أحكام القرآن - ج ٤

أبي بكر محمّد بن عبدالله [ ابن العربي ]

أحكام القرآن - ج ٤

المؤلف:

أبي بكر محمّد بن عبدالله [ ابن العربي ]


المحقق: علي محمّد البجاوي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الجيل
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٦٧

ما الزنا؟ قال : نعم ، أتيت منها حراما مثل ما يأتى الرجل من أهله حلالا. قال : فما تريد منى بهذا القول؟ قال : أريد أن تطهّرنى؟ قال : فأمر به فرجم.

قال الترمذي ، وأبو داود : فلما وجد مسّ الحجارة مرّ يشتدّ فضربه رجل بلحى جمل ، وضربه الناس حتى مات ، فقال النبي صلّى الله عليه وسلم : هلا تركتموه. قال أبو داود والنسائي : تثبّت رسول الله صلّى الله عليه وسلم ، فأما لترك حدّ فلا ، وهذا كلّه طريق للرجوع ، وتصريح بقبوله. وفي قوله : لعلك غمزت ، إشارة إلى قول مالك : إنه يقبل رجوعه إذا ذكر فيها وجها.

المسألة الرابعة ـ ومن الناس من قال : إن معنى : (وَلَوْ أَلْقى مَعاذِيرَهُ).

أى ستوره ، بلغة أهل اليمن ، وأحدها معذار. وقال ثعلب : واحدها معذرة. المعنى أنه إذا اعتذر يوم القيامة وأنكر الشرك ، لا ينفع الظالمين معذرتهم ، ويختم على فمه ، فتشهد عليه جوارحه ، ويقال له : كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا.

المسألة الخامسة ـ وهذا في الحر المالك لأمر نفسه. وأما العبد فإنّ إقراره لا يخلو من أحد قسمين : إمّا أن يقرّ على بدنه ، أو على ما في يده وذمته ، فإن أقرّ على بدنه فيما فيه عقوبة من القتل فما دونه نفذ ذلك عليه.

وقال محمد بن الحسن : لا يقبل ذلك منه ، لأن بدنه مسترق (١) بحق السيد. وفي إقراره إتلاف حقوق السيد في بدنه ، ودليلنا قوله عليه السلام : من أصاب من هذه القاذورات شيئا فليستتر بستر الله ، فإنه من يبد لنا صفحته نقم عليه الحد. المعنى أنّ محل العقوبة أصل الخلقة وهي الدمية في الآدمية ، ولا حقّ للسيد فيها ، وإنما حقّه في الوصف والتّبع ، وهي المالية الطارئة عليه ، ألا ترى أنه لو أقرّ بمال لم يقبل ، حتى قال أبو حنيفة : إنه لو قال : سرقت هذه السلمة إنه يقطع (٢) يده ويأخذها المقرّ له.

وقال علماؤنا : السلعة للسيد ، ويتبع العبد بقيمتها إذا عتق ، لأن مال العبد للسيد إجماعا ، فلا يقبل قوله فيه ، ولا إقراره عليه ، لا سيما وأبو حنيفة يقول : إن العبد لا ملك له ،

__________________

(١) في ش ، والقرطبي : مستغرق.

(٢) في القرطبي : لم تقطع.

٣٠١

ونحن وإن قلنا : إنه يصحّ تملّكه ، ولكن جميع ما في يده لسيده بإجماع على القولين.

المسألة السادسة ـ وقد قيل : إن معنى قوله : (بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ) ، أى عليه من يبصر أعماله ، ويحصيها ، وهم الكرام الكاتبون ، وهذه كلها مقاصد محتملة لفظ ، أقواها ما تقدم ذكرنا له.

الآية الثانية ـ قوله تعالى (١) : (لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ).

فيها أربع مسائل :

المسألة الأولى ـ ثبت في الصحيح ـ واللفظ للبخاري ـ عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس في قوله : (لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ) ـ قال : كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يعالج من التنزيل (٢) شدة ، وكان مما يحرّك به شفتيه ، فقال ابن عباس : فأنا أحركهما كما كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يحركهما. وقال سعيد : أنا أحركهما كما رأيت ابن عباس يحرّكهما ، فحرّك شفتيه ، فأنزل الله عز وجل : (لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ). قال : جمعه لك في صدرك وتقرؤه. فإذا قرأناه فاتّبع قرآنه. قال : فاستمع له وأنصت. ثم إنّ علينا بيانه ، ثم إنّ علينا أن نقرأه. فكان رسول الله صلّى الله عليه وسلم بعد ذلك إذا أتاه جبريل استمع ، فإذا انطلق جبريل قرأه النبىّ صلّى الله عليه وسلم كما أقرأه.

المسألة الثانية ـ هذا يعضد ما تقدم : في سورة المزمّل من قوله (٣) (وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً) حسبما تقدم بيانه في ذلك الموضع. وهذا المعنى صحيح ، وذلك أن المتلقن من حكمه الأوكد أن يصغى إلى الملقن بقلبه ، ولا يستعين بلسانه ، فيشترك الفهم بين القلب واللسان ، فيذهب روح التحصيل بينها ، ويخزل اللسان بتجرد القلب للفهم ، فيتيسّر التحصيل ، وتحريك اللسان يجرد القلب عن الفهم ، فيتعسر التحصيل بعادة الله التي يسّرها ، وذلك معلوم عادة فيتحقق لذي (٤) مشاهدة.

قال الإمام : كنت أحضر عند الحاسب بتلك الديار المكرمة ، وهو يجعل الأعداد على

__________________

(١) آية ١٦.

(٢) في ش : القرآن.

(٣) صفحة ١٨٦٣.

(٤) في ش : كذا.

