقطت ثنيتاه في القدح ، فامتنع من شرب ذلك الماء.

وفي رواية : أن محمد بن الأشعث لما أعطاه الأمان رمى بسيفه ، فأخذوه وحملوه على بغلة فدمعت عيناه ، فقال محمّد : إني لأرجو أن لا بأس عليك ، فقال : ويحك ، ما هو إلّا الرجاء ، فأين أمانكم؟ إنا لله وإنا إليه راجعون ، وبكى فقال ـ عبيد الله بن العبّاس السلمي ـ : من يطلب مثل الذي طلبت لا يبكي ، فقال : إني ، والله ، ما على نفسي أبكي ، لكني أبكي على أهلي المقبلين إليكم ، أبكي على الحسين وآل الحسين.

ولما ركب على البغلة ونزع منه السيف استرجع وقال : هذا أوّل الغدر ، وآيس من نفسه ، وعلم أن لا أمان له من القوم ، فقال لمحمد بن الأشعث : إني لأظنك أن تعجز عن أماني ، أفتستطيع أن تبعث رجلا عن لساني يبلغ حسينا فإني لا أراه إلّا قد خرج إلى ما قبلكم ، هو وأهل بيته ، فيقول له : إنّ مسلما بعثني إليك ، وهو أسير في يد العدو ، يذهبون به إلى القتل ، فارجع بأهلك ولا يغرنّك أهل الكوفة ، فإنهم أصحاب أبيك الذي كان يتمنى فراقهم بالموت أو القتل. إن أهل الكوفة قد كذبوني ، فكتبت إليك وليس لمكذوب رأي ، فقال محمد : والله ، لأفعلن ، ودعا ـ بإياس الطائي ـ وكتب معه إلى الحسين ما قاله مسلم عن لسان مسلم ، وأعطاه راحلة

٣٠٣

وزادا ، فذهب فاستقبل الحسين بزبالة ، وكان مسلم حين تحول إلى دار هانئ كتب إلى الحسين كتابا ذكر فيه : كثرة من بايعه ، فهو قوله : كذبوني فكتبت إليك ، ثم اتي به فادخل على ابن زياد فاوقف ولم يسلم عليه ، فقال له الحرسي : سلّم على الأمير ، فقال مسلم : أسكت لا أم لك مالك والكلام ما هو لي بأمير فأسلّم عليه ، واخرى ما ينفعني سلامي وهو يريد قتلي ، فإن استبقاني فسيكثر.

فقال ابن زياد : لا عليك ، سلمت أو لم تسلم ، فإنّك مقتول ، فقال مسلم : إن قتلتني فلقد قتل من هو شرّ منك من هو خيرا مني ، ثمّ قال له : إن القوم قد آمنوني ، فقال محمد بن الأشعث إني قد آمنته ، فقال ابن زياد : وما أنت وذاك؟ كأني إنما أرسلتك لتؤمنه ، ثمّ قال لمسلم : يا شاق يا عاق! خرجت على إمامك وشققت عصا المسلمين ، وألقحت الفتنة ، فقال : كذبت يا ابن زياد إنما شقّ عصا المسلمين معاوية وابنه يزيد ، وإنما ألقح الفتنة أنت وأبوك زياد بن عبيد بن علاج من ثقيف ، وأنا أرجو أن يرزقني الله الشهادة على يدي شرّ بريته ، فو الله ، ما خلعت وما غيرت ، وإنما أنا في طاعة الحسين ابن علي وابن فاطمة بنت رسول الله ، فهو أولى بالخلافة من معاوية وابنه وآل زياد ، فقال له ابن زياد : يا فاسق! ألم تكن تشرب الخمر بالمدينة؟ فقال مسلم : الله يعلم أني ما شربتها قط ، وأحق مني بشرب الخمر من يقتل النفس الحرام ، ويقتل على الغضب والعداوة والظن ، وهو في ذلك يلهو ويلعب كأنه لم يصنع شيئا.

فقال له ابن زياد : يا فاسق! منتك نفسك أمرا حال الله دونه ، وجعله لأهله ، فقال مسلم : ومن أهله يا ابن مرجانة؟ فقال له : يزيد بن معاوية ، فقال مسلم : الحمد لله ، رضينا بالله حكما بيننا وبينكم ، فقال ابن زياد :

٣٠٤

أتظن أنّ لك من الأمر شيئا ، فقال : لا ، والله ، ما هو بالظن ولكنّه اليقين ، فقال ابن زياد له : قتلني الله إن لم أقتلك شرّ قتلة ، فقال له مسلم : أما انّك لا تدع سوء القتلة ، وقبح المثلة ، وخبث السريرة ، ولؤم الفعلة لأحد غيرك أولى منك ، والله ، لو كان معي عشرة ممّن أثق بهم ، وقدرت على شربة ماء ، لطال عليك أن تراني في هذا القصر ، ولكن إن كنت قد عزمت على قتلي فأقم لي رجلا من قريش حتّى أوصي إليه بما اريد.

