أحكام القرآن - ج ٤

أبي بكر محمّد بن عبدالله [ ابن العربي ]

أحكام القرآن - ج ٤

المؤلف:

أبي بكر محمّد بن عبدالله [ ابن العربي ]


المحقق: علي محمّد البجاوي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الجيل
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٦٧

سورة الجاثية (١)

[فيها ثلاث آيات]

الآية الأولى ـ قوله تعالى (٢) : (قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللهِ لِيَجْزِيَ قَوْماً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ).

فيها أربع مسائل :

المسألة الأولى ـ في سبب نزولها (٣) :

روى أنّ رجلا من المشركين شمّ عمر بن الخطاب ، فهمّ أن يبطش به فنزلت الآية. وهذا لم يصحّ.

المسألة الثانية ـ في إعرابها :

اعلموا وفقكم الله ـ أنّ الخبر لا يصحّ أن يكون جواب هذا الأمر ، وجاء ظاهره هاهنا جوابا مجزوما ، وتقدير الكلام : قل للذين آمنوا [اغفروا] (٤) يغفروا للذين لا يرجون أيّام الله. وقد بيناه في ملجئة المتفقهين.

المسألة الثالثة ـ قوله تعالى : (لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللهِ).

يحتمل أن يكون على الرجاء المطلق ، على أن تكون الأيام عبارة عن النعم ، ويحتمل أن يكون بمعنى الخوف ، ويعبّر بالأيام عن النقم ، وبالكلّ ينتظم الكلام.

المسألة الرابعة ـ هذا من المغفرة وشبهه من الصفح والإعراض منسوخ بآيات القتال ، وقد بيناه في القسم الثاني من علوم القرآن.

الآية الثانية ـ قوله تعالى (٥) : (ثُمَّ جَعَلْناكَ عَلى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْها وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ).

فيها ثلاث مسائل :

__________________

(١) في ا : سورة الشريعة.

(٢) آية ١٤.

(٣) أسباب النزول للواحدي : ٢١٥.

(٤) ليس في ش.

(٥) آية ١٨.

١٠١

المسألة الأولى ـ الشريعة في اللغة عبارة عن الطريق إلى الماء ، ضربت مثلا للطريق إلى الحقّ لما فيها من عذوبة المورد ، وسلامة المصدر ، وحسنه.

المسألة الثانية ـ في المراد بها من وجوه الحق. وفي ذلك أربعة أقوال :

الأول ـ أن الأمر الدين.

الثاني ـ أنه السنة.

الثالث ـ أنه الفرائض.

الرابع ـ النية ، وهذه كلمة أرسلها من لم يتفطّن للحقائق ، والأمر يرد في اللغة بمعنيين:

أحدهما بمعنى الشأن ، كقوله تعالى (١) : (فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ).

والثاني أنه أحد أقسام الكلام الذي يقابله النهى ، وكلاهما يصحّ أن يكون مرادا هاهنا ، وتقديره ثم جعلناك على طريقة من الدين ، وهي ملّة الإسلام ، كما قال تعالى (٢) : (ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ).

ولا خلاف أن الله تعالى لم يغاير بين الشرائع في التوحيد والمكارم والمصالح ، وإنما خالف بينها في الفروع بحسب ما علمه سبحانه.

المسألة الثالثة ـ ظنّ بعض من تكلم في العلم أنّ هذه الآية دليل على أن شرع من قبلنا ليس بشرع لنا ، لأن الله تعالى أفرد النبىّ صلّى الله عليه وسلم وأمّته في هذه الآية بشريعة ، ولا ننكر أن النبىّ صلّى الله عليه وسلم وأمته منفردان (٣) بشريعة ، وإنما الخلاف فيما أخبر النبىّ صلّى الله عليه وسلم عنه من شرع من قبلنا في معرض المدح والثناء والعظة ، هل يلزم اتباعه أم لا؟ ولا إشكال في لزوم ذلك ، لما بيناه من الأدلة وقدمناها هنا وفي موضعه من البيان.

__________________

(١) سورة هود ، آية ٩٨.

(٢) سورة البقرة ، آية ١٣٥.

(٣) في ش : مفردون.

١٠٢

الآية الثالثة ـ قوله تعالى (١) : (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ).