٣٠٢

المتعلمين الحاسبين ، وأفواههم مملوءة من الماء ، حتى إذا انتهى إلقاؤه ، وقال : ما معكم ـ رمى كلّ واحد بما في فمه ، وقال ما معه ليعوّدهم خزل اللسان عن تحصيل المفهوم عن المسموع. وللقوم في التعلم سيرة بديعة ، وهي أن الصغير منهم إذا عقل بعثوه إلى المكتب ، فإذا عبر المكتب أخذه بتعليم الخط والحساب والعربية ، فإذا حذقه كله أو حذق منه ما قدّر له خرج إلى المقرئ فلقّنه كتاب الله ، فحفظ منه كل يوم ربع حزب ، أو نصفه ، أو حزبا ، حتى إذا حفظ القرآن خرج إلى ما شاء الله من تعليم العلم أو تركه. ومنهم ـ وهم الأكثر ـ من يؤخّر حفظ القرآن ، ويتعلم الفقه والحديث ، وما شاء الله ، فربما كان إماما ، وهو لا يحفظه ، وما رأيت بعيني إماما يحفظ القرآن ، ولا رأيت فقيها يحفظه إلا اثنين ، ذلك لتعلموا أنّ المقصود حدوده لا حروفه ، وعلقت القلوب اليوم بالحروف ، وضيّعوا الحدود ، خلافا لأمر رسول الله صلّى الله عليه وسلم ، لكنه إنفاذ لقدر الله ، وتحقيق لوعد رسول الله صلّى الله عليه وسلم ، وتبيين لنبوته ، وعضد لمعجزته.

المسألة الثالثة ـ الباري سبحانه يجمع القرآن في قلب الرسول تيسيرا للتبليغ ، ويجمعه (١) في قلب غيره ، تيسيرا لإقامة الحجة ، فإما أن يكون شفاء لما يعرض في الصدور ، وإما أن يكون عمى في الأبصار والبصائر ، وإما أن يكون بينه وبين العلم به رين ، فيبقى تاليا ، ولا يجعل له من المعرفة ثانيا ، وهو أخفّه حالا وأسلمه مآلا ، وقد حقق الله لرسوله وعده بقوله (٢) : (سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى) ، وهو خبر ، وليس بأمر معنوي لثبوت الياء في الخط إجماعا ، وليس ينبغي بعد هذا تأويل ، لأنه لا يحتاج إليه.

وفي الصحيح أنه صلّى الله عليه وسلم كان يعارضه جبريل القرآن مرّة في كل شهر رمضان ، حتى كان العام الذي قبضه الله بينه وبين الآخر عارضه مرّتين ، ففطن لتأكيد الحفظ والجمع عنده ، وقال : ما أراه إلّا قد حضر أجلى ، إذ كان المقصود من بعثه إلى الخلق تبليغ الأحكام وتمهيد الشرع ، ثم يستأثر الله به على الخلق ، ويظهره برفعه إليه عنهم ، وينفذ بعد ذلك حكمه فيهم.

__________________

(١) في ش : بتيسير التبليغ وجمعه.

(٢) سورة الأعلى ، آية ٦.

٣٠٣

المسألة الرابعة ـ انتهى النظر في هذه الآية بقوم من الرفعاء منهم قتادة إلى أن يقولوا في قوله : ثم إنّ علينا بيانه ، أى تفصيل أحكامه ، وتمييز حلاله من حرامه ، حتى قال حين سئل عن ذلك : إنّ منه وجوب الزكاة في مائتي درهم ، وهذا وإن لم يشهد له مساق الآية فلا ينفيه عمومها ، ونحن لا نرى تخصيص العموم بالسبب ولا بالأولى من الآية والحديث ، ولا بالمساق ، حسبما بيناه في أصول الفقه.

الآية الثالثة ـ قوله تعالى (١) : (أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى. ثُمَّ كانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى).

فيها مسألة واحدة :

وهي ما تقدم في نظير (٢) هذه الآية ما يكون الولد من أحوال التخليق ولدا : من النطفة والعلقة والمضغة ، وهذه الآية بظاهرها تقتضي أنّ المرتبة الثالثة بعد العلقة [وتكون] (٣) خلقا مسوّى ، فتكون به المرأة (٤) أم ولد ، ويكون الموضوع سقطا ، وقد حققنا ذلك واختلاف الناس فيه كما سبق ، وهذه التسوية أولها ابتداء الخقة ، وآخرها استكمال القوة ، والكلّ مراد ، والله أعلم.

الآية الرابعة ـ قوله تعالى (٥) : (فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى).

وقد احتج بهذا من رأى إسقاط الخنثى ، وقد بيّنا في سورة الشورى أنّ هذه الآية وقرينتها إنما خرجتا مخرج الغالب ، حسبما تقدم هنالك (٦) ، فليجتزئ به اللبيب ، فإنه وفي بالمقصود إن شاء الله تعالى.

__________________

(١) آية ٣٧ ، ٣٨.

(٢) في ش : نظائر.

(٣) من ش.

(٤) في ا : الأمة.

(٥) آية ٣٩.

(٦) صفحة ١٦٦٠.

٣٠٤

سورة الدّهر

[فيها ست آيات]

الآية الأولى ـ قوله تعالى (١) : (هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ).

وقد تقدم (٢) القول في الحين بما فيه الكفاية ، فلينظر في سورة إبراهيم عليه السلام.

الآية الثانية ـ قوله تعالى (٣) : (إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً).

بمعنى أخلاط. ماء الرجل غليظ أبيض ، وماء المرأة أصفر رقيق ، فيجمعهما الملك بأمر الله ، وتنقلهما القدرة من تطوير إلى تطوير ، حتى تنتهي إلى ما دبّره من التقدير. وقد بينا ذلك فيما تقدم.

الآية الثالثة ـ قوله تعالى (٤) : (يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخافُونَ يَوْماً كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً).

فيها مسألتان :

المسألة الأولى ـ قوله : (يُوفُونَ بِالنَّذْرِ) فيه أقوال ، لبابها قولان :

أحدهما ـ يوفون بما افترض عليهم.

