أحكام القرآن - ج ٤

أبي بكر محمّد بن عبدالله [ ابن العربي ]

أحكام القرآن - ج ٤

المؤلف:

أبي بكر محمّد بن عبدالله [ ابن العربي ]


المحقق: علي محمّد البجاوي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الجيل
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٦٧

المسألة الثانية ـ قوله : (فَأَمْسِكُوهُنَ) ، يعنى بالرجعة ، أو فارقوهنّ ، وهي :

المسألة الثالثة ـ معناه أو اتركوهنّ على حكم الطلاق الأول ، فيقع الفراق عند انقضاء العدة بالطلاق الماضي لترك الإمساك بالرجعة ، إذ قد وقع الفراق به ، وإنما له الاستدراك بالتمسك بالتصريح بالرجعة المناقض للتصريح بالطلاق ، وسمى التمادي على حكم الفراق وترك التمسك بالتصريح بالرجعة فراقا مجازا.

المسألة الرابعة ـ قوله : (بِمَعْرُوفٍ) ، فيه قولان :

أحدهما ـ بمعلوم من الإشهاد.

الثاني ـ القصد إلى الخلاص من النكاح عند تعذّر الوصلة مع عدم الألفة لا بقصد الإضرار ، حسبما كان يفعله أهل الجاهلية ، كانوا يطلّقون المرأة حتى إذا أشرفت على انقضاء العدّة أشهد برجعتها حتى إذا مر لذلك (١) مدة طلّقها هكذا ، كلما ردها طلقها ، فإذا أشرفت على انقضاء العدة راجعها ، لا رغبة ، لكن إضرارا وإذاية ، فنهوا أن يمسكوا أو يفارقوا إلا بالمعروف ، كما تقدم في سورة البقرة في قوله (٢) : (وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً لِتَعْتَدُوا). وقوله (٣) : (فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ).

المسألة الخامسة ـ قوله : (فَإِذا بَلَغْنَ).

يوجب أن يكون القول قول المرأة في انقضاء العدة إذا ادّعت ذلك فيما يمكن ، على ما بينّاه في قوله (٤) : (وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اللهُ فِي أَرْحامِهِنَ) في سورة البقرة.

المسألة السادسة ـ (فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ).

اختلف العلماء فيه كاختلافهم في قوله (٥) : وبعولتهنّ أحقّ بردّهنّ في ذلك» ، وقد بيّناه في سورة البقرة ، تمامه أن الزوج له الرجعة في العدة بلا خلاف ، والرجعة تكون بالقول والفعل عندنا ، وبه قال أبو حنيفة والليث. وقال الشافعى : لا تصحّ إلا بالقول.

__________________

(١) في ش : مر على ذلك. وفي م : مر ذلك.

(٢) سورة البقرة ، آية ٢٣١.

(٣) سورة البقرة ، آية ٢٢٩.

(٤) سورة البقرة ، آية ٢٢٨.

(٥) سورة البقرة ، آية ٢٢٨. (١٦ ـ أحكام ـ ٤).

٢٤١

وقد اختلف فيه (١) التابعون قديما ، بيد أن علماءنا قالوا : إن الرجعة لا تكون بالفعل ، حتى تقترن به النية ، فيقصد بالوطء أو القبلة الرجعة و (٢) بالمباشرة كلها.

وقال أبو حنيفة والليث : الوطء مجردا رجعة (٣) ، وهذا ينبنى على أصل ، هو :

المسألة السابعة ـ هل الرجعية محرمة الوطء أم لا؟

فعندنا أنها محرمة الوطء ، وبه قال ابن عمر وعطاء.

وقال أبو حنيفة : وطؤها مباح ، وبه قال أحمد في إحدى روايتيه.

واحتجوا بأنه طلاق لا يقطع النكاح ، فلم يحرّم الوطء ، كما لو قال : إن قدم زيد فأنت طالق. وهذا لا يصح ، لأنّ الطلاق المعلق بقدوم زيد لم يقع ، وهذا طلاق واقع فيجب أن يؤثر في تحريم (٤) الوطء المقصود من العقد ، لا سيما وهي جارية [به] (٥) إلى بينونة خارجة عن العصمة ، فإذا ثبت أنها محرّمة الوطء فلا بدّ من قصد الرد ، وحينئذ يصح معه الرد.

قال الشافعى : لا تكون الرجعة بالفعل ، وإنما تكون بالقول ، ولا معتمد له من القرآن والسنة ، ولنا كل ذلك ، فأما القرآن فقوله : (فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ) ، وهذا ظاهر في القول والفعل ، إذ الإمساك يكون بهما عادة ، ويكون شرعا ، ألا ترى أنّ خيار المعتقة يكون إمساكها بالقول بأن تقول : اخترت ، وبالفعل بأن تمكّن من وطئها ، ولذلك (٦) قال تعالى : (٧) (وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذلِكَ) ، والردّ يكون تارة بالقول ، وتارة بالفعل. ومن عجيب الأمر أن للشافعي قولين في قول الرجل للمطلقة الرجعية أمسكتها ، هل يكون رجعة أم لا؟ قال القاضي أبو مظفر الطبري : لا يكون رجعة ، لأنّ استباحة الوطء لا تكون إلا بلفظين ، وهما قوله : راجعت ، أو رددت ، كما يكون النكاح بلفظين وهما قوله : زوجت ، أو نكحت ، وهذا من ركيك (٨) الكلام الذي لا يليق بمنصب ذلك الإمام من وجهين :

أحدهما ـ أنه تحكم.

__________________

(١) في ش : فيها.

(٢) في ش : أو.

(٣) في ش ، م : مجرد رجعة.

(٤) في ش : فيجب أن يؤثر في تحريم فيؤثر في الوطء.

(٥) ساقط من م ، ش.

(٦) في ا : وكذلك.

(٧) سورة البقرة ، آية ٢٢٨.

(٨) في م : تأكيد.

٢٤٢

والثاني ـ أنه لو صحّ أن يقف على [لفظين لكان وقوفه على] (١) لفظي القرآن ، وهما رددت وأمسكت اللذان جاءا في سورة البقرة ، وهاهنا أولى من لفظ راجعت الذي لم يأت في القرآن ، بيد أنه جاء في السنة في قول النبي صلّى الله عليه وسلم لعمر : مره فليراجعها ، كما جاء في السنة لفظ ثالث (٢) في النكاح ، وهو في شأن الموهوبة ، إذ قال له النبي صلى الله عليه وسلم : اذهب فقد ملكتها بما معك من القرآن ، فذكر النكاح بلفظ التمليك.

