الروضة البهيّة في شرح اللمعة الدمشقيّة - ج ٢

زين الدين بن علي العاملي [ الشهيد الثاني ]

الروضة البهيّة في شرح اللمعة الدمشقيّة - ج ٢

المؤلف:

زين الدين بن علي العاملي [ الشهيد الثاني ]


الموضوع : الفقه
الناشر: مجمع الفكر الاسلامي
المطبعة: الظهور
الطبعة: ٣
ISBN: 964-5662-46-X
ISBN الدورة:
964-5662-44-3

الصفحات: ٥٢٢

عملاً بالاستصحاب. ولو انعكس بأن كان مؤسراً حالتها فتجدّد إعساره فلا خيار؛ لوجود الشرط.

(ويصحّ ترامي الحوالة) بأن يحيل المحال عليه المحتال على آخر ثمَّ يحيل الآخر محتاله على ثالث، وهكذا ... ويبرأ المحال عليه في كلّ مرتبة كالأوّل (ودورها) بأن يحيل المحال عليه في بعض المراتب على المحيل الأوّل. وفي الصورتين المحتال متّحد، وإنّما تعدّد المحال عليه.

(وكذا الضمان) يصحّ تراميه بأن يضمن الضامن آخرُ ثم يضمن الآخر ثالثٌ، وهكذا ... ودوره بأن يضمن المضمون عنه الضامن في بعض المراتب.

ومنعه الشيخ رحمه الله؛ لاستلزامه جعل الفرع أصلاً، ولعدم الفائدة (١) ويضعَّف بأنَّ الاختلاف فيهما غير مانع، وقد تظهر الفائدة في ضمان الحالّ مؤجّلاً وبالعكس، وفي الضمان بإذنٍ وعدمه. فكلّ ضامن يرجع مع الإذن على مضمونه، لا على الأصيل. وإنّما يرجع عليه الضامن الأوّل إن ضمن بإذنه.

وأمّا الكفالة فيصحّ تراميها، دون دورها؛ لأنّ حضور المكفول الأوّل يُبطل ما تأخّر منها.

(و) كذا تصحّ (الحوالة بغير جنس الحقّ) الذي للمحتال على المحيل، بأن يكون له عليه دراهم فيحيله على آخر بدنانير، سواء جعلنا الحوالة استيفاءً أم اعتياضاً؛ لأنّ إيفاء الدين بغير جنسه جائز مع التراضي، وكذا المعاوضة على الدراهم بالدنانير.

ولو انعكس فأحاله بحقّه على من عليه مخالف صحّ أيضاً بناءً على اشتراط رضى المحال عليه، سواء جعلناها استيفاء أم اعتياضاً بتقريب التقرير. ولا يعتبر

__________________

(١) المبسوط ٢:٣٤٠.

٤٢١

التقابض في المجلس حيث تكون صرفاً؛ لأنّ المعاوضة على هذا الوجه ليست بيعاً. ولو لم يعتبر رضى المحال عليه صحّ الأوّل دون الثاني؛ إذ لا يجب على المديون الأداء من غير جنس ما عليه.

وخالف الشيخ رحمه الله (١) وجماعة (٢) فيهما، فاشترطوا تساوي المال المحال به وعليه جنساً ووصفاً، استناداً إلى أنّ الحوالة تحويل ما في ذمّة المحيل إلى ذمّة المحال عليه، فإذا كان على المحيل دراهم مثلاً وله على المحال دنانير، كيف يصير حقّ المحتال على المحال عليه دراهم ولم يقع عقد يوجب ذلك؟ لأنّا إن جعلناها استيفاءً كان المحتال بمنزلة من استوفى دينه وأقرضه المحال عليه، وحقّه الدراهم لا الدنانير. وإن كانت معاوضة فليست على حقيقة المعاوضات التي يقصد بها تحصيل ما ليس بحاصل من جنس مال، أو زيادة قدر أو صفة، وإنّما هي معاوضة إرفاق ومسامحة للحاجة، فاعتبر فيها التجانس والتساوي. وجوابه يظهر ممّا ذكرناه.

