الروضة البهيّة في شرح اللمعة الدمشقيّة - ج ٢

زين الدين بن علي العاملي [ الشهيد الثاني ]

الروضة البهيّة في شرح اللمعة الدمشقيّة - ج ٢

المؤلف:

زين الدين بن علي العاملي [ الشهيد الثاني ]


الموضوع : الفقه
الناشر: مجمع الفكر الاسلامي
المطبعة: الظهور
الطبعة: ٣
ISBN: 964-5662-46-X
ISBN الدورة:
964-5662-44-3

الصفحات: ٥٢٢

(الفصل الثاني)

(في ترك القتال)

(ويُترك) القتال وجوباً (لاُمور) :

(أحدها : الأمان) وهو الكلام وما في حكمه الدالّ على سلامة الكافر نفساً ومالاً، إجابةً لسؤاله ذلك. ومحلّه: من يجب جهاده، وفاعله: البالغ العاقل المختار، وعقده: ما دلّ عليه من لفظٍ وكتابةٍ وإشارةٍ مفهمة.

ولا يشترط كونه من الإمام بل يجوز (ولو من آحاد المسلمين لآحاد الكفّار) والمراد بالآحاد العدد اليسير، وهو هنا العشرة فما دون (أو من الإمام أو نائبه) عامّاً أو في الجهة التي أذمّ (١) فيها (للبلد) وما هو أعمّ منه، وللآحاد بطريق أولى.

(وشرطه) أي شرط جوازه (أن يكون قبل الأسر) إذا وقع من الآحاد، أمّا من الإمام فيجوز بعده، كما يجوز له المنّ عليه.

(وعدم المفسدة) وقيل: وجود المصلحة (٢) كاستمالة الكافر ليرغب في

__________________

(١) أذمّه أي أجاره وأذمّ له عليه: أخذ له الذمّة.

(٢) قاله العلّامة في التذكرة ٩:٨٦.

٢١

الإسلام، وترفيه (١) الجند وترتيب اُمورهم، وقلّتهم، ولينتقل الأمر منه إلى دخولنا دارهم فنطّلع على عورتهم (٢).

ولا يجوز مع المفسدة (كما لو آمن الجاسوس، فإنّه لا ينفذ) وكذا من فيه مضرّة.

وحيث يختلّ شروط الصحة يردّ الكافر إلى مأمنه، كما لو دخل بشبهة الأمان، مثل أن يسمع لفظاً فيعتقده أماناً، أو يصحب رفقة فيظنّها كافية، أو يقال له: «لا نذمّك» فيتوهّم الإثبات. ومثله الداخل بسفارة (٣) أو ليسمع كلام اللّٰه (٤).

(وثانيهما : النزول على حكم الإمام أو من يختار (٥)) الإمام. ولم يذكر شرائط المختار اتّكالاً على عصمته المقتضية لاختيار (٦) جامع الشرائط، وإنّما يفتقر إليها من لا يشترط في الإمام ذلك (فينفذ حكمه) كما أقرّ النبيّ صلى الله عليه وآله بني قريضة حين طلبوا النزول على حكم سعد بن معاذ، فحكم فيهم بقتل الرجال وسبي الذراري وغنيمة المال، فقال له النبيّ صلى الله عليه وآله: «لقد حكمت بما حكم اللّٰه تعالى به من فوق سبعة أرقعة» (٦) وإنّما ينفذ حكمه (ما لم يخالف الشرع) بأن يحكم

__________________

(١) في (ع) : ترفية، وفي (ف) : ترقية.

(٢) في (ر) : عوراتهم.

(٣) سفر بينهم ... سفارةً: أصلح.

(٤) كما في قوله تعالى : (وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ اَلْمُشْرِكِينَ اِسْتَجٰارَكَ فَأَجِرْهُ حَتّٰى يَسْمَعَ كَلاٰمَ اَللّٰهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ) ... التوبة:٦.

(٥) في (ر) : لاختياره.

(٦) بحار الأنوار ٢٠:٢٦٢.

٢٢

بما لا حظّ فيه للمسلمين أو ما ينافي حكم الذمّة لأهلها.