المسألة الثامنة ـ من قول علمائنا ـ كما تقدم : إن الرجعة تكون بالقول والفعل مع النية ، فلو خلا ذلك من نيّة ، أو كانت نية دون قول أو فعل ما حكمه؟

قال أشهب في كتاب محمد : إذا عرى القول أو الفعل عن النية فليسا (٣) برجعة.

وفي المدوّنة أن الوطء العاري [من نية ليس برجعة ، والقول العاري] (٤) عن النية جعله رجعة ، إذا قال : راجعتك وكنت هازلا ، فعلى (٥) قول علىّ بأن النكاح بالهزل لا يلزم فلا (٦) يكون رجعة ، فإن كانت رجعة بالنية دون قول أو فعل فحمله القرويون على قول مالك في الطلاق واليمين إنه يصح بالنية دون قول ، ولا يصحّ ذلك حسبما بيناه في المسائل الخلافية ، لأنّ الطلاق أسرع في الثبوت من النكاح.

المسألة التاسعة ـ قوله : (وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ).

وهذا ظاهر في الوجوب بمطلق الأمر عند الفقهاء ، وبه قال أحمد بن حنبل في أحد قوليه ، والشافعى.

وقال مالك ، وأبو حنيفة ، وأحمد ، والشافعى ـ في القول الآخر : إنّ الرجعة لا تفتقر إلى القبول ، فلم تفتقر إلى الإشهاد ، كسائر الحقوق ، وخصوصا حلّ الظهار بالكفارة.

وركّب أصحاب الشافعى على وجوب الإشهاد في الرجعة أنه لا يصحّ أن يقول : كنت راجعت أمس ، وأنا أشهد اليوم ، لأنه إشهاد على الإقرار بالرجعة ، ومن شرط الرجعة الإشهاد عليها ، فلا تصح دونه ، وهذا فاسد مبنى على أنّ الإشهاد في الرجعة تعبد (٧) ، ونحن لا نسلّم

__________________

(١) ساقط من ش.

(٢) في ا : ثلاثة.

(٣) في ا : فليس.

(٤) من ش ، م.

(٥) في ش ، م : فعلى القول.

(٦) في ا : ولا.

(٧) في ا : بعيد.

٢٤٣

فيها ولا في النكاح ، بل نقول : إنه موضوع (١) للتوثق ، وذلك موجود في الإقرار ، كما هو موجود في الإنشاء ، وبيناه في مسائل الخلاف.

المسألة العاشرة ـ وهي فرع غريب : إذا راجعها بعد أن ارتدّت لم تصح الرجعة. وقال المزني : تصح لعموم قوله : (فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَ) ، وهذا عام في كل زوجة مسلمة أو مرتدة ، ولأنّ الرجعة تصحّ في حال كونها محرمة بالإحرام والحيض ، كذلك الردة ، وهذا فاسد ، فإنّ الرجعة استباحة فرج محرم ، فلم تجز مع الردة ، كالنكاح ، والمحرمة والحائض ليستا بمحرّمتين عليه ، فإنه تجوز الخلوة بهما لزوجهما.

المسألة الحادية عشرة ـ لو قال بعد العدة : كنت راجعتها وصدّقته جائز ، ولو أنكرت حلفت ، وذلك في مسائل (٢) الخلاف مشروح ، وهو مبنيّ على القول بإعمال الإقرار في الرجعة.

المسألة الثانية عشرة ـ قوله تعالى : (وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ).

وهذا يوجب اختصاص الشهادة على الرجعة بالذكور دون الإناث ، لأن قوله : (ذَوَيْ) مذكر ، ولذلك قال علماؤنا : لا مدخل لشهاده النساء فيما عدا الأموال ، وقد بينا ذلك في سورة البقرة (٣).

المسألة الثالثة عشرة ـ قوله تعالى : (وَأَقِيمُوا الشَّهادَةَ لِلَّهِ).

يعنى لا تضيّعوها ولا تغيّروها ، وأتوا بها على وجهها ، وقد بينا ذلك في سورة البقرة.

الآية الثالثة ـ قوله تعالى (٤) : (وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً).

فيها ست مسائل :

المسألة الأولى : قوله تعالى : (وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ).

وهذه آية مشكلة ، واختلف أصحابنا في تأويلها على ثلاثة أقوال :

__________________

(١) في القرطبي : موضع.

(٢) في ش : المذهب.

(٣) آية ٢٨٢.

(٤) آية ٤.

٢٤٤

الأول ـ أن معناها إذا ارتبتم. وحروف المعاني يبدل بعضها من بعض ، والذين قالوا هذا اختلفوا في الوجه الذي رجعت فيه إن بمعنى إذا ، فمنهم من قال : إن ذلك راجع إلى ما روى أنّ أبىّ بن كعب قال للنبي صلّى الله عليه وسلم : يا رسول الله ، إنّ الله قد بيّن لنا عدّة الحائض بالأقراء فما حكم الآيسة (١) والصغيرة؟ فأنزل الله الآية.

ومنهم من قال ـ وهو الثاني : إن الله جعل عدّة الحائض بالأقراء ، فمن انقطع حيضها ، وهي تقرب من حدّ الاحتمال [فواجب عليها العدة بالأشهر بهذه الآية ، ومن ارتفعت عن حدّ الاحتمال] (٢) وجب عليها الاعتداد بالأشهر بالإجماع ، لا بهذه الآية ، لأنه (٣) لا ريبة فيها.

الثالث ـ قال مجاهد : الآية واردة في المستحاضة ، لأنها لا تدرى دم حيض هو أو دم علّة.

المسألة الثانية ـ في تحقيق المقصود :

أما وضع حروف المعاني أبدالا بعضها من بعض فإنّ ذلك مما لا يجوز. وإن اختلفوا(٤) في حروف الخفض ، وإنما الآية واردة على أنّ أصل العدة موضوع لأجل الريبة ، إذ الأصل براءة الرحم ، وترتاب لشغله بالماء ، فوضعت العدة لأجل هذه الريبة ، ولحقها ضرب من التعبد.

