الروضة البهيّة في شرح اللمعة الدمشقيّة - ج ٢

زين الدين بن علي العاملي [ الشهيد الثاني ]

الروضة البهيّة في شرح اللمعة الدمشقيّة - ج ٢

المؤلف:

زين الدين بن علي العاملي [ الشهيد الثاني ]


الموضوع : الفقه
الناشر: مجمع الفكر الاسلامي
المطبعة: الظهور
الطبعة: ٣
ISBN: 964-5662-46-X
ISBN الدورة:
964-5662-44-3

الصفحات: ٥٢٢

(نعم هو مذهب) محمّد بن عليّ الشلمغاني (العزاقري) نسبة إلى (أبي العزاقر) بالعين المهملة والزاي والقاف والراء أخيراً «من الغلاة» لعنه اللّٰه. ووجه الشبهة على من نسب ذلك إلى الشيعة أنّ هذا الرجل الملعون كان منهم أوّلاً، وصنّف كتاباً سمّاه «كتاب التكليف» وذكر فيه هذه المسألة ثم غلا، وظهر منه مقالات منكرة، فتبرّأت الشيعة منه، وخرج فيه توقيعات كثيرة من الناحية المقدّسة على يد أبي القاسم ابن روح وكيل الناحية، فأخذه السلطان وقتله (١) فمن رأى هذا الكتاب ـ وهو على أساليب الشيعة واُصولهم ـ توهّم أنّه منهم، وهم بريئون منه. وذكر الشيخ المفيد رحمه الله أنّه ليس في الكتاب ما يخالف سوى هذه المسألة (٢).

__________________

(١) اُنظر الغيبة لشيخ الطائفة الطوسي:٤٠٦.

(٢) لم نعثر عليه فيما بأيدينا من كتبه، والظاهر أن الأصل في النقل العلّامة في رجاله:٢٥٤.

١٢١
١٢٢

(الفصل الثاني)

(في تفصيل الحقوق)

بالنسبة إلى الشهود، وهي على ما ذكره في الكتاب خمسة أقسام:

(فمنها) : ما يثبت (بأربعة رجال، وهو الزنا واللواط والسَحق. ويكفي في) الزنا (الموجب للرجم ثلاثة رجال وامرأتان، وللجلد رجلان وأربع نسوة) ولو أفرد هذين عن القسم الأوّل وجعل الزنا قسماً برأسه ـ كما فعل في الدروس (١) ـ كان أنسب؛ لاختلاف حاله [بالنظر إلى الأوّل؛ فإن الأوّلين لا يثبتان إلّابأربعة رجال، والزنا يثبت بهم وبمن ذكر] (٢).

(ومنها) : ما يثبت (برجلين) خاصّة (وهي الردّة والقذف والشرب) شرب الخمر وما في معناه (وحدّ السرقة) احترز به عن نفس السرقة، فإنّها تثبت بهما وبشاهد وامرأتين وبشاهد ويمين بالنسبة إلى ثبوت المال خاصّة (والزكاة والخمس والنذر والكفّارة) وهذه الأربعة ألحقها المصنّف بحقوق اللّٰه تعالى وإن كان للآدمي فيها حظّ، بل هو المقصود منها، لعدم تعيين

__________________

(١) الدروس ٢:١٣٦.

(٢) ما بين المعقوفتين لم يرد في (ش) و (ف) ، وفي (ع) كتب عليه: هذه العبارة في نسخة الأصل التي بخطّ الشارح رحمه الله مضروبة.

١٢٣

المستحقّ على الخصوص. وضابط هذا القسم ـ على ما ذكره بعض الأصحاب (١) ـ ما كان من حقوق الآدمي ليس مالاً ولا المقصود منه المال. وهذا الضابط لا يدخل تلك الحقوق الأربعة [فيه] (٢) (و) منه (الإسلام والبلوغ والولاء والتعديل والجرح والعفو عن القصاص والطلاق والخلع) وإن تضمّن المال، لكنّه ليس نفس حقيقته (والوكالة والوصيّة إليه) احترز به عن الوصيّة له بمال، فإنّه من القسم الثالث (والنسب * والهِلال) وبهذا يظهر أنّ الهلال من حقّ الآدمي، فيثبت فيه الشهادة على الشهادة، كما سيأتي.

