أحكام القرآن - ج ٤

أبي بكر محمّد بن عبدالله [ ابن العربي ]

أحكام القرآن - ج ٤

المؤلف:

أبي بكر محمّد بن عبدالله [ ابن العربي ]


المحقق: علي محمّد البجاوي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الجيل
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٦٧

وقول من قال : إنه أكل الحرام أقرب (٥) ، وكأنه عكس الأول ، لأنّ الحرام يتناوله بيده فيحمله إلى لسانه ، والمسألة يبدؤها بلسانه ويحملها إلى يده ، ويردّها إلى لسانه.

وأما من قال : إنه كناية عما بين البطن والفرج ، فهو أصل في المجاز حسن.

وأما قوله : (وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ) فهو نص في إيجاب الطاعة ، فإن النهى عن الشيء أمر بضده ، إما لفظا أو معنى على اختلاف الأصوليين في ذلك ، وأما [معنى] (١) تخصيص قوله : (فِي مَعْرُوفٍ) (٢) وقوة قوله : (لا يَعْصِينَكَ) يعطيه ؛ لأنه عام في وظائف الشريعة ، وهي :

المسألة التاسعة ـ ففيه قولان :

أحدهما ـ أنه تفسير للمعنى على التأكيد ، كما قال تعالى (٣) : (قالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِ) لأنه لو قال : «احكم» لكفى.

الثاني ـ أنه إنما شرط المعروف في بيعة النبي صلّى الله عليه وسلم حتى يكون تنبيها على أنّ غيره أولى بذلك ، وألزم له ، وأنفى للإشكال فيه.

وفي الآثار : لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.

المسألة العاشرة ـ روى أنّ النبي صلّى الله عليه وسلم كان إذا بايع النساء على هذا قال لهنّ : فيما أطقتن ، فيقلن : الله ورسوله أرحم بنا من أنفسنا.

وهذا بيان من النبي صلّى الله عليه وسلم لحقيقة الحال ، فإنّ الطاقة مشروطة في الشريعة ، مرفوع عن المكلفين ما ناف (٤) عليها ، حسبما بيناه في غير موضع.

المسألة الحادية عشرة ـ روت أم عطية في الصحيح قالت : بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقرأ علينا : أن لا يشركن بالله شيئا ، ونهانا عن النياحة ، فقبضت امرأة على يدها وقالت : أسعدتنى فلانة أريد أن أجزيها. فما قال لها النبىّ صلّى الله عليه وسلم شيئا ،

فانطلقت فرجعت فبايعها ، فيكون هذا تفسير قوله : (بِبُهْتانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَ) ؛ وذلك تخميش وجوه ، وشقّ جيوب.

__________________

(١) ليس في ش.

(٢) في القرطبي : مع قوة قوله : لا يعصينك ففيه قولان (١٨ ـ ٧٥)

(٣) آخر سورة الأنبياء (آية ١١٢).

(٤) ناف : زاد.

٢٠١

وفي الصحيح : ليس منا من خمش الوجوه ، وشقّ الجيوب ، ودعا بدعوى الجاهلية.

فإن قيل : كيف جاز أن تستثني معصية ، وتبقى على الوفاء بها ، ويقرّها النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك؟.

قلنا : وقد بيناه في شرح الحديث الصحيح الكافي ، منه أنّ النبىّ صلّى الله عليه وسلم أمهلها حتى تسير إلى صاحبتها لعلمه بأن ذلك لا يبقى في نفسها ، وإنما ترجع سريعا عنه ، كما روى أنّ بعضهم شرط ألّا يخرّ إلا قائما ، فقيل في أحد تأويليه : إنه لا يركع ، فأمهله حتى آمن ، فرضي بالركوع.

وقيل : أرادت أن تبكى معها بالمقابلة التي هي حقيقة النوح خاصة.

المسألة الثانية عشرة ـ في صفة أركان البيعة على ألّا يشركن بالله شيئا ......... إلى آخر الخصال الست.

صرح فيهن بأركان النّهى في الدين ، ولم يذكر أركان الأمر ؛ وهي الشهادة ، والصلاة والزكاة ، والصيام ، والحج ، والاغتسال من الجنابة ؛ وهي سنة (١) في الأمر في الدين وكيدة مذكورة في قصة جبريل مع النبي صلّى الله عليه وسلم. وفي اعتماده الإعلام بالمنهيات دون المأمورات حكمان اثنان :

أحدهما ـ أنّ النهى دائم ، والأمر يأتى في الفترات (٢) ؛ فكان التنبيه على اشتراط الدائم أو أوكد.

الثاني ـ أن هذه المناهي كانت في النساء كثير من يرتكبها ، ولا يحجزهن عنها شرف الحسب ، ولذلك روى أن المخزومية سرقت ، فأهمّ قريشا أمرها ، وقالوا : من يكلّم رسول الله صلّى الله عليه وسلم [إلا أسامة] (٣) ، فكلم رسول الله صلّى الله عليه وسلم ، فقال : أتشفع في حدّ من حدود الله! وذكر الحديث.

فحص الله ذلك بالذكر لهذا ، كما روى أنه قال لو قد عبد القيس : آمركم بأربع وأنهاكم عن أربع ؛ آمركم بالإيمان بالله ، وإقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، وأن تؤدّوا خمس ما غنمتم ،

__________________

(١) في ش : ستة. وفي القرطبي : وهي ستة أيضا ..

(٢) في ش : القرآن.

(٣) من ش.

٢٠٢

وأنهاكم عن الدّبّا (١) ، والحنتم (٢) ، والنّقير (٣) ، والمزفّت (٤) ، فنبههم على ترك المعصية في شرب الخمر دون سائر المعاصي ؛ لأنها كانت عادتهم.

وإذا ترك المرء شهوته من المعاصي هان عليه ترك سواها مما لا شهوة له فيها.