ويحقق هذا أنّ حرف «إن» يتعلق بالشرط الواجب ، كما يتعلق بالشرط الممكن ، وعلى هذا خرج قوله : «وإنا إن شاء الله بكم لاحقون». وقد بينا ذلك في ملجئة المتفقهين إلى معرفة غوامض النحويين واللغويين.

وأما حديث أبىّ فغير صحيح ، وقد روى ابن القاسم ، وأشهب ، وعبد الله بن الحكم ، عن مالك في قوله تعالى : (إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ) يقول في شأن العدة : إنّ تفسيرها : إن لم تدروا ما تصنعون في أمرها فهذه سبيلها. والله أعلم.

المسألة الثالثة ـ قوله تعالى : (وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ) ، يعنى الصغيرة ، وعدّتها أيضا بالأشهر ، لتعذّر ال. قراء فيها عادة ، والأحكام إنما أجراها الله على العادات ، فهي تعتدّ

__________________

(١) في ش : فما حكم عدة اليائسة.

(٢) ليس في ش.

(٣) في ش : إذ.

(٤) في ش : اختلفت.

٢٤٥

بالأشهر ، فإذا رأت الدم في زمن احتماله (١) عند النساء انتقلت إلى الدم ، لوجود الأصل. فإذا وجد الأصل لم يبق للبدل حكم ، كما أن المسنّة إذا اعتدّت بالدم ، ثم انقطع عادت إلى الأشهر.

روى سعيد بن المسيب أنّ عمر قال : أيما امرأة اعتدّت حيضة أو حيضتين ثم رفعتها حيضتها فإنها تنتظر تسعة أشهر ، فإن استبان بها حمل فذلك وإلا اعتدّت بعد تسعة أشهر ـ ثلاثة أشهر ، ثم حلت ، [وأمر ابن عباس بالتربّص سنة] (٢).

وقال الشافعى وأبو حنيفة : تبقى إلى سنّ اليأس.

وقال علماؤنا : تعتدّ سنة وإن كانت مسنّة وانقطع حيضها وقال النساء : إن مثلها لا تحيض اعتدّت بثلاثة أشهر.

وأما قول أبى حنيفة والشافعى إنها تبقى إلى سنّ اليأس فإنّ معناه إذا كانت مرتابة بحمل ، وكذلك قال أشهب : لا تحلّ أبدا حتى تيأس ، وهو الصحيح.

المسألة الرابعة ـ قوله تعالى : (وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ) دليل على أنّ للمرء أن ينكح ولده الصغار ، لأنّ الله تعالى جعل عدّة من لم يحض من النساء ثلاثة أشهر ، ولا تكون عليها عدة إلا أن يكون لها نكاح ، فدلّ ذلك على هذا الغرض ، وهو بديع في فنه.

المسألة الخامسة ـ قوله تعالى : (وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَ).

هذا وإن كان ظاهرا في المطلقة لأنه عطف عليها ، وإليها رجع عقب الكلام ، فإنه في المتوفّى عنها زوجها كذلك لعموم الآية ، وحديث سبيعة (٣) في السنة ، والحكمة فيه أنّ براءة الرحم قد حصلت يقينا ، وقد بيناه في سورة البقرة.

المسألة السادسة ـ إذا وضعت الحامل ما وضعت من علقة أو مضغة حلّت.

وقال الشافعى وأبو حنيفة : لا تحلّ إلا بما يكون ولدا. وقد تقدم بيانه ، وأوضحنا أنّ الحكمة في وضع الله العدة ثلاثة أشهر أنها المدة التي فيها يخلق الولد فوضعت اختبارا لشغل الرّحم من فراغه.

__________________

(١) في ا : في زمان احتمالها.

(٢) من م ، ش.

(٣) في ش ، م : شعبة.

٢٤٦

الآية الرابعة ـ قوله تعالى (١) : (أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلا تُضآرُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرى).

فيها أربع مسائل :

المسألة الأولى ـ قوله تعالى : (أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ).

قال أشهب ، عن مالك : يخرج عنها إذا طلّقها ، ويتركها في المنزل ، لقول الله تعالى: (أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ) ، فلو كان معها ما قال : أسكنوهن.

وروى ابن نافع قال : قال مالك ـ في قول الله تعالى : (أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ) يعنى المطلقات اللاتي قد بنّ (٢) من أزواجهنّ ، فلا رجعة لهم عليهنّ ، وليست حاملا ، فلها السكنى ولا نفقة لها ولا كسوة ، لأنها بائن منه ، لا يتوارثان ولا رجعة له عليها.

وإن كانت حاملا فلها النفقة والكسوة والمسكن حتى تنقضي عدّتها.

فأما من لم تبن منهن فإنهن نساؤهم (٣) يتوارثن ، ولا يخرجن إلا أن يأذن لهنّ أزواجهنّ ما كنّ في عدتهنّ ، ولم يؤمروا بالسكنى لهنّ ، لأنّ ذلك لازم لأزواجهنّ مع نفقتهنّ وكسوتهنّ ، كنّ حوامل أو غير حوامل ، وإنما أمر الله بالسكنى (٤) اللّاتى بنّ من أزواجهنّ ، قال تعالى : (وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَ) فجعل عز وجل للحوامل اللائي قد بنّ من أزواجهنّ السكنى والنفقة.

المسألة الثالثة ـ في بسط ذلك وتحقيقه :

إنّ الله سبحانه وتعالى لما ذكر السكنى أطلقها لكلّ مطلقة ، فلما ذكر النفقة قيّدها بالحمل ، فدلّ على أن المطلّقة البائن لا نفقة لها ، وهي مسألة عظيمة قد مهدنا سبلها (٥) قرآنا وسنّة ومعنى في مسائل الخلاف. وهذا مأخذها من القرآن.

__________________

(١) آية ٦.

(٢) في ش : اللاتي بن.

(٣) في م ، ش : نساؤه.

(٤) في ا : بسكنى اللاتي.

(٥) في ش : سبيلها.

٢٤٧

فإن قيل : لا حجة في هذه الآية ، لأن قوله تعالى : (أَسْكِنُوهُنَ) راجع إلى ما قبله ، وهي المطلقة الرجعية.

قلنا : لو كان هذا صحيحا لما قال : (وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَ) ، فإنّ المطلقة الرجعية ينفق عليها حاملا كانت أو غير حامل ، فلما خصّها بذكر النفقة حاملا دلّ على أنها البائن التي لا ينفق عليها.