(و) كذا تصحّ (الحوالة بدين عليه لواحد على دين للمحيل على اثنين متكافلين) أي قد ضمن كلّ منهما ما في ذمّة صاحبه دفعة واحدة أو متلاحقين مع إرادة الثاني ضمان ما في ذمّة الأوّل في الأصل، لا مطلقاً؛ لئلّا يصير المالان في ذمّة الثاني. ووجه جواز الحوالة عليهما ظاهر؛ لوجود المقتضي للصحّة وانتفاء المانع؛ إذ ليس إلّاكونهما متكافلين، وذلك لا يصلح مانعاً. ونبّه بذلك على خلاف الشيخ رحمه الله حيث منع منه، محتّجاً باستلزامها زيادة الارتفاق، وهو ممتنع في

__________________

(١) المبسوط ٢:٣١٢.

(٢) منهم ابن حمزة في الوسيلة:٢٨٢، والسيد ابن زهرة في الغنية:٢٥٨، والعلّامة في التذكرة (الحجريّة) ٢:١٠٨.

٤٢٢

الحوالة (١) لوجوب موافقة الحقّ المحال به للمحال عليه من غير زيادة ولا نقصان قدراً ووصفاً.

وهذا التعليل إنّما يتوجّه على مذهب من يجعل الضمان ضمّ ذمّة إلى ذمّة (٢) فيتخيّر حينئذٍ في مطالبة كلّ منهما بمجموع الحقّ. أمّا على مذهب أصحابنا من أنّه ناقل للمال من ذمّة المحيل إلى ذمّة المحال عليه فلا ارتفاق، بل غايته انتقال ما على كلّ منهما إلى ذمّة صاحبه، فيبقى الأمر كما كان. ومع تسليمه لا يصلح للمانعيّة؛ لأنّ مطلق الارتفاق بها غير مانع إجماعاً، كما لو أحاله على أملى منه وأحسن وفاءً.

(ولو أدّى المحال عليه فطلب * الرجوع) بما أدّاه على المحيل (لإنكاره الدين) وزعمه أنّ الحوالة على البريء بناءً على جواز الحوالة عليه (وادّعاه المحيل، تعارض الأصل) وهو براءة ذمّة المحال عليه من دين المحيل (والظاهر) وهو كونه مشغول الذمّة؛ إذ الظاهر أنّه لولا اشتغال ذمّته لما اُحيل عليه (والأوّل) وهو الأصل (أرجح) من الثاني حيث يتعارضان غالباً، وإنّما يتخلّف في مواضع نادرة (فيحلف) المحال عليه على أنّه بريء من دين المحيل (ويرجع) عليه بما غرم (سواء كان) العقد الواقع بينهما (بلفظ الحوالة أو الضمان) لأنّ الحوالة على البريء أشبه بالضمان، فتصحّ بلفظه، وأيضاً فهو يطلق على ما يشملهما (٣) بالمعنى الأعمّ، فيصحّ التعبير به عنها.

__________________

(١) المبسوط ٢:٣١٨.

(٢) وهو مذهب أكثرالعامة كما في المسالك ٤:١٧١، وانظر المغني لابن قدامة ٤:٥٩٠، والمجموع ١٣:١٣٩.

(*) في (ق) و (س) : وطلب.

(٣) في (ف) يشملها.

٤٢٣

ويحتمل الفرق بين الصيغتين، فيقبل مع التعبير بالضمان دون الحوالة، عملاً بالظاهر. ولو اشترطنا في الحوالة اشتغال ذمّة المحال عليه بمثل الحقّ تعارض أصل الصحّة والبراءة فيتساقطان، ويبقى مع المحال عليه أداء دين المحيل بإذنه فيرجع عليه. ولا يمنع وقوع الإذن في ضمن الحوالة الباطلة المقتضي بطلانها لبطلان تابعها؛ لاتّفاقهما على الإذن، وإنّما اختلفا في أمر آخر، فإذا لم يثبت يبقى ما اتفّقا عليه من الإذن في الوفاء المقتضي للرجوع. ويحتمل عدم الرجوع ترجيحاً للصحّة المستلزمة لشغل الذمّة.

٤٢٤

كتاب الكفالة

٤٢٥
٤٢٦

(كتاب الكفالة)

(وهي التعهّد بالنفس) أي التزام إحضار المكفول متى طلبه المكفول له.