المسألة الثالثة عشرة ـ لما قال النبي صلّى الله عليه وسلم لهنّ في البيعة : ألّا يسرقن ، قالت هند : يا رسول الله ، أنّ أبا سفيان رجل مسيك (٥) فهل على حرج أن آخذ من ماله ما يكفيني وولدي ، فقال : لا ، إلا بالمعروف (٦) ؛ فخشيت هند أن تقتصر على ما يعطيها أبو سفيان فتضيع أو تأخذ أكثر من ذلك ، فتكون سارقة ناكثة للبيعة المذكورة ، فقال لها النبي صلّى الله عليه وسلم : لا ، أى لا حرج عليك فيما أخذت بالمعروف ـ يعنى من غير استطالة إلى أكثر من الحاجة.

وهذا إنما هو فيما لا يخزنه عنها في حجاب ، ولا يضبط عليها بقفل ، فإنها إذا هتكته الزوجة ، وأخذت منه كانت سراقة ، تعصى بها ، وتقطع عليه يدها حسبما تقدم في سورة المائدة.

المسألة الرابعة عشرة ـ في صفة البيعة لمن أسلم من الكفار ؛ وذلك لأنها كانت في صدر الإسلام منقولة (٧) وهي اليوم مكتوبة ؛ إذ كان في عصر النبي صلّى الله عليه وسلم لا يكتب إلا القرآن.

وقد اختلف في السنّة على ما بيناه في أصول الفقه وغيرها ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم لا يكتب أصحابه ولا يجمعهم له ديوان حافظ ، اللهم إلا أنه قال يوما : اكتبوا لي من

__________________

(١) الدباء القرع ، واحدها دباءة. كانوا ينتبذون فيها فتسرع الشدة في الشراب (النهاية ـ دبب). وفي ا : الربا.

(٢) الحنتم : جرار مدهونة خضر كانت تحمل الخمر فيها إلى المدينة ، ثم اتسع فيها فقيل للخزف كله حنتم ، واحدتها حنتمة ، وإنما نهى عن الانتباذ فيها لأنها تسرع الشدة فيها لأجل دهنها (النهاية ـ حنتم).

(٣) النقير : أصله النخل ينقر وسطه ثم ينبذ فيه التمر ويلقى عليه الماء ليصير نبيذا مسكرا ، والنهى واقع على ما يعمل فيه لا على اتخاذ الفقير ، فيكون على حذف مضاف ، تقديره عن نبيذ النقير (النهاية ـ نقر).

(٤) المزفت من الأوعية هو الإناء الذي طلى بالزفت ، وهو نوع من القار ، ثم انتبذ فيه (النهاية ـ زفت).

(٥) مسيك : بخيل يمسك ما في يديه لا يعطيه أحدا.

(٦) في القرطبي ، لا ، أى لا حرج عليك فيما أخذت بالمعروف.

(٧) في ش : مقبولة.

٢٠٣

يلفظ بالإسلام لأمر عرض له. فأما اليوم فيكتب إسلام الكفرة ، كما يكتب سائر معالم الدّين المهمة والتوابع منها لضرورة حفظها حين فسد الناس وخفّت أمانتهم ، ومرج (١) أمرهم ، ونسخة ما يكتب :

بسم الله الرحمن الرحيم : لله أسلم فلان ابن فلان من أهل أرض كذا (٢) ، وآمن به وبرسوله محمد صلّى الله عليه وسلم ، وشهد له بشهادة الصدق ، وأقرّ بدعوة الحق : لا إله إلا الله محمد رسول الله ، والتزم الصلوات الخمس بأركانها وأوصافها ، وأدّى الزكاة بشروطها ، وصوم رمضان ، والحج إلى البيت الحرام ، إذا استطاع إليه سبيلا ، ويغتسل من الجنابة ، ويتوضأ من الحدث ، وخلع الأنداد من دون الله ، وتحقق أن الله وحده لا شريك له.

وإن كان نصرانيا قلت : وإن عيسى عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه.

وإن كان يهوديّا قلت : وإن العزيز عبد الله. وإن كان صابئا قلت : وإن الملائكة عبيد الله ورسله الكرام وكتّابه البررة الذين لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون.

وإن كان هنديا قلت : [وإن] (٣) مانى باطل محض ، وبهتان صرف ، وكذب مختلق مزوّر. وكذلك من كان على مذهب من الكفر اعتمدته بالبراءة منه (٤) بالذكر.

وتقول بعده : سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوّا كبيرا ، إن كلّ من في السموات والأرض إلّا آتى الرحمن عبدا ، لقد أحصاهم وعدّهم عدّا. لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا. تعالى وتقدّس عن ذلك كلّه ، والحمد لله الذي لم يتّخذ ولدا ، ولم يكن له شريك في الملك ، ولم يكن له ولىّ من الذّل وكبّره تكبيرا. والتزم ألّا يقتل النفس التي حرّم الله إلا بالحق ، ولا يسرق ، ولا يزنى ، ولا يشرب الخمر ، ولا يتكلّم بالزّور ، ويكون مع إخوانه المؤمنين كأحدهم ، لا يسلمهم ولا يسلمونه ، ولا يظلمهم ولا يظلمونه ، وعلم أن للدّين فرائض وشرائع وسننا ، فعاهد الله على أن يلتزم كل خصلة منها على نعتها بقلب سليم وسنن (٥) قويم ،

__________________

(١) مرج : اختلط.

(٢) في ش : من أهل الأرض.

(٣) من ش.

(٤) في ش : اعتمدته من البراءة.

(٥) في ش : وسير.

٢٠٤

والله يهدى من يشاء إلى ما شاء إلى صراط مستقيم. وشهد أنه من يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين ، شهد على فلان ابن فلان من أشهد عليه ، وهو صحيح العقل في شهر كذا.

