أحكام القرآن - ج ٤

أبي بكر محمّد بن عبدالله [ ابن العربي ]

أحكام القرآن - ج ٤

المؤلف:

أبي بكر محمّد بن عبدالله [ ابن العربي ]


المحقق: علي محمّد البجاوي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الجيل
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٦٧

أنبأنا محمد بن إسماعيل هذا أولى ، فإنه لا يذكر لموسى بن عقبة سماع من سهيل.

قال القاضي ابن العربي : أراد البخاري أنّ حديث عون بن عبد الله من قوله حمله سهيل على هذا الحديث حتى تغيّر حفظه بأخرة ، فهذه معان لا يحسنها إلا العلماء بالحديث ، فأما أهل الفقه فهم عنها بمعزل.

والحديث الصحيح في هذا المعنى ما روى ابن عمر قال : كنا نعدّ لرسول الله صلّى الله عليه وسلم في المجلس الواحد قبل أن يقوم مائة مرة : ربّ اغفر لي وتب علىّ.

وأما قوله حين يقوم ـ يعنى من الليل ـ ففي ذلك روايات كثيرة : في الصحيح أنه صلّى الله عليه وسلم قال : من تعارّ (١) من الليل فقال : لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد ، وهو على كل شيء قدير ، سبحان الله وبحمده ، والحمد لله ، ولا إله إلا الله ، والله أكبر ، ولا حول ولا قوة إلا بالله [العلىّ العظيم] (٢). وفي بعض روايات سقوط التهليل.

الثاني ـ وروى عنه أنه قرأ العشر الخواتم من سورة آل عمران.

وروى عنه أنه كان يقول : اللهم فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة ، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون ، اهدني لما اختلفوا فيه من الحق ، فإنّك تهدى من تشاء إلى صراط مستقيم.

وأما نوم القائلة فليس فيه أثر ، وهو يلحق بنوم الليل ، ويدخل فيه الصبح لنوم الليل ، والظهر لنوم القائلة ، وهو أصل التسبيح.

وأما من قال : إنه تسبيح الصلاة فهو أفضله ، والآثار في ذلك كثيرة ، أعظمها ما ثبت عن على بن أبى طالب عن النبي صلّى الله عليه وسلم أنه كان إذا قام للصلاة المكتوبة رفع يديه حذو منكبيه ، ويصنع ذلك إذا قضى قراءته وأراد أن يركع ، ويضعها (٣) إذا رفع رأسه من الركوع ، ولا يرفع يديه في شيء من صلاته وهو قاعد ، وإذا قام من السجدتين رفع يديه كذلك وكبّر ، ويقول حين يفتتح الصلاة بعد التكبير : وجّهت وجهى للذي فطر السموات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين ، إنّ صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين.

__________________

(١) تعار : إذا استيقظ ولا يكون إلا يقظة مع كلام. وقيل : هو تمطى وأنّ (النهاية).

(٢) ليس في ش.

(٣) في ش : ويصنعه.

١٤١

لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أوّل المسلمين. اللهم أنت الملك لا إله إلا أنت سبحانك أنت ربي ، وأنا عبدك ، ظلمت نفسي ، واعترفت بذنبي ، فاغفر لي ذنوبي جميعا ، إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت ، واهدني لأحسن الأخلاق ، لا يهدى لأحسنها إلا أنت ، وأصرف عنى سيّئها ، لا يصرف عنى سيئها إلا أنت ، لبيك وسعديك ، [والخير كله في يديك والشرّ ليس إليك] (١) ، وإنا بك وإليك لا منجى منك ، ولا ملجأ إلا إليك ، أستغفرك وأتوب إليك.

وفي الصحيح ، عن عبد الله بن عمر ، عن أبى بكر الصديق أنه قال لرسول الله صلّى الله عليه وسلم : يا رسول الله ، علّمنى دعاء أدعو به في صلاتي. فقال : قل ربّ إنّى ظلمت نفسي ظلما كثيرا ، وإنى أعلم أنه لا يغفر الذنوب إلا أنت ، فاغفر لي مغفرة من عندك ، وارحمني ، إنك أنت الغفور الرحيم.

المسألة الثالثة ـ في الصحيح ، عن أم سلمة أنها قالت : شكوت إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم أنى أشتكى ، فقال : طوفي من وراء الناس ، وأنت راكبة. قالت : فطفت ورسول الله صلّى الله عليه وسلم حينئذ يصلّى إلى جنب البيت يقرأ بالطور وكتاب مسطور.

وفيه عن جبير بن مطعم قال : سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقرأ بالطور. في المغرب.

قال القاضي : ورد جبير بن مطعم على النبي صلّى الله عليه وسلم في أمر أسارى بدر وهو لم يسلم بعد ، فحضر صلاة النبي صلّى الله عليه وسلم. قال : فسمعته يقرأ في المغرب بالطّور ، فلما بلغ إلى قوله (٢) : (أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ) كاد ينخلع فؤادي ، ثم فتح الله علىّ بعد بالإسلام.

__________________

(١) من ش.

(٢) آية ٣٥.

١٤٢

سورة النجم

قال علماؤنا رضى الله عنهم : لم يختلف قول مالك إنّ سجدة النجم (١) ليست من عزائم القرآن ، ورآها ابن وهب من عزائمه ، وكان مالك يسجدها في خاصّة نفسه.

وروى مالك أن عمر بن الخطاب قرأ بالنجم إذا هوى ، فسجد فيها ، ثم قام فقرأ سورة أخرى.

وروى غيره أنّ السورة التي وصلها بها إذا زلزلت الأرض زلزالها.