فيها مسألتان :

المسألة الأولى ـ قوله : (اجْتَرَحُوا) معناه افتعلوا من الجرح ، وضرب تأثير الجرح في البدن كتأثير السيئات في الدين مثلا ، وهو من بديع الأمثال.

المسألة الثانية ـ قد بينا معنى هذه الآية في قوله تعالى (٢) : (أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ) فإنها على مساقها ، فلا وجه لإعادتها.

__________________

(١) آية ٢١.

(٢) سورة ص ، آية ٢٨ صفحة ١٦٣٣.

١٠٣

سورة الأحقاف

[فيها ثلاث آيات]

الآية الأولى ـ قوله تعالى (١) : (قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَرُونِي ما ذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ ائْتُونِي بِكِتابٍ مِنْ قَبْلِ هذا أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ).

فيها ثلاث مسائل :

المسألة الأولى ـ في مساق الآية ، وهي أشرف آية في القرآن ، فإنها استوفت أدلّة الشرع عقليّها وسمعيّها ، لقوله تعالى : (قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَرُونِي ما ذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ) ، فهذه بيان لأدلّة العقل المتعلقة بالتوحيد ، وحدوث العالم ، وانفراد الباري سبحانه بالقدرة والعلم والوجود والخلق ، ثم قال : (ائْتُونِي بِكِتابٍ مِنْ قَبْلِ هذا) على ما تقولون ، وهذه بيان لأدلة السمع ، فإنّ مدرك الحق إنما يكون بدليل العقل أو بدليل الشرع حسبما بيناه من مراتب الأدلة في كتب الأصول ، ثم قال : (أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ) ، يعنى أو علم يؤثر ، أو يروى وينقل ، وإن لم يكن مكتوبا ، فإن المنقول عن الحفظ مثل المنقول عن الكتب.

المسألة الثانية ـ قال قوم : إن قوله : (أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ) يعنى بذلك علم الخط ، وهو الضرب في التراب لمعرفة الكوائن في المستقبل أو فيما مضى مما غاب عن الضارب ، وأسندوا ذلك عن ابن عباس إلى النبي صلّى الله عليه وسلم ، ولم يصح.

وفي مشهور الحديث أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال : كان نبىّ من الأنبياء يخطّ ، فمن وافق خطه فذلك ولم يصح أيضا.

واختلفوا في تأويله ، فمنهم. من قال : إنه جاء لإباحة الضرب به ، لأن بعض الأنبياء كان يفعله ، ومنهم من قال : جاء للنهى عنه ، لأنّ النبىّ صلّى الله عليه وسلم قال : فمن وافق

__________________

(١) آية ٤.

١٠٤

خطه فذلك. ولا سبيل إلى معرفة طريق النبي المتقدم فيه ، فإذا لا سبيل إلى العمل به :

لعمرك ما تدرى الضوارب بالحصى

ولا زاجرات الطّير ما الله صانع (١)

وحقيقته عند أربابه ترجع إلى صور الكواكب ، فيدلّ ما يخرج منها على ما تدلّ عليه تلك الكواكب من سعد أو نحس يحلّ بهم ، فصار ظنّا مبنيّا على ظن ، وتعلقا بأمر غائب قد درست طريقه ، وفات تحقيقه ، وقد نهت الشريعة عنه ، وأخبرت أنّ ذلك مما اختص الله به ، وقطعه عن الخلق ، وإن كانت لهم قبل ذلك أسباب يتعلقون بها في درك الغيب ، فإن الله تعالى قد رفع تلك الأسباب ، وطمس تيك الأبواب ، وأفرد نفسه بعلم الغيب ، فلا يجوز مزاحمته في ذلك ، ولا تحلّ لأحد دعواه ، وطلبه عناء لو لم يكن فيه نهى ، فإذ قد ورد النهى فطلبه معصية أو كفر بحسب قصد الطالب (٢).