وقد أدرك التقصير جملة من المؤرخين ، وكتبوا معالم الأمر دون وظائف النهى ، والنبىّ صلّى الله عليه وسلم كان يذكر في بيعته الوجهين. أو يغلب ذكر وظائف النهى ، كما جاء في القرآن.

وكتبوا أنه أسلم طوعا ، وكتبوا : وكان إسلامه على يدي فلان ، وكتبوا أنه اغتسل وصلّى.

فأما قولهم : وكان إسلامه طوعا فباطل ، فإنه لو أسلم مكرها لصحّ إسلامه ولزمه ، وقتل بالرّدة. وقد بينا (١) ذلك في قوله (٢) : (لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ) ، والكفار إنما يقاتلون قسرا على الإسلام فيستخرج منهم بالسيف. والإمام مخيّر بين قتل الأسرى أو مفاداتهم بالخمسة الأوجه المتقدمة فيهم ؛ فإذا أسلم سقط حكم السيف عنه.

وفي الصحيح : عجب ربّكم من قوم يقادون إلى الجنة بالسلاسل.

وكذلك الذّمى لو جنى جناية فخاف من موجبها القتل والضرب فأسلم سقط عنه الضرب والقتل ، وكان إسلامه كرها ، وحكم بصحته ، وإنما يكون الإكراه المسقط للإسلام إذا كان ظلما وباطلا ، مثل أن يقال للذمي [ابتداء] (٣) من غير جناية ولا سبب : أسلم ، وإلا قتلتك ؛ فهذا لا يجوز ؛ فإن أسلم لم يلزمه ، وجاز له الرجوع إلى ذينه عند أمنه مما خاف منه. وإذا ادّعى الذمىّ أنه أكره بالباطل لزمه إثبات ذلك ، فلا حاجة إلى ذكر الطواعية بوجه ولا حال في كل كافر. والله أعلم.

وأما قولهم ، كان إسلامه على يد فلان فإنّى علقوها! ويشبه أن يكونوا رأوه في كتب المخالفين ، لأنهم (٤) يذكرون ذلك في شروطهم لعلّة أنهم يرون الرجل إذا أسلم على

__________________

(١) في ش : وقدمنا.

(٢) سورة البقرة ، آية ٢٥٦.

(٣) ليس في ش.

(٤) في ش : فإنهم.

٢٠٥

يدي الرجل كان له ولاؤه ، وذلك مما ليس بمذهب لنا. وقد بينا فساده في مسائل الخلاف وغيرها.

وأما قولهم : اغتسل وصلّى ، فليس يحتاج إليه في العقد المكتوب ؛ لأنه إن لم يكن وقت صلاة ، فلا غسل عليه ولا وضوء ، لأنه ليس عليه صلاة.

وأما إذا كان وقت صلاة فيؤمر بالغسل والصلاة فيفعلهما ، ولا يكون ذلك مكتوبا. والله أعلم.

٢٠٦

سورة الصف

[فيها آيتان]

الآية الأولى ـ قوله تعالى (١) : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ).

فيها ثلاث مسائل :

المسألة الأولى ـ روى أبو موسى في الصحيح أنّ سورة كانت على قدرها ، أوّلها : سبح لله ، كان فيها (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ) ستكتب شهادة في أعناقهم (٢) فتسألون عنها يوم القيامة ، وهذا كله ثابت في الدين.

أما قوله : تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ) فثابت في الدين لفظا ومعنى في هذه السورة ما تلوناه آنفا فيها.

وأما قوله : [فتكتب] (٣) : شهادة في أعناقكم فتسألون عنها يوم القيامة فمعنى ثابت في الدّين [لفظا ومعنى] (٤) ؛ فإنّ من التزم شيئا لزمه شرعا ، وهي :

المسألة الثانية ـ والملتزم على قسمين :

أحدهما ـ النّذر ، وهو على قسمين :

نذر تقرّب مبتدأ. كقوله : لله على صوم وصلاة وصدقة ، ونحوه من القرب ؛ فهذا يلزمه الوفاء به إجماعا.

ونذر مباح (٥) ، وهو ما علّق بشرط رغبة [كقوله : إن قدم غائبى فعلىّ صدقة ، أو علّق بشرط رهبة] (٦) ، كقوله : إن كفاني الله شرّ كذا فعلىّ صدقة ، فاختلف العلماء فيه ؛ فقال مالك وأبو حنيفة : يلزمه الوفاء به. وقال الشافعى في أحد أقواله : إنه لا يلزمه الوفاء به. وعموم الآية حجة لنا ؛ لأنها بمطلقها تتضمن ذمّ من قال ما لا يفعله على أى وجه كان ، من مطلق ، أو مقيد بشرط.

__________________

(١) آية ٢.

(٢) في ش : فتكتب شهادتكم في أعناقكم.

(٣) من ش.

(٤) في ا : لجاج.

(٥) ليس في ش.

٢٠٧

وقد قال أصحابه : إن النّذر إنما يكون بما القصد منه القربة مما هو من جنس القربة. وهذا وإن كان من جنس القربة ، لكنه لم يقصد به القربة ، وإنما قصد منع نفسه عن فعل أو الإقدام على فعل.

قلنا : القرب الشرعية مقتضيات (١) وكلف وإن كانت قربات. وهذا تكلّف في التزام هذه القربة مشقة لجلب نفع أو دفع ضر ، فلم يخرج عن سنن التكليف ، ولا زال عن قصد التقرب.

المسألة الثالثة ـ فإن كان المقول منه وعدا فلا يخلو أن يكون منوطا بسبب (٢) كقوله: إن تزوجت أعنتك بدينار ، أو ابتعت حاجة كذا أعطيتك كذا ، فهذا لازم إجماعا من الفقهاء.