وفي الصحيح عن عبد الله بن مسعود أنّ النبي صلّى الله عليه وسلم قرأ النجم ، فسجد فيها ، وسجد من كان معه إلا شيخا كبيرا أخذ كفّا من حصى أو من تراب ، فرفعه إلى جبهته ، وقال : يكفيني هذا.

قال ابن مسعود : ولقد رأيته بعد قتل كافرا.

وروى ابن عباس أنّ النبىّ صلّى الله عليه وسلم سجد فيها ـ يعنى في النجم ، وسجد فيها المسلمون والجنّ والإنس.

والشيخ الذي لم يسجد مع النبي صلّى الله عليه وسلم هو أمية بن خلف ، قتل يوم بدر كافرا.

وقد روى أن عبد الله بن مسعود كان إذا قرأها على الناس سجد ، فإذا قرأها وهو في الصلاة ركع وسجد.

وكان ابن عمر إذا قرأ «والنجم» وهو يريد أن تكون بعدها قراءة قرأها وسجد. وإذا انتهى إليها ركع وسجد ، ولم يرها [على] (٢) من عزائم السجود.

وقال أبو حنيفة والشافعى : هي من عزائم السجود ، وهو الصحيح.

__________________

(١) آخر آية في السورة : فاسجدوا لله واعبدوا.

(٢) ليس في ش.

١٤٣

سورة الرحمن

[فيها آية واحدة]

قوله تعالى (١) : (هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ).

وقد ثبت في الحديث الصحيح أنّ جبريل سأل النبىّ صلّى الله عليه وسلم عن الإحسان ، فقال : أن تعبد الله كأنك تراه ، فإن لم تكن تراه فإنه يراك.

فهذا إحسان العبد.

وأما إحسان الله فهو دخول الحسنى وهي الجنة ، وللحسنى درجات بينّاها في كتب الأصول. وهذا من أجلّها قدرا ، وأكرمها أمرا ، وأحسنها ثوابا ، فقد قال الله تعالى (٢) : (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ) ، فهذا تفسيره.

__________________

(١) آية ٦٠.

(٢) سورة يونس ، آية ٢٦.

١٤٤

سورة الواقعة

[فيها آية واحدة]

قوله تعالى (١) : (لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ).

فيها خمس مسائل :

المسألة الأولى ـ [هل] (٢) هذه الآية مبيّنة حال القرآن في كتب الله أم هي مبيّنة حاله في كتبنا؟

فقيل : هو اللوح المحفوظ. وقيل : هو ما بأيدى الملائكة ، فهذا كتاب الله. وقيل : هي مصاحفنا.

المسألة الثانية ـ قوله : (لا يَمَسُّهُ) فيه قولان :

أحدهما ـ أنه المسّ بالجارحة حقيقة.

وقيل : معناه لا يجد طعم نفعه إلا المطهّرون بالقرآن ؛ قاله الفراء.

المسألة الثالثة ـ قوله : (إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ) فيه قولان :

أحدهما ـ أنهم الملائكة طهّروا من الشّرك والذنوب.

الثاني ـ أنه أراد المطهّرين من الحدث ، وهم المكلّفون من الآدميين.

المسألة الرابعة ـ هل قوله : (لا يَمَسُّهُ) نهى أو نفى؟

فقيل : لفظه لفظ الخبر ، ومعناه النهى.

وقيل : هو نفى (٣). وكان ابن مسعود يقرؤها : ما يمسه إلا المطهّرون ، لتحقيق النفي.

المسألة الخامسة ـ في تنقيح الأقوال :

أما قول من قال : إن المراد بالكتاب اللّوح المحفوظ فهو باطل ؛ لأنّ الملائكة لا تناله في وقت ، ولا تصل إليه بحال ؛ فلو كان المراد به ذلك لما كان للاستثناء فيه محلّ.

__________________

(١) آية ٧٩.

(٢) من ش.

(٣) في ش : نهى.

(١٠ ـ أحكام ـ ٤).

١٤٥

وأما من قال : إنه الذي بأيدى الملائكة من الصّحف فإنه قول محتمل ؛ وهو الذي اختاره مالك ، قال : أحسن ما سمعت في قوله : (لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ) أنها بمنزلة الآية التي في «عبس وتولّى» (١) : (فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ. فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ. مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ بِأَيْدِي سَفَرَةٍ. كِرامٍ بَرَرَةٍ) يريد أنّ المطهّرين هم الملائكة الذين وصفوا بالطهارة في سورة «عبس».

وأما من قال : إنه أمر بالوضوء [بالقرآن] (٢) إذا أراد أحد أن يمسّ صحفه (٣) ، فإنهم اختلفوا ؛ فمنهم من قال : إنّ لفظه لفظ الخبر ومعناه الأمر ، وقد بينا فساد ذلك في كتب الأصول ، وفيما تقدم من كلامنا في هذا الكتاب ، وحقّقنا أنه خبر عن الشرع ، أى لا يمسّه إلا المطهرون شرعا ، فإن وجد بخلاف ذلك فهو غير الشرع.

وأما من قال : إنّ معناه لا يجد طعمه إلا المطهرون من الذنوب التائبون العابدون فهو صحيح ، اختاره البخاري ؛ قال النبي صلّى الله عليه وسلم : ذاق طعم الإسلام (٤) من رضى بالله ربّا ، وبالإسلام دينا ، وبمحمد صلّى الله عليه وسلم نبيّا ؛ لكنه عدول عن الظاهر لغير ضرورة عقل ولا دليل سمع.