(ومنها: ما يثبت برجلين ورجل وامرأتين وشاهد ويمين، وهو) كلّ ما كان مالاً أو الغرض منه المال، مثل (الديون والأموال) الثابتة من غير أن تدخل في اسم الدين (والجناية الموجبة للدية) كقتل الخطأ والعمد المشتمل على التغرير بالنفس كالهاشمة والمنقّلة، وما لا قود فيه، كقتل الوالد ولده والمسلم الكافر، والحرّ العبد، وقد تقدّم في باب الشاهد واليمين (٣).

ولم يذكر ثبوت ذلك (٤) بامرأتين مع اليمين، مع أنّه قوّى في الدروس ثبوته بهما (٥) للرواية (٦) ومساواتهما للرجل حالة انضمامهما إليه في ثبوته بهما من غير يمين.

__________________

(١) ذكره ابن إدريس في السرائر ٢:١١٥، والشهيد في الدروس ٢:١٣٧.

(٢) لم يرد في المخطوطات.

(*) لم يرد (والنسب) في (ق).

(٣) تقدّم في كتاب القضاء، الصفحة ٩٧.

(٤) أي ما ذُكر في القسم الثالث من الحقوق.

(٥) الدروس ٢:١٣٧ ولكن حكم به جزماً.

(٦) الوسائل ١٨:١٩٧ ـ ١٩٨، الباب ١٥ من أبواب كيفية الحكم، الأحاديث ١ و ٣ و ٤.

١٢٤

وبقي من الأحكام اُمور تجمع حقّ الآدمي المالي وغيره كالنكاح والخلع والسرقة، فيثبت بالشاهد واليمين المال دون غيره. واستبعد المصنّف ثبوت المهر دون النكاح؛ للتنافي (١).

(ومنها) : ما يثبت (بالرجال والنساء ولو منفردات) وضابطه: ما يعسر اطّلاع الرجال عليه غالباً (كالولادة والاستهلال) وهو ولادة الولد حيّاً ليرث، سمّي ذلك استهلالاً، للصوت الحاصل عند ولادته ممّن حضر عادةً، كتصويت من رأى الهلال، فاشتقّ منه (وعيوب النساء الباطنة) كالقَرن والرَتَق. دون الظاهرة كالجذام والبرص والعمى، فإنّه من القسم الثاني (والرضاع) على الأقوى (والوصيّة له) أي بالمال، احتراز عن الوصيّة إليه. وهذا الفرد خارج من الضابط، ولو أفرده قسماً ـ كما صنع في الدروس (٢) ـ كان حسناً، ليرتّب عليه باقي أحكامه، فإنّه يختصّ بثبوت جميع الوصيّة برجلين وبأربع نسوة، وثبوت (٣) ربعها بكلّ واحدة، فبالواحدة الربع، وبالاثنتين (٤) النصف، وبالثلاث ثلاثة الأرباع من غير يمين، وباليمين مع المرأتين ومع الرجل (٥) وفي ثبوت النصف بالرجل أو الربع من غير يمين أو سقوط شهادته أصلاً، أوجه: من مساواته للاثنتين، وعدم النصّ، وأ نّه لا يقصر عن المرأة،

__________________

(١) الدروس ٢:١٣٨.

(٢) الدروس ٢:١٣٩.

(٣) في (ش) : بثبوت.

(٤) في غير (ف) : بالاثنين.

(٥) عطف على قوله: (بثبوت جميع الوصيّة برجلين) يعني وثبوت جميع المال باليمين مع المرأتين واليمين مع رجل واحد.

١٢٥

والأوسط أوسط. وأشكل منه الخنثى، وإلحاقه بالمرأة قويّ. وليس للمرأة تضعيف المال؛ ليصير ما أوصى به ربع ما شهدت به، للكذب. لكن لو فعلت استباح الموصى له الجميع مع علمه بالوصيّة، لا بدونه. وكذا القول فيما لا يثبت بشهادته الجميع.