وإن كان وعدا مجردا فقيل : يلزم بمطلقه (٣) ، وتعلّقوا بسبب الآية ، فإنه روى أنهم كانوا يقولون : لو نعلم أىّ الأعمال أفضل أو أحبّ إلى الله لعملناه ، فأنزل الله عزّوجل هذه الآية ، وهو حديث لا بأس به.

وقد روى مجاهد أن عبد الله بن رواحة لما سمعها قال : لا أزال حبيسا في سبيل الله حتى أقتل.

والصحيح عندي أن الوعد يجب الوفاء به على كل حال إلا لعذر.

الآية الثانية ـ قوله تعالى (٤) : (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ).

فيها ثلاث مسائل :

المسألة الأولى ـ قوله : (مرصوص) ، أى محكم ثابت ، كأنه عقد بالرصاص ، وكثيرا ما تعقد به الأبنية القديمة ، عاينت منها بمحراب داود عليه السلام والمسجد الأقصى وغيرهما ،

__________________

(١) في القرطبي : مشقات.

(٢) في ش : بسببه.

(٣) في القرطبي : قلت : قال مالك : فأما العدة مثل أن يسأل الرجل الرجل أن يهب له الهبة فيقول له نعم ، ثم يبدو له ألا يفعل فما أرى ذلك يلزمه (١٨ ـ ٨٠).

(٤) آية ٤.

٢٠٨

وهو كذلك بالصاد المهملة. ويقال : حديث مرسوس ـ بالسين المهملة ، أى سيق سياقة محكمة مرتّبة.

المسألة الثانية ـ قوله تعالى : (يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا) ، وقد بينا في كتاب الأمد أن المحبة هي إرادة الثواب للعبد.

المسألة الثالثة ـ في إحكام الصفوف جمال للصلاة ، وحكاية للملائكة ، وهيئة (١) للقتال ، ومنفعة في أن تحمل الصفوف على العدو كذلك.

وأما الخروج من الصف فلا يكون إلا لحاجة تعرض للإنسان ، أو في رسالة يرسلها الإمام ، ومنفعة تظهر في المقام ، كفرصة تنتهز ولا خلاف فيها ، أو يتظاهر (٢) على التبرز للمبارزة.

وفي الخروج عن الصف للمبارزة خلاف على قولين :

أحدهما ـ أنه لا بأس بذلك إرهابا للعدو ، وطلبا للشهادة ، وتحريضا على القتال.

وقال أصحابنا : لا يبرز أحد طالبا لذلك ، لأنّ فيه رياء وخروجا إلى ما نهى الله عنه من تمنّى لقاء العدو ، وإنما تكون المبارزة إذا طلبها الكافر ، كما كانت في حروب النبي صلّى الله عليه وسلم يوم بدر ، وفي غزوة خيبر ، وعليه درج السلف.

__________________

(١) في ا : وهيبة.

(٢) في ش : يظاهر. (١٤ ـ أحكام ـ ٤).

٢٠٩

سورة الجمعة

[فيها آيتان]

الآية الأولى ـ قوله تعالى (١) : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ).

فيها ست عشرة مسألة :

المسألة الأولى ـ قوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) ظاهر في أن المخاطب (٢) بالجمعة المؤمنون دون الكفار. وقد بينا ذلك في كتب الأصول وغيرها وهاهنا ـ أنّ الكفار مخاطبون بفروع الشريعة ، ومن جملتها الجمعة. وإنما خصّ بهذه الآية المؤمنون دون الكفار ، تشريفا [لهم] (٣) بالجمعة ، وتخصيصا دون غيرهم ، وذلك لما ثبت عن النبي صلّى الله عليه وسلم أنه قال في الصحيح : نحن الآخرون السابقون يوم القيامة ، بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا ، وأوتيناه من بعدهم ، فهذا اليوم الذي اختلفوا فيه ، فهدانا الله له ، فغدا (٤) لليهود ، وللنصارى بعد غد.

المسألة الثانية ـ الجمعة خاصة بهذه الأمة ويوم الإسلام كما تقدم ، وأفضل الأيام. روى أنّ جبريل جاء إلى النبي صلّى الله عليه وسلم وبيده مرآة فيها نكتة سوداء ، فقال : يا جبريل ، ما هذه المرآة؟ قال : يوم الجمعة. قال : ما هذه النكتة السوداء التي فيها؟ قال : الساعة وفيها [تقوم] (٥).

كما روى في الصحيح أنّ النبىّ صلّى الله عليه وسلم قال : خير يوم طلعت عليه الشمس يوم الجمعة ، فيه خلق آدم ، وفيه أهبط [من الجنة ، وفيه تيب عليه] (٦) ، وفيه تقوم الساعة ، وفيه ساعة لا يوافقها عبد مسلم وهو قائم يصلّى يسأل الله شيئا إلا أعطاه إياه ، كما تقدم بيانه. والله أعلم.

__________________

(١) آية ٩.

(٢) في ش : الخطاب.

(٣) من ش.

(٤) في ش : فهدانا الله له ، اليوم لنا وغدا لليهود.

(٥) من ش.

(٦) ليس في ش.

٢١٠

المسألة الثالثة ـ الجمعة فرض ، لا خلاف في ذلك ، لأنها قرآنية سنية ، وهي ظهر اليوم ، أو بدل منه على ما بيناه في كتب الفقه ، ولا يلتفت إلى ما يحكى في ذلك ، لا سيما ما يؤثر عن سحنون أنه قال : إنّ بعض الناس قال : يجوز أن يتخلّف العروس عنها ، فإن العروس عندنا لا يجوز له أن يتخلف عن صلاة الجماعة لأجل العرس ، فكيف عن صلاة الجمعة.

ولها شروط وأركان في الوجوب والأداء ، فشروط الوجوب سبعة :

العقل ، والذكورية ، والحرية ، والبلوغ ، والقدرة ، والإقامة ، والقرية.