(الثالث والرابع: الإسلام، وبذل الجزية) فمتى أسلم الكافر حرم قتاله مطلقاً، حتّى لو كان بعد الأسر الموجب للتخيير بين قتله وغيره (١) أو بعد تحكيم الحاكم عليه فحكم بعده بالقتل. ولو كان بعد حكم الحاكم بقتله وأخذ ماله وسبي ذراريه سقط القتل وبقي الباقي. وكذا إذا بذل الكتابي ومن في حكمه الجزية وما يعتبر معها من شرائط الذمّة. ويمكن دخوله في الجزية؛ لأنّ عقدها لا يتمّ إلّا به، فلا يتحقّق بدونه.

(الخامس: المهادنة) وهي المعاقدة من الإمام عليه السلام أو مَن نصبه لذلك مع من يجوز قتاله (على ترك الحرب مدّة معيّنة) بعوض وغيره بحسب ما يراه الإمام قلّة، و (أكثرها عشر سنين) فلا تجوز الزيادة عنها مطلقاً، كما يجوز أقلّ من أربعة أشهر إجماعاً، والمختار جواز ما بينهما على حسب المصلحة.

(وهي جائزة مع المصلحة للمسلمين) لقلّتهم، أو رجاء إسلامهم مع الصبر أو ما يحصل به الاستظهار. ثمّ مع الجواز قد تجب مع حاجة المسلمين إليها، وقد تباح لمجرّد المصلحة التي لا تبلغ حدّ الحاجة، ولو انتفت انتفت الصحّة.

__________________

(١) وهو قطع أيديهم وأرجلهم وتركهم حتّى يموتوا، ولا ينافيه كون القطع أيضاً قتلاً، فإنّ التخيير بين نحوي القتل. ولسلطان العلماء قدس سره بيان آخر، راجع هامش (ر).

٢٣
٢٤

(الفصل الثالث)

(في الغنيمة)

وأصلها المال المكتسب، والمراد هنا ما أخذته الفئة المجاهدة على سبيل الغلبة، لا باختلاس وسرقة فإنّه لآخذه، ولا بانجلاء أهله عنه بغير قتال فإنّه للإمام.

(وتُملك النساء والأطفال بالسبي) وإن كانت الحرب قائمة.

(والذكور البالغون يُقتلون حتماً إن اُخذوا والحرب قائمة، إلّاأن يسلموا) فيسقط قتلهم، ويتخيّر الإمام حينئذٍ بين: استرقاقهم، والمنّ عليهم، والفداء.

وقيل: يتعيّن المنّ عليهم هنا؛ لعدم جواز استرقاقهم حال الكفر فمع الإسلام أولى (١).

وفيه: أنّ عدم استرقاقهم حال الكفر إهانة ومصير إلى ما هو أعظم لا إكرام، فلا يلزم مثله بعد الإسلام؛ ولأنّ الإسلام لا ينافي الاسترقاق.

وحيث يجوز قتلهم يتخيّر الإمام تخيّر شهوةٍ بين ضرب رقابهم، وقطع أيديهم وأرجلهم وتركهم حتّى يموتوا إن اتّفق، وإلّا اُجهز عليهم.

(وإن اُخذوا بعد أن وضعت الحرب أوزارها) أي أثقالها من السلاح وغيره، وهو كناية عن تقضّيها (لم يُقتلوا، ويتخيّر الإمام فيهم) تخيّر نظرٍ

__________________

(١) قاله المحقّق الكركي في حاشيته على الشرائع (مخطوط) الورقة:٩٢.

٢٥

ومصلحة (بين المنّ) عليهم (والفداء) لأنفسهم بمال حسب ما يراه من المصلحة (والاسترقاق) حرباً كانوا أم كتابيّين.

وحيث تُعتبر المصلحة لا يتحقّق التخيير إلّامع اشتراك الثلاثة فيها على السواء، وإلّا تعيّن الراجح، واحداً كان أم أكثر.

وحيث يختار الفداء أو الاسترقاق (فيدخل ذلك في الغنيمة) كما دخل من استرقّ ابتداءً فيها من النساء والأطفال.