(ومنها) : ما يثبت (بالنساء منضمّات) إلى الرجال (خاصّة) أو إلى اليمين على ما تقدّم (وهو الديون والأموال) وهذا القسم داخل في الثالث. قيل: وإنّما اُفرد ليعلم احتياج النساء إلى الرجال فيه صريحاً (١) وليس بصحيح؛ لأنّ الانضمام يصدق مع اليمين. وفي الأوّل (٢) تصريح بانضمامهّن إلى الرجل صريحاً، فلو عكس المعتذر كان أولى، ولقد كان إبداله ببعض ما أشرنا إليه من الأقسام سابقاً (٣) التي أدرجها، وإدراجه (٤) هو أولى كما فعل في الدروس (٥).

__________________

(١) لم نعثر على القائل.

(٢) يعني ما ذكره أوّلاً في القسم الثالث.

(٣) أشار إليه في أوّل الفصل بقوله: (ولو أفرد هذين عن القسم الأوّل ...) وبقوله في الوصيّة بالمال: (ولو أفرده قسماً ...).

(٤) عطف على قوله: (إبداله) ومرجع الضمير هذا القسم المبحوث عنه.

(٥) الدروس ٢:١٣٧ ـ ١٣٨.

١٢٦

(الفصل الثالث)

(في الشهادة على الشهادة)

(ومحلّها حقوق الناس كافّة) بل ضابطه: كلّ ما لم يكن عقوبة للّٰه‌تعالى مختصّة به إجماعاً، أو مشتركة على الخلاف (سواء كانت) الحقوق (عقوبةً كالقصاص، أو غير عقوبة) مع كونه حقّاً غير ماليّ (كالطلاق والنسب والعتق، أو مالاً كالقرض وعقود المعاوضات وعيوب النساء) هذا وما بعده من أفراد الحقوق التي ليست مالاً رتّبها مشوّشة (والولادة، والاستهلال، والوكالة والوصيّة بقسميها) وهما: الوصيّة إليه، وله.

(ولا يثبت في حقّ اللّٰه تعالى محضاً كالزنا واللواط والسحق، أو مشتركاً كالسرقة والقذف على خلاف (١)) منشؤه مراعاة الحقّين، ولم يرجّح هنا شيئاً، وكذا في الدروس (٢) والوقوف على موضع اليقين أولى، وهو اختيار الأكثر فبقي

__________________

(١) القول بعدم الإثبات للأكثر كما هنا وفي الإيضاح ٤:٤٤٤، واختاره هو ووالده أيضاً، ومثله في النسبة والاختيار في التنقيح الرائع ٤:٣١٧. والقول بالإثبات للشيخ في المبسوط ٨:٢٣١، ولكن في مورد القذف دون السرقة، ونسبه في غاية المراد إلى ابن حمزة، واختاره هو أيضاً اُنظر غاية المراد ٤:١٥٩ ـ ١٦٠.

(٢) الدروس ٢:١٤١.

١٢٧

ضابط حلّ الشهادة على الشهادة ما ليس بحدّ.

(ولو اشتمل الحقّ على الأمرين) كالزنا (ثبت) بالشهادة على الشهادة (حقّ الناس خاصّة، فيثبت بالشهادة) على الشهادة (على إقراره بالزنا نشر الحرمة) لأنّها من حقوق الآدميّين (لا الحدّ) لأنّه عقوبة للّٰه‌تعالى، وإنّما افتقر إلى إضافة الشهادة على الشهادة ليصير من أمثلة المبحث. أمّا لو شهد على إقراره بالزنا شاهدان فالحكم كذلك على خلاف، لكنّه من أحكام القسم السابق (١) ومثله ما لو شهد على إقراره بإتيان البهيمة شاهدان يثبت بالشهادة عليهما (٢) تحريم البهيمة وبيعها، دون الحدّ.

(ويجب أن يشهد على) كلّ (واحد عدلان) لتثبت شهادته بهما. (ولو شهدا على الشاهدين فما زاد) كالأربعة في الزنا والنسوة (جاز) لحصول الغرض، وهو ثبوت شهادة كلّ واحد بعدلين. بل يجوز أن يكون الأصل فرعاً لآخر، فيثبت بشهادته مع آخر. وفيما يقبل فيه شهادة النساء يجوز على كلّ امرأة أربع ـ كالرجال ـ وقيل: لا يكون النساء فرعاً (٣) لأنّ شهادة الفرع تثبت شهادة الأصل لا ما شهد به.