وأما شروط الأداء فهي :

الإسلام ، فلا تصحّ من كافر. والخطبة ، والإمام المقيم للصلاة ليس الأمير ، وقد قال مالك كلمة بديعة : إن لله فرائض في أرضه لا يضيعها [إن] (١) وليها وال أو لم يلها.

وقال علماؤنا : من شروط أدائها المسجد المسقّف. ولا أعلم وجهه.

ومنها العدد ، وليس له حدّ. وإنما حدّه جماعة تتقرّى بهم بقعة ، ومن أدائها الاغتسال ، وتحسين الشارة ، وتمام ذلك في كتب المسائل.

المسألة الرابعة ـ قوله : (إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ) :

النداء هو الأذان ، وقد بينا جملة منه في سورة المائدة (٢). وقد كان الأذان في عهد النبي صلّى الله عليه وسلم في الجمعة كسائر الأذان (٣) في الصلوات ، يؤذّن واحد إذا جلس صلّى الله عليه وسلم على المنبر ، وكذلك كان يفعل [أبو بكر] (٤) وعمر وعلىّ بالكوفة ، ثم زاد عثمان [على المنبر] (٥) أذانا ثالثا (٦) على الزّوراء ، حتى كثر الناس بالمدينة ، فإذا سمعوا أقبلوا ، حتى إذا جلس عثمان على المنبر أذّن مؤذن النبي صلّى الله عليه وسلم ، ثم يخطب عثمان.

وفي الحديث الصحيح أنّ الأذان كان على عهد النبي صلّى الله عليه وسلم واحدا ، فلما كان زمن عثمان زاد النداء الثالث على الزّوراء ، وسماه في الحديث ثالثا ، لأنه أضافه إلى الإقامة ،

__________________

(١) ليس في ش.

(٢) سورة المائدة ، آية ٥٨.

(٣) في م : كما في سائر الأذان.

(٤) من ش وحدها.

(٥) من م.

(٦) في ا : ثانيا. والمثبت من القرطبي إذ قال : ثم زاد عثمان على المنبر أذانا ثالثا على داره التي تسمى الزوراء. والزوراء : موضع بالسوق بالمدينة. وقيل : حجر كبير عند باب المسجد (١٨ ـ ١٠٠).

٢١١

فجعله ثالث الإقامة ، كما قال النبي صلّى الله عليه وسلم : بين كلّ أذانين صلاة لمن شاء ، يعنى الأذان والإقامة ، فتوهّم الناس أنّه أذان أصلى ، فجعلوا المؤذنين ثلاثة ، فكان وهما ، ثم جمعوهم في وقت واحد ، فكان وهما على وهم ، ورأيتهم بمدينة السلام يؤذنون بعد أذان المنار بين يدي الإمام تحت المنبر في جماعة ، كما كانوا يفعلون عندنا في الدول الماضية ، وكلّ ذلك محدث.

المسألة الخامسة ـ قوله : (لِلصَّلاةِ) ، يعنى بذلك الجمعة دون غيرها ، وقال بعض العلماء : كون الصلاة الجمعة هاهنا معلوم بالإجماع لا من نفس اللفظ. وعندي أنه معلوم من نفس اللفظ بنكتة ، وهي قوله : (مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ) ، وذلك يفيده ، لأنّ النداء الذي يختصّ بذلك اليوم هو نداء تلك الصلاة ، فأما غيرها فهو عامّ في سائر الأيام ، ولو لم يكن المراد به نداء الجمعة لما كان لتخصيصه بها وإضافته إليها معنى ولا فائدة.

المسألة السادسة ـ قال بعض علمائنا : كان اسم الجمعة في العرب الأول عروبة ، فسماها الجمعة كعب بن لوى ، لاجتماع الناس فيها إلى كعب ، قال الشاعر :

لا يبعد الله أقواما هم خلطوا

يوم العروبة أصراما بأصرام

المسألة السابعة ـ قوله : (فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللهِ).

اختلف العلماء في معناه على ثلاثة أقوال :

الأول ـ أن المراد به النية ، قاله الحسن.

الثاني ـ أنه العمل ، كقوله تعالى (١) : (وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَسَعى لَها سَعْيَها وَهُوَ مُؤْمِنٌ) ، وقوله تعالى (٢) : (إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى). وهو قول الجمهور.

الثالث ـ أن المراد به السعى على الأقدام.

ويحتمل ظاهره رابعا : وهو الجري والاشتداد ، وهو الذي أنكره الصحابة الأعلمون ، والفقهاء الأقدمون ، وقرأها عمر : «فامضوا إلى ذكر الله» فرارا عن ظنّ الجري والاشتداد الذي يدلّ عليه الظاهر.

وقرأ ابن مسعود ذلك. وقال : لو قرأت فاسعوا لسعيت حتى سقط ردائي.

وقرأ ابن شهاب : فامضوا إلى ذكر الله سالكا تلك السبل ، وهو كلّه تفسير منهم ، لا قراءة

__________________

(١) سورة الإسراء ، آية ١٩.

(٢) سورة الليل ، آية ٤.

٢١٢

قرآن منزل ، وجائز قراءة القرآن بالتفسير في معرض التفسير.

فأما من قال : المراد بذلك النية ، فهو أول السعى ومقصوده الأكبر فلا خلاف فيه.

وأما من قال : إنه السّعى على الأقدام فهو أفضل ، ولكنه ليس بشرط. في الصحيح أن أبا عيسى بن جبير ـ واسمه عبد الرحمن ، وكانا من كبار الصحابة ـ يمشى إلى الجمعة راجلا. وقال : سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول : من اغبرّت قدماه في سبيل الله حرّمهما الله على النار ، فذلك فضل وأجر لا شرط.