وقد روى مالك وغيره أنّ في كتاب عمرو بن حزم الذي كتبه له رسول الله صلى الله عليه وسلم ونسخته : من محمد النبي إلى شرحبيل بن (٥) عبد كلال ، والحارث بن عبد كلال ، ونعيم بن عبد كلال ، قيل ذي رعين ومعافر وهمدان : أما بعد ـ وكان في كتابه ألّا يمسّ القرآن إلا طاهر.

وقد روى أنّ عمر بن الخطاب دخل على أخته وزوجها سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل ، وهما يقرآن طه ، فقال : ما هذه الهينمة (٦)! وذكر الحديث إلى أن قال : هاتوا الصحيفة. فقالت له أخته : إنه لا يمسّه (٧) إلّا المطهّرون. فقام واغتسل وأسلم. وقد قال أبو بكر الصديق يرثى النبي صلّى الله عليه وسلم :

__________________

(١) آية ١٢ ، ١٣ ، ١٤ ، ١٥ ، ١٦ من تلك السورة.

(٢) ليس في ش.

(٣) في ش : يمس المصحف.

(٤) في ش : الإيمان.

(٥) في ا : أبى عبد كلال.

(٦) الهينمة : الكلام الخفى لا يفهم (النهاية).

(٧) في ش : لا يمسها.

١٤٦

فقدنا الوحى إذ ولّيت عنا

وودّعنا من الله الكلام

سوى ما قد تركت لنا قديما

توارثه القراطيس الكرام

وأراد صحف القرآن التي كانت بأيدى المسلمين التي كان النبىّ صلّى الله عليه وسلم يمليها على كتبته.

وقد قال أهل العراق منهم إبراهيم النخعي : ولا يمسّ القرآن إلا طاهر.

واختلفت الرواية عن أبى حنيفة ، فروى عنه أنه يمسّه المحدث ، وروى عنه أنه يمسّ ظاهره وحواشيه وما لا مكتوب فيه (١) وأما الكتاب فلا يمسّه إلا المطهرون (٢). وهذا إن سلّم (٣) مما يقوّى الحجة عليه ؛ لأنّ حريم الممنوع ممنوع ، وفيما كتبه النبىّ صلّى الله عليه وسلم لعمرو بن حزم أقوى دليل عليه. والله أعلم.

__________________

(١) في ش : وهما مالا مكتوب بهما.

(٢) في ش : طاهر.

(٣) في ا ، والقرطبي : سلمه.

١٤٧

سورة الحديد

[فيها أربع آيات]

الآية الأولى ـ قوله تعالى (١) : (هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ).

وقد بينّا في كتاب الأمد تفسير هذه الأسماء ، وحقّقنا أن الأول هو الآخر بعينه [يعنى] (٢) لأنه واحد ، وأن الظاهر هو الباطن ، وأن الأول هو الباطن ، وأن الآخر هو الظاهر ، إذ هو تعالى واحد تختلف أوصافه ، وتتعدد أسماؤه ، وهو تعالى واحد. قال ابن القاسم : قال مالك : لا يحدّ ولا يشه. قال ابن وهب : سمعت مالكا يقول : من قرأ «يد الله» وأشار إلى يده ، وقرأ عين الله ، وأشار إلى ذلك العضو منه يقطع تغليظا عليه في تقديس الله تعالى وتنزيهه عما أشبه (٣) إليه ، وشبّهه بنفسه ، فتعدم [نفسه و] (٤) جارحته التي شبّهها بالله ، وهذه غاية في التوحيد لم يسبق إليها مالكا موحّد.

فإن قيل : فقد روى البخاري ، عن نافع ، عن عبد الله ، قال : ذكر الدجّال عند رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقال : إنه لا يخفى عليكم أنّ الله ليس بأعور. وأشار بيده إلى عينه ، وأن المسيح (٥) الدجال أعور العين اليمنى كأنّ عينه عنبة طافية.

فالجواب من وجهين :

أحدهما ـ أن هذا خبر واحد ، لا يوجب علما.

الثاني ـ أنّ هذه الإشارة في النفي لا في الإثبات ، وفي التقديس لا في التشبيه. وهذا نفيس فاعرفه.

الآية الثانية ـ قوله تعالى (٦) : (وَما لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ أُولئِكَ أَعْظَمُ

__________________

(١) آية ٣.

(٢) ليس في ش.

(٣) في ا : تشبه.

(٤) ليس في ش.

(٥) سمى بذلك لشؤمه (القاموس).

(٦) آية ١٠.

١٤٨

دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللهُ الْحُسْنى وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ).

فيها ثلاث مسائل :

المسألة الأولى ـ نفى الله سبحانه المساواة بين من أنفق من قبل فتح مكة وبين من أنفق بعد ذلك ، لأنّ حاجة الناس كانت قبل الفتح أكثر ، لضعف الإسلام ، وفعل ذلك كان على المنافقين أشقّ ، والأجر على قدر النصب (١). والله أعلم.

المسألة الثانية ـ روى أشهب عن مالك قال : ينبغي أن يقدم أهل الفضل والعزم. وقد قال الله تعالى : (لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللهُ الْحُسْنى) ، وقد بينا نحن فيما تقدّم ترتيب أحوال الصحابة رضى الله عنهم ومنازلهم في التقدم والتأخر ومراتب التابعين.

المسألة الثالثة ـ إذا ثبت انتفاء المساواة بين الخلق وقع التفضيل بين الناس بالحكمة والحكم ؛ فإن التقدّم والتأخر يكون [في الدين ويكون] (٢) في أحكام الدنيا ، فأما في أحكام الدين ففي الصحيح عن عائشة قالت رضى الله عنها : أمرنا رسول الله صلّى الله عليه وسلم أن ننزل الناس منازلهم ، وأعظم المنازل مرتبة الصلاة. وقد قال النبي صلّى الله عليه وسلم [في مرضه] (٣) : مروا أبا بكر فليصلّ بالناس. فقيل له : إن أبا بكر رجل أسيف (٤) إذا قام مقامك لم يسمع النّاس من البكاء ، فمر عمر فليصلّ بالناس. [فقال : مروا أبا بكر فليصلّ بالناس] (٥) .. الحديث.

