أحكام القرآن - ج ٤

أبي بكر محمّد بن عبدالله [ ابن العربي ]

أحكام القرآن - ج ٤

المؤلف:

أبي بكر محمّد بن عبدالله [ ابن العربي ]


المحقق: علي محمّد البجاوي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الجيل
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٦٧

سورة البلد

[فيها ثلاث آيات]

الآية الأولى ـ قوله تعالى (١) : (لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ).

فيها خمس مسائل :

المسألة الأولى ـ في قراءتها ، قرأ الحسن ، والأعمش ، وابن كثير لأقسم من غير ألف زائدة على اللام إثباتا. وقرأها الناس بالألف نفيا.

المسألة الثانية ـ اختلف الناس إذا كان حرف «لا» مخطوطا بألف على صورة النفي ، هل يكون المعنى نفيا كالصورة أم لا؟ فمنهم من قال : تكون صلة في اللفظ ، كما تكون «ما» صلة فيه ، وذلك في حرف «ما» كثير ، فأما حرف لا فقد جاءت [كذلك] (٢) في قول الشاعر :

تذكّرت ليلى فاعترتنى صبابة

وكاد (٣) ضمير القلب لا يتقطّع

أى يتقطع ، ودخل حرف «لا» صلة.

ومنهم من قال : [يكون] (٤) توكيدا ، كقول القائل : لا والله ، وكقول أبى كبشة [امرئ القيس] (٥) :

فلا وأبيك ابنة العامرىّ لا يدّعى القوم أنى أفرّ.

قاله أبو بكر بن عياش (٦). ومنهم من قال : إنها ردّ لكلام من أنكر البعث ، ثم ابتدأ القسم ، فقال : أقسم ، ليكون فرقا بين اليمين المبتدأة وبين اليمين التي تكون ردّا ، قاله الفرّاء.

المسألة الثالثة ـ أما كونها صلة فقد ذكروا في قوله (٧) : (ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ) في سورة الأعراف أنه صلة ، بدليل قوله في ص (٨) : (ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما

__________________

(١) آية ١.

(٢) ساقطة من م ، ش.

(٣) في ا : وكان. والمثبت من ش ، والقرطبي.

(٤) ساقط من م ، ش.

(٥) في ش ، م : ابن عباس.

(٦) سورة الأعراف ، آية ١٢.

(٧) سورة ص ، آية ٧٥.

٣٤١

خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ). والنازلة واحدة ، والمقصود واحد ، والمعنى سواء ، فالاختلاف إنما يعود إلى اللفظ خاصة.

وأما من قال : إنه توكيد فلا معنى له هاهنا ، لأن التوكيد إنما يكون إذا ظهر المؤكد كقوله : لا والله أقوم ، فإذا لم يكن هناك مؤكد فلا وجه للتأكيد ، ألا ترى إلى قوله :

فلا وأبيك ابنة العامرىّ

لا يدّعى القوم أنّى أفرّ

 [كيف] (١) أكد النفي وهو لا يدعى بمثله.

ومن أغرب هذا أنه قد تضمر وينفى (٢) معناها ، كما قال أبو كبشة :

فقلت يمين الله أبرح قاعدا

ولو قطعوا رأسى لديك (٣) وأوصالى

في قول. وقد حققنا ذلك في رسالة الإلجاء للفقهاء إلى معرفة غوامض الأدباء.

وأما من قال : إنها رد فهو قول ليس له رد ، لأنه يصح (٤) به المعنى ، ويتمكّن اللفظ والمراد.

المسألة الرابعة ـ وأما من قرأها : لأقسم فاختلفوا ، فمنهم من حذفها في الخط كما حذفها في اللفظ ، وهذا لا يجوز ، فإن خط المصحف أصل ثبت بإجماع الصحابة. ومنهم من قال : أكتبها ولا ألفظ بها ، كما كتبوا لا إلى الجحيم. و «لا إلى الله تحشرون» بألف ، ولم يلفظوا بها ، وهذا يلزمهم في قوله : (فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ) وشبهه ، ولم يقولوا به.

فإن قيل : إنما تكون صلة (٥) في أثناء الكلام ، كقوله : (لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ) وقوله : (أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ) ونحوه. فأما في ابتداء الكلام فلا يوصل بها إلا مقرونة بألف كقوله : (أَلا إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌ).

فأجابوا عنه بأن قالوا : إن القرآن ككلمة واحدة ، وليس كما زعموا ، لأنه لو وصل بها ما قبلها لكانت (٦) : أهل التقوى وأهل المغفرة لا أقسم بيوم القيامة.

وهذا لا يجوز ، حتى إن قوما كرهوا في القراءة أن يصلوها بها ، ووقفوا حتى يفرّقوا بينهما ببسم الله الرحمن الرحيم ، ليقطعوا الوصل المتوهم.

__________________

(١) ساقط من م ، ش.

(٢) في ش ، م : ولا ينفى.

(٣) في ش : عليك.

(٤) في ش : لأنه يصلح.

(٥) في ش : مثله.

(٦) في ش : لكان.

٣٤٢

والجواب الصحيح أن نقول : إن الصلة بها في أول الكلام كصلة آخره بها ، كذكرها في أثنائه ، بل ذكرها في أثنائه أبلغ في الإشكال ، كقوله : (ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ) ، ولو كان هذا كله خارجا عن أسلوب البلاغة ، قادحا في زين الفصاحة ، مثّبجا قوانين (١) العربية التي طال القرآن بها أنواع الكلام لاعترض عليه به الفصحاء البلغ ، والعرب العرب والخصماء اللد ، فلما سلموا فيه تبيّن أنه على أسلوبهم جار ، وفي رأس فصاحتهم منظوم ، وعلى قطب عربيتهم دائر ، وقد عبّر عنه سعيد بن جبير وغيره من محققي المفسرين ، فقالوا قوله : (لا أُقْسِمُ) قسم.

المسألة الخامسة ـ فإن قيل : كيف أقسم الله سبحانه بغيره.