وشرطها رضى الكفيل والمكفول له، دون المكفول؛ لوجوب الحضور عليه متى طلبه صاحب الحقّ ولو بالدعوى، بنفسه أو وكيله، والكفيل بمنزلة الوكيل حيث يأمره به.

ويفتقر إلى إيجاب وقبول بين الأوّلين صادرين على الوجه المعتبر في العقد اللازم.

(وتصحّ حالّة ومؤجّلة) أمّا الثاني فموضع وفاق، وأمّا الأوّل فأصحّ القولين (١) لأنّ الحضور حقّ شرعيّ لا ينافيه الحلول. وقيل: لا تصحّ إلّامؤجّلة (٢) (إلى أجل معلوم) لا يحتمل الزيادة والنقصان كغيره من الآجال المشترطة (ويبرأ الكفيل بتسليمه) تسليماً (تامّاً) بأن لا يكون هناك مانع من تسلّمه كمتغلّب أو حبس ظالم، وكونه في مكان لا يتمكّن من وضع يده عليه؛ لقوّة

__________________

(١) ذهب إلى ذلك الشيخ في المبسوط ٢:٣٣٧ وابن إدريس في السرائر ٢:٧٧ والعلّامة في المختلف ٥:٤٥٩.

(٢) قاله المفيد في المقنعة:٨١٥ والشيخ في النهاية:٣١٥ وابن حمزة في الوسيلة:٢٨١.

٤٢٧

المكفول وضعف المكفول له. وفي المكان المعيّن إن بيّناه في العقد، وبلد العقد مع الإطلاق. و (عند الأجل) أي بعده إن كانت مؤجّلة (أو في الحلول) متى شاء إن كانت حالّة، ونحو ذلك. فإذا سلّمه كذلك برئ، فإن امتنع سلّمه إلى الحاكم وبرئ أيضاً. فإن لم يمكن أشهد عدلين بإحضاره إلى المكفول له وامتناعه من قبضه (١).

(ولو امتنع) الكفيل من تسليمه ألزمه الحاكم به، فإن أبى (فللمستحقّ) طلب (حبسه) من الحاكم (حتى يُحضره، أو يؤدّي ما عليه) إن أمكن أداؤه عنه كالدين. فلو لم يمكن ـ كالقصاص، والزوجيّة، والدعوى بعقوبة توجب حدّاً أو تعزيراً ـ اُلزم بإحضاره حتماً مع الإمكان، وله عقوبته عليه كما في كلّ ممتنع من أداء الحقّ مع قدرته عليه. فإن لم يمكنه الإحضار وكان له بدل ـ كالدية في القتل وإن كان عمداً، ومهر مثل الزوجة ـ وجب عليه البدل.

وقيل: يتعيّن إلزامه بإحضاره إذا طلبه المستحقّ مطلقاً؛ لعدم انحصار الأغراض في أداء الحقّ (٢) وهو قويّ.

ثُمَّ على تقدير كون الحقّ مالاً وأدّاه الكفيل، فإن كان قد أدّى بإذنه رجع عليه، وكذا إن أدّى بغير إذنه مع كفالته بإذنه وتعذّر إحضاره، وإلّا فلا رجوع.

والفرق بين الكفالة والضمان في رجوع من أدّى بالإذن هنا وإن كفل بغير الإذن، بخلاف الضمان: أنّ الكفالة لم تتعلّق بالمال بالذات وحكم الكفيل

__________________

(١) في نسخة بدل (ر) زيادة: وكذا يبرأ بتسليم المكفول نفسه تامّاً وإن لم يكن من الكفيل على الأقوى، وبتسليم غيره له كذلك.

(٢) قاله العلّامة في التذكرة (الحجريّة) ٢:١٠٢، وقال المحقّق الثاني في جامع المقاصد ٥:٣٩٣: هو المعتمد.

٤٢٨

بالنسبة إليه حكم الأجنبيّ، فإذا أدّاه بإذن المديون فله الرجوع. بخلاف الضامن؛ لانتقال المال إلى ذمّته بالضمان، فلا ينفعه بعده الإذن في الأداء؛ لأنّه كإذن البريء للمديون في أداء دينه. وأمّا إذنه في الكفالة إذا تعذّر إحضاره واستئذانه في الأداء فذلك من لوازم الكفالة، والإذن فيها إذن في لوازمها.