الثاني ـ يوفون [بما اعتقدوه و] (٥) بما عقدوه على أنفسهم ، ولا ثناء أبلغ من هذا ، كما أنه لا فعل أفضل منه ، فإنّ الله قد ألزم عبده وظائف ، وربما جهل العبد عجزه عن القيام بما فرض (٦) الله عليه ، فينذر على نفسه نذرا ، فيتعيّن عليه الوفاء به أيضا ، فإذا قام بحقّ الأمرين ، وخرج عن واجب النذرين كان له من الجزاء ما وصف الله في آخر السورة.

وعلى عموم الأمرين كل ذلك حمله مالك ، روى عنه (٧) أشهب أنه قال : (يُوفُونَ بِالنَّذْرِ) هو نذر العتق ، والصيام ، والصلاة. وروى عنه أبو بكر بن عبد العزيز ، قال : قال مالك : يوفون بالنّذر ، قال : النذر هو اليمين.

__________________

(١) آية ١.

(٢) صفحة ١١٠٦

(٣) آية ٢.

(٤) آية ٧.

(٥) ليس في ش.

(٦) في ش : أوجبه.

(٧) في ا : عن. (٢٠ ـ أحكام ـ ٤).

٣٠٥

المسألة الثانية ـ النذر مكروه بالجملة (١) ، ثبت في الصحيح ، عن مالك ، عن أبى الزناد ، عن عبد الرحمن بن هرمز ، عن أبى هريرة أنّ النبىّ صلّى الله عليه وسلم قال : قال الله تعالى : لا يأتى النذر على ابن آدم بشيء لم أكن قدّرته له ، إنما يستخرج به من البخيل. وذلك لفقه صحيح ، وهو أنّ الباري سبحانه وعد بالرزق على العمل ، ومنه مفروض ، ومنه مندوب ، فإذا عين (٢) العبد ليستدرّ به الرزق ، أو يستجلب به الخير ، أو يستدفع به الشر لم يصل إليه به ، فإن وصل فهو لبخله. والله أعلم.

الآية الرابعة ـ قوله تعالى (٣) : (وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً).

فيها ست مسائل :

المسألة الأولى ـ قوله : (وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ) تنبيه على المواساة ، ومن أفضل المواساة وضعها في هذه الأصناف الثلاثة. وفي الصحيح ، عن عبد الله بن عمر : سئل رسول الله صلّى الله عليه وسلم أىّ الإسلام خير؟ قال : تطعم الطعام ، وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف ، وهذا في الفضل لا في الفرض من الزكاة على ما تقدم بيانه.

المسألة الثانية ـ قوله : (عَلى حُبِّهِ) وقد بيناه في سورة البقرة.

المسألة الثالثة ـ قوله : (مِسْكِيناً). المسكين قد تقدم بيانه ، وهذا مثاله ما روى في شأن الأنصارى الذي ذكرنا قصّته في سورة الحشر ، عند تأويل قوله (٤) : (وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ). فهذا هو ذلك.

المسألة الرابعة ـ قوله : (وَيَتِيماً). وإنما أكّد باليتيم ، لأنه مسكين مضعوف بالوحدة وعدم الكافل مع عجز الصغر.

المسألة الخامسة ـ قوله تعالى : (وَأَسِيراً). وفي إطعامه ثواب عظيم ، وإن كان كافرا فإن الله يرزقه. وقد تعيّن بالعهد إطعامه ، ولكن من الفضل في الصدقة ، لا من الأصل في الزكاة ، ويدخل فيه المسجون من المسلمين ، فإن الحق قد حبسه عن التصرف وأسره فيما وجب عليه ، فقد صار له على الفقير المطلق حقّ زائد بما هو عليه من المنع [عن التمحل في] (٥) المعاش أو التصرف في الطلب ، وهذا كلّه إذا خلصت فيه النية لله ، وهي :

__________________

(١) في ش : في الجملة.

(٢) في ش : غيره.

(٣) آية ٩.

(٤) ليس في ش.

٣٠٦

المسألة السادسة ـ دون توقع مكافأة ، أو شكر من المعطى ، فإذا لم يشكر فسخط المعطى يحبط ثوابه.

الآية الخامسة ـ قوله تعالى (١) : (وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلاً).

فيها مسألة واحدة ـ البكرة وقت من أوقات النهار ، وهو أوله ، ومنه باكورة الفاكهة. والأصيل : هو العشىّ. وهذه الإشارة إلى صلاة الصبح ، وصلاة العصر ، وقد قدمنا معنى ذلك ، وأنه المراد بقوله صلّى الله عليه وسلم : من صلّى البردين (٢) دخل الجنة ، ومعنى قوله صلّى الله عليه وسلم : ترون ربكم ترون القمر ليلة البدر ، فإن استطعتم ألا تغلبوا عن صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها فافعلوا. وقرأ : (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ). وقد قسم أرباب اللغة ساعات الليل وساعات النهار على تفاصيل (٣) وأسماء عرفية في اللغة ، ومؤلفوها مختلفون في ذلك ، لكن الغدوّ والعشى والظهيرة من أمّهات ذلك الذي لا كلام فيه. والضّحى يلحق به والإشراق (٤) مثله ، وقد قيل : إن معناه وكبّر ، فكان يكبر ثلاثا بعد الصبح وثلاثا بعد المغرب ، ولا يصحّ والله أعلم.

الآية السادسة ـ قوله تعالى (٥) : (وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً).

هذه الآية محتملة للفرض ، وهو المغرب والعشاء ، فإنهما وقتان من أوقات المصلّى ، وصلاتهما من صلاة الليل. وأما قوله تعالى : (وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً) فإنه عبارة عن قيام الليل. وقد كان النبىّ صلّى الله عليه وسلم يفعل ذلك كما تقدم. وقد يحتمل أن يكون هذا خطابا للنبي صلّى الله عليه وسلم وحده ، فيبقى الأمر به عليه مفردا ، والوجوب يلزم (٦) له خاصة. ويحتمل أن يكون خطابا للنبىّ صلّى الله عليه وسلم ، والمراد به الجميع ، ثم نسخ عنا(٧) ، وبقي عليه كما تقدم ، والأول أظهر ، وهو معنى قوله تعالى (٨) : (وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ) ، كما تقدم بيانه.

__________________

(١) آية ٢٥.