قلنا : هذا قد بينا الجواب عنه على البلاغ في كتاب قانون التأويل ، وقلنا : للباري تعالى أن يقسم بما شاء من مخلوقاته تعظيما لها.

فإن قيل : فلم منع النبىّ صلّى الله عليه وسلم من القسم بغير الله؟

قلنا : لا تعلل العبادات. ولله أن يشرع ما شاء ، ويمنع ما شاء ، [ويبيح ما شاء] ، وينوع المباح والمباح له ، ويغاير بين المشتركين ، ويماثل بين المختلفين ، ولا اعتراض عليه فيما كلف من ذلك ، وحمل ، فإنه لا يسأل عما يفعل وهم يسألون.

فإن قيل : فلم قال النبىّ صلّى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح للأعرابى الذي قص (٢) عليه دعائم الإسلام وفرائض الإيمان ، فقال : والله لا أزيد على هذا ولا أنقص : أفلح وأبيه إن صدق.

[قلت : قد رأيته في نسخة مشرقية في الإسكندرية : أفلح والله إن صدق ، ويمكن] (٣) أن يتصحف [قوله] (٤) : والله بقوله : وأبيه.

جواب آخر بأن هذا منسوخ بقوله : «إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم».

جواب آخر ـ إن النبىّ صلّى الله عليه وسلم إنما نهى عنه عبادة ، فإذا جرى ذلك على الألسن

__________________

(١) في ا : مثبجا قوله بين العربية. وفي م : مثبجا قوانين العربية التي ما زال قرآن بها.

(٢) في ش ، م : نص.

(٣) بدل ما بين القوسين في ش : قلنا : يمكن.

(٤) من ش.

٣٤٣

عادة فلا يمنع ، فقد كانت العرب تقسم في ذلك بمن تكره ، فكيف بمن تعظم. قال ابن ميادة :

أظنّت سفاها من سفاهة رأيها

لأهجوها لما هجتنى محارب

فلا وأبيها إننى بعشيرتى (١)

ونفسي عن هذا المقام لراغب

وقال عبيد الله بن عبد الله بن عتبة أحد فقهاء المدينة السبعة :

لعمر أبى الواشين أيان نلتقي

لما لا تلاقيها من الدّهر أكثر

يعدون يوما واحدا إن لقيتها

وينسون أياما (٢) على النأى تهجر

وقال آخر :

لعمر أبى الواشين لا عمر غيرهم

لقد كلفتني خطة لا أريدها

وقال آخر :

فلا وأبى أعدائها (٣) لا أزورها

وإذا كان هذا شائعا كان من هذا الوجه سائغا.

الآية الثانية ـ قوله تعالى (٤) : (وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ).

فيها ثلاث مسائل :

المسألة الأولى ـ في قوله : (وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ).

فيها أربعة أقوال :

أحدها ـ وأنت ساكن ، تقدير الكلام أقسم بهذا البلد الذي أنت فيه [لكرامتك علىّ ، وحبّى لك ، وتكون هذه الجملة على نحو الحال ، كأنه قال : أقسم بهذا البلد وأنت](٥) فيه.

الثاني ـ وأنت حلّ بهذا البلد يحل لك فيه القتل. وقد قال النبي صلّى الله عليه وسلم: إن مكة حرّمها (٦) الله يوم خلق السموات والأرض ، لم تحلّ لأحد قبلي ، ولا تحلّ لأحد بعدي ، وإنما حلت لي ساعة من نهار ، ثم عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس.

الثالث ـ ويرجع إلى الثاني أنه يحلّ لك دخوله بغير إحرام ، دخل النبىّ صلّى الله عليه وسلم مكة وعلى رأسه المغفر ، ولم يكن محرما.

__________________

(١) في ش : لعشيرتى.

(٢) في ا : يوما.

(٣) في ش : فلا وأبى أعدائها.

(٤) آية ٢.

(٥) من ش.

(٦) في ش ، م : الله حرمهما.

٣٤٤

الرابع ـ قال مجاهد : وأنت حلّ بهذا البلد ليس عليك ما على الناس فيه من الإثم ، يريد أنّ الله عصمك. وقد بينّاه.

المسألة الثانية ـ أما قوله : (وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ) ، أى ساكن فيه ، فيحتمل اللفظ ، وتقتضيه الكرامة ، ويشهد له عظم المنزلة.

وأما القول الثاني فقد تقدم القول في جواز القتل بمكة وإقامة الحدود فيها في غير ما موضع من كتابنا هذا ، خلافا لأبى حنيفة ، وفي غير هذا الكتاب.

وأما دخوله مكة بغير إحرام فقد كان ذلك.

وأما دخول الناس مكة فعلى قسمين : إما لتردد المعاش ، وإما لحاجة عرضت ، فإن كان لتردد المعاش فيدخلها حلالا ، لأنه لو كلف الإحرام في كل وقت لم يطقه ، وقد رفع تكليف هذا عنا. وأما إن كان لحاجة عرضت فلا يخلو ، إما أن تكون حجّة أو عمرة أو غيرهما ، فإن كان حجة أو عمرة فلا خلاف في وجوب الإحرام ، وإن كان غيرهما فاختلفت الرواية فيه ، ففي المشهور عن مالك أنّه لا بدّ من الإحرام. وروى عنه تركه.

واختلف العلماء مثل هذا الاختلاف. والصحيح وجوب الإحرام ، لقوله عليه السلام : لم تحلّ لأحد قبلي ، ولا تحلّ لأحد بعدي ، وإنما أحلت لي ساعة من نهار. وهذا عام.

المسألة الثالثة ـ قوله : (بِهذَا الْبَلَدِ) مكة باتفاق من الأمة ، وذلك أن السورة مكية ، وقد أشار له (١) ربه بهذا ، وذكر له البلد بالألف واللام ، فاقتضى ذلك [ضرورة] (٢) لتعريف المعهود. وفيه قولان :

أحدهما ـ أنه مكة.