فقدّم المقدم ، وراعي الأفضل.

وفي حديث أبى مسعود الأنصارى من رواية الترمذي وغيره : يؤمّ القوم (٦) أقرؤهم لكتاب الله ؛ فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة ، فإن كانوا في السنة سواء فأقدمهم هجرة ، فإن كانوا في الهجرة سواء فأكبرهم سنّا ، ولا يؤمّ الرجل في سلطانه ، ولا يجلس على تكرمته إلا بإذنه.

__________________

(١) النصب : المشقة والتعب.

(٢) ليس في ش.

(٣) أسيف : سريع البكاء والحزن ، أو رقيق (النهاية).

(٤) في ش : الناس.

١٤٩

وفي الصحيح أنّ النبي صلّى الله عليه وسلم قال لمالك بن الحويرث [وأخيه] (١) فأذّنا وأقيما وليؤمّكما أكبركما. ففهم منه البخاري وغيره من العلماء أنه أراد كبر المنزلة.

كما قال صلّى الله عليه وسلم : الولاء للكبر. ولم يعن كبر السنّ ، وإنما أراد كبر المنزلة.

وقد قال مالك وغيره : وإن للسنّ حقا. وراعاه الشافعى وأبو حنيفة ، وهو أحقّ بالمراعاة ؛ لأنه إذا اجتمع العلم والسنّ في خيّرين قدّم العلم. وأما أحكام الدنيا فهي مرتّبة على أحكام الدين ، فمن قدّم في الدين قدّم في الدنيا.

وفي الآثار : ليس منّا من لم يوقّر كبيرنا ، ويرحم صغيرنا ، ويعترف لعالمنا.

وفي الحديث الثابت في الأفراد : ما أكرم شابّ شيخا لسنّه إلا قيّض الله له عند سنّه من يكرمه. وأنشدنى أبو عبد الله محمد بن قاسم العثماني الشهيد نزيل القدس لابن عبد الصمد السر قسطي :

يا عائبا للشيوخ من أشر

داخله للصبا (٢) ومن بذخ

اذكر إذا شئت أن تعيبهم (٣)

جدّك واذكر أباك يا ابن أخى

واعلم بأنّ الشباب منسلخ

عنك وما وزره بمنسلخ

من لا يعزّ الشيوخ لابلغت

يوما به سنّة إلى الشّيخ

الآية الثالثة ـ قوله تعالى (٤) : (وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَداءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ).

فيها أربع مسائل :

المسألة الأولى ـ في المراد بقوله تعالى : (وَالشُّهَداءُ).

وفيه ثلاثة أقوال :

أحدها ـ أنهم النبيون.

الثاني ـ أنهم المؤمنون.

__________________

(١) ليس في ش.

(٢) في القرطبي : في الصبا.

(٣) في القرطبي : تعيرهم.

(٤) آية ١٩.

١٥٠

الثالث ـ أنهم الشهداء في سبيل الله. وكلّ واحد من هؤلاء شهيد ، أما الأنبياء عليهم السلام فهم شهداء على الأمم ، وأما المؤمنون فهم شهداء على الناس [كما قال تعالى (١) : (لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ)] (٢).

وأما محمّد صلّى الله عليه وسلم فهو شهيد على الكل ، لقوله تعالى (٣) : (وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً).

المسألة الثانية ـ إن كان المراد به المؤمنين فهو على العموم في كل شاهد. وقد قال عليه السلام : خير الشّهداء الذي يأتى بشهادته قبل أن يسألها ، وله الأجر إذا أدّى والإثم إذا كتم ، ونورهم [قيل] (٤) ـ وهي :

المسألة الثالثة ـ هو ظهور الحق به ، وقيل نورهم يوم القيامة. والكلّ صالح للقول حاصل للشاهد بالحق.

وأما إن كان المراد به الشهداء في سبيل الله فهم الذين قاتلوا لتكون كلمة الله هي العليا. وهم أوفى درجة وأعلى.

والشهداء قد بينّا عددهم! وهم المقتول في سبيل الله. المقتول دون ماله [المقتول دون أهله] (٥). المطعون (٦). الغرق (٧). الحرق. المجنون. الهديم (٨). ذات الجمع (٩). المقتول ظلما. أكيل السبع. الميت في سبيل الله. من مات من بطن (١٠) فهو شهيد. المريض شهيد. الغريب شهيد. صاحب النّظرة شهيد. فهؤلاء ستة عشر شهيدا. وقد بيناهم في شرح الحديث.

المسألة الرابعة ـ قال جماعة : إنّ قوله : (وَالشُّهَداءُ) معطوف على قوله تعالى : (الصِّدِّيقُونَ) عطف المفرد على المفرد ، يعنى أن الصديق هو الشهيد ، والكلّ لهم أجرهم ونورهم. وقيل : هو عطف جملة على جملة ، والشهداء ابتداء كلام والكلّ محتمل ، وأظهره عطف المفرد على المفرد حسبما بينّاه في الملجئة.

__________________

(١) سورة البقرة ، آية ١٤٣.

(٢) ليس في ش.

(٣) المطعون : هو الذي يموت في الطاعون.

(٤) الغرق : هو الذي يموت في الماء

(٥) في صحيح مسلم (١٥٢١) وصاحب الهدم : وقال : إنه من يموت تحته. وعد الشهداء فيه خمسة.