ثم نظر مسلم إلى ـ عمر بن سعد بن أبي وقاص ـ ، فقال له : إنّ بيني وبينك قرابة فاسمع مني ، فامتنع ، فقال له ابن زياد : ما يمنعك من الاستماع لابن عمك؟ فقام عمر إليه ، فقال له مسلم : اوصيك بتقوى الله فإنّ التّقوى درك كلّ خير ، ولي إليك حاجة ، فقال عمر : قل ما أحببت ، فقال : حاجتي إليك أن تسترد فرسي وسلاحي من هؤلاء القوم فتبيعه ، وتقضي عني سبعمائة درهم استدنتها في مصركم هذا ، وأن تستوهب جثتي إن قتلني هذا الفاسق ، فتواريني في التراب ، وأن تكتب للحسين : أن لا يقدم ، فينزل به ما نزل بي ، فقال عمر بن سعد : أيها الأمير! إنه يقول كذا وكذا ، فقال ابن زياد : يا ابن عقيل! أما ما ذكرت من دينك فإنما هو مالك ، تقضي به دينك ولسنا نمنعك أن تصنع به ما أحببت ، وأما جسدك فإنا إذا قتلناك فالخيار لنا ولسنا نبالي ما صنع الله بجثتك ، وأما الحسين فإنه إن لم يردنا لم نرده ، وان أرادنا لم نكف عنه.

وفي رواية : أنه قال : وأما الحسين فلا ولا كرامة ، ولكن اريد أن تخبرني يا بن عقيل! لما ذا أتيت أهل هذا البلد ، وأمرهم جميع ، وكلمتهم واحدة ، فأردت أن تفرّق عليهم أمرهم ، وتحمل بعضهم على بعض؟ فقال له مسلم : ليس لذلك أتيت ، ولكن أهل هذا المصر زعموا أن ـ أباك ـ قتل

٣٠٥

خيارهم ، وسفك دماءهم ، وأن معاوية حكم فيهم ظلما بغير رضى منهم ، وغلبهم على ثغورهم التي أفاء الله بها عليهم ، وأن عاملهم يتجبر ويعمل أعمال كسرى وقيصر ، فأتينا لنأمر بالعدل ، وندعو إلى الحكم بكتاب الله إذ كنا أهله ، ولم تزل الخلافة لنا ، وإن قهرنا عليها ، رضيتم بذلك أم كرهتم ، لأنكم أول من خرج على إمام هدى وشق عصا المسلمين ، ولا نعلم لنا ولكم مثلا ، إلّا قول الله تعالى : (وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ) الشعراء / ٢٢٧.

قال : فجعل ابن زياد يشتمه ، ويشتم عليا ؛ والحسن ؛ والحسين ، فقال مسلم : أنت وأبوك أحقّ بالشتم والسبّ ، فاقض ما أنت قاض يا عدوّ الله! فنحن أهل بيت موكل بنا البلاء ، فقال ابن زياد : اصعدوا به إلى أعلى القصر ، واضربوا عنقه ، واتبعوا رأسه جسده ، فقال مسلم : أم والله ، يا ابن زياد! لو كنت من قريش أو كان بيني وبينك رحم لما قتلتني ، ولكنك ابن أبيك ، فازداد ابن زياد غضبا ، ودعا برجل من أهل الشام قد كان مسلم ضربه على رأسه ضربة منكرة ، فقال له : خذ مسلما إليك واصعده إلى أعلى القصر ، وأضرب أنت عنقه بيدك ، ليكن ذلك أشفى لصدرك.

قال : فأصعد مسلم إلى أعلى القصر ، وهو يسبّح الله ويستغفره ، ويقول : اللهم! احكم بيننا وبين قوم غرّونا وخذلونا ، حتى اتي به إلى أعلى القصر ، فتقدم ذلك الشامي ، وضرب عنقه ، ثمّ نزل الشامي وهو مذعور مدهوش ، فقال له ابن زياد : ما شأنك أقتلته؟ قال : نعم ، إلّا أنه عرض عارض ، فأنا به مرعوب ، قال : وما الذي عرض؟ قال : رأيت ساعة قتلته رجلا بحذائي : أسود شديد السواد ؛ كريه المنظر ، عاضا على إصبعه أو قال شفته ، ففزعت منه فزعا لم افزع مثله قط ، فتبسم ابن زياد ، وقال : دهشت

٣٠٦

من شيء لم تعتده قبل ذلك.