(ولو علّق الكفالة) بشرط متوقّع أو صفة مترقّبة (بطلت) الكفالة (وكذا الضمان والحوالة) كغيرها من العقود اللازمة (نعم لو قال: «إن لم أحضره إلى كذا كان عليَّ كذا» صحّت الكفالة أبداً ولا يلزمه المال المشروط، ولو قال: «عليَّ كذا إن لم أحضره» لزمه ما شرط من المال إن لم يحضره) على المشهور.

ومستند الحكمين رواية داود بن الحُصَين عن أبي العبّاس عن الصادق عليه السلام (١).

وفي الفرق بين الصيغتين من حيث التركيب العربي نظر. ولكنّ المصنّف والجماعة (٢) عملوا بمضمون الرواية جامدين على النصّ مع ضعف سنده (٣) وربما تكلّف متكلّف (٤) للفرق بما لا يسمن ولا يغني من جوع، وإن أردت الوقوف على

__________________

(١) الوسائل ١٣:١٥٧، الباب ١٠ من أبواب الضمان، الحديث ٢.

(٢) منهم الشيخ في النهاية:٣١٥، والمحقّق في الشرائع ٢:١١٥، والعلّامة في التذكرة (الحجريّة) ٢:١٠٢، والقواعد ٢:١٦٩، وغيرهما، وأبي العباس في المهذّب ٢:٥٣٢ وغيرهم ويراجع للتفصيل مفتاح الكرامة ٥:٤٣٦.

(٣) جاء في بعض نسخ المسالك عن الشهيد الثاني أنّ الرواية ضعيفة بداود بن الحصين، راجع المسالك ١٣:٣٣٥، الهامش رقم ٢. وقال في موضع آخر (المسالك ٦:٢٠) : إنّه واقفي.

(٤) اُنظر جامع المقاصد ٥:٣٩٣.

٤٢٩

تحقيق الحال فراجع ما حرّرناه في ذلك بشرح (١) الشرائع (٢) وغيره (٣).

(وتحصل الكفالة) أي حكم الكفالة (بإطلاق الغريم من المستحقّ قهراً) فيلزمه إحضاره، أو أداء ما عليه إن أمكن، وعلى ما اخترناه (٤) مع تعذّر إحضاره. لكن هنا حيث يؤخذ منه المال لا رجوع له على الغريم إذا لم يأمره بدفعه؛ إذ لم يحصل من الإطلاق ما يقتضي الرجوع.

(فلو كان) الغريم (قاتلاً) عمداً كان أم شبهه (لزمه إحضاره، أو الدية) ولا يقتصّ منه في العمد؛ لأنّه لا يجب على غير المباشر.

ثُمَّ إن استمرّ القاتل هارباً ذهب المال على المُخلِّص. وإن تمكّن الوليّ منه في العمد وجب عليه ردّ الدية إلى الغارم وإن لم يقتصّ من القاتل؛ لأنّها وجبت لمكان الحيلولة وقد زالت، وعدم القتل الآن مستند إلى اختيار المستحقّ. ولو كان تخليص الغريم من يد كفيله وتعذّر استيفاء الحقّ ـ من قصاص أو مال ـ وأخذ الحقّ من الكفيل، كان له الرجوع على الذي خلّصه، كتخليصه من يد المستحقّ.

(ولو غاب المكفول) غيبةً يُعرف موضعه (اُنظر) الكفيلُ بعد مطالبة المكفول له بإحضاره و (بعد الحلول) إن كانت مؤجّلة (بمقدار الذهاب) إليه (والإياب) فإن مضت ولم يُحضره حُبس واُلزم ما تقدّم. ولو لم يُعرف موضعه لم يُكلَّف إحضاره؛ لعدم إمكانه، ولا شيء عليه؛ لأنّه لم يكفل المال ولم يقصر في الإحضار.

__________________

(١) في (ع) : لشرح.

(٢) اُنظر المسالك ٤:٢٣٩ ـ ٢٤٥.

(٣) اُنظر حاشية الإرشاد المطبوعة مع غاية المراد ٢:٢٢٧ ـ ٢٢٩.

(٤) من إلزام الكفيل بإحضار المكفول، راجع الصفحة ٤٢٨.