المسألة الثالثة ـ إن الله تعالى لم يبق من الأسباب الدالة على الغيب التي أذن في التعلق بها والاستدلال منها إلا الرّؤيا ، فإنه أذن فيها وأخبر أنها جزء من النبوّة ، وكذلك الفأل. فأما الطّيرة والزجر فإنه نهى عنهما. والفأل هو الاستدلال بما يستمع من الكلام على ما يريد من الأمر إذا كان حسنا ، فإن سمع مكروها فهو تطيّر ، وأمر الشرع بأن يفرح بالفأل ، ويمضى على أمره مسرورا به. فإذا سمع المكروه أعرض عنه ولم يرجع لأجله ، وقال ـ كما علّمه النبي صلّى الله عليه وسلم : اللهم لا طير إلا طيرك ، ولا خير إلا خيرك ، ولا إله غيرك. وقد روى عن بعض الأدباء :

الفأل والزجر والكهّان كلّهم

مظللون ودون (٣) الغيب أقفال

وهذا كلام صحيح إلّا في الفأل ، فإن الشرع استثناه ، وأمر به ، فلا يقبل من هذا الشاعر ما نظمه فيه ، فإنه تكلم بجهل ، وصاحب الشرع أعلم وأحكم.

الآية الثانية ـ قوله تعالى (٤) : (وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً).

روى أن امرأة تزوّجت فولدت لستة أشهر من يوم تزوّجت ، فأتى بها عثمان ، فأراد أن يرجمها ، فقال ابن عباس لعثمان : إنها إن تخاصمكم بكتاب الله تخصمكم (٥) ، قال الله عز وجل :

__________________

(١) البيت للبيد ، ديوانه ١٧٢ ، والرواية فيه : الطوارق بدل الضوارب.

(٢) في ش : الطلب.

(٣) في ش : فدون.

(٤) آية ١٥.

(٥) خصمه : غلبه.

١٠٥

(وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً). وقال (١) : (وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ) ، فالحمل ستة أشهر ، والفصال أربعة وعشرون شهرا ، فخلّى سبيلها.

وفي رواية أن على بن أبى طالب قال له ذلك. وقد تقدم بيانه في سورة البقرة ، وهو استنباط بديع.

الآية الثالثة ـ قوله تعالى (٢) : (وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِها فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِما كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ).

فيها مسألتان.

المسألة الأولى ـ لا خلاف أنّ هذه الآية في الكفار بنصّ القرآن لقوله في أولها : (وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ) ، أى فيقال لهم : أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا ، يريد أفنيتموها في الكفر بالله ومعصيته ، وإن الله أحلّ الطيبات من الحلال واللذات ، وأمر باستعمالها في الطاعات ، فصرفها الكفّار إلى الكفر فأوعدهم الله بما أخبر به عنهم ، وقد يستعملها المؤمن في المعاصي ، فيدخل في وعيد آخر وتناله آية أخرى برجاء المغفرة ، ويرجع أمره إلى المشيئة ، فينفّذ الله فيه ما علمه منه وكتبه له.

المسألة الثانية ـ روى أن عمر بن الخطاب لقى جابر بن عبد الله ، وقد ابتاع لحما بدرهم ، فقال له : أما سمعت الله تعالى يقول : (أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِها) وهذا عتاب منه له على التوسع بابتياع اللحم والخروج عن جلف الخبز والماء ، فإن تعاطى الطيبات من الحلال تستشرى لها الطباع ، وتستمر عليها العادة ، فإذا فقدتها استسهلت في تحصيلها بالشبهات (٣) ، حتى تقع في الحرام المحض بغلبة العادة ، واستشراه الهوى على النفس الأمّارة بالسوء ، فأخذ عمر الأمر من أوله ، وحماه من ابتدائه كما يفعله مثله.

__________________

(١) سورة البقرة ، آية ٢٣٣.

(٢) آية ٢٠.

(٣) في ش : بالشهوات.

١٠٦

والذي يضبط هذا الباب ويحفظ قانونه : على المرء أن يأكل ما وجد طيبا كان أو قفارا ، ولا يتكلّف الطيّب ، ويتخذه عادة ، وقد كان صلّى الله عليه وسلم يشبع إذا وجد ، ويصبر إذا عدم ، ويأكل الحلوى إذا قدر عليها ، ويشرب العسل إذا اتفق له ، ويأكل اللحم إذا تيسّر ، ولا يعتمده أصلا ، ولا يجعله ديدنا ، ومعيشة النبي صلّى الله عليه وسلم معلومة ، وطريقة أصحابه بعده منقولة ، فأما اليوم عند استيلاء الحرام ، وفساد الحطام ، فالخلاص عسير ، والله يهب الإخلاص ، ويعين على الخلاص برحمته.