قال : ثم أمر ابن زياد بهانئ بن عروة أن يخرج فيلحق بمسلم بن عقيل ، فقال محمد بن الأشعث : أصلح الله الأمير! إنّك قد عرفت منزلته في المصر ، وشرفه وعشيرته ، وقد علم به قومه أني وأسماء بن خارجة جئنا به إليك ، فانشدك الله أيها الأمير! إلّا وهبته لي ، فإني أخاف عداوة أهل بيته فإنهم سادات أهل الكوفة وأكثرهم عددا ، قال : فزبره ابن زياد وأخرج هانئ إلى السوق إلى موضع تباع فيه الغنم وهو مكتوف ، فعلم هانئ أنه مقتول ، فجعل يقول : وا مذحجاه! وأين مني مذحج؟ وا عشيرتاه! وأين مني عشيرتي؟ ثمّ أخرج من الكتاف يده للمدافعة ، وقال : أما من عصا أو سكين أو حجر أو عظم يجاحش به الرجل عن نفسه ، فوثبوا إليه وشدّوه ، ثمّ قالوا له : امدد عنقك ، فقال : ما أنا بها سخي ، ولا بمعينكم على نفسي ، فضربه غلام تركي لعبيد الله بن زياد بالسيف ضربة لم يصنع بها شيئا ، فقال هاني : إلى الله المعاد والمنقلب ، اللهم! إلى رحمتك ورضوانك ، اللهم! اجعل هذا اليوم كفارة لذنوبي ، فإني إنما غضبت لابن نبيك محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فتقدم إليه أيضا الغلام التركي واسمه «رشيد» فضربه فقتله.

ثم أمر ابن زياد بمسلم وبهانئ فصلبنا منكسين.

٢ ـ أخبرنا الشيخ الإمام الزاهد أبو الحسن عليّ بن أحمد العاصمي ، أخبرنا شيخ القضاة أبو علي إسماعيل بن أحمد بن الحسين البيهقي ، عن أبيه ، أخبرنا أبو الحسين بن بشران ، أخبرنا أبو عمرو بن السّماك ، حدثنا حنبل بن إسحاق ، حدثنا الحميدي ، حدثنا سفيان بن عيينة ، حدّثنا عمرو ابن دينار ، قال : أرسل الحسين عليه‌السلام مسلم بن عقيل إلى الكوفة ، وكان مثل الأسد لقد كان من قوته أنه يأخذ الرجل بيده فيرمي به فوق البيت إلى أن

٣٠٧

قتل بالكوفة. عدنا إلى ما نحن فيه.

٣ ـ قال الإمام أحمد بن أعثم الكوفي في «تاريخه» : ولما صلب مسلم ابن عقيل ؛ وهانئ بن عروة ، قال فيهما عبد الله بن الزبير الأسدي :

إذا كنت لا تدرين ما الموت فانظري

إلى هانئ بالسوق وابن عقيل

الى بطل قد هشم السيف وجهه

وآخر يهوي من طمار قتيل

ترى جسدا قد غير الموت لونه

ونضح دم قد سال كل مسيل

فتى كان أحي من فتاة حييّة

وأقطع من ذي شفرتين صقيل

وأشجع من ليث بخفان مصحر

وأجرأ من ضار بغابة غيل

أصابهما أمر الأمير فأصبحا

أحاديث من يسري بكل سبيل

أيركب أسماء الهماليج آمنا

وقد طلبته مذحج بذحول

تطوف حواليه مراد وكلهم

على رقبة من سائل ومسول

فإن أنتم لم تثأروا لأخيكم

فكونوا بغايا ارضيت بقليل

قال : ثم كتب ابن زياد إلى يزيد : بسم الله الرّحمن الرّحيم لعبد الله يزيد ـ أمير المؤمنين ـ من عبيد الله بن زياد : الحمد لله الذي أخذ لأمير المؤمنين بحقه ، وكفاه مئونة عدوّه ، ثمّ ذكر قدوم مسلم بن عقيل ، وذكر هانئ بن عروة ، وكيف أخذهما؟ وكيف قتلهما؟ ثمّ قال : وقد بعثت برأسيهما مع هانئ بن حيّة الوداعي ؛ والزبير بن الأروح التميمي ، وهما من أهل الطاعة والسنّة والجماعة ، فليسألهما أمير المؤمنين عما أحبّ ، فإنّ عندهما علما وفهما وصدقا وورعا.