(ولو عجز الأسير) الذي يجوز للإمام قتله (عن المشي لم يجز قتله) لأنّه لا يُدرى ما حكم الإمام فيه بالنسبة إلى نوع القتل؛ ولأنّ قتله إلى الإمام وإن كان مباح الدم في الجملة، كالزاني المُحصن. وحينئذٍ فإن أمكن حَمَلَه، وإلّا ترك؛ للخبر (١) ولو بدر مسلم فقتله فلا قصاص ولا دية ولا كفّارة، وإن أثم، وكذا لو قتله من غير عجز.

(ويعتبر البلوغ بالإنبات) لتعذّر العلم بغيره من العلامات غالباً، وإلّا فلو اتّفق العلم به بها كفى، وكذا يقبل إقراره بالاحتلام كغيره. ولو ادّعى الأسير استعجال إنباته بالدواء فالأقرب القبول؛ للشبهة الدارئة للقتل.

(وما لا ينقل و) لا (يُحوَّل) من أموال المشركين، كالأرض والمساكن والشجر (لجميع المسلمين) سواء في ذلك المجاهدون وغيرهم.

(والمنقول (٢)) منها (بعد الجعائل) التي يجعلها الإمام للمصالح، كالدليل على طريق أو عورة وما يلحق الغنيمة من مؤونة حفظ ونقل وغيرهما.

(والرَضْخ) والمراد به هنا العطاء الذي لا يبلغ سهم من يُعطاه لو كان

__________________

(١) الوسائل ١١:٥٣، الباب ٢٣ من أبواب جهاد العدوّ ، الحديث ٢.

(٢) يأتي خبره بقوله: يُقسَّم.

٢٦

مستحقّاً للسهم، كالمرأة والخنثى والعبد والكافر إذا عاونوا، فإنّ الإمام عليه السلام يعطيهم من الغنيمة بحسب ما يراه من المصلحة بحسب حالهم.

(والخمس) ومقتضى الترتيب الذكري أنّ الرضخ مقدَّم عليه، وهو أحد الأقوال في المسألة (١) والأقوى أنّ الخمس بعد الجعائل وقبل الرضخ، وهو اختياره في الدروس (٢) وعطفه هنا بالواو لا ينافيه، بناءً على أنّها لا تدلّ على الترتيب.

(والنَفَل) بالتحريك، وأصله الزيادة، والمراد هنا زيادة الإمام لبعض الغانمين على نصيبه شيئاً من الغنيمة لمصلحةٍ، كدلالة وإمارة وسريّة وتهجّم على قِرن أو حصن وتجسّس حال، وغيرها ممّا فيه نكاية الكفّار.

(وما يصطفيه الإمام) لنفسه من فرس فاره وجارية وسيف، ونحوها بحسب ما يختار، والتقييد بعدم الإجحاف ساقط عندنا. وبقي عليه تقديم السَلَب المشروط للقاتل، وهو ثياب القتيل والخفّ، وآلات الحرب كدرع وسلاح ومركوب وسرج ولجام وسوار ومِنطَقَة وخاتم ونفقة معه وجنيبة (٣) تقاد معه، لا حقيبة مشدودة على الفرس بما فيها من الامتعة والدراهم.

فإذا اُخرج جميع ذلك (يُقسَّم) الفاضل (بين المقاتلة ومن حضر)

__________________

(١) قال الفاضل السيوري: قيل إخراج الخمس قبل هذه المذكورات من أصل الغنيمة وهو قول الشيخ في الخلاف، وقيل بعد هذه، وبه قال في المبسوط، وهو الوجه، التنقيح الرائع ١:٥٨٤. لكنّ الموجود في الخلاف خلاف ما نسبه إليه، راجع الخلاف ٤:١٩٨، والمبسوط ٢:٧٠.

(٢) الدروس ٢:٣٥.

(٣) الجنيبة: الدابّة، وجَنّبتَ الدابّة، أي تقودها إلى جنبك.