وأما من قال : إنه العمل فأعمال الجمعة هي : الاغتسال ، والتمشط ، والادهان ، والتطيب ، والتزين باللباس ، وفي ذلك كله أحاديث بيانها في كتب الفقه ، وظاهر الآية وجوب الجميع ، لكن أدلة الاستحباب ظهرت على أدلة الوجوب ، فقضى بها حسبما بيناه في شرح الحديث.

المسألة الثامنة ـ قوله تعالى : (إِلى ذِكْرِ اللهِ).

اختلف الناس فيه ، فمنهم من قال : إنه الخطبة ، قاله سعيد بن جبير.

ومنهم من قال : إنه الصلاة.

والصحيح أنه [واجب] (١) الجميع أوّله الخطبة ، فإنها تكون عقب النداء ، وهذا يدل على وجوب الخطبة ، وبه قال علماؤنا ، إلا عبد الملك بن الماجشون فإنه رآها سنّة. والدليل على وجوبها أنها تحرّم البيع ، ولولا وجوبها ما حرّمته ، لأن المستحب لا يحرم المباح. وإذا قلنا : إنّ المراد بالذكر الصلاة فالخطبة من الصلاة ، والعبد يكون ذاكرا لله [بفعله] (٢) كما يكون مسبّحا لله بفعله.

المسألة التاسعة ـ قوله تعالى : (وَذَرُوا الْبَيْعَ). وهذا مجمع على العمل به ، ولا خلاف في تحريم البيع ، واختلف العلماء إذا وقع ، ففي المدونة يفسخ.

وقال المغيرة : يفسخ ما لم يفت. وقاله ابن القاسم ـ في الواضحة ، وأشهب ، وقال في المجموعة : البيع ماض.

وقال ابن الماجشون : يفسخ بيع من جرت عادته به.

__________________

(١) من ش.

(٢) ما بين القوسين ساقط في ش.

٢١٣

وقال الشافعى : لا يفسخ بكل حال. وأبو حنيفة يقول بالفسخ في تفصيل قريب من المالكية.

وقد بيّنا توجيه ذلك في الفقه ، وحققنا أنّ الصحيح فسخه بكل حال ، لقوله عليه السلام في الصحيح (١) : من عمل عملا ليس عليه أمرنا (٢) فهو ردّ.

المسألة العاشرة ـ فإن كان نكاحا فقال ابن القاسم في العتبية (٣) : لا يفسخ. قال علماؤنا : لأنه نادر ، ويقرب هذا من قول ابن الماجشون : يفسخ بيع من جرت عادته بالبيع. وقالوا : إنّ الشركة والهبة والصدقة نادر لا يفسخ.

والصحيح فسخ الجميع ، لأن البيع إنما منع للاشتغال به ، فكلّ أمر يشغل عن الجمعة من العقود كلّها فهو حرام شرعا مفسوخ ردعا.

المسألة الحادية عشرة ـ لا تفتقر إقامة الجمعة إلى السلطان ، خلافا لأبى حنيفة ، إنما تفتقر إلى الإمام ، وعليه تدلّ (٤) الآية لا على السلطان. وقد بينّا ذلك في مسائل الخلاف.

المسألة الثانية عشرة ـ قوله تعالى : (إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ) يختصّ بوجوب الجمعة على القريب الذي يسمع النداء ، فأما البعيد الدار الذي لا يسمع النداء فلا يدخل تحت الخطاب.

واختلف الناس فيمن يأتى الجمعة من الداني والقاصي اختلافا متباينا بينّاه في المسائل وغيرها من الخلافيات.

وجملة القول فيه أنّ المحققين من علمائنا قالوا : إنّ الجمعة تلزم من كان على ثلاثة أميال من المدينة ، لوجهين :

أحدهما ـ أنّ أهل العوالي (٥) كانوا يأتونها على عهد النبي صلّى الله عليه وسلم ، وحكمته أنّ الصوت إذا كان رفيعا والناس في هدوّ وسكون فأقصى سماع الصوت ثلاثة أميال ، وهذا نظر وملاحظة إلى قوله تعالى : (نُودِيَ) ، وهو الصحيح.

فإن قيل : فإنّ العبد والمرأة يسمعان النداء ، وقد قلتم لا تجب الجمعة عليهما.

__________________

(١) صحيح مسلم : ١٣٤٤.

(٢) في ش : عملنا.

(٣) في م : التنبيه.

(٤) في ا : تلك.

(٥) العوالي : أماكن بأعلى أراضى المدينة وأدناها من المدينة على أربعة أميال وأبعدها من نجد ثمانية.

٢١٤

قلنا : أمّا المرأة فلا يلزمها خطاب الجمعة ، لأنها ليست من أهل الجماعة ، ولهذا لا تدخل في خطابها.

وأما العبد ففي صحيح المذهب لا تجب عليه ، لأنّ نقص الرق أثّر بصفته حتى لم تقبل شهادته ، ولا يلزم عليه الفاسق ، لأنّ نقصه في فعله ، وهذا نقصه في ذاته ، فأشبه نقص المرأة.

ومن النكت البديعة في سقوط الجمعة عن العبد قوله تعالى : (وَذَرُوا الْبَيْعَ) فإنما خاطب الله بالجمعة من يبيع ، والعبد والصّبي لا يبيعان ، فإنّ العبد تحت حجر السيد ، والصبى تحت حجر الصغر.

المسألة الثالثة عشرة ـ قوله تعالى : (إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللهِ) دليل على أنّ الجمعة لا تجب إلا بالنداء ، والنداء لا يكون إلّا بعد دخول الوقت ، وقد روى عن أبى بكر الصديق وأحمد بن حنبل أنها تصلّى قبل الزوال ، وتعلّق في ذلك بحديث سلمة بن الأكوع : كنّا نصلّى مع النبي صلّى الله عليه وسلم ثم ننصرف ، وليس للحيطان ظلّ. وبحديث ابن عمر : ما كنّا نقيل ولا نتغدّى إلا بعد الجمعة. وقد كان عمر ابن الخطاب لا يخرج إلى الجمعة حتى يغشى ظلّ الجدار الغربي طنفسة عقيل بن أبى طالب التي كانت تطرح له عند الجدار ، وذلك بعد الزّوال. وحديث سلمة محمول على التبكير بالجمعة. وحديث ابن عمر دليل على أنهم كانوا يبكّرون إلى الجمعة تبكيرا كثيرا عند الغداة(١) وقبلها (٢) فلا يتناولون ذلك إلّا بعد انقضاء الصلاة.