(ويشترط) في قبول شهادة الفرع (تعذّر) حضور (شاهد الأصل بموت أو مرض أو سفر) وشبهه (٤) (وضابطه: المشقّة في حضوره) وإن

__________________

(١) القسم الثاني من الفصل الثاني المتقدّم في الصفحة ١٢٣.

(٢) يعني شاهدي الإقرار.

(٣) وهو احتياط الشيخ في المبسوط ٨:٢٣٤، واختاره ابن إدريس في السرائر ٢:١٢٨ ـ ١٢٩، والمحقّق في الشرائع ٤:١٤٠، والعلّامة في القواعد ٣:٥٠٥، والتحرير ٥:٢٨٣ ـ ٢٨٤، وغيرهم.

(٤) مثل أن يكون مسجوناً.

١٢٨

لم يبلغ حدّ التعذّر.

واعلم أنّه لا يشترط تعديل الفرع للأصل، وإنّما ذلك فرض الحاكم. نعم يعتبر تعيينه، فلا تكفي «أشهدنا عدلان». ثم إن أشهداهما قالا: «أشهدنا فلان أنّه يشهد بكذا» وإن سمعاهما يشهدان جازت شهادتهما عليهما وإن لم تكن شهادة الأصل عند حاكم على الأقوى؛ لأنّ العدل لا يتسامح بذلك بشرط ذكر الأصل للسبب، وإلّا فلا، لاعتياد التسامح عند غير الحاكم به.

وإنّما تجوز شهادة الفرع مرّة واحدة (ولا تقبل الشهادة الثالثة) على شاهد الفرع (فصاعداً).

١٢٩
١٣٠

(الفصل الرابع)

(في الرجوع) عن الشهادة

(إذا رجعا) أي الشاهدان فيما يعتبر فيه الشاهدان، أو الأكثر حيث يعتبر (قبل الحكم امتنع الحكم) لأنّه تابع للشهادة وقد ارتفعت؛ ولأ نّه لا يدرى أصدقوا في الأوّل أو في الثاني؟ فلا يبقى ظنّ الصدق فيها (وإن كان) الرجوع (بعده لم ينقض الحكم) إن كان مالاً (وضمن * الشاهدان) ما شهدا به من المال (سواء كانت العين باقية، أو تالفة) على أصحّ القولين (١) وقيل: تستعاد العين القائمة (٢).

(ولو كانت الشهادة على قتل، أو رجم، أو قطع) أو جرح أو حدّ وكان قبل استيفائه لم يستوف؛ لأنّها تسقط بالشبهة والرجوع شبهة، والمال لا يسقط بها. وهو في الحدّ في معنى النقض، وفي القصاص قيل: ينتقل إلى الدية؛ لأنّها بدل

__________________

(*) في (ق) : يضمن.

(١) ذهب إليه الشيخ في المبسوط ٨:٢٤٦ ـ ٢٤٧، والخلاف ٦:٣٢١ المسألة ٧٥ من الشهادات، وابن إدريس في السرائر ٢:١٤٦، والمحقّق في الشرائع ٤:١٤٣.

(٢) قاله الشيخ في النهاية:٣٣٦، والقاضي في المهذّب ٢:٥٦٤، وابن حمزة في الوسيلة:٢٣٤.

١٣١

ممكن عند فوات محلّه (١) وعليه لا ينقض. وقيل: تسقط؛ لأنّها فرعه، فلا يثبت الفرع من دون الأصل (٢) فيكون ذلك في معنى النقض أيضاً. والعبارة تدلّ بإطلاقها على عدم النقض مطلقاً واستيفاء متعلّق الشهادة وإن كان حدّاً، والظاهر أنّه ليس بمراد. وفي الدروس: لا ريب أنّ الرجوع فيما يوجب الحدّ قبل استيفائه يبطل الحدّ، سواء كان للّٰه‌تعالى أو للإنسان؛ لقيام الشبهة الدارئة (٣) ولم يتعرّض للقصاص. وعلى هذا فإطلاق العبارة إمّا ليس بجيّد أو خلاف المشهور.