٢٧

القتال ليقاتِل وإن لم يقاتِل (حتّى الطفل) الذكر من أولاد المقاتلين، دون غيرهم ممّن حضر لصنعة أو حرفة، كالبيطار والبقّال والسائس والحافظ إذا لم يقاتلوا (المولود بعد الحيازة وقبل القسمة، وكذا المدد الواصل إليهم) ليقاتل معهم فلم يدرك القتال (حينئذٍ) أي حين إذ يكون وصوله بعد الحيازة قبل القسمة.

(للفارس سهمان) في المشهور، وقيل: ثلاثة (١) (وللراجل) وهو من ليس له فرس سواء كان راجلاً أم راكباً غير الفرس (سهم، ولذي الأفراس *) وإن كثرت (ثلاثة) أسهم (ولو قاتلوا في السفن) ولم يحتاجوا إلى أفراسهم، لصدق الاسم. وحصول الكلفة عليهم بها.

(ولا يُسهم للمخذِّل) وهو الذي يُجبِّن عن القتال ويُخوّف عن لقاء الأبطال ولو بالشبهات الواضحة والقرائن اللائحة، فإنّ مثل ذلك ينبغي إلقاؤه إلى الإمام أو الأمير إن كان فيه صلاح، لا إظهاره على الناس.

(و) لا (المرجِف) وهو الذي يذكر قوّة المشركين وكثرتهم بحيث يؤدّي إلى الخذلان، والظاهر أنّه أخصّ من المخذِّل. وإذا لم يُسهم له فأولى أن لا يُسهم لفرسه.

(ولا للقَحم) بفتح القاف وسكون الحاء، وهو الكبير الهَرِم (والضَرَع) بفتح الضاد المعجمة والراء، وهو الصغير الذي لا يصلح للركوب، أو الضعيف

__________________

(١) حكاه العلّامة عن ابن الجنيد في المختلف ٤:٤٠٥، ونسبه في التنقيح الرائع (١:٥٨٥) إلى المرتضى أيضاً.

(*) في (ق) : لذوي الأفراس.

٢٨

(والحَطِم) بفتح الحاء وكسر الطاء، وهو الذي ينكس من الهُزال (١). (والرازح) بالراء المهملة ثم الزاء بعد الألف ثم الحاء المهملة، قال الجوهري: هو الهالك هُزالاً (٢) وفي مجمل ابن فارس: رَزَحَ: أعيى (٣) والمراد هنا الذي لا يقوى بصاحبه على القتال، لهُزال على الأوّل، أو إعياء على الثاني، الكائن في الأربعة (من الخيل).

وقيل: يُسهم للجميع (٤) لصدق الاسم. وليس ببعيد.

__________________

(١) وفي لسان العرب، (حطم) نقلاً عن الأزهري: فرس حطيم: إذا هُزِل وأسنّ فضعف.

(٢) الصحاح ١:٣٦٥ (رزح).

(٣) مجمل اللغة: (رزح).

(٣) قاله الشيخ في المبسوط ٢:٧١، والحلّي في السرائر ٢:١٠.

٢٩
٣٠

(الفصل الرابع)

(في أحكام البغاة)

(مَن * خرج على المعصوم من الأئمة عليهم السلام فهو باغٍ) واحداً كان، كابن ملجم ـ لعنه اللّٰه ـ أو أكثر، كأهل الجمل وصفّين (يجب قتاله) إذا ندب إليه الإمام (حتّى يفيء) أي يرجع إلى طاعة الإمام (أو يُقتل) وقتاله (كقتال الكفّار) في وجوبه على الكفاية، ووجوب الثبات له، وباقي الأحكام السالفة.

(فذو الفئة) كأصحاب الجمل ومعاوية (يُجهَز على جريحهم ويُتبع مُدبِرهم ويُقتل أسيرهم).

(وغيرهم) كالخوارج (يُفرَّقون) من غير أن يُتبع لهم مُدبر أو يُقتل لهم أسير أو يُجهز على جريح. ولا تُسبى نساء الفريقين ولا ذراريهم في المشهور، ولا تُملك أموالهم التي لم يحوها العسكر إجماعاً وإن كانت ممّا يُنقل ويُحوَّل، ولا ما حواه العسكر إذا رجعوا إلى طاعة الإمام، وإنّما الخلاف في قسمة أموالهم التي حواها العسكر مع إصرارهم (والأصحّ عدم قسمة أموالهم مطلقاً) عملاً بسيرة عليّ عليه السلام في أهل البصرة، فإنّه أمر بردّ أموالهم، فاُخذت حتّى القِدر كفأها صاحبُها لمّا عرفها ولم يصبر على أربابها (١).