والثاني ـ أنه الحرم كلّه. وهو الصحيح ، لأن البلد بحريمه ، كما أنّ الدار بحريمها ، فحريم الدار ما أحاط بجدرانها ، واتّصل بحدودها ، وحريم بابها ما كان للمدخل والمخرج ، وحريم البئر في الحديث أربعون ذراعا ، وعند علمائنا يختلف ذلك بحسب اختلاف الأراضي في الصلابة والرخاوة ، ولها حريم السقي بحيث لا تختلط الماشية بالماشية من البئر الأخرى في المسقى (٣) والمبرك ، ومن حاز حريما أو مناخا قبل صاحبه فهو له. وحريم الشجرة ما عمرت به في العادة.

__________________

(١) في ش : إليه.

(٢) ليس في ش.

(٣) في ش : المستقى.

٣٤٥

وفي كتاب أبى داود ، عن أبى سعيد الخدري ، قال : اختصم إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم رجلان (١) في حريم نخلة فأمر بها ـ وفي رواية له ـ فأمر بجريدة من جرائدها ـ فذرعت ، فوجدت سبعة أذرع. وفي رواية له أيضا خمسة أذرع ـ فقضى بذلك.

والذي يقضى به ما قلناه من أنه يأخذ حقّه في العمارة التامة من ناحية الأرض (٢) ، ويأخذ دوحتها في الهواء ، إلا أن تسترسل أغصانها على أرض رجل فإنه يقطع منها ما أضرّ به.

الآية الثالثة ـ قوله تعالى (٣) : (فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ).

فيها ثمان مسائل :

المسألة الأولى ـ العقبة فيها خمسة أقوال :

الأول ـ أنها طريق النجاة ، قاله ابن زيد.

الثاني ـ جبل في جهنم ، قاله ابن عمر.

الثالث ـ عقبة في جهنم هي سبعون درجة ، قاله كعب.

الرابع ـ أنها نار دون الحشر.

الخامس ـ أن يحاسب نفسه وهواه وعدوّه الشيطان ، قاله الحسن : عقبة والله شديدة.

المسألة الثانية ـ العقبة في اللغة هي الأمر الشاق ، وهو في الدنيا بامتثال الأمر والطاعة ، وفي الآخرة بالمقاساة للأهوال (٤). وتعيين أحد الأمرين لا يمكن إلّا بخبر الصادق.

المسألة الثالثة ـ «اقتحم» معناه قطع الوادي بسلوكه فيه. وقال الليث : هو رميه في وهدة بنفسه. وقال على : من سرّه أن يقتحم جراثيم جهنم فليقض بين (٥) الجد والإخوة.

وإنما فسرناه بعد العقبة لأن الموصوف تقدم (٦) في الشرح على الصفة بحكم النظر الحقيقي حسبما بيناه في أصول الفقه.

المسألة الرابعة ـ اختار (٧) البخاري من هذا التقسيم قول مجاهد : إنه لم يقتحم العقبة في الدنيا ، وإنما اختار ذلك ، لأنه قال بعد ذلك في الآية الثالثة (٨) : (وَما أَدْراكَ مَا الْعَقَبَةُ).

__________________

(١) في ش : رجل.

(٢) في ا : في ساحة الأرض.

(٣) آية ١١.

(٤) في ش : بمقاساة الأهوال.

(٥) في ش : في.

(٦) في ش : يقدم.

(٧) في ا : اختيار.

(٨) آية ١٢.

٣٤٦

ثم قال في الآية الرابعة (١) : (فَكُّ رَقَبَةٍ). وفي الآية الخامسة (٢) : (أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ). ثم قال في الآية السادسة (٣) : (يَتِيماً ذا مَقْرَبَةٍ). ثم قال في الآية السابعة (٤) : (أَوْ مِسْكِيناً ذا مَتْرَبَةٍ). فهذه الأعمال إنما تكون في الدنيا.

المعنى فلم يأت في الدنيا بما يسهّل له سلوك العقبة في الآخرة.

تحقيقه : وما أدراك ما العقبة ، أى شيء يقتحم به العقبة ، لأنّ الاقتحام يدلّ على مقتحم به ، وهو ما فسّره من الأعمال الصالحة ، أوّلها فكّ رقبة. والفكّ هو حل القيد ، والرقّ قيد ، وسمى المرقوق رقبة ، لأنه كالأسير الذي يربط بالقيد في عنقه ، قال حسان (٥) :

كم من أسير فككناه بلا ثمن

وجزّ ناصية كنّا مواليها

وفكّ الأسير من العدوّ مثله ، بل أولى منه على ما بيناه فيما قبل.

وفي الحديث : من أعتق [امرأ مسلما كان فكاكه من النار. وفي الحديث من أعتق] (٦) رقبة مؤمنة أعتق الله بكل عضو منها (٧) عضوا منه من النار حتى الفرج بالفرج.

وهو حديث صحيح عظيم في تكفير الزنا بالعتق.

وفي كتب المالكية أن واثلة بن الأسقع سئل أن يحدّث بحديث لا وهم فيه ولا نقصان ، فغضب واثلة ، وقال : المصاحف تجدّدون فيها النظر بكرة وعشية وأنتم تهمّون تزيدون وتنقصون! ثم قال : جاء ناس إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقالوا : يا رسول الله ، صاحبنا هذا قد أوجب. قال النبي صلّى الله عليه وسلم : مروه فليعتق رقبة ، فإن له بكل عضو من المعتق عضوا منه من النار.

وروى الوليد بن مسلم ، عن مالك بن أنس ، عن إبراهيم بن أبى عيلة ، حدثهم عن [إبراهيم بن] (٨) عبد الله بن الديلي ، عن واثلة بن الأسقع بنحو (٩) مثله.