وقد رأى مالك أنّ التبكير إلى الجمعة إنما يكون وقت الزوال بيسير. وتأوّل قول النبي صلّى الله عليه وسلم (٣) : من راح في الساعة الأولى فكأنما قرّب بدنة ، ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرّب بقرة ، ومن راح في الساعة الثالثة فكأنما قرّب كبشا أقرن ... الحديث ـ أنه كلّه في ساعة واحدة ، وحمله سائر العلماء على ساعات النهار الزمانية الاثنتى عشرة ساعة المستوية أو المختلفة بحسب (٤) زيادات النهار ونقصانه. وهو أصحّ ، لحديث ابن عمر: ما كانوا يقيلون ولا يتغدون إلّا بعد الجمعة ـ يريد لكثرة البكور إليها.

__________________

(١) في ش : الغداء.

(٢) في ش : وقبله.

(٣) الموطأ : ١٠١.

(٤) في م : بحساب.

٢١٥

المسألة الرابعة عشرة ـ فرض الله سبحانه السعى إلى الجمعة على كل مسلم ردّا على من يقول : إنها فرض على الكفاية ، لقول الله سبحانه : (إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ) ، وثبت عن النبىّ صلّى الله عليه وسلم أنه قال : الرواح إلى الجمعة واجب على كل مسلم. وفي الحديث : من ترك الجمعة طبع الله على قلبه بالنفاق.

المسألة الخامسة عشرة ـ أوجب الله السعى إلى الجمعة مطلقا من غير شرط ، وثبت شرط الوضوء بالقرآن والسنة في جميع الصلوات ، لقوله تعالى (١) : (إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ ...) الآية ، وقال النبي صلّى الله عليه وسلم : لا يقبل الله صلاة بغير طهور.

وأغربت طائفة بقوله عليه السلام : غسل الجمعة واجب على كل محتلم.

فقالت : إنّ غسل الجمعة فرض ، وهذا باطل ، لما روى النسائي وأبو داود أن النبىّ صلّى الله عليه وسلم قال : من توضّأ يوم الجمعة فبها ونعمت ، ومن اغتسل فالغسل أفضل. وهذا نصّ.

وفي صحيح مسلم ، عن أبى هريرة ، قال : قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم : من توضّأ يوم الجمعة فأحسن الوضوء ، ثم راح إلى المسجد (٢) فأنصت ولم يلغ ـ غفر له. وهذا نصّ آخر.

وفي الموطأ أنّ رجلا دخل يوم الجمعة المسجد و [الإمام] (٣) عمر يخطب ... الحديث إلى أن قال : ما زدت على أن توضّأت. فقال عمر : والوضوء أيضا! وقد علمت أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم كان يأمر بالغسل. فأمر عمر بالغسل ، ولم يأمره بالرجوع إليه ، فدلّ على أنه محمول على الاستحباب ، فلم يمكن ، وقد تلبّس بالفرض ـ وهو الحضور والإنصات للخطبة ـ أن يرجع عنه إلى السنّة ، وذلك بمحضر فحول الصحابة وكبار المهاجرين حوالى عمر ، وفي مسجد النبىّ صلّى الله عليه وسلم.

__________________

(١) سورة المائدة ، آية ٧.

(٢) في ش : الجمعة.

(٣) ليس في ش. وفي الموطأ (١٠٢) وعمر بن الخطاب يخطب.

٢١٦

المسألة السادسة عشرة ـ لا يسقط الجمعة كونها في يوم عيد ، خلافا لأحمد بن حنبل حين قال : إذا اجتمع عيد وجمعة سقط فرض الجمعة ، لتقدم العيد عليها ، واشتغال الناس به عنها.

وتعلق في ذلك بما روى أنّ عثمان أذن في يوم العيد لأهل العوالي أن يتخلّفوا عن الجمعة ، وقول الواحد من الصحابة ليس بحجة إذا خولف فيه ولم يجمع (١) معه عليه. والأمر بالسعي متوجّه يوم العيد كتوجّهه في سائر الأيام.

الآية الثانية ـ قوله تعالى (٢) : (وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها وَتَرَكُوكَ قائِماً قُلْ ما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ مِنَ اللهْوِ وَمِنَ التِّجارَةِ وَاللهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ).

فيها ثلاث مسائل :

المسألة الأولى ـ في سبب نزولها :

وفي ذلك ثلاث روايات :

الأولى ـ ثبت في الصحيح : كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم (٣) في صلاة الجمعة ، فدخلت عير (٤) إلى المدينة ، فالتفتوا ، فخرجوا إليها حتى لم يبق مع النبي صلّى الله عليه وسلم غير اثنى عشر رجلا ، فنزلت : (وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً ...) الآية كلها.

الثانية ـ روى محمد بن على : كان الناس قريبا من السوق ، فرأوا التجارة ، فخرجوا إليها ، وتركوا رسول الله صلّى الله عليه وسلم يخطب قائما ، وكانت الأنصار إذا كانت لهم عرس يمرّون بالكير يضربون به ، فخرج إليه ناس ، فغضب الله لرسوله.

الثالث ـ من حديث مجاهد : نزلت مع دحية الكلبي تجارة بأحجار الزيت (٥) فضربوا طبلهم ، يعرّفون بإقبالهم ، فخرج إليهم الناس بمثله فعاتبهم الله ونزلت الآية ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم : لو تفرّق جمعهم (٦) لسال الوادي عليهم نارا.