__________________

(*) في (س) و (ق) : ومن.

(١) راجع المبسوط ٧:٢٦٦، والمغني لابن قدامة ٨:١١٥.

٣١

والأكثر ـ ومنهم المصنّف في خمس الدروس (١) ـ على قسمته كقسمة الغنيمة عملاً بسيرة عليّ عليه السلام المذكورة، فإنّه قسّمها أوّلاً بين المقاتلين ثمّ أمر بردّها (٢) ولولا جوازه لما فعله أوّلاً.

وظاهر الحال وفحوى الأخبار أنّ ردّها على طريق المنّ (٣) لا الاستحقاق، كما منّ النبي صلى الله عليه وآله على كثير من المشركين، بل ذهب بعض الأصحاب إلى جواز استرقاقهم (٤) لمفهوم قوله: «مننت على أهل البصرة كما منّ النبي صلى الله عليه وآله على أهل مكة» (٥) وقد كان له صلى الله عليه وآله أن يسبي، فكذا الإمام، وهو شاذّ.

__________________

(١) الدروس ١:٢٥٨.

(٢) أمّا مستند الردّ فقد تقدّم، وأمّا مستند تقسيمه عليه السلام فهو : ما روي أنّ رجلاً من عبد القيس قام يوم الجمل فقال: (يا أمير المؤمنين ما عدلت حين تقسّم بيننا أموالهم ولا تقسّم بيننا نساءهم ...) المختلف ٤:٤٥١.

(٣) راجع الوسائل ١١:٥٧، الباب ٢٥ من أبواب جهاد العدوّ.

(٤) نقله ابن أبي عقيل عن بعض الشيعة، راجع المختلف ٤:٤٥٣.

(٥) الاحتجاج للطبرسي ١:٤٤٥.

٣٢

(الفصل الخامس)

(في الأمر بالمعروف) وهو الحمل على الطاعة قولاً أو فعلاً.

(والنهي عن المنكر) وهو المنع من فعل المعاصي قولاً أو فعلاً.

(وهما واجبان عقلاً) في أصحّ القولين (١) (ونقلاً) إجماعاً.

أمّا الأوّل: فلأ نّهما لطف وهو واجب على مقتضى قواعد العدل، ولايلزم من ذلك وجوبهما على اللّٰه تعالى اللازم منه خلاف الواقع إن قام به، أو الإخلال بحكمته تعالى إن لم يقم، لاستلزام القيام به على هذا الوجه الإلجاء الممتنع في التكليف. ويجوز اختلاف الواجب باختلاف محالّه، خصوصاً مع ظهور المانع، فيكون الواجب في حقّه تعالى الإنذار والتخويف بالمخالفة لئلّا يبطل التكليف، وقد فعل.

وأمّا الثاني: فكثير في الكتاب والسنّة، كقوله تعالى: (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ

__________________

(١) قوّى الشيخ رحمه الله القول بوجوبهما عقلاً في الاقتصاد:٢٣٧، واختاره العلّامة في المختلف ٤:٤٥٦، وفصّل ابن إدريس في السرائر ٢:٢١ ـ ٢٢ وقال بوجوبهما عقلاً فيما إذا وقعا على وجه المدافعة وإلّا فلا. والقول الآخر وجوبهما سمعاً، وبه قال السيّد المرتضى وأبو الصلاح والأكثر، كما في المختلف ٤:٤٥٦.

٣٣

يَدْعُونَ إِلَى اَلْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ اَلْمُنْكَرِ ...) (١) وقوله صلى الله عليه وآله: «لتأمرنّ بالمعروف ولتنهنّ عن المنكر، أو ليسلّطنّ اللّٰه شراركم على خياركم فيدعوا خياركم فلا يستجاب لهم» (٢) ومن طرق أهل البيت عليهم السلام فيه ما يقصم الظهور، فليقف عليه من أراده في الكافي (٣) وغيره (٤).