المسألة الخامسة ـ قال أصبغ : الرقبة الكافرة ذات الثمن أفضل في العتق من الرقبة المؤمنة القليلة الثمن ، لقول النبي صلّى الله عليه وسلم ـ وقد سئل أى الرقاب أفضل؟ قال: أغلاها ثمنا ، وأنفسها عند أهلها.

__________________

(١) آية ١٣

(٢) آية ١٤

(٣) آية ١٥.

(٤) آية ١٦.

(٥) ديوانه : ٤٢٤.

(٦) ساقط من ش.

(٧) في ش : بكل إرب منه إربا منه.

(٨) في ش : نحوه.

٣٤٧

والمراد في هذا الحديث من المسلمين ، بدليل قوله عليه السلام : من أعتق امرأ مسلما ، ومن أعتق رقبة مؤمنة ، وما ذكره أصبغ وهلة (١). وإنما نظر إلى تنقيص المال ، والنظر إلى تجريد المعتق للعبادة ، وتفريغه للتوحيد أولى. وقد بيناه في كتاب الصريح من مختصر النيرين.

المسألة السادسة ـ إطعام الطعام قد بينّا فضله ، وهو مع السّغب ـ الذي هو الجوع ـ أفضل من إطعامه لمجرد الحاجة ، أو على مقتضى الشهوة. وإطعام اليتيم الذي لا كافل له أفضل من إطعام ذي الأبوين لوجود الكافل وقيام الناصر ، وهي :

المسألة السابعة.

والمسألة الثامنة ـ قوله تعالى : (ذا مَقْرَبَةٍ) يفيد أنّ الصدقة على القريب أفضل منها على البعيد ، ولذلك بدأ به قبل المسكين ، وذلك عند مالك في النفل ، وقد بينا ذلك فيما تقدم مع قوله تعالى : (أَوْ مِسْكِيناً ذا مَتْرَبَةٍ). والمتربة : الفقر البلاغ الذي لا يجد صاحبه طعاما إلا التراب ولا فراشا سواه. والله أعلم.

__________________

(١) سهو وغلط.

٣٤٨

سورة الشمس

[فيها آية واحدة]

قوله تعالى (١) : (وَلا يَخافُ عُقْباها).

روى ابن وهب وابن القاسم ، عن مالك ، قال : أخرج إلينا مالك مصحفا لجدّه زعم أنه كتبه في أيام عثمان بن عفان ، حين كتب المصاحف ، مما فيه : ولا يخاف عقباها بالواو ، وهكذا قرأ أبو عمرو من القراء السبعة وغيره.

فإن قيل : لم يقرأ به نافع (٢) ، وقد قال مالك : السنة قراءة نافع.

قلنا : لي كل أحد من أصحابه (٣) ، ولا كل سامع يفهم (٤) عنه في قراءة نافع الهمز وحذفه ، والمد وتركه ، والتفخيم والترقيق ، والإدغام والإظهار ، في نظائر له من الخلاف في القراءات ، فدلّ على أنه أراد السنة في توسع الخلق في القراءة بهذه الوجوه من غير ارتباط إلى شيء مخصوص منها وقد بينا ذلك في تأويل قوله : «أنزل القرآن على سبعة أحرف» ، وقد ثبت عن النبىّ صلّى الله عليه وسلم أنه قال لمعاذ : لا تكن فتّانا ، اقرأ سبّح اسم ربك الأعلى ، والشمس وضحاها ، ونحوهما ، فخصهما بالذكر.

__________________

(١) آية ١٥.

(٢) في القرطبي : قراءة نافع بالفاء وهو الأجود.

(٣) في ش : الصحابة.

(٤) في ش : ولا كل تابع يقيم.

٣٤٩

سورة اللّيل [فيها آيتان]

الآية الأولى ـ قوله تعالى (١) : (وَما خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى).

فيها مسألتان :

المسألة الأولى ـ في معنى القسم فيها :

وفيه ثلاثة أقوال :

الأول ـ إن معناه وربّ الذكر والأنثى. وهذا المحذوف مقدّر في كل قسم أقسم الله به من المخلوقات. وقد تقدّم ذكر القسم بها.

الثاني ـ أن معنى قوله تعالى : (وَما خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى) ، والشّفع والوتر كما تقدم ، يعنى (٢) آدم وحوّاء ، وآدم خلق وحده قبل خلق حوّاء حسبما سبق بيانه.

المسألة الثانية ـ قراءة العامة وصورة المصحف : (وَما خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى) وقد ثبت في الصحيح أنّ أبا الدرداء وابن مسعود كانا يقرآن : والذكر والأنثى. قال إبراهيم : قدم أصحاب عبد الله على أبى الدرداء فطلبهم فوجدهم ، فقال : أيكم يقرأ على قراءة عبد الله؟ قالوا : كلّنا. قال : كيف تقرءون : والليل إذا يغشى؟ قال علقمة : والذكر والأنثى. قال : أشهد أنى سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقرأ هكذا ، وهؤلاء يريدون أن أقرأ : وما خلق الذكر والأنثى ، والله لا أتابعهم.

قال القاضي : هذا مما لا يلتفت إليه بشر ، إنما المعوّل عليه (٣) ما في الصحف ، فلا تجوز مخالفته لأحد ، ثم بعد ذلك يقع النظر فيما يوافق خطّه مما لم يثبت ضبطه ، حسبما بيناه في موضعه ، فإن القرآن لا يثبت بنقل الواحد. وإن كان عدلا ، وإنما يثبت بالتواتر الذي يقع به العلم ، وينقطع معه (٤) العذر ، وتقوم به الحجة على الخلق.

__________________

(١) آية ٣.

(٢) في ش : بمعنى.

(٣) في ش : على.

(٤) في ش : منه.

٣٥٠

الآية الثانية ـ قوله تعالى (١) : (فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى. وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى. وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنى. وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى. فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى).