وتحقيقه أنّ الله تعالى ذكر المطلّقة الرجعية وأحكامها حتى بلغ إلى قوله تعالى : (ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ) ، ثم ذكر بعد ذلك حكما يعمّ المطلقات كلهنّ من تعديد الأشهر وغير ذلك [من الأحكام] (١) ، وهو عامّ في كل مطلقة ، فرجع ما بعد ذلك من الأحكام إلى كل مطلقة.

المسألة الثالثة ـ قوله تعالى : (فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَ).

قد بينّا في سورة البقرة شيئا من مسائل الرضاع ، ووضحنا أنه يكون تارة على الأم ، ولا يكون عليها تارة.

وتحريره أنّ العلماء اختلفوا فيمن يجب عليه رضاع الولد على ثلاثة أقوال :

الأول ـ قال علماؤنا : رضاع الولد على الزوجة ما دامت الزوجية ، إلا لشرفها أو مرضها فعلى الأب حينئذ رضاعه في ماله.

الثاني ـ قال أبو حنيفة [والشافعى] (٢) : لا يجب على الأمّ بحال.

الثالث ـ قال أبو ثور : يجب عليها في كل حال.

ودليلنا قوله تعالى (٣) : (وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ) ، وقد مضى في سورة البقرة أنه لفظ محتمل لكونه حقا عليها أولها ، لكن العرف يقضى بأنه عليها ، إلا أن تكون شريفة ، وما جرى به العرف فهو كالشرط حسبما بيناه في أصول الفقه من (٤) أن العرف والعادة أصل من أصول الشريعة يقضى به في الأحكام ، [والعادة] (٥) ـ إذا كانت شريفة ـ ألّا ترضع فلا يلزمها ذلك. فإن طلقها فلا يلزمها إرضاعه إلا

__________________

(١) من ش.

(٢) ساقط من م ، ش ، والقرطبي.

(٣) سورة البقرة ، آية ٢٣٣.

(٤) في ش : مع.

(٥) من ش.

٢٤٨

أن يكون غير قابل ثدي غيرها ، فيلزمها حينئذ الإرضاع ، أو تكون مختارة لذلك فترضع في الوجهين بالأجرة ، لقوله تعالى : (فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَ) ويحقق ذلك قوله تعالى : (وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ) ، وهي :

المسألة الرابعة ـ فالمعروف أن ترضع مادامت زوجة إلا أن تكون شريفة ، وألّا ترضع بعد الزوجية إلا بأجر. فإن قبل غيرها لم يلزمها ، وإن شاءت إرضاعه فهي أولى بما يأخذه غيرها.

الآية الخامسة ـ قوله تعالى (١) : (وَإِنْ تَعاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرى. لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللهُ لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا ما آتاها سَيَجْعَلُ اللهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً).

فيها خمس مسائل :

المسألة الأولى ـ قوله تعالى : (وَإِنْ تَعاسَرْتُمْ).

المعنى إنّ المرأة إذا امتنعت من رضاعه بعد الطلاق فغيرها ترضع ، يعنى إن قبل ، فإن لم يقبل ـ كما تقدم ـ لزمها ولم ينفعها تعاسرها مع الأب.

المسألة الثانية ـ قوله تعالى : (لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ).

هذا يفيد أن النفقة ليست مقدّرة شرعا ، وإنما تتقدر عادة بحسب الحالة من المنفق والحالة من المنفق عليه ، فتقدّر بالاجتهاد على مجرى العادة.

وقد فرض عمر للمنفوس مائة درهم في العام بالحجاز ، والقوت بها (٢) محبوب ، والميرة عنه بعيدة ، وينظر المفتي إلى قدر حاجة المنفق عليه ، ثم ينظر إلى حالة المنفق ، فإن احتملت الحالة الحاجة أمضاها عليه ، وإن قصرت حالته عن حالة المنفق عليه ردّها إلى قدر احتمال حاله ، [لقوله تعالى] (٣) ـ وهي :

المسألة الثالثة ـ (وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللهُ لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً

__________________

(١) من الآية السادسة ـ وهي الآية السابقة ـ والآية السابعة.

(٢) في ش : به.

(٣) ساقط من م ، ش.

٢٤٩

إِلَّا ما آتاها) ، فإذا كان للعبد ما يكفيه ، ويفضل عنه فضل أخذه ولده ، ومن يجب عليه الإنفاق ، وإنما يبدأ به أولا ، لكن لا يرتفع له ، بل يقدر له الوسط ، حتى إذا استوفاه عاد الفضل إلى سواه. والأصل فيه قول النبي صلّى الله عليه وسلم لهند : خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف ، فأحالها على الكفاية حين علم السّعة من حال أبى سفيان الواجب عليه بطلبها.

المسألة الرابعة ـ في تقدير الإنفاق :

قد بينا أنه ليس له تقدير شرعي ، وإنما أحاله الله سبحانه على العادة ، وهي دليل أصولى بنى الله عليه الأحكام ، وربط به الحلال والحرام ، وقد أحاله الله على العادة فيه في الكفارة ، فقال (١) : (إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ).

وقال (٢) : (فَإِطْعامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً).

وقد تكلمنا عليه في موضعه ، وقدّرنا للكبير نفقة لشبعه وكسوته وملاءته.

وأما الصغير الذي لا يأكل الطعام فلأمّه أجرها بالمثل إذا شطت على الأب ، والمفتون منا يقدرونها بالطعام والإدام ، وليس لها تقدير إلا بالمثل من الدراهم لا من الطعام. وأما إذا أكل فيفرض له قدر مأكله وملبسه على قدر الحال. كما قدمنا.

وفرض عمر للمنفوس مائة درهم ، وفرض له عثمان خمسين درهما. واحتمل أن يكون هذا الاختلاف بحسب حال السنين ، أو بحسب حال القدر في التسعير لثمن القوت والملبس.

وقد روى نافع عن ابن عمر ـ أنّ عمر كان لا يفرض للمولود حتى يطعم ، ثم أمر مناديا فنادى : لا تعجلوا أولادكم عن الفطام ، فإنا نفرض لكل مولود في الإسلام.