(٦) أى التي تموت وفي بطنها ولد. وقيل التي تموت بكرا (النهاية).

(٧) البطن : مرض البطن.

١٥١

الآية الرابعة ـ قوله تعالى (١) : (ثُمَّ قَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِرُسُلِنا وَقَفَّيْنا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللهِ فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ).

فيها أربع مسائل :

المسألة الأولى ـ الرهبانية : فعلانية من الرّهب (٢) كالرّحمانية : وقد قرئت بضم الراء وهي من الرّهبان كالرّضوانية من الرّضوان. [والرهب هو الخوف ، كنى به عن فعل التزم خوفا من الله ورهبا من سخطه] (٣).

المسألة الثانية ـ في تفسيرها :

وفيه أربعة أقوال :

الأول ـ أنها رفض النساء ، وقد نسخ ذلك في ديننا ، كما تقدم.

الثاني ـ اتخاذ الصّوامع للعزلة ، وذلك مندوب إليه عند فساد الزمان.

الثالث ـ سياحتهم ، وهي نحو منه.

الرابع ـ روى الكوفيون عن ابن مسعود ، قال : قال لي رسول الله صلّى الله عليه وسلم : هل تدرى أىّ الناس أعلم؟ قال : قلت : الله ورسوله أعلم. قال : أعلم الناس أبصرهم بالحق إذا اختلف الناس فيه ، وإن كان مقصّرا في العمل ، وإن كان يزحف على استه.

وافترق من [كان] (٤) قبلنا على اثنتين وسبعين فرقة ، نجا منها ثلاث ، وهلك سائرها : فرقة آزت (٥) الملوك ، وقاتلتهم على دين الله ودين عيسى حتى قتلوا ، وفرقة لم يكن لهم طاقة بموازاة الملوك أقاموا بين ظهراني قومهم يدعونهم إلى دين الله ودين عيسى ابن مريم ، فأخذتهم الملوك وقتلتهم وقطعتهم بالمناشير ، وفرقة لم تكن لهم طاقة بموازاة الملوك ، ولا بأن يقيموا بين ظهراني

__________________

(١) آية ٢٧.

(٢) في ش : الرهبة. وفي القرطبي : قال الماوردي : وفيها قراءتان : إحداهما بفتح الراء ، وهي الخوف ـ من الرهب. والثانية بضم الراء وهي منسوبة إلى الرهبان كالرضوانية من الرضوان (١٧ ـ ٢٦٣)

(٣) ليس في ش.

(٤) في ش ، والقرطبي. وازت.

١٥٢

قومهم ، فيدعوهم إلى ذكر الله [ودينه] (٦) ودين عيسى ابن مريم ، فساحوا في الجبال ، وترهّبوا فيها ، وهي التي قال الله فيها : (وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللهِ فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ).

المسألة الثالثة ـ روى عن أبى أمامة الباهلي [واسمه صدىّ بن عجلان] (١) أنه قال: أحدثّتم قيام رمضان ولم يكتب عليكم ، إنما كتب عليكم الصيام ، فدوموا على القيام إذا فعلتموه ، ولا تتركوه ، فإنّ ناسا من بنى إسرائيل ابتدعوا بدعا لم يكتبها الله عليهم ، ابتغوا بها رضوان الله فما رعوها حقّ رعايتها ، فعاتبهم (٢) الله بتركها ، فقال : (وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللهِ فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها) ، يعنى تركوا ذلك فعوقبوا عليها.

المسألة الرابعة ـ قد بينّا أنّ قوله تعالى : (ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ) من وصف الرهبانية ، وأنّ قوله تعالى : (ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللهِ) متعلق بقوله تعالى : (ابْتَدَعُوها). وقد زاغ قوم عن منهج الصواب فظنّوا أنها رهبانيّة كتبت عليهم بعد أن التزموها. وليس يخرج هذا من قبيل مضمون الكلام ، ولا يعطيه أسلوبه ولا معناه ، ولا يكتب على أحد شيء الا بشرع أو نذر ، وليس في هذا اختلاف بين أهل الملل. والله أعلم.

__________________

(١) ليس في ش.

(٢) في القرطبي : فعابهم الله.

١٥٣

سورة المجادلة

[فيها ست آيات]

الآية الأولى ـ قوله تعالى (١) : (قَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها وَتَشْتَكِي إِلَى اللهِ وَاللهُ يَسْمَعُ تَحاوُرَكُما إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنكُم مِّن نِّسَائِهِم مَّا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنكَرًا مِّنَ الْقَوْلِ وَزُورًا وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِن نِّسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا ذَٰلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ)

فيها تسع وعشرون مسألة :

المسألة الأولى ـ قد تقدم الكلام في سماع الله تعالى للموجودات كلها قولا أو غيره ، لا يختص (٢) بسماع الأصوات ، بل كلّ موجود يسمعه ويراه ويعلمه ، ويعلم المعدوم بأبدع بيان في كتاب المشكلين والأصول ، وكذلك أوضحنا أنه يجوز تعلّق سمعنا بكل موجود ، وكذلك رؤيتنا ، ولكن الباري تعالى أجرى العادة بتعلق رؤيتنا بالألوان ، وسمعنا بالأصوات ، ولله الحكمة فيما خصّ والقدرة فيما عم.

المسألة الثانية ـ قوله تعالى : (تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها). وكذلك تقدم بيان المجادلة وحقيقتها وجوازها في طلب قصد الحق وإظهاره ، وأمر الله بها ، ونسخه وتخصيصه لها وتعميمه.