فيها ثمان مسائل :

المسألة الأولى ـ في سبب نزولها :

روى في ذلك روايات :

الرواية الأولى ـ عن أبى الدرداء ، قال : قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم : ما من يوم طلعت (٢) فيه شمسه إلا وبجنبتيها (٣) ملكان يناديان ، يسمعهما خلق الله كلّهم إلا الثقلين : اللهم أعط منفقا خلفا ، وأعط ممسكا تلفا. فأنزل الله تعالى في ذلك : (فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى. وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى. فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى).

الرواية الثانية ـ عن عامر بن عبد الله بن الزبير ، قال : كان أبو بكر يعتق على الإسلام بمكة ، وكان يعتق نساء وعجائز ، فقال له أبوه : أى بنى ، أراك تعتق أناسا ضعفاء ، فلو أنك أعتقت رجالا جلدا يقومون معك ، ويدفعون عنك ، ويمنعونك! فقال : أى أبت ، إنما أريد ما عند الله. قال : فحدثني بعض أهل بيتي أنّ هذه الآية نزلت فيه : (فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى).

المسألة الثانية ـ قوله : (مَنْ أَعْطى).

حقيقة العطاء هي المناولة ، وهي في اللغة والاستعمال عبارة عن كل نفع أو ضرّ يصل (٤) من الغير إلى الغير ، وقد بيناه في كتاب الأمد الأقصى وغيره.

المسألة الثالثة ـ قوله تعالى : (وَاتَّقى) ، وقد تقدم الكلام في حقيقة التقوى ، وأنها عبارة عن حجاب معنوي يتخذه العبد بينه وبين العقاب ، كما أن الحجاب المحسوس يتخذه العبد [مانعا] (٥) بينه وبين ما يكرهه.

المسألة الرابعة ـ قوله تعالى : (وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى).

__________________

(١) الآيات من ٥ ـ ١٠.

(٢) في ش ، والقرطبي : غربت.

(٣) في ش : وبجنبيه.

(٤) في ا : يقبل.

(٥) ساقط من ا.

٣٥١

فيها ثلاثة أقوال :

الأول ـ أنها الخلف من المعطى ، قاله ابن عباس.

الثاني ـ أنها لا إله إلا الله ، قاله ابن عباس أيضا.

الثالث ـ أنها الجنّة ، قاله قتادة.

المسألة الخامسة ـ في المختار : كلّ معنى ممدوح فهو حسنى ، وكلّ عمل مذموم فهو سوأى وعسري ، وأول الحسنى التوحيد ، وآخره الجنة ، وكلّ قول أو عمل بينهما فهو حسنى ، وأول السوأى كلمة الكفر ، وآخره النار ، وكلّ ذلك مما يتعلق بهما فهو منهما ومراد باللفظ المعبّر عنهما.

واختار الطبري أنّ الحسنى الخلف ، وكلّ ذلك يرجع إلى الثواب الذي هو الجنة.

المسألة السادسة ـ قوله : (فَسَنُيَسِّرُهُ) ، يعنى نهيّئه بخلق أسبابه ، وإيجاد مقدماته ، ثم نخلقه بعد ذلك. فإن كان حسنا سمّى يسرى ، وإن مذموما سمى عسري ، والباري سبحانه خالق الكلّ ، فإن أراد السعادة هيّأ أسبابها للعبد وخلقها فيه ، وإن أراد الشقاء هيّأ أسبابه للعبد ، وخلقها فيه ، وذلك مروىّ أيضا عن النبىّ صلّى الله عليه وسلم من طريق صحيحة ، يعضّد ما قامت عليه أدلة العقول ، ويعتضد (١) بالشرع المنقول ، منه ما روى عن علىّ : كنا في جنازة بالبقيع ، فأتى رسول الله صلّى الله عليه وسلم فجلس ، وجلسنا ، ومعه عود ينكت به في الأرض ، فرفع رأسه إلى السماء فقال : ما [منكم] (٢) من نفس منفوسة إلا كتب مدخلها. فقلنا : يا رسول الله ، ألا نتّكل على كتابنا؟ فقال : بل اعملوا فكلّ ميسّر ، فأما من كان من أهل السعادة فإنه ييسّر لعمل أهل السعادة ، وأما من كان من أهل الشقاوة فإنه ييسّر للشقاء. ثم قرأ : (فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى. وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى. فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى. وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنى ...) إلى قوله : (لِلْعُسْرى).

وسأل غلامان شابان رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقالا : العمل فيما جفّت به الأقلام ، وجرت به المقادير أم في شيء يستأنف؟ فقال : بل فيما جفّت به الأقلام وجرت به المقادير.

__________________

(١) في ا : وينتظم.

(٢) ليس في القرطبي.

٣٥٢

فقالا : ففيم العمل [إذن] (١)؟ قال : اعملوا فكلّ ميسّر لعمله الذي خلق له. قالا : فالآن نجدّ ونعمل.

المسألة السابعة ـ قوله : (بَخِلَ).

قد بينا حقيقة البخل فيما تقدم ، وأنه منع الواجب ، وقد ذكرنا قول النبي صلّى الله عليه وسلم : مثل البخيل والمتصدق كمثل رجلين (٢) عليهما جبّتان من حديد ... الحديث إلى آخره.

المسألة الثامنة ـ قوله : (وَاسْتَغْنى).

قال ابن عباس : استغنى عن الله ، وهو كفر ، فإن الله غنىّ عن العالمين ، وهم فقراء إليه ، وهو الغنىّ الحميد. ويشبه أن يكون المراد استغنى بالدنيا عن الآخرة ، فركن إلى (٣) المحسوس ، وآمن به ، وضلّ عن المعقول ، وكذب به ، ورأى أنّ راحة النّقد (٤) خير من راحة النسيئة ، وضلّ عن وجه النجاة ، وربح التجارة التي اتفق العقلاء على طلبها بإسلام درهم إلى غنى وفي ليأخذ عشرة في المستقبل ، والله تبارك وتعالى لا يخلف الميعاد ، وهو الغنى له ما في السموات وما في الأرض ، والخلق ملكه ، أمر بالعمل وندب إلى النصب ، ووعد عليه بالثواب ، فالحرام (٥) معقولا ، والواجب منقولا امتثال أمره ، وارتقاب وعده ، وهذا منتهى الحكم في الآية ، وما يتعلق به وراء ذلك من البيان ما يخرج عن المقصود فأرجأته (٦) إلى مكانه بمشيئة الله وعونه.