وقد روى محمد بن هلال المزني ، قال : حدثني أبى وجدتى (٣) أنها كانت ترد على عثمان ففقدها ، فقال لأهله : مالي لا أرى فلانة؟ فقالت امرأته : يا أمير المؤمنين ، ولدت الليلة ، فبعث إليها بخمسين درهما وشقيقة أنبجانية (٤) ثم قال : هذا عطاء ابنك ، وهذه كسوته ، فإذا مرّت له سنة رفعناه إلى مائة.

__________________

(١) سورة المائدة ، آية ٨٩.

(٢) سورة المجادلة ، آية ٤.

(٣) في ش : حدثني أبى عن جدتى.

(٤) في ش ، م : سنبلانية ، وكذلك في القرطبي. والشقيقة : تصغير الشقة ، وهي جنس من الثياب ، والسنبلاني من الثياب : السابغ الطويل الذي قد أسبل.

٢٥٠

وقد أتى علىّ بن أبى طالب بمنبوذ (١) ، ففرض له مائة.

وقال القاضي : هذا الفرض قبل الفطام مما اختلف فيه العلماء ، فمنهم من رآه مستحبّا ، لأنّه (٢) داخل في حكم الآية ، ومنهم من رآه واجبا لما تجدّد من حاجته وعرض من مؤنته ، وبه أقول ، ولكن يختلف قدره بحاله عند الولادة ، وبحاله عند الفطام.

وقد روى سفيان بن وهب أن عمر أخذ المدّ بيد والقسط بيد ، وقال : إنى فرضت لكل نفس مسلمة في كلّ شهر مدّي حنطة وقسطي خلّ ، وقسطي زيت. زاد غيره ، وقال : إنّا قد أجزنا (٣) لكم أعطياتكم وأرزاقكم في كل شهر. فمن انتقصها فعل (٤) الله به كذا وكذا ، ودعا عليه. قال أبو الدرداء : كم سنّة راشدة مهدية قد سنّها عمر في أمة محمد صلى الله عليه وسلم. [والمدّ] (٥) والقسط كيلان شاميان في الطعام والإدام ، وقد درسا بعرف آخر ، فأما المد فدرس إلى الكيلجة ، وأما القسط فدرس إلى الكيل ، ولكن التقدير فيه عندنا ربعان في الطعام ، وثمنان في الإدام ، وأما الكسوة فبقدر العادة قميص وسراويل ، وجبّة في الشتاء وكساء وإزار وحصير. وهذا الأصل ، ويتزيد بحسب الأحوال والعادة.

المسألة الخامسة ـ هذه الآية أصل في وجوب النفقة للولد على الوالد دون الأم ، خلافا لمحمد بن الموّاز ، إذ يقول : إنها على الأبوين على قدر الميراث ، وبيانها في مسائل الفقه والخلافيات ، ولعل محمدا أراد أنها على الأم عند عدم الأب. وفي البخاري ، عن النبي صلى الله عليه وسلم : تقول لك المرأة أنفق علىّ وإلّا طلّقنى ، ويقول العبد : أنفق علىّ واستعملني ، ويقول لك ابنك : أنفق علىّ إلى من تكلني؟ فقد تعاضد القرآن والسنة وتواردا في (٦) مشرعة (٧) واحدة. والحمد لله.

__________________

(١) المنبوذ : اللقيط.

(٢) في ش : وهو.

(٣) في القرطبي : أجرينا.

(٤) في ش : ففعل الله ...

(٥) من م ، ش.

(٦) في م ، ش : إلى.

(٧) في القرطبي : شرعة.

٢٥١

سورة التحريم

[فيها ثلاث آيات]

الآية الأولى ـ قوله تعالى (١) : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضاتَ أَزْواجِكَ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ).

فيها خمس مسائل :

المسألة الأولى ـ في سبب نزولها (٢) :

اختلف المفسرون فيها على ثلاثة أقوال :

الأول ـ أن سبب نزولها الموهوبة التي جاءت النبىّ صلّى الله عليه وسلم فقالت : إنى وهبت لك نفسي. فلم يقبلها ـ رواه عكرمة عن ابن عباس.

الثاني ـ أنها نزلت في شأن مارية أم إبراهيم ، خلا بها رسول الله صلّى الله عليه وسلم في بيت حفصة ، وقد خرجت لزيارة أبيها ، فلما عادت وعلمت عتبت عليه ، فحرمها رسول الله صلّى الله عليه وسلم على نفسه إرضاء لحفصة ، وأمرها ألا تخبر أحدا من نسائه ، فأخبرت بذلك عائشة لمصافاة كانت بينهما ، فطلّق النبىّ صلّى الله عليه وسلم حفصة ، واعتزل نساءه شهرا ، وكان جعل على نفسه أن يحرّمهن شهرا ، فأنزل الله هذه الآية ، وراجع حفصة ، واستحلّ مارية ، وعاد إلى نسائه ، قاله الحسن ، وقتادة ، والشعبي ، وجماعة.

واختلفوا هل حرم النبىّ صلّى الله عليه وسلم مارية بيمين على قولين : فقال قتادة والحسن ، والشعبي : حرّمها بيمين. وقال غيرهم : إنه حرّمها بغير يمين ، ويروى عن ابن عباس.

الثالث ـ ثبت في الصحيح ـ واللفظ للجعفى ـ عن عبيد بن عمير ، عن عائشة ، قالت : كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يشرب عسلا عند زينب بنت جحش ، ويمكث عندها ،

__________________

(١) آية ١.

(٢) أسباب النزول للواحدي : ٢٤٧.

٢٥٢

فتواصيت أنا وحفصة على أيتنا دخل عليها فلتقل له : أكلت مغافير (١) ، إنى أجد منك ريح مغافير. قال : لا. ولكني شربت عسلا عند زينب بنت جحش ، ولن أعود له. وقد حلفت لا تخبري أحدا ـ يبتغى مرضاة أزواجه.

وفي صحيح مسلم أنه شربه عند حفصة ، وذكر نحوا من القصة ، وكذلك روى أشهب عن مالك. والأكثر في الصحيح أنه عند زينب ، وأنّ اللتين تظاهرتا عليه عائشة وحفصة.

وروى ابن أبى مليكة ، عن ابن عباس أنه شربه عند سودة ، وروى أسباط ، عن السدى ـ أنه شربه عند أم سلمة ، وكلّه جهل وتسور (٢) بغير علم.