فلما ورد الكتاب والرأسان جميعا نصبهما على باب دمشق ، ثمّ كتب لابن زياد :

أما بعد ـ فإنّك عملت عمل الحازم ، وصلت صولة الشجاع الرابط

٣٠٨

الجاش ، فكفيت ووفيت ، وقد سألت رسوليك فوجدتهما كما زعمت ، وقد أمرت لكلّ واحد منهما بعشرة آلاف درهم وسرّحتهما إليك ، فاستوص بهما خيرا ، وقد بلغني : أنّ الحسين بن علي قد عزم على المصير إلى العراق ، فضع المراصد والمناظر والمسالح ، واحترس واحبس على الظن ، واقتل على التهمة ، واكتب في ذلك إليّ كلّ يوم بما يحدث من خبر.

قال : وبلغ الحسين : أنّ مسلم بن عقيل قد قتل ، وذلك أنه قدم عليه رجل من أهل الكوفة ، فسأله : عن مسلم؟ فقال : والله ، يا ابن رسول الله! ما خرجت من الكوفة ، حتى نظرت إلى مسلم بن عقيل ، وهانئ بن عروة المذحجي ، قتيلين جميعا مصلوبين منكسين في سوق القصابين ، وقد وجّه برأسيهما إلى يزيد.

فاستعبر الحسين باكيا ، ثمّ قال : «إنا لله وإنا إليه راجعون» ، وعزم على المسير الى العراق ، فدخل عليه ـ عمر بن عبد الرحمن بن الحرث بن هشام المخزومي ـ ، فقال : يا ابن رسول الله! أتيتك لحاجة اريد أن أذكرها لك ، وأنا غير غاش لك فيها ، فهل لك أن تسمعها؟ فقال : «قل : ما أحببت» فقال : أنشدك الله ، يا ابن عم! أن لا تخرج إلى العراق ، فإنهم من قد عرفت ، وهم أصحاب أبيك ، وولاتهم عندهم ، وهم يجبون البلاد ، والناس عبيد المال ، ولا آمن أن يقاتلك من كتب إليك يستقدمك.

فقال الحسين : «سأنظر فيما قلت ، وقد علمت أنك أشرت بنصح ، ومهما يقض الله من أمر فهو كائن البتة ، أخذت برأيك أم تركت» فانصرف عنه عمر بن عبد الرّحمن ، وهو يقول :

ربّ مستنصح سيعصي ويؤذي

ونصيح بالغيب يلفى نصيحا

وقدم ابن عباس في تلك الأيام إلى مكة ، وقد بلغه أن الحسين عزم

٣٠٩

على المسير ، فأتى إليه ودخل عليه مسلّما ، ثم قال له : جعلت فداك! إنّه قد شاع الخبر في الناس ، وارجفوا بأنّك سائر الى العراق ، فبين لي ما أنت عليه؟

فقال : «نعم ، قد أزمعت على ذلك في أيامي هذه إن شاء الله ، ولا حول ولا قوة إلّا بالله العلي العظيم» ، فقال ابن عباس : اعيذك بالله ، من ذلك فإنك إن سرت إلى قوم قتلوا أميرهم ، وضبطوا بلادهم ، واتقوا عدوهم ، ففي مسيرك إليهم لعمري الرشاد والسداد ، وإن سرت إلى قوم دعوك إليهم ، وأميرهم قاهر لهم ، وعمالهم يجبون بلادهم ، فإنما دعوك إلى الحرب والقتال ، وأنت تعلم أنّه بلد قد قتل فيه أبوك ؛ واغتيل فيه أخوك ؛ وقتل فيه ابن عمّك ، وقد بايعه أهله ، وعبيد الله في البلد يفرض ويعطي ، والناس اليوم عبيد الدينار والدرهم ، فلا آمن عليك أن تقتل ، فاتّق الله والزم هذا الحرم ، فإن كنت على حال لا بدّ أن تشخص ، فصر إلى اليمن فإن بها حصونا لك ، وشيعة لأبيك ، فتكون منقطعا عن الناس.

فقال الحسين : «لا بدّ من العراق» ، قال : فإن عصيتني فلا تخرج أهلك ونساءك ، فيقال : إنّ دم عثمان عندك وعند أبيك ، فو الله ، ما آمن أن تقتل ونساؤك ينظرن كما قتل عثمان.