(٢) البردان ، والأبردان : الغداة والعشى.

(٣) في ش : تفصيل.

(٤) في ش : والأشراف.

(٥) آية ٢٦.

(٦) في ا : ألزم.

(٧) في ش : علينا.

(٨) سورة الإسراء ، آية ٧٩.

٣٠٧

سورة المرسلات

[فيها ثلاث آيات]

وهي من غرائب القرآن على ما أشرنا إليه في القسم الثاني من الناسخ والمنسوخ ، فإنها نزلت على رسول الله صلّى الله عليه وسلم تحت الأرض. وروى الصحيحان ، عن عبد الله ابن مسعود ، قال : كنّا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم في غار ، فنزلت : (وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً) فإنّا لنتلقّاها من فيه رطبة (١) إذ خرجت حيّة من جحرها ، فابتدرناها لنقتلها ، فسبقتنا فدخلت جحرها ، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم : وقيت شركم كما وقّيتم شرّها.

الآية الأولى ـ قوله تعالى (٢) : (أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفاتاً).

فيها ثلاث مسائل :

المسألة الأولى ـ الكفات : الضم والجمع ، وهو مصدر ، يقال : كفته يكفته كفتا وكفاتا مثل كتب يكتب كتبا وكتابا ، أى يجمعهم أحياء وأمواتا ، وكل شيء ضممته فقد كفتّه ، فإذا حل (٣) العبد في موضعه فهو كفاته ، وهو منزله ، وهو داره ، وهو حرزه ، وهو حريمه ، وهو حماه ، كان يقظان أو نائما. والدليل عليه ما روى عن صفوان قال : كنت نائما في المسجد على خميصة لي بثمن ثلاثين درهما. فجاء رحل فاختلسها منّى ، فأخذ الرجل ، فأتى به النبي صلّى الله عليه وسلم ، فأمر به ليقطع ، قال : فقلت له : أتقطعه من أجل ثلاثين درهما ، أنا أبيعه إياها ، وأنسئه ثمنها. قال : هلّا قبل أن تأتينى به! فكانت نفسه حيازة موضعه وحرزه وحريمه ومنعته وحصنه.

المسألة الثانية ـ قوله تعالى : (أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفاتاً أَحْياءً وَأَمْواتاً) يقتضى أن يدفن فيها الميت بجميع أجزائه كلها من شعر ، وظفر ، وثياب ، وما يواريه على التمام ، وما اتصل به وما بان عنه ، وقد قررنا ذلك في كتاب الجنائز من المسائل.

__________________

(١) في القرطبي : وإن فاه لرطب بها.

(٢) آية ٢٥.

(٣) في ش : دخل.

٣٠٨

المسألة الثالثة ـ احتج علماؤنا بهذه الآية في قطع النبّاش ، لأنه سرق من حرز مكفوت ، وحمى مضموم ، وقد مهدنا ذلك في مسائل الخلاف ، وقرّرنا أن ينظر في دخوله في هذه الآية بأن نقول (١) : هذا حرز كفات ، لقول الله تعالى : (أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفاتاً أَحْياءً وَأَمْواتاً) ، فجعل حال المرء فيها بعد الممات في كفتها له وضمّها لحاله كحالة الحياة وما تحفظه (٢) وتحرز حاله حيّا ، كذلك يجب أن يكون ميتا. فهذا أصل ثبت بالقرآن ، ثم ينظر في دخوله تحت قوله (٣) : (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما) ، وذلك يثبت بطريق اللغة ، فإن السارق فيها (٤) هو آخذ المال على طريق الخفية ومسارقة الأعين ، وهذا فعله في القبر كفعله في الدار ، ثم ينظر بعد ذلك في أنّ الذي سرق مال ، لأن أبا حنيفة يقول : إن الكفن ليس بمال ، لأنه معرض للإتلاف ، وقلنا نحن : هو معرّض للإتلاف في منفعة المالك ، كالملبوس في الحياة ، ثم ينظر في أنه مملوك لمالك ، فإنّ الميت مالك. والدليل عليه أنه لو نصب شبكة في حال حياته ، فوقع فيها صيد بعد وفاته ، فإنه يكون له ، تقضى منه ديونه ، وتنفذ فيه وصاياه. وحقيقة الملك موجودة في الكفن ، لأنه مختص به ومحتاج إليه ، فإذا ثبتت هذه الأركان من القرآن والمعنى ثبت القطع. والله أعلم.

الآية الثانية ـ قوله تعالى (٥) : (إِنَّها تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ).

فيها ثلاث مسائل :

المسألة الأولى ـ قال المفسرون : فيها ستة أقوال :

الأول ـ أصول الشجرة (٦).

الثاني ـ الجبل.

الثالث ـ القصر من البناء.

الرابع ـ خشب طوله ثلاثة أذرع ، قاله ابن عباس.

الخامس ـ أعناق الدواب.

السادس ـ روى أنّ ابن عباس قرأها القصر ، وفسرها بأعناق الإبل.

__________________

(١) في ا : يقال.

(٢) في ش ، م : وضمها لحاله وكما تحفظه.

(٣) سورة المائدة ، آية ٤١.

(٤) في ا : فينا.

(٥) آية ٦٢.

(٦) في ا : البحر.

٣٠٩

المسألة الثانية ـ أما (ق ص ر) فهو بناء ينطلق على مختلفات كثيرة ، ينطلق عليها انطلاقا واحدا. والمعنى مختلف في ذلك. والصحيح ما روى البخاري عن ابن عباس أنه قال : (تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ) قال : كنا نرفع الخشب بقصر ثلاثة أذرع أو أقل ، فنرفعه للشتاء ، فنسميها (١) القصر.