المسألة الثانية ـ أما من روى أن الآية نزلت في الموهوبة فهو ضعيف في السند ، وضعيف في المعنى ، أما ضعفه في السند فلعدم عدالة رواته ، وأما ضعفه في معناه فلأنّ ردّ النبي صلّى الله عليه وسلم للموهوبة ليس تحريما لها ، لأن من ردّ ما وهب له لم يحرم عليه ، إنما حقيقة التحريم بعد التحليل.

وأما من روى أنه حرّم مارية فهو أمثل في السند ، وأقرب إلى المعنى ، لكنه لم يدوّن في صحيح ، ولا عدل ناقله ، أما أنه روى مرسلا.

وقد روى ابن وهب ، عن مالك ، عن زيد بن أسلم ، قال : حرّم رسول الله صلى الله عليه وسلم أمّ ولده إبراهيم ، فقال : أنت علىّ حرام ، والله لا أتيتك. فأنزل الله في ذلك:

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضاتَ أَزْواجِكَ).

وروى مثله ابن القاسم ، عنه.

وروى أشهب ، عن مالك ، قال : راجعت عمر [بن الخطاب] (٣) امرأة من الأنصار في شيء ، فاقشعر من ذلك. وقال : ما كان النساء هكذا. قالت : بلى ، وقد كان أزواج النبي صلّى الله عليه وسلم يراجعنه. فاحتزم (٤) ثوبه ، فخرج إلى حفصة ، فقال لها : أتراجعين

__________________

(١) المغافير : بقلة أو صمغة متغيرة الريح فيها حلاوة.

(٢) في ش : أو تسور. وفي م : أو تصور.

(٣) ليس في م ، ش.

(٤) في م ، ش ، والقرطبي : فأخذ.

٢٥٣

رسول الله صلّى الله عليه وسلم؟ قالت : نعم ، ولو أعلم أنك تكره ما فعلت. فلما بلغ عمر أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم هجر نساءه قال : رغم أنف حفصة.

وإنما الصحيح أنه كان في العسل ، وأنه شربه عند زينب ، وتظاهرت عليه عائشة وحفصة فيه ، وجرى ما جرى ، فحلف ألّا يشربه ، وأسرّ ذلك ، ونزلت الآية في الجميع.

المسألة الثالثة ـ قوله : (لِمَ تُحَرِّمُ) ـ إن كان النبىّ صلّى الله عليه وسلم حرم ولم يحلف ، فليس ذلك بيمين عندنا في معنى ، ولا يحرم شيئا قول الرجل : هذا حرام علىّ ، حاشا الزوجة.

وقال أبو حنيفة : إذا أطلق حمل على المأكول والمشروب دون الملبوس ، وكانت يمينا توجب الكفارة.

[وقال زفر : هو يمين في الكل ، حتى في الحركة والسكون. وعوّل المخالف على أن النبىّ صلّى الله عليه وسلم حرّم العسل ، فلزمته الكفارة] (١).

وقد قال الله تعالى فيه (٢) : (قَدْ فَرَضَ اللهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ) ، فسماه يمينا ، وعوّل أيضا على أنّ معنى اليمين التحريم ، فإذا وجد ملفوظا به تضمّن معناه كالملك في البيع.

ودليلنا قوله تعالى (٣) : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ). وقوله (٤) : (قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما أَنْزَلَ اللهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَراماً وَحَلالاً قُلْ آللهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللهِ تَفْتَرُونَ) ، فذمّ الله المحرّم للحلال ، ولم يوجب عليه كفارة. وقد بينا ذلك عند ذكر هذه الآيات ، وهذا ينقض مذهب المخالفين : زفر ، وأبى حنيفة ، وينقض مذهب أبى حنيفة إخراجه اللباس منه ، ولا جواب له عنه ، وخفى عن القوم سبب الآية ، وأنّ النبي صلّى الله عليه وسلم حلف ألا يشرب عسلا. وكان ذلك سبب الكفارة ؛ وقيل له : لم تحرّم. وقولهم (٥) : إن معنى النهى تحريم الحلال فكان

__________________

(١) ساقط من ش.

(٢) سورة التحريم ، آية ٢.

(٣) سورة المائدة ، آية ٨٧.

(٤) سورة يونس ، آية ٥٩.

(٥) في ا : وقوله.

٢٥٤

كالمال في البيع لا يصح ، بل التحريم معنى يركّب على لفظ اليمين ، فإذا لم يوجد اللفظ ـ لم يوجد المعنى بخلاف الملك ، فإنه لم يركب على لفظ البيع ، بل هو في معنى لفظه. وقد استوعبنا القول في كتاب تخليص التلخيص ، والإنصاف في مسائل الخلاف.

المسألة الرابعة ـ إذا حرم الزوجة فقد اختلف العلماء في ذلك على خمسة عشر قولا ، وجمعناها في كتب المسائل ، وأوضحناها بما مقصوده أن نقول : يجمعها ثلاثة مقامات :

المقام الأول ـ في جميع الأقوال :

الأول ـ أنها يمين تكفر ، قاله أبو بكر الصديق ، وعائشة ، والأوزاعى.

الثاني ـ قال ابن مسعود : تجب فيه كفارة ، وليست بيمين ، وبه قال ابن عباس في إحدى روايتيه ، والشافعى في أحد قوليه.

الثالث ـ أنها طلقة رجعية ، قاله عمر بن الخطاب ، والزهري ، وعبد العزيز بن أبى سلمة الماجشون.

الرابع ـ أنها ظهار ، قاله عثمان ، وأحمد بن حنبل.

الخامس ـ أنها طلقة بائنة ، قاله حماد بن سلمة ، ورواه ابن خويز منداد عن مالك.

السادس ـ أنها ثلاث تطليقات ، قاله علىّ بن أبى طالب ، وزيد بن ثابت ، وأبو هريرة ، [ومالك] (١).

السابع ـ قال أبو حنيفة : إن نوى الطلاق أو الظّهار كان ما نوى ، وإلا كانت يمينا وكان الرجل موليا من امرأته.

الثامن ـ أنه لا تنفعه نيّة الظهار ، وإنما يكون طلاقا ، قاله ابن القاسم.

التاسع ـ قال يحيى بن عمر : يكون طلاقا ، فإن ارتجعها لم يجز له وطؤها حتى يكفّر كفارة الظهار.