المسألة الثالثة ـ في تعيين هذه المجادلة :

وفيه روايات كثيرة : قيل : هي خولة امرأة أوس بن الصامت. وقيل : هي خولة بنت دليج (٣). وقيل : بنت الصامت. وأمها معاذة ، كانت أمة لابن أبى. وفيها قال الله تعالى(٤): (وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ ...) الآية.

وقيل : خولة بنت ثعلبة ، وهي أشبهها ، لما روى أنّ خولة بنت ثعلبة جاءت إلى عمر

__________________

(١) آية ١.

(٢) في ش : لا يحس الأصوات.

(٣) في ا : فليج.

(٤) سورة النور ، آية ٣٣.

(٥) في ش : عنهما.

١٥٤

ابن الخطاب وهي عجوز كبيرة ، والناس معه ، وهو على حمار ، قال : فجنح إليها ، ووضع يده على منكبها ، وتنحّى الناس عنها (٥) ، فناجاها طويلا ، ثم انطلقت فقالوا : يا أمير المؤمنين ، حبست رجالات قريش على هذه العجوز. قال : أتدرون من هي؟ هذه خولة بنت ثعلبة ، سمع الله قولها من فوق سبع سموات ، فو الله لو قامت هكذا إلى الليل لقمت معها إلى أن تحضر صلاة ، وأنطلق لأصلى ثم أرجع إليها.

وقالت عائشة : تبارك الذي وسع سمعه كلّ شيء ، إنى لأسمع كلام خولة بنت ثعلبة ، ويخفى علىّ بعضه ، وهي تقول : يا رسول الله.

وفي تراجم البخاري ، عن تميم بن سلمة ، عن عروة ، عن عائشة قلت : الحمد لله الذي وسع سمعه الأصوات ، فأنزل الله عزّ وجل على النبي صلّى الله عليه وسلم : (قَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ).

ونصّه على الاختصار ما روى أنه لما ظاهر أوس بن الصامت من امرأته خولة بنت ثعلبة قالت له : والله ما أراك إلا قد أثمت في شأنى ، لبست جدّتى ، وأفنيت شبابي ، وأكلت مالي ، حتى إذا كبرت سنّى ، ورقّ عظمى ، واحتجت إليك فارقتني.

قال : ما أكرهنى لذلك! اذهبي إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم فانظرى هل تجدين عنده شيئا في أمرك.

فأتت النبىّ صلّى الله عليه وسلم ، فذكرت ذلك له ، فلم تبرح حتى نزل القرآن : (قَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها). فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم : أعتق رقبة. قال : لا أجد ذلك. قال صم شهرين متتابعين. قال : لا أستطيع ذلك ؛ أنا شيخ كبير. قال: أطعم ستين مسكينا. قال : لا أجد. فأعطاه النبىّ صلّى الله عليه وسلم شعيرا ، وقال : خذ هذا فأطعمه.

وروى أيضا أنّ سعيدا أتى أبا سلمة بن صخر أحد بنى بياضة ، كان رجلا ميطا (١) فلما جاء شهر رمضان جعل امرأته عليه كأمه ، فرآها ذات ليلة في بريق القمر ، ورأى بريق خلخالها [وساقها] (٢) فأعجبته فأتاها ، وأتى النبىّ صلّى الله عليه وسلم فقصّ عليه القصة،

__________________

(١) هكذا.

(٢) ليس في ش.

(٣) من ش.

١٥٥

فقال له : أتيت بهذا يا أبا سلمة [ثلاثا] (٣)؟ فأمر [النبىّ] (٤) أن يعتق رقبة. قال : ما أملك غير رقبتي هذه. فأمره بالإطعام. قال : إنما هي وجبة. قال : صم شهرين متتابعين. قال : ما من عمل يعمله الناس أشد علىّ من الصيام. قال : فأتى الناس النبي صلّى الله عليه وسلم بقناع (١) فيه تمر. فقال له : خذ هذا ، فتصدق به وأطعمه عيالك.

[وقيل هذا صخر بن] (٢) سلمة بن صخر بن سليمان الذي أعطى النبي صلّى الله عليه وسلم المجنّ يوم أحد. وقال : وجهى أحقّ بالكلم من وجهك ، وارتثّ بعد ذلك من القتلى ، وبه رمق ، وقد كلم كلوما كثيرة ، فمسح رسول الله صلّى الله عليه وسلم كلومه ، واستشفى له فبرأ ، وفيه نزلت آية الظهار.

المسألة الرابعة ـ قوله تعالى : (وَتَشْتَكِي إِلَى اللهِ).

روى أن خولة بنت دليج (٣) ظاهر منها زوجها ، فأتت النبىّ صلّى الله عليه وسلم فسألته كذلك (٤) ، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم : قد حرمت عليه ، [فرفعت رأسها إلى السماء] فقالت : إلى الله أشكو حاجتي إليه.

ثم عادت فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم : حرمت عليه. فقالت : [إلى الله أشكو حاجتي إليه] (٥) ، وعائشة تغسل شقّ رأسه الأيمن ، ثم تحولت إلى الشق الآخر ، وقد نزل عليه الوحى ، فذهبت أن تعيد (٦) ، فقال : يا عائشة ، اسكتي ، فإنه قد نزل الوحى.

فلما نزل القرآن ، قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم لزوجها : أعتق رقبة. قال : لا أجد. قال : صم شهرين متتابعين. قال : إن لم آكل في اليوم ثلاث مرات خفت (٧) أن يعشو بصرى. قال : فأطعم ستين مسكينا. قال : فأعنى ، فأعانه [بشيء] (٨).