المسألة الثالثة ـ أما ادّخار القوت فقد تقدم القول فيه ، وأما ادخار الحطب والفحم فمستفاد من هذه الآية ، فإنه وإن لم يكن من القوت فإنه من مصالح المرء ، ومغانى مفاقره ، وذلك مما يقتضى النظر أن يكتسبه في غير وقت حاجته ، ليكون أرخص ، وحالة وجوده أمكن ، كما كان النبىّ صلّى الله عليه وسلم يدّخر القوت في وقت عموم وجوده من كسبه وماله ، ومن لم يكن له مال اكتسبه في وقت رخصة ، وكل شيء محمول عليه ، ولذلك قال (٢) العلماء فيمن وكّل وكيلا يبتاع له فحما فابتاعه له في الصيف ، فإن ذلك لا يجوز ، لأنه وقت لا يحتاج إليه فيه. وعندي أنه يلزمه ، لأنه الوقت الذي يبتاع فيه ليدّخره العبد لوقت الحاجة إليه ، إلا أن يقترن بذلك ما يوجب تخصيصه بحال ، فيحمل على ذلك المقتضى بالاستدلال.

الآية الثالثة ـ قوله تعالى (٣) : (وَإِذا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ).

فيها أربع مسائل :

المسألة الأولى ـ الركوع معلوم لغة ، معلوم شرعا حسبما قررناه ، فلا وجه لإعادته كراهية التطويل.

المسألة الثانية ـ هذه الآية حجة على وجوب الركوع ، وإنزاله ركنا في الصلاة ، وقد انعقد الإجماع عليه ، وظنّ قوم أنّ هذا إنما يكون في القيامة ، وليست بدار تكليف ، فيتوجه فيها أمر يكون عليه ويل وعقاب ، وإنما يدعون إلى السجود كشفا لحال الناس في الدنيا ، فمن كان يسجد لله تمكّن من السجود ، ومن كان يسجد رئاء لغيره صار ظهره طبقا واحدا.

المسألة الثالثة ـ روى في الصحيح : قال عبد الله ـ يعنى ابن مسعود : بينا نحن مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم في غار إذ نزلت عليه : (وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً ...) الحديث إلخ ،

__________________

(١) في القرطبي : فنسميه.

(٢) في ا : اختلف.

(٣) آية ٤٨.

٣١٠

فمن الفوائد العارضة هاهنا أنّ القرآن في محل نزوله ووقفه عشرة أقسام : سماوي ، وأرضى ، وما تحت الأرض ، وحضرى ، وسفري ، ومكّي ، ومدني ، وليلى ، ونهاري ، وما نزل بين السماء والأرض. وقد بيناه في القسم الثاني من الناسخ والمنسوخ. والله أعلم.

المسألة الرابعة ـ ثبت في الصحيح (١) ، عن ابن عباس ـ أن أم الفضل سمعته وهو يقرأ : (وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً) ، فقالت : يا بنى ، لقد أذكرتنى بقراءتك هذه السورة ، إنها لآخر ما سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقرأ بها في المغرب ، ثم ما صلّى لنا حتى قبضه الله.

وقد قدمنا أنه قرأ بالطّور في المغرب ، في طريق أخرى.

وفي الصحيحين أنه كان يقرأ في المغرب بطولى الطوليين.

__________________

(١) في ش : الصحيحين.

٣١١

سورة النّبأ

[فيها آيتان]

الآية الأولى ـ قوله سبحانه وتعالى (١) : (وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِباساً).

امتنّ الله تعالى على الخلق بأن جعل الليل غيبا يغطّى بسواده كما يغطّى الثوب لابسه ، ويستر كلّ شيء كما يستره (٢) الحجاب.

قاله أبو جعفر ، فظنّ بعض الغافلين أنّ الرجل إذا صلّى عريانا ليلا في بيت مظلم أنّ صلاته صحيحة ، لأن الظلام يستر عورته ، وهذا باطل قطعا ، فإنّ الناس بين قائلين : منهم من يقول إنّ ستر العورة فرض إسلامى لا يختصّ وجوبه بالصلاة. ومنهم من قال : إنه شرط من شروط الصلاة ، وكلاهما اتفقا على أنّ ستر العورة للصلاة في الظلمة كما هو في النور ، إثباتا بإثبات ، ونفيا بنفي ، ولم يقل (٣) أحد إنه يجب في النور ويسقط في الظلمة اجتزاء بسترها عن ستر ثوب يلبسه المصلى ، فلا وجه لهذا بحال عند أحد من المسلمين.

الآية الثانية ـ قوله تعالى (٤) : (لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَباتاً. وَجَنَّاتٍ أَلْفافاً).

امتنّ الله سبحانه وتعالى على عباده بإنزاله الماء المبارك من السماء ، وبإخراجه الحبّ والنبات ولفيف الجنات ، وكلما امتنّ الله به من النعم ، ففيه حقّ الصدقة بالشكر ، فإنّ الله جعل الصدقة شكر نعمة المال ، كما جعل الصلاة شكر نعمة البدن.

وقد بيّنا ذلك في سورة الأنعام وغيرها ، وحققنا تفصيل وجوب الزكاة ومحلها ومقدارها بما يغنى عن إعادته لظهوره وشموله في البيان بموضعين.

__________________

(١) آية ١٠.

(٢) في ش ، م : كما يستر الحجاب.

(٣) في ا : ولم يعتد.

(٤) آية ١٥ ، ١٦.

٣١٢

سورة عبس

[فيها آيتان]

الآية الأولى ـ قوله تعالى (١) : (عَبَسَ وَتَوَلَّى).

فيها مسألتان :

المسألة الأولى ـ لا خلاف أنها نزلت في ابن أم مكتوم الأعمى ، وقد روى في الصحيح قال مالك : إنّ هشام بن عروة حدثه عن عروة أنه قال : نزلت (عَبَسَ وَتَوَلَّى) في ابن أم مكتوم ، جاء إلى النبي صلّى الله عليه وسلم ، فجعل يقول : يا محمّد ، [علمني مما علمك الله] (٢) ، وعند النبي صلّى الله عليه وسلم رجل من عظماء المشركين ، فجعل النبىّ صلّى الله عليه وسلم يعرض عنه ويقبل على الآخر ، ويقول : يا فلان ، هل ترى بما أقول بأسا! فيقول : لا ، ما أرى (٣) بما تقول بأسا ، فأنزل الله عز وجل : (عَبَسَ وَتَوَلَّى).