فقال الحسين : «والله يا ابن عم! لئن أقتل بالعراق أحبّ إليّ من أن اقتل بمكة ، وما قضى الله فهو كائن ، ومع ذلك أستخير الله وأنظر ما يكون».

وأقبل إليه ـ عبد الله بن مطيع العدوي ـ ، فقال : جعلت فداك ، يا ابن رسول الله! لا تخرج إلى العراق فإنّ حرمتك من الله حرمة ، وقرابتك من رسول الله قرابة ، وقد قتل ابن عمّك بالكوفة ، وإنّ بني اميّة إن قتلوك لم يرتدعوا عن حرمة الله أن ينتهكوها ، ولم يهابوا أحدا بعدك أن يقتلوه ، فالله ، الله ، أن تفجعنا بنفسك ، فلم يلتفت الحسين إلى كلامه.

٣١٠

ثمّ أقبل عبد الله بن الزبير فسلّم عليه ، وجلس ساعة ، ثمّ قال : أما والله ، يا بن رسول الله! لو كان لي بالعراق مثل شيعتك لما أقمت بمكة يوما واحدا ، ولو أنك أقمت بالحجاز ما خالفك أحد ، فعلى ما ذا نعطي هؤلاء الدنية ، ونطمعهم في حقنا ، ونحن أبناء المهاجرين وهم أبناء المنافقين؟ قال : وكان هذا الكلام مكرا من ابن الزبير لأنّه لا يحبّ أن يكون بالحجاز أحد يناويه ، فسكت عنه الحسين وعلم ما يريد.

ثم عاد عليه ابن عباس مرّة ثانية ، فأشار عليه بما أشار عليه أوّلا ، ونهاه أن يخرج إلى العراق ، وأن يخرج بنسائه وأهله فيقتل وهم ينظرون إليه ، كما قتل عثمان وأهله ينظرون إليه ، فلا يقدرون له على حيلة ، ثمّ قال : والله ، يا ابن رسول الله! لقد أقررت عيني ابن الزبير بخروجك عن مكة ، وتخليتك إياه في هذه البلدة ، فهو اليوم لا ينظر إليه أحد ، وإذا خرجت نظر النّاس إليه بعدك. فقال الحسين : «فإني أستخير الله في هذا الأمر وأنظر ما يكون» فخرج ابن عبّاس ، وهو يقول : وا حسيناه! ثمّ إن ابن عبّاس مرّ بابن الزبير في طريقه ، وقال له :

يا لك من قبرة بمعمر

خلا لك الجو فبيضي واصفري

ونقري ما شئت أن تنقري

إن ذهب الصائد عنك فابشري

قد رفع الفخ فما من حذر

هذا الحسين سائر فانتشري

ثمّ قال له : قرّت عيناك يا ابن الزبير! فهذا الحسين يخرج إلى العراق ، ويخليك والحجاز ، واتصل الخبر بالمدينة ، وبلغهم أنّ الحسين عزم على الخروج إلى العراق ، فكتب إليه ـ عبد الله بن جعفر الطيار ـ :

بسم الله الرّحمن الرّحيم للحسين بن عليّ من عبد الله بن جعفر :

أما بعد ـ فإني انشدك الله أن تخرج من مكة ، فإني خائف عليك من

٣١١

هذا الأمر الذي قد أزمعت عليه أن يكون فيه هلاكك ، واستئصال أهل بيتك ، فإنّك إن قتلت خفت أن يطفأ نور الله ، فأنت علم المهتدين ، ورجاء المؤمنين ، فلا تعجل بالمسير إلى العراق ، فإني آخذ لك الأمان من يزيد ومن جميع بني اميّة لنفسك ولمالك وأولادك وأهلك ، والسلام.

فكتب إليه الحسين :

«أما بعد ـ فإنّ كتابك ورد عليّ فقرأته وفهمت ما فيه ، اعلم أني قد رأيت جدي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في منامي ، فأخبرني بأمر أنا ماض له ؛ كان لي الأمر أو عليّ ، فو الله ، يا ابن عم! لو كنت في حجر هامة من هوام الأرض لاستخرجوني حتى يقتلوني ، وو الله ، ليعتدن عليّ كما اعتدت اليهود في يوم السبت ، والسّلام».