ولو كان بعد استيفاء المذكورات واتّفق موته بالحدّ (ثم رجعوا واعترفوا بالتعمّد اقتصّ منهم) أجمع إن شاء وليّه، وردّ على كلّ واحد ما زاد عن جنايته كما لو باشروا (أو) اقتصّ (من بعضهم) وردّ عليه ما زاد عن جنايته (ويردّ الباقون نصيبهم) من الجناية (وإن قالوا: أخطأنا فالدية عليهم) أجمع موزّعة. ولو تفرّقوا في العمد والخطأ فعلى كلّ واحد لازم قوله، فعلى المعترف بالعمد القصاص بعد ردّ ما يفضل من ديته عن جنايته، وعلى المخطئ نصيبه من الدية.

(ولو شهدا بطلاق ثم رجعا، قال) الشيخ (في النهاية: تردّ إلى الأوّل ويغرمان المهر للثاني (٤) وتبعه أبو الصلاح) (٥) استناداً إلى رواية حسنة (٦) حملت

__________________

(١) لم نعثر على القائل به.

(٢) قال الشيخ في المبسوط ٨:٢٤٦، وابن حمزة في الوسيلة:٢٣٤، ويحيى بن سعيد في الجامع للشرائع:٥٤٥، وغيرهم.

(٣) الدروس ٢:١٤٣.

(٤) النهاية:٣٣٦.

(٥) الكافي في الفقه:٤٤١.

(٦) الوسائل ١٨:٢٤١ الباب ١٣ من أبواب الشهادات، الحديث الأوّل.

١٣٢

على تزويجها بمجرّد سماع البيّنة، لا بحكم الحاكم (و) قال (في الخلاف: إن كان بعد الدخول فلا غرم) للأوّل لاستقرار المهر في ذمّته به فلا تفويت، والبضع لا يضمن بالتفويت، وإلّا لحُجر على المريض بالطلاق إلّاأن يخرج البضع من ثلث ماله، ولأ نّه لا يضمن له لو قتلها قاتل أو قتلت نفسها، أو حرّمت نكاحها برضاع (وهي زوجة الثاني) لأنّ الحكم لا ينقض بعد وقوعه.

(وإن كان قبل الدخول غرما) للأوّل (نصف المهر (١)) الذي غرمه؛ لأ نّه وإن كان ثابتاً بالعقد كثبوت الجميع بالدخول، إلّاأ نّه كان معرّضاً للسقوط بردّتها أو الفسخ لعيب، بخلافه بعد الدخول لاستقراره مطلقاً. وهذا هو الأقوى، وبه قطع في الدروس (٢) ونقله هنا قولاً كالآخر يدلّ على تردّده فيه، ولعلّه لمعارضة الرواية المعتبرة (٣).

واعلم أنّهم أطلقوا الحكم في الطلاق من غير فرق بين البائن والرجعيّ، ووجهه حصول السبب المزيل للنكاح في الجملة، خصوصاً بعد انقضاء عدّة الرجعيّ، فالتفويت حاصل على التقديرين. ولو قيل بالفرق واختصاص الحكم بالبائن كان حسناً، فلو شهدا بالرجعيّ لم يضمنا؛ إذ لم يفوّتا شيئاً، لقدرته على إزالة السبب بالرجعة. ولو لم يراجع حتى انقضت العدّة احتُمل إلحاقه بالبائن والغرم وعدمه، لتقصيره بترك الرجعة.

ويجب تقييد الحكم في الطلاق مطلقاً بعدم عروض وجه مزيل للنكاح، فلو شهدا به ففرّق فرجعا فقامت بيّنة أنّه كان بينهما رضاع محرّم فلا غرم؛

__________________

(١) الخلاف ٦:٣٢٢ ـ ٣٢٣، المسألة ٧٧ و ٧٨.

(٢) الدروس ٢:١٤٤.

(٣) الوسائل ١٨:٢٤١، الباب ١٣ من أبواب الشهادات.

١٣٣

إذ لا تفويت.

(ولو ثبت تزوير الشهود) بقاطع ـ كعلم الحاكم به ـ لا بإقرارهما؛ لأنّه رجوع، ولا بشهادة غيرهما؛ لأنّه تعارض (نقض الحكم) لتبيّن فساده (واستُعيد المال) إن كان المحكوم به مالاً (فإن تعذّر اغرموا) وكذا يلزمهم كلّ ما فات بشهادتهم (وعزّروا على كلّ حال) سواء كان ثبوته قبل الحكم أم بعده، فات شيء أم لا (وشهروا) في بلدهم وما حولها، لتجتنب شهادتهم ويرتدع غيرهم. ولا كذلك من تبيّن غلطه أو ردّت شهادته لمعارضة بيّنة اُخرى أو ظهور فسق أو تهمة، لإمكان كونه صادقاً في نفس الأمر فلم يحصل منه بالشهادة أمر زائد.