قالت المالكية من علماءنا : اسم ابن أم مكتوم عمرو ، ويقال عبد الله ، والرجل من عظماء المشركين هو الوليد بن المغيرة ، ويكنى أبا عبد شمس ـ خرجه الترمذي مسندا ، قال: أنبأنا سعيد بن يحيى بن سعيد الأموى ، حدثني أبى ، قال : هذا ما عرضنا على هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة ، قالت : نزلت عبس وتولى ، فذكر مثله.

المسألة الثانية ـ هذا مثل قوله (٤) : (وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِ). ومعناه نحوه (٥) حيثما وقع ، وأنّ النبىّ صلّى الله عليه وسلم إنما قصد تألّف الرجل الطارئ ثقة بما كان في قلب ابن أم مكتوم من الإيمان ، كما قال : إنى لأعطى الرجل وغيره أحبّ إلىّ منه مخافة أن يكبّه الله في النار على وجهه.

وأما قول علمائنا : إنه الوليد بن المغيرة. وقال آخرون : إنه أمية بن خلف ، فهذا كلّه

__________________

(١) آية ١.

(٢) مكان ما بين القوسين في ش ، م : استدنى.

(٣) في ش : لا ، والدمى ما أرى. وفي م : لا والله ما أرى.

(٤) سورة الأنعام ، آية ١٥٢.

(٥) في ش : مثله.

٣١٣

باطل وجهل من المفسرين الذين لم يتحققوا الدين ، وذلك أن أمية والوليد كانا بمكة ، وابن أم مكتوم كان بالمدينة ، ما حضر معهما ولا حضرا معه ، وكان موتهما كافرين أحدهما قبل الهجرة والآخر في بدر ، ولم يقصد قط أمية المدينة ، ولا حضر عنده مفردا ولا مع أحد.

الآية الثانية ـ قوله تعالى (١) : (فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ. مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ). وقد تقدم (٢) تفسيرها في سورة الواقعة عند ذكرنا لقوله تعالى : (إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ ، لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ) ، فلينظر هنالك فيه من احتاج إليه هاهنا.

وقد قال وهب بن منبه : إنه أراد بقوله (٣) : (بِأَيْدِي سَفَرَةٍ. كِرامٍ بَرَرَةٍ) ، يعنى أصحاب محمد صلّى الله عليه وسلم.

قال القاضي : لقد كان أصحاب محمد كراما بررة ، ولكن ليسوا بمرادين بهذه الآية ، ولا قاربوا المرادين بها ، بل هي لفظة مخصوصة بالملائكة عند الإطلاق ، ولا يشاركهم فيها سواهم ، ولا يدخل معهم في متناولها غيرهم.

روى في الصحيح ، عن عائشة رضى الله عنها أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال : مثل الذي يقرأ القرآن ، وهو حافظ له مع السّفرة الكرام البررة ، ومثل الذي يقرأ القرآن وهو يتعاهده وهو عليه شديد (٤) فله أجران.

وقوله (٥) : (أَنَّا صَبَبْنَا الْماءَ صَبًّا) قد تقدم القول في أنها نزلت وأمثالها في معرض الامتنان ، وتحقيق القول فيها.

__________________

(١) آية ١٣ ، ١٤.

(٢) صفحة ١٧٢٦.

(٣) آية ١٥ ، ١٦.

(٤) في ا : شهيد ، والعبارة أيضا في القرطبي : ١٩ ـ ٢١٥.

(٥) آية ٢٥.

٣١٤

سورة المطفّفين

[فيها آيتان]

الآية الأولى ـ قوله تعالى (١) : (وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ).

فيها ست مسائل :

المسألة الأولى ـ في سبب نزولها (٢) :

روى النسائي ، عن ابن عباس ، قال : لما قدم النبي صلّى الله عليه وسلم المدينة كانوا من أخبث الناس كيلا ، فأنزل الله عز وجل (وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ) ، فأحسنوا الكيل بعد ذلك.

المسألة الثانية في تفسير اللفظ (٣) :

قال علماء اللغة : المطفّفون هم الذين ينقصون المكيال والميزان. وقيل له المطفّف ، لأنه لا يكاد يسرق في المكيال والميزان إلا الشيء الطفيف ، مأخوذ من طفّ الشيء وهو جانبه. ومنه الحديث : «كلّكم بنو آدم طفّ الصاع» (٤) يعنى بعضكم قريب من بعض ، فليس لأحد على أحد فضل إلا بالتقوى.

وفي الموطأ : قال مالك : [يقال] (٥) : لكل شيء وفاء وتطفيف ، والتطفيف ضدّ التوفية. وروى أن أبا هريرة قدم المدينة ، وقد خرج النبىّ صلّى الله عليه وسلم إلى خيبر ، فاستخلف على المدينة سباع بن عرفطة ، فقال أبو هريرة : فوجدناه في صلاة الصبح ، فقرأ في الركعة الأولى «كهيعص» ، وقرأ في الركعة الثانية «ويل للمطففين» ، قال أبو هريرة : فأقول في صلاتي : «ويل لأبى فلان ، له مكيالان ، إذا اكتال اكتال بالوافى ، وإذا كال كال بالناقص».

المسألة الثانية ـ قوله تعالى (٦) : (وَإِذا كالُوهُمْ) ، يعنى كالوا لهم ، وكثير من الأفعال

__________________

(١) آية ١.

(٢) أسباب النزول للواحدي : ٢٥٣.

(٣) في ا : اللفظة.

(٤) أى قريب بعضكم من بعض (النهاية).

(٥) ليس في ش ، م.

(٦) من الآية الثالثة.

٣١٥

يأتى كذلك كقولهم : شكرت فلانا وشكرت له ، ونصحت فلانا ونصحت له ، واخترت أهلى فلانا واخترت من أهلى فلانا ، سواء كان الفعل في التعدي مقتصرا أو متعديا أيضا ، وقد بيناه في الملجئة.