__________________

(١) ساقط من ش.

(٢) في ا : رجل عليه.

(٣) في ا : عن.

(٤) في ا : النفس.

(٥) في م ، ش : فالجزم.

(٦) في ا : فأوحيناه. (٢٣ ـ أحكام ـ ٤).

٣٥٣

سورة الضحى

[فيها ثلاث آيات]

الآية الأولى ـ قوله تعالى (١) : (وَالضُّحى).

فيها أربع مسائل :

المسألة الأولى ـ قوله : (الضُّحى) :

هو ضوء النهار حين تشرق الشمس ، وهي مؤنثة ، يقال : ارتفعت الضحى ، ومعناها هو الضوء مذكر ، وتصغيره ضحيا ، فإذا فتحت مددت ، قال الشاعر (٢) :

أعجلها أقدحى (٣) : الضّحاء ضحى

وهي تناصى (٤) ذوائب السلم

يصف أنه نام عن إبل ، فأخذها ضحى قبل أن تبلغ الضحاء ، وتبيّن بهذا أن الضحاء بعد الضحى ، حتى إنه ليتمادى إلى نصف النهار ، ففي الحديث : إنّ النبي صلّى الله عليه وسلم قدم المدينة حين هاجر ، وقد اشتد الضحاء ، وكادت الشمس تزول.

المسألة الثانية ـ في سبب نزولها :

وفيه قولان :

أحدهما ـ أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم رمى بالحجر في إصبعه فدميت ، فقال النبي صلّى الله عليه وسلم : هل أنت إلّا إصبع دميت ، وفي سبيل الله ما لقيت. قال : فمكث ليلة أو ليلتين [أو ثلاثا] (٥) لا يقوم ، فقالت امرأة له : يا محمد ، ما أرى شيطانك إلّا قد تركك ، فنزلت السورة.

الثاني ـ روى جندب بن سفيان في الصحيح ، قال : اشتكى رسول الله صلّى الله عليه وسلم ، فلم يقم ليلتين أو ثلاثا ، فجاءت امرأة فقالت : يا محمد ، إنى لأرجو أن يكون شيطانك قد تركك. وفي رواية : ما أرى صاحبك إلا أبطأك ، فنزلت. وهذا أصحّ.

المسألة الثالثة ـ بوب عليه البخاري في باب «ترك القيام للمريض» ، وأدخل الحديث ليتبين (٦)

__________________

(١) آية ١.

(٢) هو الجعدي (اللسان ـ مادة ضحا).

(٣) في ا : أفرجى.

(٤) في ا : وهو بياض. والمثبت من الاسان ، ش :

(٥) ساقط من ش.

(٦) في ش : ليبين.

٣٥٤

بذلك وجوب قيام الليل. وقد قدمنا القول المحقّق فيه في سورة المزمل ، وإن ذلك كان فرضا على النبي صلّى الله عليه وسلم وحده.

المسألة الرابعة ـ الحديث بأنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم اشتكى ، فترك القيام صحيح ، وذكره فيه : هل أنت إلّا إصبع دميت. وفي سبيل الله ما لقيت ، غير صحيح ، [وقوله : فلم يقم ليلة أو ليلتين أسقطه الترمذي والبخاري في كتابيهما ، وهو صحيح ، خرّجه القاضي أبو إسحاق وغيره من طريق صحيحة ، وقد ذكرنا في صريح الصحيح] (١).

الآية الثانية ـ قوله تعالى (٢) : (وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ).

فيها مسألتان :

المسألة الأولى ـ ذكر المفسرون فيها قولين :

الأول ـ وأما السائل [للبر] (٣) فلا تنهر ، أى (٤) ردّه بلين ورحمة ، قاله قتادة ، الثاني ـ سائل الدين للبيان لا تنهره بالجفوة والغلظة.

المسألة الثانية ـ أما من قال : إنه سائل البر فقد قدمنا وجوه السؤال في غير موضع وكيفية (٥) العمل فيه ، وقول معروف ومغفرة خير من صدقة يتبعها أذى ، فكيف بالأذى دون الصدقة ، وأما السائل عن الدين فجوابه فرض على العالم على الكفاية كإعطاء سائل البر سواء ، وقد كان أبو الدرداء ينظر إلى أصحاب الحديث ، ويبسط رداءه لهم ، ويقول :

مرحبا بأحبّة رسول الله صلّى الله عليه وسلم.

وفي حديث أبى هارون العبدى ، عن أبى سعيد الخدري ، قال : كنا إذا أتينا أبا سعيد الخدري يقول : مرحبا بوصية رسول الله صلّى الله عليه وسلم ، إنّ النبي صلّى الله عليه وسلم قال : إن الناس الكم تبع ، وإن رجالا (٦) يأتونكم من أقطار الأرض يتفقّهون ، فإذا أتوكم فاستوصوا بهم خيرا. وفي رواية : يأتيكم رجال من قبل المشرق ... فذكره.

الآية الثالثة ـ قوله تعالى (٧) : (وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ).

فيها مسألتان :

__________________

(١) ساقط من ش.

(٢) آية ١٠.

(٣) في ا : بل.

(٤) في ش ، م : وكيف.

(٥) في ش : رجالكم.

(٦) آية ١١.

٣٥٥

المسألة الأولى ـ في [قوله : وأمّا بنعمة ربّك فحدّث] (١) ثلاثة أقوال :

أحدها ـ أنها النبوّة.

الثاني ـ أنها القرآن.

الثالث ـ إذا أصبت خيرا أو عملت خيرا فحدّث به الثقة من إخوانك ، قاله الحسن.