وكتب إليه ـ عمرو بن سعيد بن العاص ـ من المدينة :

أما بعد ـ فقد بلغني أنك قد عزمت على الخروج إلى العراق ، ولقد علمت ما نزل بابن عمك مسلم بن عقيل وشيعته ، وأنا اعيذك بالله تعالى من الشقاق ، فإني خائف عليك منه ، ولقد بعثت إليك بأخي ـ يحيى بن سعيد ـ فأقبل إليّ معه ، فلك عندنا الأمان والصلة ، والبر والإحسان وحسن الجوار ، والله بذلك عليّ شهيد ووكيل ، وراع وكفيل ، والسلام.

فكتب إليه الحسين :

«أما بعد ـ فإنّه لم يشاق من دعا إلى الله وعمل صالحا ، وقال : إنني من المسلمين ، وقد دعوتني إلى البر والإحسان ، وخير الأمان أمان الله ، ولن يؤمن الله يوم القيامة من لا يخافه في الدّنيا ، ونحن نسأله لك ولنا في هذه الدنيا عملا يرضى لنا يوم القيامة ، فإن كنت بكتابك هذا إليّ أردت بري وصلتي ، فجزيت بذلك خيرا في الدّنيا والآخرة ، والسلام».

٣١٢

ثم أتى كتاب من يزيد بن معاوية إلى عمرو بن سعيد ، يأمره فيه : أن يقرأه على أهل الموسم وفيه :

يا أيها الراكب الغادي لطيته

على عذافرة في سيرها قحم

أبلغ قريشا على نأي المزار بها

بيني وبين الحسين الله والرّحم

وموقف بفناء البيت ينشده

عهد الإله وما توفي به الذمم

عنيتم قومكم فخرا بامكم

أم لعمري حصان عمّها الكرم

هي التي لا يداني فضلها أحد

بنت الرسول وكلّ النّاس قد علموا

وفضلها لكم فضل وغيركم

من قومكم لهم من فضلها قسم

إني أظن وخير القول أصدقه

والظن يصدق أحيانا وينتظم

إن سوف يترككم ما تدعون به

قتلى تهاداكم العقبان والرخم

يا قومنا! لا تشبوا الحرب إذ سكنت

واستمسكوا بحبال الخير واعتصموا

قد عضت الحرب من قد كان قبلكم

من القرون وقد بادت بها الامم

فأنصفوا قومكم لا تشمخوا بذخا

فربّ ذي بذخ زلّت به القدم

وأتى مثله إلى ـ أهل المدينة ـ من قريش وغيرهم ، قال الشعبي : لكأنه ينظر إلى مصارع القوم ، قال : فوجه أهل المدينة بهذه الأبيات إلى الحسين ، ولم يعلموه أنها من يزيد ، فلما نظرها الحسين علم أنها منه ، وكتب إليهم في الجواب : «بسم الله الرّحمن الرّحيم (وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ) يونس / ٤١.

٤ ـ أخبرنا الشيخ الإمام الزاهد الحافظ أبو الحسن عليّ بن أحمد العاصمي ، عن شيخ القضاة إسماعيل بن أحمد ، عن والده أحمد بن الحسين البيهقي ، أخبرنا أبو محمد عبد الله السكري ـ ببغداد ـ ، أخبرنا إسماعيل بن أحمد الصفار ، حدثنا أحمد بن منصور ، حدثنا عبد الرزاق ، أخبرنا ابن

٣١٣

عيينة ، عن إبراهيم بن ميسرة ، عن طاوس ، قال : سمعت ـ ابن عبّاس ـ يقول : استشارني الحسين بن علي في الخروج من مكة ، فقلت : لو لا أن يزري بي وبك لتشبثت بيدي في رأسك ، قال : فقال : «ما احبّ أن تستحلّ بي» ـ يعني : مكّة.

٥ ـ قال : وبهذا الإسناد ، عن والدي ، أخبرنا أبو الحسين بن الفضل ، أخبرنا عبد الله بن جعفر ، حدثنا يعقوب بن سفيان ، حدثنا أبو بكر الحميدي ، حدثنا سفيان ، حدثنا عبد الله بن شريك ، عن بشر بن غالب ، قال : قال عبد الله بن الزبير للحسين بن علي عليه‌السلام : أين تذهب إلى قوم قتلوا أباك ، وطعنوا أخاك؟! فقال له الحسين : «لأن اقتل بمكان كذا وكذا ، أحبّ إليّ من أن تستحلّ بيّ» ـ يعني مكّة.