المسألة الخامسة ـ قوله تعالى (٩) : (الَّذِينَ يُظاهِرُونَ). حقيقته تشبيه ظهر [بظهر ، والموجب للحكم منه تشبيه ظهر] (١٠) محلّل بظهر محرّم ، ويتفرع عليه فروع كثيرة ، أصولها سبعة :

__________________

(١) القناع : الطبق الذي يؤكل عليه.

(٢) ليس في ش.

(٣) في ا : فليج.

(٤) في ش : لذلك. وفي القرطبي : عن ذلك.

(٥) ليس في ش.

(٦) في ش : يعود.

(٧) في ش : خشيت.

(٨) ليس في ش.

(٩) من آية ٢.

(١٠) ليس في ش.

١٥٦

الفرع الأول ـ إذا شبّه جملة أهله بظهر أمه ، كما جاء في الحديث أنه قال : أنت علىّ كظهر أمى.

الفرع الثاني ـ إذا شبّه جملة أهله بعضو من أعضاء أمه كان ظهارا ، خلافا لأبى حنيفة في قوله : إن شبّهها بعضو يحلّ النظر إليه لم يكن ظهارا ، وهذا لا يصح ، لأن النظر إليه على طريق الاستمتاع لا يحل له ، وفيه رفع التشبيه ، وإياه قصد المظاهر. وقد قال الشافعى في قول : إنه لا يكون ظهارا إلا في الظّهر وحده ، وهذا فاسد ، لأنّ كل عضو منها محرّم ، فكان التشبيه به ظهارا كالظهر ، ولأن المظاهر إنما يقصد تشبيه المحلل بالمحرم ، فلزم على المعنى.

والفرع الثالث ـ إذا شبّه عضوا من امرأته بظهر أمه : قال الشافعى في أحد قوليه : لا يكون ظهارا ، وهذا ضعيف منه ، لأنه قد وافقنا على أنه يصحّ إضافة الطلاق إليه ، خلافا لأبى حنيفة ، فصحّ إضافة الظّهار إليه ، وقد بيناه في مسائل الخلاف.

الفرع الرابع ـ إذا قال : أنت علىّ كأمى ، أو مثل أمى. فإن نوى ظهارا كان ظهارا ، وإن نوى طلاقا كان طلاقا ، وإن لم تكن له نية كان ظهارا.

وقال الشافعى وأبو حنيفة : إن لم ينو شيئا لم يكن شيء.

ودليلنا أنه أطلق تشبيه امرأته بأمه ، فكان ظهارا ، أصله إذا ذكر الظهر ، وهذا قوىّ ، إذ معنى اللّفظ فيه موجود ، واللفظ بمعناه ، ولم يلزم حكم الظهر للفظه ، وإنما لزم لمعناه وهو التحريم.

الفرع الخامس ـ إذا قال : أنت علىّ حرام كظهر أمى كان ظهارا ، ولم يكن طلاقا ، لأنّ قوله : أنت حرام يحتمل التحريم بالطلاق وهي مطلقة ، ويحتمل التحريم بالظهار ، فلما صرّح به كان تفسيرا لأحد الاحتمالين فقضى به فيه.

الفرع السادس ـ إن شبّه امرأته بأجنبية ، فإن ذكر الظّهر كان ظهارا حملا على الأول ، وإن لم يذكر الظّهر فاختلف فيه علماؤنا ، فمنهم من قال : يكون ظهارا ، ومنهم من قال: يكون طلاقا.

وقال أبو حنيفة والشافعى : لا يكون شيئا ، وهذا فاسد ، لأنه شبّه محللا من المرأة

١٥٧

بمحرّم ، فكان مقيّدا بحكمه (١) كالظهر. والأسماء بمعانيها عندنا ، وعندهم بألفاظها ، وهذا نقض للأصل منهم.

الفرع السابع ـ إذا قال : أنت علىّ كظهر أختى كان مظاهرا.

وقال الشافعى : لا يكون له حكم ، وهذه أشكل من التي قبلها. ودليلنا أنه شبّه امرأته بظهر محرّم عليه مؤبّد كالأم.

المسألة السادسة ـ قوله : (مِنْكُمْ).

يعنى من المسلمين ، وذلك يقتضى خروج الذمي من الخطاب.

فإن قيل : هذا استدلال بدليل الخطاب.

قلنا : هو استدلال بالاشتقاق. والمعنى فإنّ أنكحة الكفار فاسدة مستحقة الفسخ ، فلا يتعلّق بها حكم طلاق ولا ظهار ، وذلك كقوله (٢) : (وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ).

وبه قال أبو حنيفة.

وقال الشافعى : يصح ظهار الذمي ، وهي مسألة خلاف عظمى. وقد مددنا أطناب القول فيها في مسألة الخلاف.

ولبابه عند المالكية أنّ الكفار مخاطبون بفروع الشريعة عندنا ، وعند الشافعى بغير خلاف ، وإذا خوطبوا فإن أنكحتهم (٣) فاسدة لإخلالهم بشروطها من ولىّ وأهل (٤) وصداق ووصف صداق ، فقد يعقدون بغير صداق ، ويعقدون [بغير مال كخمر أو خنزير ، ويعقدون في العدّة ويعقدون] (٥) نكاح المحرمات ، وإذا خلت الأنكحة عن شروط الصحة فهي فاسدة ، ولا ظهار في النكاح الفاسد بحال.

المسألة السابعة ـ وهذا الدليل بعينه يقتضى صحّة ظهار العبد خلافا لمن منعه ، لأنه من جملة المسلمين ، وأحكام النكاح في حقه ثابتة ، وإن تعذّر عليه العتق والإطعام فإنه قادر على الصيام.