وقد روى أنّ عمر بن الخطاب قدم عليه ناس من العراق فرأى القوم كأنهم يتقززون في الأكل ، فقال : ما هذا يأهل العراق؟ لو شئت أن يدهمق (١) لي كما يدهمق لكم ، ولكنا نستبقى من دنيانا ما نجده ، في آخرتنا. ألم تسمعوا أنّ الله تعالى ذكر قوما فقال : (أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِها).

__________________

(١) أى يلين لي الطعام ويجود (النهاية).

١٠٧

سورة محمّد

[فيها ثلاث آيات]

الآية الأولى ـ قوله تعالى (١) : (فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها ذلِكَ وَلَوْ يَشاءُ اللهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلكِنْ لِيَبْلُوَا بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ).

فيها تسع مسائل :

المسألة الأولى ـ في إعرابها :

قال المعربون (٢) : هو (٣) منصوب بفعل مضمر دلّ عليه المصدر ، تقديره فاضربوا الرّقاب ضربا. وعندي أنه مقدّر بقولك : اقصدوا ضرب الرقاب ، وكذلك في قوله : (فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً) معناه افعلوا ذلك. وقد بيناه في رسالة الإلجاء.

المسألة الثانية ـ قوله : (الَّذِينَ كَفَرُوا).

فيها قولان :

أحدهما ـ أنهم المشركون ، قاله ابن عباس.

الثاني ـ كل من لا عهد له ولا ذمة ، وهو الصحيح لعموم الآية فيه.

المسألة الثالثة ـ في المراد بقوله عزّوجل : (فَضَرْبَ الرِّقابِ) قولان :

أحدهما ـ أنه القتال ، قاله السدى.

الثاني ـ أنه قتل الأسير صبرا.

والأظهر أنه في القتال ، وهو اللّقاء ، وإنما نستفيد قتل الأسير صبرا من فعل النبي صلّى الله عليه وسلم له وأمره به.

__________________

(١) آية ٤.

(٢) في ش : المفسرون.

(٣) أى لفظ ضرب الرقاب.

١٠٨

المسألة الرابعة ـ قوله تعالى : (حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثاقَ) قد تقدم تفسيره في سورة الأنفال (١).

المعنى اقتلوهم حتى إذا كثر ذلك ، وأخذتم من بقي فأوثقوهم شدّا ، فإما أن تمنّوا عليهم فتطلقوهم بغير شيء ، وإما أن تفادوهم ـ وهي :

المسألة الخامسة ـ كما فعل النبىّ صلّى الله عليه وسلم بأبى عزة وبثمامة.

وقال مقاتل : هو العتق ، وكذلك روى ابن وهب وابن القاسم عن مالك.

والأول أصحّ ، فإن الإسقاط والترك معنى ، والعتق معنى ، وإن كان في العتق معنى الترك فليس حكمه.

المسألة السادسة ـ (حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها) ، يعنى ثقلها ، وعبّر عن السلاح به لثقل حملها ، وفيه ثلاثة أقوال :

أحدها ـ حتى يؤمنوا ويذهب الكفر ، قاله الفراء.

الثاني ـ حتى يسلم الخلق ، قاله الكلبي.

الثالث ـ حتى ينزل عيسى ابن مريم ، قاله مجاهد.

المسألة السابعة ـ اختلف الناس في هذه الآية هل هي منسوخة أو محكمة؟ فقيل : هي منسوخة بقوله (٢) : (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) ، قاله السدى.

الثاني ـ أنها منسوخة في أهل الأوثان ، فإنهم لا يعاهدون (٣). وقيل : إنها محكمة على الإطلاق ، قاله الضحاك.

الثالث ـ أنها محكمة بعد الإثخان ، قاله سعيد بن جبير ، لقوله (٤) : (ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ).

والتحقيق الصحيح (٥) أنها محكمة في الأمر بالقتال ، حسبما بيناه في القسم الثاني.