العاشر ـ هي ثلاث قبل وبعد ، لكنه ينوى في التي لم يدخل بها في الواحدة ، قاله مالك ، وابن القاسم.

__________________

(١) ساقط من ش.

٢٥٥

الحادي عشر ـ ثلاث ، ولا ينوى بحال ، ولا في محل ، قاله عبد الملك في المبسوط.

الثاني عشر ـ هي في التي لم يدخل بها واحدة ، وفي التي دخل بها ثلاث ، قاله أبو مصعب ، ومحمد بن عبد الحكم.

الثالث عشر ـ أنه إن نوى الظهار ، وهو أن ينوى أنها محرمة كتحريم (١) أمّه كان ظهارا ، وإن نوى تحريم عينها عليه (٢) بغير طلاق تحريما مطلقا وجبت كفارة يمين ، وإن لم ينو شيئا فعليه كفارة يمين ، قاله الشافعى.

الرابع عشر ـ أنه إن لم ينو شيئا لم يكن شيء.

الخامس عشر ـ أنه لا شيء عليه فيها ، قاله مسروق بن (٣) ربيعة من أهل المدينة. ورأيت بعد ذلك لسعيد بن جبير (٤) أن عليه عتق رقبة ، وإن لم يجعلها ظهارا. ولست أعلم له وجها ، ولا يتعدد في المقالات عندي.

المقام الثاني ـ في التوجيه :

أما من قال : إنها يمين فقال (٥) : سمّاها الله يمينا في قوله تعالى (٦) : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللهُ لَكَ ...) إلى قوله تعالى : (قَدْ فَرَضَ اللهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ) ، فسمّاها الله يمينا ، وهذا باطل ، فإن النبىّ صلّى الله عليه وسلم حلف على شرب العسل ، وهذه يمين كما قدمنا.

وأما من قال : تجب فيها كفارة وليست بيمين فبناه (٧) على أمرين :

أحدهما ـ أنه ظن أنّ الله أوجب الكفارة فيها ولم تكن يمينا ، وقد بينا فساد ذلك.

الثاني ـ أن معنى اليمين عنده التحريم ، فوقعت الكفارة على المعنى ، ونحن لا نقول به. وقد بينا فساد ذلك فيما تقدم وفي مسائل الخلاف.

وأما من قال : إنه طلقة رجعية فبناه على أصل من أصول الفقه ، وهو حمل اللفظ على أقلّ وجوهه ، والرجعية محرّمة الوطء ، فيحمل عليه اللفظ (٨) ، وهذا يلزم مالكا لقوله :

__________________

(١) في ش : كظهر.

(٢) في ا : بجملته.

(٣) في ا : وربيعة. والمثبت من ش ، م.

(٤) في ا : حنبل.

(٥) في ش : فقد.

(٦) آية ١.

(٧) في ش : فبناها.

(٨) في ش : الوطء.

٢٥٦

إنّ الرجعية محرّمة الوطء. وكذلك وجه من قال : إنه ثلاث ، فحمله على أكبر (١) معناه ، وهو الطلاق الثلاث. وقد بينا ذلك في أصول الفقه ومسائل الخلاف.

وأما من قال : إنه ظهار (٢) فبناه على أصلين :

أحدهما ـ أنه أقل درجات التحريم ، فإنه تحريم لا يرفع النكاح.

وأما من قال : إنه طلقة بائنة فعوّل على أنّ الطلاق الرجعى لا يحرّم المطلقة ، وأنّ الطلاق البائن يحرمها ، لأنه لو قال لها : أنت طالق لا رجعة لي عليك نفذ وسقطت الرجعة ، وحرمت ، فكذلك إذا قال لها : أنت حرام [علىّ] (٣) فإنه يكون طلاقا بائنا معنويّا ، وكأنه ألزم نفسه معنى ما تقدم ذكره من إنفاذ الطلاق وإسقاط الرجعة ، ونحن لا نسلم أنه ينفذ قوله : أنت طالق لا رجعة لي عليك ، فإنّ الرجعة حكم الله ، ولا يجوز إسقاطه إلا بما أسقطه الله من العوض المقترن به ، أو الثلاث القاضية عليه والغاية له.

وأما قول من قال ـ وهو أبو حنيفة ـ إنها تكون عارية عن النية يمينا فقد تقدّم بطلانه وأما نفى الظهار فيه فينبنى على أنّ الظهار حكم شرعي يختص بمعنى ، فاختص بلفظ ، وهذا إنما يلزم لمن يرى مراعاة الألفاظ ، ونحن إنما نعتبر المعاني خاصة ، إلا أن يكون اللفظ تعبّدا.

وأما قول يحيى بن عمر فإنه احتاط بأن (٤) جعله طلاقا ، فلما ارتجعها احتاط بأن ألزمه الكفارة. وهذا لا يصح ، لأنه جمع بين المتضادين ، فإنه لا يجتمع ظهار وطلاق في معنى لفظ واحد ، فلا وجه للاحتياط فيما لا يصحّ اجتماعه في الدليل.

وأما من قال : إنه ينوى في التي لم يدخل بها فلأن (٥) الواحدة تبينها وتحرّمها شرعا إجماعا.

وكذلك قال من لم يحكم باعتبار نيته : إن الواحدة تكفى قبل الدخول في التحريم بالإجماع ، فيكفى أخذا بالأقل المتفق عليه ، فإن الطلاق الرجعى مختلف في اقتضائه التحريم في العدة.

__________________

(١) في م ، ش : أكثر.

(٢) في ا : ظاهر.

(٣) ساقط من ش ، م.

(٤) في ا : لأن.

(٥) في ش : فإن. (١٧ ـ أحكام ـ ٤).

٢٥٧

وأما من قال : إنها ثلاث فيهما فلأنه أخذ بالحكم الأعظم ، فإنه لو صرّح بالثلاث لنفذت في التي لم يدخل بها نفوذها في التي دخل بها. ومن الواجب أن يكون المعنى مثله وهو التحريم.

وأما القول الثالث عشر فيرجع إلى إيجاب الكفّارة في التحريم ، وقد تقدم فساده.

وأما من قال : لا شيء فيها فعمدتهم أنه كذب في تحريم ما أحلّ الله ، واقتحم ما نهى الله عنه بقوله تعالى (١) : (لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ) وإنما يكون التحريم في الشرع مرتّبا على أسبابه ، فأما إرساله من غير (٢) سبب فذلك غير جائز.