__________________

(١) في ش : فكان مقيدا حكمه.

(٢) سورة الطلاق ، آية ٢.

(٣) في ش : فأنكحتهم.

(٤) في ش : وأصل.

(٥) ليس في ش.

١٥٨

المسألة الثامنة ـ قال مالك : ليس على النساء تظاهر ، إنما قال الله تعالى : (الَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسائِهِمْ) ولم يقل : واللاتي يظاهرن منكنّ من أزواجهن ، إنما الظهار على الرجال.

قال القاضي : هكذا روى عن ابن القاسم ، وسالم ، ويحيى بن سعيد ، وربيعة ، وأبى الزناد ، وهو صحيح معنى ، لأن الحل والعقد والتحليل والتحريم في النكاح بيد الرجال ، ليس بيد المرأة (١) منه شيء. وهذا إجماع.

المسألة التاسعة ـ يلزم الظهار في كلّ أمة يصحّ وطؤها.

وقال أبو حنيفة والشافعى : لا يلزم ، وهي مسألة عسيرة جدّا علينا ، لأنّ مالكا يقول : إذا قال لأمته : أنت علىّ حرام لم يلزم ، فكيف يبطل فيها صريح التحريم ، ويصحح (٢) كنايته ، ولكن تدخل الأمة في عموم قوله : (مِنْ نِسائِكُمْ) ، لأنه أراد به من خللاتكم.

والمعنى فيه أنه لفظ يتعلّق بالبضع دون رفع العقد فيصحّ في الأمة ، أصله الحلف بالله.

المسألة العاشرة ـ من به لمم ، وانتظمت له في بعض الأوقات الكلم إذا ظاهر لزم ظهاره ، لما روى في الحديث أنّ خولة بنت ثعلبة ـ وكان زوجها أوس بن الصامت ـ وكان به لمم ـ فداخله بعض لممه ، فظاهر من امرأته.

المسألة الحادية عشرة ـ من غضب فظاهر من امرأته أو طلق لم يسقط غضبه حكمه.

وفي بعض طرق هذا الحديث قال يوسف بن عبد الله بن سلام : حدثتني خولة امرأة أوس ابن الصامت قالت : كان بيني وبينه شيء ، فقال : أنت علىّ كظهر أمى. ثم خرج إلى نادى قومه. فقولها : كان بيني وبينه شيء دليل على منازعة أحرجته ، فظاهر منها. والغضب لغو لا يرفع حكما ، ولا يغيّر شرعا. وقد بيناه فيما تقدم.

المسألة الثانية عشرة ـ وكذلك السّكران يلزمه حكم الظهار والطلاق في حال سكره إذا عقل قوله ، ونظم كلامه.

المسألة الثالثة عشرة ـ فيما أوردناه من هذا الخبر دليل على أنّ النبي صلّى الله عليه وسلم

__________________

(١) في ش : النساء.

(٢) في ش : وتصح.

١٥٩

حكم في الظهار بالفراق ، وهو الحكم بالتحريم بالطلاق ، حتى نسخ الله ذلك بالكفارة. وهذا نسخ في حكم واحد ، في حق شخص واحد ، في زمانين ، وذلك جائز عقلا ، واقع شرعا. وقد بيناه في كتاب النسخ.

المسألة الرابعة عشرة ـ الظهار يحرّم جميع أنواع الاستمتاع ، خلافا للشافعي في أحد قوليه ، لأن قوله : «أنت علىّ كظهر أمى» يقتضى تحريم كلّ استمتاع بلفظه ومعناه ، وإنما حرم الوطء بالتشبيه بالمحرمة ، وهذا يقتضى تحريم كلّ الاستمتاع.

المسألة الخامسة عشرة ـ قال الشافعى : إذا ظاهر من الأجنبية بشرط الزواج لم يكن ظهارا ، وعندنا يكون ظهارا ، كما لو طلقها كذلك للزمه الطلاق [إذا زوجها] (١) لأنها من نسائه حين شرط نكاحها. وقد بيناه في مسائل الخلاف وفيما تقدم من هذا الكتاب.

المسألة السادسة عشرة ـ إذا ظاهر من أربع نسوة في كلمة واحدة لزمته كفارة واحدة.

وقال الشافعى : يلزمه أربع كفارات ، وليس في الآية دليل على شيء من ذلك ، لأن لفظ الجمع إنما وقع في عامّة المؤمنين ، وإنما المعوّل على المعنى ، وهو (٢) أنه لفظ يتعلق بالفرج يوجب الكفارة لوجه (٣) ، فكانت واحدة. وإن علّقه بعدد ، أصله الإيلاء ، وما أقرب ما بينهما! وقد حققناه في الإنصاف ، وبينّا أن الموجب (٤) لا يتعدد بتعدّد المحل.

المسألة السابعة عشرة ـ قوله تعالى : (وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَزُوراً) [فسمّاه منكرا من القول وزورا] (٥) ، ثم رتّب عليه حكمه [من الكفارة والتحريم ، وهذا يدلّ على أنّ الطلاق المحرّم وهو في حال الحيض يترتب عليه حكمه] (٦) إذا وقع.

المسألة الثامنة عشرة ـ قوله : (ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا).

وهو حرف مشكل. واختلف الناس فيه قديما وحديثا ، وقد بيناه في ملجئة المتفقهين إلى معرفة غوامض النحويين.

ومحصول الأقوال سبعة :

أحدها ـ أنه العزم على الوطء ، وهو مشهور قول العراقيين.

__________________

(١) ليس في ش.

(٢) في ش : لأنه.

(٣) في ش : بوجه.

(٤) في ش : الواجب.

(٥) ليس في ش.

١٦٠