[انتهى «الفصل العاشر» والحمد لله ربّ العالمين]

٣١٤

الفصل الحادى عشر

في خروجه من مكة

الى العراق وما جرى عليه في

طريقه ونزوله بالطف من كربلاء ومقتله عليه‌السلام

٣١٥
٣١٦

١ ـ قال الإمام الأجل والشيخ المبجل أحمد بن أعثم الكوفي في «تاريخه» : ثمّ جمع الحسين عليه‌السلام أصحابه الذين عزموا على الخروج معه إلى العراق ، فأعطى كل واحد منهم : عشرة دنانير ، وجملا يحمل عليه رحله وزاده ، ثمّ إنه طاف بالبيت ، وطاف بالصفا والمروة ، وتهيأ للخروج ، فحمل بناته وأخواته على المحمل ، وفصل من مكة يوم الثلاثاء ـ يوم التروية ـ لثمان مضين من ذي الحجّة ، ومعه اثنان وثمانون رجلا من شيعته ومواليه وأهل بيته.

فلمّا خرج اعترضه أصحاب الأمير عمرو بن سعيد بن العاص فجالدهم بالسياط ، ولم يزد على ذلك فتركوه ، وصاحوا على أثره : ألا تتق الله تخرج من الجماعة ؛ وتفرق بين هذه الامّة؟ فقال الحسين : «لي عملي ولكم عملكم» ، وسار عليه‌السلام حتّى مرّ «بالتنعيم» فلقي هناك عيرا تحمل الورس والحلل إلى يزيد بن معاوية من عامله باليمن ـ بحير بن ريسان الحميري ـ ، فأخذ الحسين ذلك كلّه ، وقال لأصحاب الإبل : «لا أكرهكم : من أحبّ أن

٣١٧

يمضي معنا للعراق أوفيناه كراه ، وأحسنا صحبته ، ومن أحبّ أن يفارقنا من مكاننا هذا ، أعطيناه من الكرى ما قطع من الأرض».

فمن فارقه منهم حوسب وأوفاه حقّه ، ومن مضى معه أعطاه كراه وكساه ، ثمّ سار حتى إذا صار «بذات عرق» لقيه رجل من ـ بني أسد ـ يقال له : بشر بن غالب ، فقال له الحسين : «ممّن الرجل»؟ قال : من بني أسد ، قال : «فمن أين أقبلت»؟ قال : من العراق ، قال : «فكيف خلفت أهل العراق»؟ فقال : يا ابن رسول الله! خلفت القلوب معك ، والسيوف مع بني اميّة ، فقال له الحسين : «صدقت يا أخا بني أسد! إنّ الله تبارك وتعالى يفعل ما يشاء ، ويحكم ما يريد» ، فقال له الأسدي : يا بن رسول الله! أخبرني عن قول الله تعالى : (يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ) الإسراء / ٧١ ، فقال له الحسين عليه‌السلام : «نعم ، يا أخا بني أسد! هما إمامان : إمام هدى دعا إلى هدى ؛ وإمام ضلالة دعا إلى ضلالة ، فهذا ومن أجابه إلى الهدى في الجنّة ، وهذا ومن أجابه إلى الضلالة في النار».

قال : واتصل الخبر ـ بالوليد بن عتبة ـ أمير المدينة : بأنّ الحسين بن عليّ توجه إلى العراق ، فكتب إلى عبيد الله بن زياد : أما بعد : فإن الحسين ابن علي قد توجه إلى العراق ، وهو ابن فاطمة البتول ، وفاطمة بنت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فاحذر يا ابن زياد! أن تأتي إليه بسوء فتهيج على نفسك في هذه الدنيا ما لا يسدّه شيء ، ولا تنساه الخاصة والعامة أبدا ما دامت الدنيا.

قال : فلم يلتفت عدوّ الله إلى كتاب الوليد بن عتبة.

٢ ـ أخبرنا الشيخ الإمام الزاهد الحافظ أبو الحسن عليّ بن أحمد العاصمي ، أخبرنا شيخ القضاة إسماعيل بن أحمد البيهقي ، أخبرنا والدي أحمد بن الحسين ، أخبرنا أبو عبد الله الحافظ ، حدثنا محمد بن يعقوب ،

٣١٨

حدثنا يحيى بن أبي طالب ، حدثنا شبابة بن سوار ، حدثنا يحيى بن إسماعيل الأسدي ، قال : سمعت الشعبي يحدث ، عن ابن عمر : أنه كان بماء له ، فبلغه : أن ـ الحسين بن علي ـ توجه إلى العراق ، فلحقه على مسيره ثلاث ليال ، فقال له : أين تريد؟ قال : «العراق» وإذا معه طوامير وكتب ، فقال : «هذه كتبهم وبيعتهم». فقال : لا تأتهم ، فأبى ، فقال : إني محدّثك حديثا : أنّ جبرئيل عليه‌السلام أتى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فخيره بين الدنيا والآخرة ، فاختار الآخرة ولم يرد الدنيا ، وأنتم بضعة من رسول الله لا يليها أحد منكم ، وما صرفها الله عنكم إلّا للذي هو خير لكم ، قال : فأبى أن يرجع ، فاعتنقه ابن عمر وبكى ، وقال : أستودعك الله من قتيل.