٤٣٠

(وينصرف الإطلاق إلى التسليم في موضع العقد) لأنّه المفهوم عند الإطلاق. ويشكل لو كانا في برّيّة [أو] (١) بلد غربة قَصدهما مفارقَته سريعاً، لكنّهم لم يذكروا هنا خلافاً كالسلم. والإشكال يندفع بالتعيين.

(ولو عيّن غيره) أي غير موضع العقد (لزم) ما شرط. وحيث يعيّن أو يطلق ويحضره في غير ما عيّن شرعاً لا يجب تسلّمه وإن انتفى الضرر.

(ولو قال الكفيل: لا حقّ لك) على المكفول حالة الكفالة فلا يلزمني إحضاره فالقول قول المكفول له؛ لرجوع الدعوى إلى صحّة الكفالة وفسادها، فيقدّم قول مدّعي الصحّة و (حلف المستحقّ) وهو المكفول له ولزمه إحضاره. فإن تعذّر لم يثبت الحقّ بحلفه السابق؛ لأنّه لإثبات حقّ يصحّح الكفالة، ويكفي فيه توجّه الدعوى. نعم لو أقام بيّنة بالحقّ وأثبته عند الحاكم اُلزم به كما مرّ (٢) ولا يرجع به على المكفول؛ لاعترافه ببراءة ذمّته، وزعمه بأ نّه مظلوم.

(وكذا لو قال) الكفيل للمكفول له: (أبرأتَه) من الحقّ، أو أوفاكَهُ؛ لأصالة بقائه.

ثُمَّ إن حلف المكفول له على بقاء الحقّ برئ من دعوى الكفيل ولزمه إحضاره، فإن جاء بالمكفول فادّعى البراءة أيضاً لم يُكتفَ باليمين التي حلفها للكفيل؛ لأنّها كانت لإثبات الكفالة، وهذه دعوى اُخرى وإن لزمت تلك بالعرض. (فلو) لم يحلف و (ردّ اليمين عليه) أي على الكفيل فحلف (برئ من الكفالة والمال بحاله) لا يبرأ المكفول منه؛ لاختلاف الدعويين كما مرّ، ولأ نّه لا يبرأ بيمين غيره.

__________________

(١) في المخطوطات بدل (أو) : و.

(٢) مرّ في القضاء في الصفحة ٩٠.

٤٣١

نعم لو حلف المكفول اليمينَ المردودة على البراءة برئا معاً؛ لسقوط الكفالة بسقوط الحقّ كما لو أدّاه، وكذا لو نكل المكفول له عن يمين المكفول فحلف برئا معاً.

(ولو تكفّل اثنان بواحد كفى تسليم أحدهما) إيّاه تامّاً؛ لحصول الغرض، كما لو سلّم نفسه أو سلّمه أجنبيّ.

وهل يشترط تسليمه عنه وعن شريكه، أم يكفي الإطلاق؟ قولان (١) أجودهما الثاني، وهو الذي يقتضيه إطلاق العبارة. وكذا القول في تسليم نفسه وتسليم الأجنبيّ له.

وقيل (٢) : لا يبرأ مطلقاً؛ لتغاير الحقّين. وضعفه ظاهر.

وتظهر الفائدة لو هرب بعد تسليم الأوّل.

(ولو تكفّل بواحد لاثنين فلابدّ من تسليمه إليهما) معاً؛ لأنّ العقد للواحد هنا بمنزلة عقدين، كما لو تكفّل لكلّ واحد على انفراده، أو ضمن دينين لشخصين فأدّى دين أحدهما، فإنّه لا يبرأ من دين الآخر. بخلاف السابق، فإنّ الغرض من كفالتهما للواحد إحضاره وقد حصل.

(ويصحّ التعبير *) في عقد الكفالة (بالبدن والرأس والوجه) فيقول: (كفلت لك بدن فلان أو رأسه أو وجهه) لأنّه يعبّر بذلك عن الجملة، بل عن الذات

__________________

(١) لم نعثر على المشترط، وأمّا القول بكفاية الإطلاق فقد اختاره في الشرائع ٢:١١٧، والقواعد ٢:١٦٩، والإيضاح ٢:١٠١.