__________________

(١) في ش : يجتمع.

(٢) آية ١١.

(٣) في القرطبي : كان يخطب قائما يوم الجمعة.

(٤) العير ـ بكسر العين : الإبل تحمل الميرة ، ثم غلب على كل قافلة.

(٥) أحجار الزيت : مكان في سوق المدينة.

(٦) في ش : جميعهم.

٢١٧

المسألة الثانية ـ في هذه الآية دليل على أنّ الإمام إنما يخطب قائما ، كذلك كان النبي صلّى الله عليه وسلم يفعل وأبو بكر وعمر. وخطب عثمان قائما حتى رقّ فخطب قاعدا.

ويروى أن أوّل من خطب قاعدا معاوية ، ودخل كعب بن عجرة المسجد وعبد الرحمن ابن الحكم يخطب قاعدا ، فقال : انظروا إلى هذا الخبيث يخطب قاعدا والله تعالى يقول : (وَتَرَكُوكَ قائِماً) إشارة إلى أن فعل النبي صلّى الله عليه وسلم في القربات على الوجوب ، ولكن في بيان المجمل الواجب لا خلاف فيه ، وفي الإطلاق مختلف فيه.

وقد قيل : إن معاوية إنما خطب قاعدا لسنّه ، وقد كان النبي صلّى الله عليه وسلم يخطب قائما ثم يقعد ثم يقوم ولا يتكلم في قعدته ـ رواه جابر بن سمرة ، ورواه ابن عمر في كتاب البخاري وغيره.

المسألة الثالثة ـ قال كثير من علمائنا : إن هذا القول يوجب الخطبة ، لأنّ الله تعالى ذمّهم على تركها ، والواجب هو الذي يذمّ تاركه شرعا حسبما بيناه في أصول الفقه. وقال ابن الماجشون : إنها سنّة. والصحيح ما قدّمناه. والله أعلم.

٢١٨

سورة المنافقون

[فيها ثلاث آيات]

الآية الأولى ـ قوله تعالى (١) : (إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ).

فيها ثلاث مسائل :

المسألة الأولى ـ الشهادة تكون بالقلب ، وتكون باللسان ، وتكون بالجوارح ، فأمّا شهادة القلب فهو الاعتقاد [أو العلم] (٢) على رأى قوم ، والعلم على رأى آخرين. والصحيح عندي أنه الاعتقاد [والعلم] (٣) كما بيناه في أصول الفقه والدين.

وأما شهادة اللسان فبالكلام ، وهو الركن الظاهر من أركانها ، وعليه تنبنى الأحكام ، وتترتّب الأعذار (٤) والاعتصام. قال النبىّ صلّى الله عليه وسلم : أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا : لا إله إلا الله ، فإذا قالوها عصموا منى دماءهم وأموالهم إلا بحقّها ، وحسابهم على الله.

المسألة الثانية ـ قوله تعالى : (وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ).

إنّ البارئ سبحانه وتعالى علم وشهد ، فهذا علمه. وشهادته قوله تعالى (٥) : (شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) وأمثاله.

وقد يقال : شهادة الله على ما كان من الشهادات في ذات الله ، يقال : (وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ) في قولهم بألسنتهم ما لا يعتقدونه (٦) في قلوبهم ، فخدعوا وغرّوا ، والله خادعهم وماكر بهم ، وهو خير الماكرين.

__________________

(١) آية ١.

(٢) ليس في ش.

(٣) من ش.

(٤) في ش : الأهدار. وفي م : الأدهان.

(٥) سورة آل عمران ، آية ١٨.

(٦) في ش : ما ليس يعتقدونه.

٢١٩

المسألة الثالثة ـ قال بعض الشافعية : إنّ قول الشافعى إنّ الرجل إذا قال في يمينه ـ أشهد بالله يكون يمينا بنية اليمين.

ورأى أبو حنيفة ومالك أنه دون النية [يمين] (١) ، فليس الأمر كما زعم الشفعوى إنها تكون يمينا بالنية ، ولا أرى المسألة إلا هكذا في أصلها ، وإنما غلط هذا العالم أو غلط في النقل.

وقد قال مالك : إذا قال [الرجل] (٢) أشهد : إنه يمين إذا أراد بالله.

الآية الثانية ـ قوله تعالى (٣) : (اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ).

فيها مسألتان :

المسألة الأولى ـ قوله تعالى : (اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً) ليس يرجع إلى قوله : (نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ) ، وإنما يرجع إلى سبب الآية الذي نزلت عليه ، وهو ما روى في الصحيح بألفاظ مختلفة ، منها عن أبى إسحاق ، عن زيد بن أرقم ، قال : كنت في غزاة فسمعت عبد الله بن أبىّ يقول : لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضّوا من حوله ، ولئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعزّ منها الأذلّ ، فذكرت ذلك لعمى ، فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فدعاني فجئته ، فأرسل رسول الله صلّى الله عليه وسلم إلى عبد الله بن أبىّ وأصحابه. فحلفوا ما قالوا ، فكذبنى رسول الله صلّى الله عليه وسلم وصدّقه ، فأصابنى همّ لم يصبني مثله فجلست في البيت ، فقال عمى : ما أردت إلا [إلى] (٤) أن كذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ومقتك ، فأنزل الله تعالى : (إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ) ، فبعث إلىّ النبىّ صلى الله عليه وسلم فقال : إن الله قد صدقك. فتبين بهذا أن قوله تعالى : (اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً) إشارة إلى أن ابن أبىّ حلف أنه ما قال. وقد قال. وليس ذلك يراجع إلى قوله تعالى : (نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ) ، فاعلموه.

__________________

(١) ساقط من م ، ش.

(٢) من ش.

(٣) آية ٢.

٢٢٠