ووجوبهما (على الكفاية) في أجود القولين (٥) للآية السابقة، ولأنّ الغرض شرعاً وقوع المعروف وارتفاع المنكر من غير اعتبار مباشر معيّن، فإذا حصلا ارتفع، وهو معنى الكفائي. والاستدلال على كونه عينيّاً بالعمومات غير كافٍ؛ للتوفيق (٦) ، ولأنّ الواجب الكفائي يخاطب به جميع المكلّفين كالعيني وإنّما يسقط عن البعض بقيام البعض، فجاز خطاب الجميع به. ولا شبهة على القولين في سقوط الوجوب بعد حصول المطلوب؛ لفقد شرطه الذي منه إصرار العاصي، وإنّما تختلف فائدة القولين في وجوب قيام الكلّ به قبل حصول الغرض وإن قام به من فيه الكفاية وعدمه.

(ويستحبّ الأمر بالمندوب والنهي عن المكروه) ولايدخلان في

__________________

(١) آل عمران:١٠٤.

(٢) بحار الأنوار ٩٣:٣٧٨، الحديث ٢١.

(٣) راجع الكافي ٥:٥٥ ـ ٦٠.

(٤) راجع الوسائل ١١:٣٩٣ ـ ٣٩٩، الباب الأوّل من أبواب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

(٥) القول بوجوبهما كفاية هو للسيّد المرتضى على ما حكى عنه العلّامة في المختلف ٤:٤٥٧، وأبو الصلاح الحلبي في الكافي:٢٦٧، والعلّامة في المختلف ٤:٤٥٧ وغيرهم، وأمّا القول الآخر فهو أنّهما من فروض الأعيان، كما قاله ابن حمزة في الوسيلة:٢٠٧، وقوّاه الشيخ في الاقتصاد:٢٣٧.

(٦) أي الجمع بين الأدلّة.

٣٤

الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ لأنّهما واجبان في الجملة إجماعاً، وهذان غير واجبين، فلذا أفردهما عنهما، وإن أمكن تكلّف دخول المندوب في المعروف؛ لكونه الفعل الحسن المشتمل على وصف زائد على حسنه من غير اعتبار المنع من النقيض. أمّا النهي عن المكروه فلا يدخل في أحدهما، أمّا المعروف فظاهر، وأمّا المنكر فلأ نّه الفعل القبيح الذي عرف فاعلُه قبحَه أو دُلَّ عليه، والمكروه ليس بقبيح.

(وإنّما يجبان مع علم) الآمر والناهي (المعروف والمنكر) شرعاً لئلّا يأمر بمنكر أو ينهي عن معروف، والمراد، العلم هنا بالمعنى الأعمّ (١) ليشمل الدليل الظنّي المنصوب عليه شرعاً.

(وإصرار الفاعل أو التارك) فلو علم منه الإقلاع والندم سقط الوجوب، بل حرم. واكتفى المصنّف في الدروس (٢) وجماعة (٣) في السقوط بظهور أمارة الندم.

(والأمنِ من الضرر) على المباشر أو على بعض المؤمنين نفساً أو مالاً أو عرضاً، فبدونه يحرم أيضاً على الأقوى.

(وتجويزِ التأثير) بأن لا يكون التأثير عنده ممتنعاً، بل ممكناً بحسب ما يظهر له من حاله. وهذا يقتضي الوجوب ما لم يعلم عدم التأثير وإن ظنّ عدمه؛ لأنّ التجويز قائم مع الظنّ. وهو حسن؛ إذ لا يترتّب على فعله ضرر، فإن نجع، وإلّا فقد أدّى فرضه؛ إذ الفرض انتفاء الضرر.

__________________

(١) في (ر) : والمراد بالعلم هنا المعنى الأعمّ.

(٢) الدروس ٢:٤٧.

(٣) مثل المحقّق في الشرائع ١:٣٤٢، والعلّامة في التحرير ٢:٢٤١.