(٢) قاله الشيخ في المبسوط ٢:٣٣٩، وابن حمزة في الوسيلة:٢٨١، والقاضي في جواهر الفقه:٧٢، المسألة ٢٧٠.

(*) في (ق) : التعيين، وكذا في نسخة (ف) من الشرح.

٤٣٢

عرفاً، واُلحق به الكبد والقلب، وغيرهما من الأجزاء التي لا تبقى الحياة بدونه (١) والجزءُ الشائع فيه ـ كثُلثه وربعه ـ استناداً إلى أنّه لا يمكن إحضار المكفول إلّا بإحضاره أجمع. وفي غير البدن نظر.

أمّا الوجه والرأس، فإنّهما وإن اُطلقا على الجملة، لكن يطلقان على أنفسهما إطلاقاً شائعاً متعارفاً إن لم يكن أشهر من إطلاقهما على الجملة، وحمل اللفظ المحتمل للمعنيين على الوجه المصحّح ـ مع الشكّ في حصوله وأصالة البراءة من مقتضى العقد ـ غير جيّد. نعم لو صرّح بإرادة الجملة من الجزأين اتّجهت الصحّة كإرادة أحد معنيي المشترك، كما أنّه لو قصد الجزء بعينه فكقصد الجزء الذي لا يمكن الحياة بدونه.

وأمّا ما لا تبقى الحياة بدونه مع عدم إطلاق اسم الجملة عليه حقيقة، فغايته أنّ إطلاقه عليها مجاز، وهو غير كافٍ في إثبات الأحكام الشرعيّة ويلزم مثله في كلّ جزءٍ من البدن؛ فالمنع في الجميع أوجه، أو إلحاق الرأس والوجه مع قصد الجملة بهما.

(دون اليد والرجل) وإن قصدها بهما مجازاً (٢) لأنّ المطلوب شرعاً كفالة المجموع باللفظ الصريح الصحيح كغيره من العقود اللازمة. والتعليل بعدم إمكان إحضار الجزء المكفول بدون الجملة ـ فكان في قوّة كفالة الجملة ـ ضعيف؛ لأنّ المطلوب لمّا كان كفالة المجموع لم يكن البعض كافياً في صحّته وإن توقّف

__________________

(١) في (ر) : بدونها.

(٢) فيه نظر واضح؛ إذ ليس كلّ جزءٍ يصحّ إطلاق اسمه على الكلّ مجازاً، كما حقّق في محلّه، وذلك هو المقتضي للفرق بين الأجزاء الثلاثة الاُول وبين الآخرين لا كون الأوّل حقيقةً والآخرين مجازاً، وأيّ مانعٍ من استعمال المجاز في مثله مع القرينة؟ فتأمّل. (منه رحمه الله).

٤٣٣

إحضاره عليه؛ لأنّ الكلام ليس في مجرّد الإحضار، بل على وجه الكفالة الصحيحة، وهو منتفٍ.

(ولو * مات المكفول) قبل إحضاره (بطلت) الكفالة؛ لفوات متعلّقها وهو النفس، وفوات الغرض لو اُريد البدن. ويمكن الفرق بين التعبير ب‍ (كفلت فلاناً) و (كفلت بدنه) فيجب إحضاره مع طلبه في الثاني، دون الأوّل، بناءً على ما اختاره المحقّقون من أنّ الإنسان ليس هو الهيكل المحسوس.

ويضعَّف بأنّ مثل ذلك منزَّل على المتعارف، لا على المحقَّق عند الأقلّ، فلا يجب على التقديرين (إلّافي الشهادة على عينه (١)) ليحكم عليه (بإتلافه، أو المعاملة) له إذا كان قد شهد عليه من لا يعرف نسبه، بل شهد على صورته، فيجب إحضاره ميّتاً حيث يمكن الشهادة عليه بأن لا يكون قد تغيّر بحيث لا يعرف. ولا فرق حينئذ بين كونه قد دفن وعدمه؛ لأنّ ذلك مستثنى من تحريم نبشه.

__________________

(*) في (ق) و (س) : وإذا.

(١) أي على شخصه.

٤٣٤

كتاب الصلح

٤٣٥
٤٣٦

(كتاب الصلح)

(وهو جائز مع الإقرار والإنكار) عندنا مع سبق نزاع ولا معه.