١٣٤

كتاب الوقف

١٣٥
١٣٦

(كتاب الوقف)

(وهو تحبيس الأصل) أي جعله على حالة لا يجوز التصرّف فيه شرعاً على وجه ناقل له عن الملك إلّاما استثني (١) (وإطلاق المنفعة) وهذا ليس تعريفاً، بل ذكر شيء من خصائصه، أو تعريف لفظيّ موافقة للحديث الوارد عنه صلى الله عليه وآله: «حبّس الأصل وسبّل الثمرة» (٢) وإلّا لانتقض بالسكنى واختيها (٣) والحبس، وهي خارجة عن حقيقته كما سيشير إليه.

وفي الدروس عرّفه بأ نّه الصدقة الجارية (٤) تبعاً لما ورد عنه صلى الله عليه وآله: «إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلّامن ثلاث: صدقةٍ جاريةٍ ...» (٥). (ولفظه الصريح) الذي لا يفتقر في دلالته عليه إلى شيء آخر

__________________

(١) يأتي موارد الاستثناء في كتاب المتاجر، الصفحة ٢٠١.

(٢) المستدرك ١٤:٤٧، الباب ٢ من كتاب الوقوف، الحديث الأوّل.

(٣) العمرى والرقبى.

(٤) الدروس ٢:٢٦٣.

(٥) المستدرك ١٢:٢٣٠، الباب ١٥ من أبواب الأمر بالمعروف والنهي، الحديث ٦. وفيه: (عن) بدل (من).

١٣٧

(وقفت) خاصة على أصحّ القولين (١) (وأمّا حبّست وسبّلت وحرّمت وتصدّقت فمفتقر إلى القرينة) كالتأبيد ونفي البيع والهبة والإرث، فيصير بذلك صريحاً. وقيل: الأوّلان صريحان أيضاً بدون الضميمة (٢) ويضعّف باشتراكهما بينه وبين غيره، فلا يدلّ على الخاصّ بذاته، فلابدّ من انضمام قرينة تعيّنه. ولو قال: «جعلته وقفاً» أو «صدقة مؤبّدة محرّمة» كفى، وفاقاً للدروس (٣) لأنّه كالصريح. ولو نوى الوقف فيما يفتقر إلى القرينة وقع باطناً ودُيّن بنيّته لو ادّعاه أو ادّعى غيره.

ويظهر منه عدم اشتراط القبول مطلقاً، ولا القربة.

أما الثاني فهو أصحّ الوجهين، لعدم دليلٍ صالحٍ على اشتراطها وإن توقّف عليها الثواب.

وأما الأوّل فهو أحد القولين (٤) وظاهر الأكثر؛ لأصالة عدم الاشتراط، ولأ نّه إزالة ملك، فيكفي فيه الإيجاب كالعتق. وقيل: يشترط إن كان الوقف على من يمكن في حقّه القبول (٥) وهو أجود وبذلك دخل في باب العقود؛ لأنّ إدخال

__________________

(١) اختاره الشيخ في المبسوط ٣:٢٩٢، والراوندي في فقه القرآن ٢:٢٩٢، وابن إدريس في السرائر ٣:١٥٥، والمحقّق في الشرائع ٢:٢١١، والنافع:١٥٦، والعلّامة في الإرشاد ١:٤٥١، والتحرير ٣:٢٨٩، وغيرهم.

(٢) قاله الشيخ في الخلاف ٣:٥٤٢، المسألة ٨ من الوقف، وابن زهرة في الغنية:٢٩٦، والكيدري في الإصباح:٣٤٥، ويحيى بن سعيد في الجامع للشرائع:٣٦٩، وغيرهم.

(٣) الدروس ٢:٢٦٣.

(٤) وهو ظاهر المقنعة والكافي والمراسم والنهاية والخلاف والمبسوط وغيرها، اُنظر للتفصيل مفتاح الكرامة ٩:٩.

(٥) قاله الشهيد في‌الدروس ٢:٢٦٤.