المسألة الثانية ـ أما من قال إنها النبوة فقد روى عبد الله بن شداد بن الهاد ، قال : جاء جبريل إلى النبي صلّى الله عليه وسلم فقال : يا محمد ، اقرأ. قال : وما أقرأ؟ قال : (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ) ، حتى بلغ (عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ) ، فقال لخديجة : يا خديجة ، ما أرانى إلّا قد عرض لي. فقالت خديجة : كلا والله ، ما كان ربك ليفعل ذلك بك ، وما أتيت فاحشة قط. قال فأتت خديجة ورقة بن نوفل ، فذكرت له ، فقال ورقة : إن تكوني صادقة [فزوجك نبي] (٢) وليلقينّ (٣) من أمته شدة ، فاحتبس جبريل عن النبي صلّى الله عليه وسلم ، فقالت خديجة : يا محمّد ، ما أرى ربّك إلا قد قلاك ، فأنزل الله تعالى : (وَالضُّحى) ، يعنى السورة. فهذا حديثه بالنبوة.

وأما حديثه بالقرآن فتبليغه إياه ، قالت عائشة رضى الله عنها : لو كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم كاتما من الوحى شيئا لكتم هذه الآية (٤) : (وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ). وقالت عائشة رضى الله عنها : من زعم أنّ محمدا كتم شيئا من الوحى فقد أعظم على الله الفرية ، والله يقول (٥) : (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ) ، وإن لم تفعل فما بلّغت رسالته.

وأما تحدثه بعمل فإنّ ذلك يكون بإخلاص من النية عند أهل الثقة ، فإنه ربما خرج إلى الرياء ، وأساء الظن بسامعه (٦) ، وقد روى أيوب قال : دخلت على أبى رجاء العطاردي ، فقال : لقد رزق الله البارحة خيرا ، صليت كذا وسبّحت كذا. قال : قال أيوب : فاحتملت ذلك لأبى رجاء. ومن الحديث بالنعمة إظهارها بالملبس والمركب ، قال النبي صلّى الله عليه وسلم : إن الله إذا أنعم على عبد [بنعمة] (٧) أحبّ أن يرى أثر نعمته ، وإظهارها بالملبس والمركب ، وإظهارها بالجديد والقوى من الثياب النقي ، وليس بالخلق الوسخ ، وفي المركب اقتناؤه للجهاد أو لسبيل الحلال ، حسبما تقدم بيانه.

__________________

(١) مكان ما بين القوسين في ش ، م : «تعديد الأقوال في معناه فيه».

(٢) ساقط من ش.

(٣) في ش ، م : فليلقين.

(٤) سورة الأحزاب ، آية ٣٧.

(٥) سورة المائدة ، آية ٦٧.

(٦) في ش : سامعه.

٣٥٦

سورة الإنشراح

[فيها ثلاث آيات]

الآية الأولى ـ قوله تعالى (١) : (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ).

شرحه حقيقة حسية ، وذلك حين كان عند ظئره ، وحين أسرى به ، وشرحه معنى حين جمع له التوحيد في صدره والقرآن ، وعلّمه ما لم يكن يعلم ، وكان فضل الله عليه عظيما ، وشرحه حين خلق له القبول لكلّ ما ألقى إليه والعمل به ، وذلك هو تمام الشرح وزوال الترح.

الآية الثانية ـ قوله تعالى (٢) : (وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ).

يعنى قرناه بذكرنا في التوحيد والأذان ، وقد تقدم.

الآية الثالثة ـ قوله تعالى (٣) : (فَإِذا فَرَغْتَ فَانْصَبْ).

فيها مسألتان :

المسألة الأولى ـ اتفق الموحّدون (٤) والمفسرون على أن معناه : إذا فرغت من الصلاة (٥) فانصب للأخرى بلا فتور ولا كسل ، وقد اختلفوا في تعيينهما على أربعة أقوال :

الأول ـ إذا فرغت من الفرائض فتأهّب لقيام الليل.

الثاني ـ إذا فرغت من الصلاة فانصب للدعاء (٦).

الثالث ـ إذا فرغت من الجهاد فاعبد ربك.

الرابع ـ إذا فرغت من أمر دنياك فانصب لأمر آخرتك.

ومن المبتدعة من قرأ هذه الآية فأنصب ـ بكسر الصاد والهمز في أوله ، وقالوا : معناه أنصب الإمام الذي يستخلف ، وهذا باطل في القراءة ، باطل في المعنى ، لأنّ النبىّ صلّى الله عليه وسلم لم يستخلف أحدا. وقرأها بعض الجهال فانصب (٧) ـ بتشديد الباء ـ معناه إذا فرغت من الغزو فجدّ (٨) إلى بلدك. وهذا باطل أيضا قراءة لمخالفة الإجماع ، لكن معناه

__________________

(١) آية ١.

(٢) آية ٤.

(٣) آية ٧.

(٤) في ش : المفسرون الموحدون.

(٥) في ا : الطاعة.

(٦) في ش : في الدعاء.

(٧) في ا : فانصبت.

(٨) في ش : فخذ.

٣٥٧

صحيح ، لقول النبي صلّى الله عليه وسلم : السفر قطعة من العذاب ، يمنع أحدكم نومه وطعامه وشرابه ، فإذا قضى أحدكم نهمته فليعجّل الرجوع إلى أهله.

وأشدّ الناس عذابا وأسوأهم مآبا ومباء من أخذ معنى صحيحا ، فركّب عليه من قبل نفسه قراءة أو حديثا ، فيكون كاذبا على الله ، كاذبا على رسوله ، ومن أظلم ممّن افترى على الله كذبا. أما أنه قد روى ـ وهي :

المسألة الثانية ـ عن شريح أنه مرّ بقوم يلعبون يوم عيد ، فقال : ما بهذا أمر الشارع. وفيه نظر ، فإن الحبش كانوا يلعبون بالدّرق والحراب في المسجد يوم العيد ، والنبىّ صلّى الله عليه وسلم ينظر.