ثم إن كان المدّعي محقّاً استباح ما دفع إليه المنكر صلحاً وإلّا فهو حرام باطناً، عيناً كان أم ديناً، حتى لو صالح عن العين بمال فهي بأجمعها حرام، ولا يستثنى له منها مقدار ما دفع من العوض؛ لفساد المعاوضة في نفس الأمر. نعم لو استندت الدعوى إلى قرينة كما لو وجد بخطّ مورّثه أنّ له حقّاً على أحد فأنكر وصالحه على إسقاطها بمال فالمتّجه صحّة الصلح. ومثله ما لو توجّهت الدعوى بالتهمة؛ لأنّ اليمين حقّ يصحّ الصلح على إسقاطه.

(إلّاما أحلّ حراماً، أو حرّم حلالاً) كذا ورد في الحديث النبويّ صلى الله عليه وآله (١) وفُسّر تحليل الحرام بالصلح على استرقاق حرّ أو استباحة بضع لا سبب لاستباحته غيره، أو ليشرب الخمر، ونحوه. وتحريم الحلال بأن لا يطأ أحدهما حليلته، أو لا ينتفع بماله، ونحوه. والصلح على مثل هذه باطل ظاهراً وباطناً.

وفُسّر بصلح المنكر على بعض المدّعى أو منفعته أو بدله مع كون أحدهما

__________________

(١) الوسائل ١٣:١٦٤، الباب ٣ من كتاب الصلح، الحديث ٢.

٤٣٧

عالماً ببطلان الدعوى (١) لكنّه هنا صحيح ظاهراً وإن فسد باطناً، وهو صالح للأمرين معاً؛ لأنّه محلّل للحرام بالنسبة إلى الكاذب، ومحرّم للحلال بالنسبة إلى المحقّ.

وحيث كان عقداً جائزاً في الجملة (فيلزم بالإيجاب والقبول الصادرين من الكامل) بالبلوغ والرشد (الجائز التصرّف) برفع الحجر، وتصحّ وظيفة كلّ من الإيجاب والقبول من كلّ منهما بلفظ «صالحت» و «قبلت». وتفريع اللزوم على ما تقدّم (٢) غير حسن؛ لأنّه أعمّ منه ولو عطفه ب‍ «الواو» كان أوضح. ويمكن التفاته إلىٰ أنّه عقد والأصل في العقود اللزوم إلّاما أخرجه الدليل، للأمر بالوفاء بها في الآية المقتضي له.

(وهو أصل في نفسه) على أصحّ القولين وأشهرهما (٣) لأصالة عدم الفرعيّة، لا فرع البيع والهبة والإجارة والعارية والإبراء، كما ذهب إليه الشيخ (٤) فجعله فرعَ البيع إذا أفاد نقل العين بعوض معلوم، وفرعَ الإجارة إذا وقع على منفعة معلومة بعوض معلوم، وفرعَ العارية إذا تضمّن إباحة منفعة بغير عوض، وفرعَ الهبة إذا تضمّن ملك العين بغير عوض، وفرعَ الإبراء إذا تضمّن إسقاط دين، استناداً إلى إفادته فائدتها حيث يقع على ذلك الوجه، فيلحقه حكم ما لحق به.

وفيه: أنّ إفادة عقد فائدة آخر لا تقتضي الاتّحاد، كما لا تقتضي الهبة

__________________

(١) ورد التفسيران في القواعد ٢:١٧٢، والتنقيح الرائع ٢:٢٠١ ـ ٢٠٢.

(٢) يعني قول الماتن قدس سره: وهو جائز مع الإقرار والإنكار إلّا ...

(٣) ذهب إليه المحقّق في الشرائع ٢:١٢١، والعلّامة في القواعد ٢:١٧٢، والشهيد في الدروس ٣:٣٢٧.

(٤) اُنظر الموارد في المبسوط ٢:٢٨٨ ـ ٢٨٩.

٤٣٨

بعوض معين [فائدة] (١) البيع.

(ولا يكون طلبه إقراراً) لصحّته مع الإقرار والإنكار. ونبّه به على خلاف بعض العامّة الذاهب إلى عدم صحّته مع الإنكار (٢) حيث فرّع عليه أنّ طلبه إقرار؛ لأنّ إطلاقه ينصرف إلى الصحيح وإنّما يصحّ مع الإقرار، فيكون مستلزماً له.