المسألة الرابعة ـ قوله : (وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ) فبدأ بالكيل قبل الوزن ، والوزن هو الأصل (١) ، والكيل مركّب عليه ، وكلاهما للتقدير ، لكن البارئ سبحانه وضع الميزان لمعرفة الأشياء بمقاديرها (٢) ، إذ يعلمها سبحانه بغير واسطة ولا مقدر (٣). ثم قد يأتى الكيل على الميزان بالعرف ، كما قال النبي صلّى الله عليه وسلم : المكيال مكيال أهل المدينة ، والميزان ميزان أهل مكة ، فالأقوات والأدهان يعتبر فيها الكيل [دون الوزن ، لأن النبي صلّى الله عليه وسلم بعث وهي تكتال بالمدينة فجرى فيها الكيل] (٤) ، وكذلك الأموال الربوبية يعتبر فيها المماثلة بالكيل دون الوزن ، حاشا النقدين ، حتى إنّ الدقيق والحنطة يعتبر فيهما الكيل ، وليس للوزن فيهما طريق ، وإن ظهر بينهما زيغ فهو كظهوره بين البرّين ، وذلك غير معتبر ، وقد بيناه في مسائل الفقه.

المسألة الخامسة ـ روى ابن القاسم ، عن مالك أنه قرأ : «ويل للمطفّفين» [مرتين قال : مسح المدينة من التطفيف وكرهه كراهية شديدة. وروى أشهب قال : قرأ مالك : ويل للمطففين] (٥) ، فقال : لا تطفّف ولا تجلب (٦) ، ولكن أرسل وصبّ عليه صبا ، حتى إذا استوى (٧) أرسل يدك ولا تمسك.

وقال عبد الملك بن الماجشون : نهى رسول الله صلّى الله عليه وسلم عن التطفيف(٨). وقال : إن البركة في رأسه. قال : بلغني أنّ كيل فرعون كان طفافا مسحا بالحديدة.

المسألة السادسة ـ قال علماء الدين : التطفيف في كل شيء في الصلاة والوضوء والكيل والميزان.

__________________

(١) في ش : الأفضل.

(٢) في ش : مقادير الأشياء.

(٣) في ا : مقادير.

(٤) ليس في ش ، م.

(٥) ليس في ش ، م.

(٦) في القرطبي : ولا تخلب.

(٧) في القرطبي : استوفى.

(٨) في ش ، م. الطفاف. وفي القرطبي : مسح الطفاف.

٣١٦

قال ابن العربي : كما أن السرقة في كل شيء ، وأسوأ السرقة من يسرق صلاته ، فلا يتم ركوعها ولا سجودها.

الآية الثانية ـ قوله تعالى (١) : (يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ).

فيها مسألتان :

المسألة الأولى ـ روى مالك ، عن ابن عمر ، عن النبي صلّى الله عليه وسلم : يقوم الناس لرب العالمين ، حتى إن أحدهم ليغيب في رشحه إلى أنصاف أذنيه.

وعنه أيضا ، عن النبي صلّى الله عليه وسلم : يقوم (٢) مائة سنة.

المسألة الثانية ـ القيام لله رب العالمين سبحانه حقير بالإضافة إلى عظمته وحقه ، فأما قيام الناس بعضهم لبعض فاختلف الناس فيه ، فمنهم من أجازه ، ومنهم من منعه.

وقد روى أنّ النبىّ صلّى الله عليه وسلم قام إلى جعفر (٣) بن أبى طالب واعتنقه ، وقام طلحة لكعب بن مالك يوم تيب عليه.

وقال النبىّ صلّى الله عليه وسلم للأنصار ـ حين طلع عليه (٤) سعد بن معاذ : قوموا لسيدكم. وقال أيضا : من سرّه أن يتمثّل (٥) له الرجال قياما فليتبوّأ مقعده من النار.

وقد بينا في شرح الحديث أن ذلك راجع إلى حال الرجل ونيته ، فإن انتظر لذلك واعتقده لنفسه حقّا فهو ممنوع ، وإن كان على طريق البشاشة والوصلة فإنه جائز ، وخاصة عند الأسباب ، كالقدوم من السفر ونحوه.

__________________

(١) آية ٦.

(٢) في ش : يقومون.

(٣) في ش : قام لجعفر.

(٤) في ا : عليهم.

(٥) في ش : يمثل.

٣١٧

سورة الانشقاق

فيها آية واحدة ـ قوله تعالى (١) : (فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ).

فيها مسألتان :

المسألة الأولى ـ في الشفق :

قال أشهب ، وعبد الله ، وابن القاسم ، وغيرهم ، وكثير عددهم ، عن مالك : الشّفق : الحمرة التي تكون في المغرب ، فإذا ذهبت الحمرة فقد خرج وقت المغرب ، ووجبت صلاة العشاء.

وقال ابن القاسم ، عن مالك : الشفق الحمرة فيما يقولون ، ولا أدرى حقيقة ذلك ، ولكني أرى الشفق الحمرة.

قال ابن القاسم : قال مالك : وإنه ليقع في قلبي. وما هو إلا شيء فكرت فيه منذ قريب : أنّ البياض الذي يكون بعد حمرة الشفق أنه مثل البياض الذي يكون قبل الفجر ، فكما لا يمنع طعاما ولا شرابا من أراد الصيام ، فلا أدرى هذا يمنع الصلاة. والله أعلم. وبه قال ابن عمر ، وقتادة ، وشداد بن أوس ، وعلى ابن أبى طالب ، وابن عباس ، ومعاذ في كثير من التابعين.

وروى عن ابن عباس أنه البياض ، وعن أبى هريرة ، وعمر بن عبد العزيز ، والأوزاعى ، وأبى حنيفة وجماعة.

وروى عن ابن عمر مثله.

وقد اختلف في ذلك أهل اللغة اختلافا كثيرا ، واعتضد بعضهم بالاشتقاق وأنه مأخوذ من الرقة ، والذي يعضده قول النبىّ صلّى الله عليه وسلم في الصحيح : وقت صلاة العشاء ما لم يسقط نور الشفق ، فهذا يدلّ على أنه على حالين : كثير وقليل ، وهو الذي توقّف فيه

__________________

(١) آية ١٦.