٣٥

واكتفى بعض الأصحاب في سقوطه بظنّ العدم (١) وليس بجيّد. وهذا بخلاف الشرط السابق، فإنّه يكفي في سقوطه ظنّه؛ لأنّ الضرر المسوِّغ للتحرّز منه يكفي فيه ظنّه. ومع ذلك فالمرتفع مع فقد هذا الشرط الوجوب دون الجواز، بخلاف السابق.

(ثمّ يتدرّج) المباشر (في الإنكار) فيبتدئ (بإظهار الكراهة) والإعراض عن المرتكب متدرّجاً فيه أيضاً، فإنّ مراتبه كثيرة (ثمّ القول الليِّن) إن لم ينجع الإعراض (ثمّ الغليظ) إن لم يؤثّر الليِّن متدرّجاً في الغليظ أيضاً (ثمّ الضرب) إن لم يؤثّر الكلام الغليظ مطلقاً. ويتدرّج في الضرب أيضاً على حسب ما تقتضيه المصلحة ويناسب مقام الفعل، بحيث يكون الغرض تحصيل الغرض.

(وفي) التدرّج إلى (الجرح والقتل) حيث لا يؤثّر الضرب ولا غيره من المراتب (قولان) : أحدهما الجواز، ذهب إليه المرتضى (٢) وتبعه العلّامة في كثير من كتبه (٣) لعموم الأوامر أو إطلاقها. وهو يتمّ في الجرح دون القتل، لفوات معنى الأمر والنهي معه؛ إذ الغرض ارتكاب المأمور وترك المنهيّ، وشرطه تجويز التأثير، وهما منتفيان معه. واستقرب في الدروس تفويضهما إلى الإمام (٤) وهو حسن في القتل خاصّة.

(ويجب الإنكار بالقلب) وهو أن يُوجَد فيه إرادة المعروف وكراهة

__________________

(١) كالمحقّق في الشرائع ١:٣٤٢.

(٢) كما حكاه عنه الشيخ في الاقتصاد:٢٤١.

(٣) المختلف ٤:٤٦١، التحرير٢:٢٤١، والمنتهى ٢:٩٩٣ ـ ٩٩٤.

(٤) الدروس ٢:٤٧.

٣٦

المنكر (على كلّ حال) سواء اجتمعت الشرائط أم لا، وسواء أمر أو نهى بغيره من المراتب أم لا؛ لأنّ الإنكار القلبي بهذا المعنى من مقتضى الإيمان ولا تلحقه مفسدة، ومع ذلك لا يدخل في قسمي الأمر والنهي، وإنّما هو حكم يختصّ (١) بمن اطّلع على ما يخالف الشرع بإيجاد الواجب عليه من الاعتقاد في ذلك. وقد تجوّز كثير من الأصحاب في جعلهم هذا القسم من مراتب الأمر والنهي (٢).

(ويجوز للفقهاء حال الغيبة إقامة الحدود مع الأمن) من الضرر على أنفسهم وغيرهم من المؤمنين.

(و) كذا يجوز لهم (الحكم بين الناس) وإثبات الحقوق بالبيّنة واليمين وغيرهما (مع اتّصافهم بصفات المفتي، وهي الإيمان والعدالة ومعرفة الأحكام) الشرعيّة الفرعيّة (بالدليل) التفصيلي (والقدرة على ردّ الفروع) من الأحكام (إلى الاُصول) والقواعد الكلّية التي هي أدلّة الأحكام. ومعرفة الحكم بالدليل يغني عن هذا لاستلزامه له، وذكره تأكيد.

والمراد بالأحكام العموم، بمعنى التهيؤ لمعرفتها بالدليل إن لم نجوّز تجزّي الاجتهاد، أو الأحكام المتعلّقة بما يحتاج إليه من الفتوى والحكم إن جوّزناه. ومذهب المصنّف جوازه (٣) وهو قويّ.

(ويجب) على الناس (الترافع إليهم) في ما يحتاجون إليه من الأحكام فيعصي مؤثر المخالف ويفسق، ويجب عليهم أيضاً ذلك (٤) مع الأمن

__________________

(١) في (ش) و (ع) : مختصّ.