٣ ـ وبهذا الإسناد ، عن أحمد بن الحسين هذا ، أخبرنا أبو الحسين بن الفضل ، أخبرنا عبد الله بن جعفر ، أخبرنا يعقوب بن سفيان ، حدثنا أبو بكر الحميدي ، حدثنا سفيان [ح] قال أحمد بن الحسين : أخبرنا عبد الله بن يحيى ، حدثنا إسماعيل بن محمد ، حدثنا أحمد بن منصور بن عبد الرزاق ، أخبرنا سفيان بن عيينة ، حدثنا لبطة بن الفرزدق ، عن أبيه الفرزدق بن غالب قال : خرجنا حجاجا ، فلمّا كنا «بالصفاح» إذا نحن بركب عليهم اليلامق (١) ومعهم الدرق ، فلمّا دنوت منهم ، إذا أنا بالحسين بن علي عليه‌السلام فقلت : أبو عبد الله! وسلمت عليه.

فقال : «ويحك ، يا فرزدق! ما وراك»؟ فقلت : خير ، أنت أحبّ الناس إلى الناس ، والقضاء في السماء ، والسيوف مع بني أميّة ، ثم فارقناه وسرنا ، فلما قضينا حجنا وكنا ـ بمنى ـ ، قلنا : لو أتينا عبد الله بن عمرو فسألناه عن الحسين ، وعن مخرجه ، فأتينا منزله فإذا نحن بصبية له سود

__________________

(١) اليلامق : جمع يلمق وهو القباء.

٣١٩

مولدين ، فقلنا : أين أبوكم فقالوا : في الفسطاط يتوضأ ، فلم يلبث أن خرج إلينا ، فسألناه عن الحسين ومخرجه ، فقال : أما إنّه لا يحيك (١) فيه السلاح ، فقلت له : أتقول هذا فيه ، وأنت بالأمس تقاتله وأباه؟ فسبني فسببته ، وخرجنا من عنده ، فأتينا ماء لنا ، يقال له : «تعشار» فجعل لا يمر بنا أحد إلّا سألناه عن الحسين حتّى مرّ بنا ركب ، فسألناهم : ما فعل الحسين؟ قالوا : قتل ، فقلت : فعل الله ـ بعبد الله بن عمرو ـ وفعل.

وفي رواية ـ عبد الرزاق ـ قال : فرفعت يدي ، وقلت : اللهم! افعل بعبد الله بن عمرو إن كان قد سخر بي.

قال الحميدي : قال سفيان : أخطأ الفرزدق التأويل ، إنما أراد ـ عبد الله بن عمر ـ وبقوله : لا يحيك فيه السلاح : أنه لا يضره السلاح مع ما قد سبق له ، ليس أنه لا يقتل ، كقولك : حاك في فلان ما قيل فيه.

٤ ـ وبهذا الإسناد ، قال أحمد بن الحسين : والذي يؤكد قول سفيان من اعتقاد ـ عبد الله بن عمرو ـ في الحسين بن علي ، ما أخبرنا أبو عبد الله الحافظ ، أخبرني مسلم بن الفضل الآدمي ـ بمكة ـ ، حدثني أبو شعيب الحراني ، حدثني داود بن عمرو ، حدثني علي بن هاشم بن البريد ، عن أبيه ، عن إسماعيل بن رجاء ، عن أبيه ، قال : كنت في مسجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في حلقة فيها : أبو سعيد الخدري ؛ وعبد الله بن عمرو بن العاص ، فمرّ بنا ـ الحسين بن عليّ ـ فسلّم فردّ عليه القوم ، فسكت عبد الله بن عمرو حتى إذا فرغوا رفع عبد الله بن عمرو صوته ، فقال : وعليك السّلام ورحمة الله وبركاته ، ثمّ أقبل على القوم فقال : ألا اخبركم بأحبّ أهل الأرض إلى أهل السماء؟ قالوا : بلى ، قال : هذا هو المقتفي ، والله ، ما كلمني بكلمة من

__________________

(١) يحيك : أي يؤثر.

٣٢٠