والصحيح أنها طلقة واحدة ، لأنه لو ذكر الطلاق لكان أقله وهو الواحدة ، إلا أن يعدده ، كذلك إذا ذكر التحريم يكون أقلّه ، إلا أن يقيّده بالأكثر ، مثل أن يقول : أنت علىّ حرام إلا بعد زوج ، فهذا نصّ على المراد. وقد أحكمنا الأسئلة والأجوبة في مسائل الخلاف والتفريع.

المقام الثالث ـ في تصويرها ، وأخرناه (٣) في الأحكام القرآنية لما يجب من تقديم معنى الآية ، واستقدمناه في مسائل الخلاف والتفريع ، ليقع الكلام على كلّ صورة منها. وعدد صورها عشرة :

الأولى ـ قوله : حرام.

الثانية ـ قوله : علىّ حرام.

الثالثة ـ أنت حرام.

الرابعة ـ أنت علىّ حرام.

الخامسة ـ الحلال علىّ حرام.

السادسة ـ ما أنقلب إليه حرام.

السابعة ـ ما أعيش فيه حرام.

الثامنة ـ ما أملكه حرام علىّ.

التاسعة ـ الحلال حرام.

__________________

(١) سورة المائدة ، آية ٧٨.

(٢) في ش : بغير.

(٣) في ش ، م : ما اخترناه.

٢٥٨

العاشرة ـ أن يضيف التحريم إلى جزء من أجزائها.

فأما الأولى ، والثانية ، والتاسعة فلا شيء عليه فيها ، لأنه لفظ مطلق لا ذكر للزوجة فيه ، ولو قال : ما أنقلب إليه حرام فهو يلزمه ما يلزمه في قوله : الحلال علىّ حرام ـ أنه يدخل فيه الزوجة ، إلا أن يحاشيها. ولا يلزمه شيء في غيرها من المحلات ، كما تقدم بيانه.

واختلف علماؤنا في وجه المحاشاة ، فقال أكثر أصحابنا : إن حاشاها بقلبه خرجت. وقال أشهب : لا يحاشيها إلا بلفظه ، كما دخلت في لفظه. والصحيح جواز المحاشاة بالقلب بناء على أنّ العموم يختصّ بالنية.

وأما إضافة التحريم إلى جزء من أجزائها فشأنه شأنه فيما إذا أضاف الطلاق إلى جزء من أجزائها ، وهي مسألة خلاف كبيرة.

قال مالك والشافعى : يطلق في جميعها. وقال أبو حنيفة : يلزمه الطلاق في ذكر [الرأس ونحوه ، ولا يلزمه الطلاق في ذكر] (١) اليد ونحوها ، وذلك مذكور في كتب المسائل الخلافية والتفريعية.

المسألة الخامسة ـ إذا حرم الأمة لم يلزمه تحريم ، وقد قال الشافعى في أحد قوليه : تلزمه الكفارة ، وساعده سواه ، فإن تعلّقوا بالآية فلا حجّة فيها ، وإن تعلقوا بأنّ الظهار عندنا يصحّ فيها فلا يلزم ذلك ، لأنا بينا أنّ الظهار حكم مختص لا يلحق به غيره. وقد قال علماؤنا : إنما صحّ ظهاره في الأمة لأنها من النساء ، وقد بينا ذلك في سورة المجادلة ، وأوضحنا أيضا أنّ الأمة من المحللات ، فلا يلحقها التحريم كالطعام واللباس ، وما لهم من شبهة قد تقصّينا عنها في مسائل (٢) الإنصاف.

الآية الثانية ـ قوله تعالى (٣) : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ عَلَيْها مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدادٌ لا يَعْصُونَ اللهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ).

فيها أربع مسائل :

__________________

(١) ساقط من م ، ش.

(٢) في ش : في مسائل الخلاف.

(٣) آية ٦.

٢٥٩

المسألة الأولى ـ قوله تعالى : (قُوا) :

قال علماء التفسير : معناه اصرفوا ، وتحقيقها (١). اجعلوا بينكم وبينها وقاية. ومثله قول النبىّ صلّى الله عليه وسلم : اتقوا النار ولو بشقّ تمرة ، فإن لم تجدوا (٢) فبكلمة طيبة.

المسألة الثانية ـ في تأويلها. وفيه ثلاثة أقوال :

الأول ـ أنّ معناه (٣) قوا أنفسكم ، وأهليكم فليقوا أنفسهم.

الثاني ـ قوا أنفسكم ومروا أهليكم بالذّكر والدعاء.

الثالث ـ قوا أنفسكم بفعالكم وأهليكم بوصيتكم إياهم ، قاله علىّ بن أبى طالب ، وهو الصحيح ، والفقه الذي يعطيه العطف الذي يقتضى التشريك بين المعطوف والمعطوف عليه في معنى الفعل كقوله :

علفتها تبنا وماء باردا

وكقوله :

ورأيت زوجك في الوغى

متقلّدا سيفا ورمحا

فعلى الرجل أن يصلح نفسه بالطاعة ، ويصلح أهله إصلاح الراعي للرعية ، ففي صحيح الحديث أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال : كلّكم راع ، وكلّكم مسئول عن رعيته ، فالإمام الذي على الناس راع وهو مسئول عنهم (٤) ، والرجل راع على (٥) أهل بيته وهو مسئول عنهم. وعن هذا عبّر الحسن في هذه الآية بقوله : يأمرهم وينهاهم.

وقد روى عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده ، عن النبي صلّى الله عليه وسلم : مروا أبناءكم بالصلاة لسبع ، واضربوهم عليها لعشر ، وفرّقوا بينهم في المضاجع ، خرجه جماعة. وهذا لفظ أبى داود ، وخرج أيضا عن سمرة (٦) عن أبيه ، عن جده ، قال : قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم : مروا الصبىّ بالصلاة إذا بلغ سبع سنين ، فإذا بلغ عشر سنين فاضربوه عليها.

__________________

(١) في ش : وتحقيقه.

(٢) في ش : تجدها.

(٣) في ش : معناها.

(٤) في ش : وهو مسئول عن رعيته.

(٥) في ش : في أهل بيته.

(٦) في ا : سبرة.

٢٦٠