(٢) منهم الشيخ في النهاية:٢٩٩، والمحقّق في الشرائع ١:٣٤٣، والعلّامة في التحرير ٢:٢٤١.

(٣) الدروس ٢:٦٦.

(٤) يعني يجب على الفقهاء أيضاً قبول الترافع والحكم بينهم.

٣٧

(ويأثم الرادّ عليهم) لأنّه كالردّ على نبيّهم صلى الله عليه وآله وأئمّتهم عليهم الصلاة والسلام وعلى اللّٰه تعالى، وهو على حدّ الكفر باللّٰه على ما رود في الخبر (١).

وقد فُهم من تجويز ذلك للفقهاء المستدلّين عدمُ جوازه لغيرهم من المقلّدين، وبهذا المفهوم صرّح المصنّف (٢) وغيره (٣) قاطعين به من غير نقل خلاف في ذلك، سواء قلّد حيّاً أو ميّتاً. نعم، يجوز لمقلّد الفقيه الحيّ نقل الأحكام إلى غيره، وذلك لا يُعدّ إفتاءً. أمّا الحكم فيمتنع مطلقاً (٤) للإجماع على اشتراط أهليّة الفتوى في الحاكم حالَ حضور الإمام وغيبته.

(ويجوز للزوج إقامة الحدّ على زوجته) دواماً ومتعة مدخولاً بها وغيره، حرّين أو عبدين أو بالتفريق (والوالد على ولده) وإن نزل (والسيّد على عبده) بل رقيقه مطلقاً فيجتمع على الأمة ذات الأب المزوّجة ولاية الثلاثة، سواء في ذلك الجلد والرجم والقطع. كلّ ذلك مع العلم بموجبه مشاهدة أو إقراراً من أهله، لا بالبيّنة، فإنّها من وظائف الحاكم. وقيل: يكفي كونها ممّا يثبت بها ذلك عند الحاكم (٥).

وهذا الحكم في المولى مشهور بين الأصحاب لم يخالف فيه إلّاالشاذّ (٦)

__________________

(١) الوسائل ١٨:٩٩، الباب ١١ من أبواب صفات القاضي، الحديث الأوّل، وفيه: وهو على حدّ الشرك باللّٰه.

(٢) الدروس ٢:٦٥.

(٣) كالمحقّق في الشرائع ٤:٦٧، والعلّامة في القواعد ٣:٤٢١.

(٤) سواء أسنده إلى نفسه أو إلى غيره.

(٥) لم نظفر بقائله.

(٦) المخالف هو سلّار في المراسم:٢٦٤.

٣٨

وأمّا الآخران فذكره (١) الشيخ (٢) وتبعه جماعة منهم المصنّف (٣) ودليله غير واضح، وأصالة المنع تقتضي العدم. نعم، لو كان المتولّي فقيهاً فلا شبهة في الجواز، ويظهر من المختلف أنّ موضع النزاع معه لا بدونه (٤).

(ولو اضطرّه السلطان إلى إقامة حدّ أو قصاص ظلماً، أو) اضطرّه (لحكمٍ *) مخالف للمشروع (جاز) لمكان الضرورة (إلّاالقتل، فلا تقيّة فيه) ويدخل في الجواز الجرح؛ لأنّ المرويّ أنّه لا تقيّة في قتل النفوس (٦) فهو خارج. وألحقه الشيخ بالقتل مدّعياً أنّه لا تقيّة في الدماء (٦) وفيه نظر.

__________________

(١) كذا في النسخ، والمناسب: فذكرهما.

(٢) النهاية:٣٠١.

(٣) هنا وفي الدروس ٢:٤٨، ومنهم ابن البرّاج في المهذّب ١:٣٤٢.

(٤) اُنظر المختلف ٤:٤٦٢.

(*) في (ق) و (س) : الحكم.

(٥) الوسائل ١١:٤٨٣، الباب ٣١ من أبواب الأمر والنهي، الحديث ١ و ٢.

(٦) لم نعثر عليه في كتب الشيخ.

٣٩
٤٠