(ولو اصطلح الشريكان على أخذ أحدهما رأس المال والباقي للآخر رَبِح أو خَسِر صحّ عند انقضاء الشركة) وإرادة فسخها، لتكون الزيادة مع من هي معه بمنزلة الهبة، والخسران على من هو عليه بمنزلة الإبراء.

(ولو شرطا بقاءهما على ذلك) بحيث يكون ما يتجدّد من الربح والخسران لأحدهما، دون الآخر (ففيه نظر) من مخالفته لوضع الشركة حيث إنّها تقتضي كونهما على حسب رأس المال، ومن إطلاق الرواية بجوازه بعد ظهور الربح (٣) من غير تقييد بإرادة القسمة صريحاً، فيجوز مع ظهوره أو ظهور الخسارة مطلقاً. ويمكن أن يكون نظره في جواز الشرط مطلقاً وإن كان في ابتداء الشركة، كما ذهب إليه الشيخ (٤) وجماعة (٥) زاعمين أنّ إطلاق الرواية يدلّ عليه، ولعموم

__________________

(١) لم يرد في المخطوطات.

(٢) وهو الشافعي كما في المغني لابن قدامة ٤:٥٢٧، وانظر المجموع ١٣:٧٠، ومغني المحتاج ٢:١٧٩ ـ ١٨٠.

(٣) اُنظر الوسائل ١٣:١٦٥، الباب ٤ من أبواب الصلح.

(٤) لم نعثر عليه في كتب الشيخ ولا على من حكى ذلك عنه، كما اعترف به السيد العاملي في مفتاح الكرامة ٥:٤٦٩.

(٥) لم نعثر على الجماعة أيضاً كما اعترف به السيد العاملي، نعم هو لازم الإطلاق في الشرائع ٢:١٢١، والمختصر النافع:١٤٤، والقواعد ٢:١٧٣، والإرشاد ١:٤٠٤، والتحرير ٣:١٦، وغيرها، وانظر التفصيل في مفتاح الكرامة ٥:٤٦٨ ـ ٤٦٩، والمناهل:٣٤٩.

٤٣٩

«المسلمون عند شروطهم» (١) والأقوى المنع، وهو مختاره في الدروس (٢).

(ويصحّ الصلح على كلّ من العين والمنفعة بمثله وجنسه ومخالفه) لأنّه بإفادته فائدة البيع صحّ على العين، وبإفادته فائدة الإجارة صحّ على المنفعة، والحكم في المماثل والمجانس والمخالف فرع ذلك والأصل والعموم يقتضيان صحّة الجميع، بل ما هو أعمّ منها كالصلح على حقّ الشفعة والخيار وأولويّة التحجير والسوق والمسجد بعين ومنفعة وحقّ آخر؛ للعموم.

(ولو ظهر استحقاق العوض المعيّن) من أحد الجانبين (بطل الصلح) كالبيع، ولو كان مطلقاً رجع ببدله، ولو ظهر في المعيّن عيب فله الفسخ. وفي تخييره بينه وبين الأرش وجه قويّ. ولو ظهر غبن لا يتسامح بمثله ففي ثبوت الخيار ـ كالبيع ـ وجه قويّ، دفعاً للضرر المنفيّ الذي ثبت (٣) بمثله الخيار في البيع.

(ولا يعتبر في الصلح على النقدين القبض في المجلس) لاختصاص الصرف بالبيع وأصالة الصلح، ويجيء على قول الشيخ اعتباره.

وأمّا من حيث الربا ـ كما لو كانا من جنس واحد ـ فإنّ الأقوىٰ ثبوته فيه، بل في كلّ معاوضة؛ لإطلاق التحريم في الآية (٤) والخبر (٥).

__________________

(١) الوسائل ١٢:٣٥٣، الباب ٦ من أبواب الخيار، الحديث ٢.

(٢) الدروس ٣:٣٣٣.

(٣) في سوى (ع) : يثبت.

(٤) البقرة:٢٧٥.

(٥) اُنظر الوسائل ١٢:٤٢٢، الباب الأوّل من أبواب الربا وغيره من الأبواب.

٤٤٠