المسألة الثامنة ـ في التنقيح :

اعلموا وفّقكم الله أنّ هذه الآية من أمهات الآيات ومحكماتها ، أمر الله سبحانه فيها بالقتال ، وبيّن كيفيته كما بينه في قوله تعالى (٦) : (فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ

__________________

(١ ـ ٤) سورة الأنفال ، آية ٦٧.

(٢) سورة التوبة ، آية ٦.

(٣) في ش : لا يفادون.

(٥) في ش : والصحيح.

(٦) سورة الأنفال ، آية ١٢.

١٠٩

بَنانٍ) حسبما تقدم بيانه في الأنفال ، فإذا تمكّن المسلم من عنق الكافر أجهز عليه ، وإذا تمكن من ضرب يده التي يدفع بها عن نفسه ويتناول بها قتال غيره فعل ذلك به ، فإن لم يتمكن إلا ضرب (١) فرسه التي يتوصّل بها إلى مراده فيصير حينئذ راجلا مثله أو دونه ، فإن كان فوقه قصد مساواته ، وإن كان مثله قصد حطّه ، والمطلوب نفسه ، والمآل إعلاء كلمة الله تعالى ، وذلك لأن الله سبحانه لما أمر بالقتال أولا ، وعلم أن ستبلغ إلى الإثخان والغلبة بيّن سبحانه حكم الغلبة بشدّ الوثاق ، فيتخير حينئذ المسلمون بين المنّ والفداء. وبه قال الشافعى.

وقال أبو حنيفة : إنما لهم القتل والاسترقاق ، وهذه الآية عنده منسوخة.

والصحيح إحكامها ، فإن شروط النسخ معدومة فيها من المعارضة ، وتحصيل المتقدم من المتأخر ، وقوله (٢) : (فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ) فلا حجة فيه ، لأن التشريد قد يكون بالمنّ والفداء والقتل ، فإنّ طوق المنن يثقل أعناق الرجال ، ويذهب بنفاسة نفوسهم ، والفداء يجحف بأموالهم ، ولم يزل العباس تحت ثقل فداء بدر حتى أدّى عنه رسول الله صلّى الله عليه وسلم.

وأما قوله : (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) فقد قال : واحصروهم ، فأمر بالأخذ كما أمر بالقتل.

فإن قيل : أمر بالأخذ للقتل.

قلنا : أو للمنّ والفداء ، وقد عضدت السنة ذلك كلّه ، فروى مسلم أنّ النبي صلّى الله عليه وسلم أخذ من سلمة بن الأكوع جارية ففدى بها ناسا من المسلمين ، وقد هبط على النبي صلّى الله عليه وسلم من أهل مكة قوم ، فأخذهم النبىّ صلّى الله عليه وسلم ومنّ عليهم ، وقد منّ على سبى هوازن ، وقتل النضر بن الحارث صبرا فقالت أخته قتيلة ترثيه(٣) :

يا راكبا إنّ الأثيل مظنّة

من صبح خامسة وأنت موفّق

أبلغ بها (٤) ميتا بأن تحيّة

ما إنّ تزال بها النجائب تخفق

__________________

(١) في ش : فإن لم يتمكن ضرب.

(٢) سورة الأنفال ، آية ٥٨.

(٣) سيرة ابن هشام : ٢ ـ ٤٢٠.

(٤) في ا : به.

١١٠

منى إليه (١) وعبرة مسفوحة

جادت بواكفها (٢) وأخرى تخنق

فليسمعن (٣) النّضر إن ناديته

إن كان يسمع ميت أو ينطق (٤)

أمحمد ، ولأنت (٥) ضن (٦) كريمة

في قومها والفحل فحل معرق

ما كان ضرّك لو مننت وربما

من الفتى وهو المغيظ المحنق

لو كنت قابل فدية لفديته

بأعزّ ما يغلى (٧) به من ينفق

والنضر أقرب من أسرت قرابة

وأحقّهم لو كان عتق يعتق

ظلّت رماح (٨) بنى أبيه تنوشه (٩)

لله أرحام هناك تشقق

صبرا يقاد إلى المنية متعبا

رسف المقيّد ، وهو عان موثق

فالنظر إلى الإمام حسبما بيناه في مسائل الخلاف.