ودخل أبو بكر بيت رسول الله صلّى الله عليه وسلم على عائشة وعندها جاريتان من جواري الأنصار تغنّيان ، فقال أبو بكر : أمزمارة (١) الشيطان في بيت رسول الله صلّى الله عليه وسلم؟ فقال : دعهما يا أبا بكر ، فإنه يوم عيد.

وليس يلزم الدءوب على العمل ، بل هو مكروه للخلق ، حسبما تقدّم بيانه في غير موضع.

__________________

(١) في ش : أمزمار. وفي القرطبي : أمرموز.

٣٥٨

سورة التّين

[فيها خمس آيات]

الآية الأولى ـ قوله تعالى (١) : (وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ).

قيل : هو حقيقة. وقيل : عبّر به عن دمشق ، أو جبلها ، أو مسجدها. ولا يعدل عن الحقيقة إلى المجاز إلا بدليل.

وإنما أقسم الله سبحانه بالتين ليبيّن فيه [وجه] (٢) المنّة العظمى ، فإنه جميل المنظر ، طيّب المخبر ، نشر الرائحة ، سهل الجنى على قدر المضغة ، وقد أحسن القائل فيه :

انظر إلى التين في الغصون ضحى

ممزّق الجلد مائل العنق

كأنه ربّ نعمة سلبت

فعاد بعد الجديد في الخلق.

أصغر ما في النهود أكبره

لكن (٣) ينادى عليه في الطرق

ولامتنان الباري سبحانه ، وتعظيم النعمة فيه ، فإنه مقتات مدّخر ، فلذلك (٤) قلنا بوجوب الزكاة فيه. وإنما فرّ كثير من العلماء من التصريح بوجوب الزكاة فيه تقية جور الولاة ، فإنهم يتحاملون في الأموال الزكائية ، فيأخذونها مغرما ، حسبما أنذر به الصادق صلّى الله عليه وسلم ، فكره العلماء أن يجعلوا لهم (٥) سبيلا إلى مال آخر يتشطّطون فيه. ولكن ينبغي للمرء أن يخرج عن نعمة ربه بأداء حقه. وقد قال الشافعى ـ لهذه العلة أو غيرها : لا زكاة في الزيتون. والصحيح وجوب الزكاة فيهما.

الآية الثانية ـ قوله تعالى (٦) : (وَهذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ).

[يعنى مكة لما خلق الله فيه من الأمن حسبما تقدم بيانه في آل عمران والعنكبوت وغيرهما] (٧) ، وبهذا (٨) احتج من قال : إنه أراد بالتين دمشق ، وبالزيتون بيت المقدس ، فأقسم الله بجبل

__________________

(١) آية ١.

(٢) ساقط من ش.

(٣) في ش : ليس.

(٤) في ش : ولذلك قطعنا.

(٥) في ا : له.

(٦) آية ٣.

(٧) ليس في ش.

(٨) في ش : ولهذا.

٣٥٩

دمشق ، لأنه (١) مأوى عيسى عليه السلام ، وبجبل بيت المقدس لأنه مقام الأنبياء كلهم ، وبمكة لأنه أثر إبراهيم ودار محمد صلّى الله عليهما وسلم.

الآية الثالثة ـ قوله تعالى (٢) : (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ).

قال ابن العربي رضى الله عنه : ليس لله تعالى خلق هو أحسن من الإنسان ، فإن الله خلقه حيّا عالما ، قادرا ، مريدا ، متكلما ، سميعا ، بصيرا ، مدبرا ، حكيما ، وهذه صفات الرب ، وعنها عبّر بعض العلماء ، ووقع البيان بقوله : إن الله خلق آدم على صورته ، يعنى على صفاته التي قدمنا ذكرها.

وفي رواية على صورة الرحمن. ومن أين تكون للرحمن صفة مشخصة (٣)! فلم يبق إلا أن تكون معاني ، وقد تكلمنا على الحديث في موضعه بما فيه بيانه.

وقد أخبرنا المبارك بن عبد الجبار الأزدى ، أخبرنا القاضي أبو القاسم علىّ بن أبى على القاضي المحسن ، عن أبيه ، قال (٤) : كان عيسى بن موسى الهاشمي يحبّ زوجه حبّا شديدا ، فقال لها يوما : أنت طالق ثلاثة إن لم تكوني أحسن من القمر ، فنهضت واحتجبت عنه ، وقالت : طلقني. وبات بليلة عظيمة. ولما أصبح غدا إلى دار المنصور ، فأخبره الخبر ، [وقال : يا أمير المؤمنين ، إن تمّ على طلاقها تصلفت نفسي غما ، وكان الموت أحب إلى من الحياة] (٥) ، وأظهر للمنصور جزعا عظيما ، فاستحضر الفقهاء ، واستفتاهم ، فقال جميع من حضر : قد طلقت ، إلا رجلا واحدا من أصحاب أبى حنيفة ، فإنه كان ساكتا ، فقال له المنصور : مالك لا تتكلم؟ فقال له الرجل : بسم الله الرحمن الرحيم. والتين والزيتون. وطور سنين. وهذا البلد الأمين. لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم. يا أمير المؤمنين ، الإنسان أحسن الأشياء ، ولا شيء أحسن منه. [فقال المنصور لعيسى بن موسى : الأمر كما قال ، فأقبل على زوجك] (٦) ، فأرسل أبو جعفر المنصور إلى زوجه أن أطيعى زوجك ، ولا تعصيه ، فما طلقك.

فهذا يدلّك على أن الإنسان أحسن خلق الله باطنا ، و [هو أحسن خلق الله] (٧) ظاهرا ،

__________________

(١) في ش : لأنها.

(٢) آية ٤.

(٣) في القرطبي : متشخصة.

(٤) في ا : يوما.

(٥ ـ ٦ ـ ٧) ليس في ش.

٣٦٠