١٣٨

شيءٍ في ملك الغير يتوقّف على رضاه؛ وللشكّ في تمام السبب بدونه فيستصحب. فعلى هذا يعتبر فيه ما يعتبر في العقود اللازمة: من اتصّاله بالإيجاب عادةً، ووقوعه بالعربيّة وغيرها.

نعم، لو كان على جهة عامّة أو قبيلة ـ كالفقراء ـ لم يشترط وإن أمكن قبول الحاكم له، وهذا هو الذي قطع به في الدروس (١) وربما قيل باشتراط قبول الحاكم فيما له ولايته (٢) وعلى القولين لا يعتبر قبول البطن الثاني ولا رضاه؛ لتماميّة الوقف قبله فلا ينقطع؛ ولأنّ قبوله لا يتّصل بالإيجاب، فلو اعتبر لم يقع له.

(ولا يلزم) الوقف بعد تمام صيغته (بدون القبض) وإن كان في جهة عامّة قبضها الناظر فيها أو الحاكم، أو القيمّ المنصوب من قبل الواقف لقبضه. ويعتبر وقوعه (بإذن الواقف) كغيره؛ لامتناع التصرّف في مال الغير بغير إذنه، والحال أنّه لم ينتقل إلى الموقوف عليه بدونه (فلو مات) الواقف (قبله) أي قبل قبضه المستند إلى إذنه (بطل) ورواية عبيد بن زرارة (٣) صريحة فيه. ومنه يظهر أنّه لا تعتبر فوريّته.

والظاهر أنّ موت الموقوف عليه كذلك، مع احتمال قيام وارثه مقامه. ويفهم من نفيه اللزوم بدونه أنّ العقد صحيح قبله، فينتقل الملك انتقالاً

__________________

(١) الدروس ٢:٢٦٤.

(٢) وهو ظاهر العلّامة في القواعد ٢:٣٨٨، حيث استقرب اشتراط قبول الولي، وفي التذكرة (الحجريّة) ٢:٤٢٧ حيث جعل نيابة الحاكم في القبول في الوقف على جهة عامة وجهاً، وقال المحقّق الثاني في جامع المقاصد ٩:١٢: ولا ريب أنّه أولى.

(٣) الوسائل ١٣:٢٩٩، الباب ٤ من أحكام الوقوف، الحديث ٥.

١٣٩

متزلزلاً يتمّ بالقبض. وصرّح غيره (١) وهو ظاهره في الدروس (٢) أنّه شرط الصحّة. وتظهر الفائدة في النماء المتخلّل بينه وبين العقد. ويمكن أن يريد هنا باللزوم الصحّة، بقرينة حكمه بالبطلان لو مات قبله، فإنّ ذلك من مقتضى عدم الصحّة، لا اللزوم، كما صرّح به في هبة الدروس (٣) واحتمل إرادته (٤) من كلام بعض الأصحاب فيها (٥). (ويدخل في وقف الحيوان لبنه وصوفه) وما شاكله (الموجودان حال العقد ما لم يستثنهما) كما يدخل ذلك في البيع؛ لأنّهما كالجزء من الموقوف بدلالة العرف، وهو الفارق بينهما وبين الثمرة، فإنّها لا تدخل وإن كانت طلعاً لم يؤبّر.

(وإذا تمّ) الوقف (لم يجز الرجوع فيه) لأنّه من العقود اللازمة.

(وشرطه)

مضافاً إلى ما سلف (التنجيز) فلو علّقه على شرط أو صفة بطل، إلّاأن يكون واقعاً والواقف عالم (٦) بوقوعه كقوله: (وقفت إن كان اليوم الجمعة) وكذا في غيره من العقود.

(والدوام) فلو قرنه بمدّة أو جعله على من ينقرض غالباً لم يكن وقفاً،

__________________

(١) صرّح به المحقّق في الشرائع ٢:٢١٧ والعلّامة في القواعد ٢:٣٨٩.

(٢) الدروس ٢:٢٦٦.

(٣) الدروس ٢:٢٨٥ ـ ٢٨٦.

(٤) أي الصحّة من اللزوم، والمناسب تأنيث الضمير.

(٥) الدروس ٢:٢٨٥ ـ ٢٨٦.

(٦) في (ش) و (ف) : عالماً.

١٤٠