٣١٨

مالك من جهة اشتقاقه ، واختلاف إطلاقه ، ثم فكّر فيه منذ قريب ، وذكر كلاما مجملا ، تحقيقه أن الطوالع أربعة : الفجر الأول ، والثاني (١) ، والحمرة ، والشمس. وكذلك الغوارب أربعة : البياض الآخر ، البياض الذي يليه ، الحمرة ، الشفق.

وقال أبو حنيفة : كما يتعلق الحكم في الصلاة والصوم بالطالع الثاني من الأول في الطوالع ، كذلك ينبغي أن يتعلّق الحكم بالغارب من الآخر ، وهو البياض.

وقال علماؤهم المحققون : وكما قال حتى مطلع الفجر ، فكان الحكم متعلقا بالفجر الثاني ، كذلك إذا قال حتى يغيب الشفق يتعلّق الحكم بالشفق (٢) الثاني ، وهذه تحقيقات قوية علينا. واعتمد علماؤنا على أنّ النبىّ صلّى الله عليه وسلم صلّى العشاء حين غاب الشفق ، والحكم يتعلق بأوّل الاسم ، وكذلك كنا نقول في الفجر ، إلا أنّ النص قطع بنا عن ذلك فقال : ليس الفجر أن يكون هكذا ـ ورفع يده إلى فوق ، ولكنه أن يكون هكذا ـ وبسطها وقال : ليس المستطيل ، ولكنه المستطير ، يعنى المنتشر ، ولأنّ النعمان بن بشير قال : أنا أعلمكم بوقت صلاة العشاء الآخرة ، كان النبىّ صلّى الله عليه وسلم يصلّيها لسقوط القمر لثلثيه. وقال الخليل : رقبت مغيب البياض فوجدته يتمادى إلى ثلث الليل. وقال ابن أبى أويس : رأيته يتمادى إلى طلوع الفجر ، فلما لم يتحدد وقته منه سقط اعتباره.

المسألة الثانية ـ قوله (٣) : (وَإِذا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ).

ثبت في الصحيح أن أبا هريرة قرأ : (إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ) ، فسجد فيها ، فلما انصرف أخبرهم أنّ رسول صلّى الله عليه وسلم سجد فيها ، وقد قال مالك : إنها ليست من عزائم السجود. والصحيح أنها منه ، وهي رواية المدنيين عنه. وقد اعتضد فيها القرآن والسنة.

قال ابن العربي : لما أممت بالناس تركت قراءتها ، لأنى إن سجدت أنكروه ، وإن تركتها كان تقصيرا منى ، فاجتنبتها إلا إذا صلّيت وحدي. وهذا تحقيق وعد الصادق بأن يكون (٤) المعروف منكرا والمنكر معروفا. وقد قال النبي صلّى الله عليه وسلم لعائشة :

__________________

(١) في في ش : الثاني ـ بدون واو.

(٢) في ش : للشفق.

(٣) آية ٢١.

(٤) في ش : ان.

٣١٩

لو لا حدثان [عهد] (١) قومك بالكفر لهدمت البيت ورددته على قواعد إبراهيم.

ولقد كان شيخنا أبو بكر الفهري يرفع يديه عند الركوع ، وعند رفع الرأس منه ، وهذا مذهب مالك والشافعى ، وتفعله الشيعة ، فحضر عندي يوما بمحرس ابن الشواء بالثغر ـ موضع تدريسى ـ عند صلاة الظهر ، ودخل المسجد من المحرس المذكور ، فتقدم إلى الصف الأول وأنا في مؤخّره قاعد على طاقات البحر ، أتنسّم الريح من شدة الحر ، ومعه (٢) في صف واحد أبو ثمنة رئيس البحر وقائده ، مع نفر من أصحابه ينتظر الصلاة ، ويتطلع على مراكب تحت الميناء (٣) ، فلما رفع الشيخ يديه في الركوع وفي رفع الرأس منه قال أبو ثمنة وأصحابه : ألا ترون إلى هذا المشرقىّ كيف دخل مسجدنا؟ فقوموا إليه فاقتلوه وارموا به في البحر ، فلا يراكم أحد. فطار قلبي من بين جوانحي ، وقلت : سبحان الله! هذا الطرطوسي فقيه الوقت. فقالوا لي : ولم يرفع يديه؟ فقلت : كذلك كان النبىّ صلّى الله عليه وسلم يفعل ، وهو مذهب مالك في رواية أهل المدينة عنه. وجعلت أسكنهم وأسكتهم ، حتى فرغ من صلاته ، وقمت معه إلى المسكن من المحرس ، ورأى تغيّر وجهى ، فأنكره ، وسألنى فأعلمته فضحك ، وقال : ومن أين لي أن أقتل على سنّة! فقلت له : ولا يحلّ لك هذا فإنك بين قوم (٤) إن قمت بها قاموا عليك ، وربما ذهب دمك. فقال : دع هذا الكلام وخذ في غيره.

وفي الحديث الصحيح ، عن أبى رافع ، قال : صليت خلف أبى هريرة صلاة العشاء ـ يعنى العتمة ـ فقرأ (إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ) فسجد فيها ، فلما فرغ قلت : يا أبا هريرة ، وإنّ هذه السجدة ما كنّا نسجدها. قال : سجدها أبو القاسم صلّى الله عليه وسلم ، وأنا خلفه ، فلا أزال أسجدها حتى ألقى أبا القاسم (٥). وكان عمر بن عبد العزيز يسجد فيها مرة ، ومرة لا يسجد ، كأنه لا يراها من العزائم [عزائم القرآن] (٦). وقد بينا الصحيح في ذلك. والله أعلم [بغيبه وأحكم] (٧).

__________________

(١) ليس في ش.

(٢) في ا : ومعنا.

(٣) في ش : المنار.

(٤) في ش : أقوام.

(٥) في ش : حتى ألقاه.

(٦) ساقط من ش.

٣٢٠