وأما قوله تعالى : (حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها) فمعناه ـ عند قوم ـ حتى تضع الحرب آثامها ، يريدون بأن يسلم الكلّ ، فلا يبقى كافر ، ويؤول معناه إلى أن يكون المراد حتى ينقطع الجهاد ، وذلك لا يكون إلى يوم القيامة ، لقوله صلّى الله عليه وسلم : الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة، الأجر والمغنم.

ومن ذكر نزول عيسى بن مريم فإنما هو لأجل ما روى أنه إذا نزل لا يبقى كافر من أهل الكتاب ولا جزية ، ويمكن أن يبقى من لا كتاب له ، ولا يقبل منه جزية في أصح القولين (١٠). وقد بينّا ذلك في كتب الحديث.

المسألة التاسعة ـ في تتميم القول :

قال الحسن وعطاء : في الآية تقديم وتأخير : المعنى فضرب الرقاب حتى تضع الحرب أوزارها ، فإذا أثخنتموهم فشدّوا الوثاق. وليس الإمام أن يقتل الأسير.

__________________

(١) في السيرة : إليك.

(٢) في ا : لمائحها. والكواف : السائل.

(٣) في ش ، والسيرة : يسمعن.

(٤) في ش ، والسيرة : أم كيف يسمع ميت لا ينطق.

(٥) في ش ، والسيرة : يا خير.

(٦) ضنء : ابن.

(٧) في السيرة : ما يغلو.

(٨) في السيرة : سيوف بنى أبيه.

(٩) تنوشه : تتناوله.

(١٠) في ش : الأقوال.

١١١

وقد روى عن الحجاج أنه دفع أسيرا إلى عبد الله بن عمر ليقتله ، فأبى وقال : ليس بهذا أمرنا الله ، وقرأ : حتى إذا أثخنتموهم فشدّوا الوثاق.

قلنا : قد قاله رسول الله صلّى الله عليه وسلم وفعله ، وليس في تفسير الله للمنّ والفداء (١) منع من غيره ، فقد بيّن الله في الزنا حكم الجلد ، وبيّن النبىّ صلّى الله عليه وسلم حكم الرّجم ، ولعل ابن عمر كره ذلك من يد الحجاج فاعتذر بما قال : وربك أعلم.

الآية الثانية ـ قوله تعالى (٢) : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ).

اختلف العلماء فيمن افتتح نافلة من صوم أو صلاة ، ثم أراد تركها ، قال الشافعى : له ذلك. وقال مالك وأبو حنيفة : ليس له ذلك ، لأنه إبطال لعمله الذي انعقد له. وقال الشافعى : هو تطوّع فإلزامه إياه يخرجه عن الطواعية.

قلنا : إنما يكون ذلك قبل الشروع في الفعل ، فإذا شرع لزمه (٣) كالشروع في المعاملات.

الثاني أنه (٤) لا تكون عبادة ببعض ركعة ولا ببعض يوم في صوم ، فإذا قطع في بعض الركعة أو في بعض اليوم إن قال (٥) : إنه يعتدّ به فقد ناقض الإجماع ، وإن قال : إنه ليس بشيء فقد نقض الإلزام (٦) ، وذلك مستقصى في مسائل الخلاف.

الآية الثالثة ـ قوله تعالى (٧) : (فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمالَكُمْ). وقد بينّا حكم الصلح مع الأعداء في سورة الأنفال. وقد نهى الله تعالى [هاهنا] (٨) عنه مع القهر والغلبة للكفار ، وذلك بيّن ، وإن الصلح إنما هو إذا كان له وجه يحتاج فيه إليه ، ويفيد فائدة ، والله أعلم لا ربّ غيره ، ولا خير إلا خيره.

__________________

(١) في ش : وليس في تفسير الله لكم الفداء.

(٢) آية ٣٣.

(٣) في ا : لزم.

(٤) كأنه اعتبر قوله السابق القسم الأول من الرد.

(٥) في ش : إن قلنا إنه يعيد.

(٦) في ش : الالتزام.

(٧) آية ٣٥.

(٨) ليس في ش.

١١٢

سورة الفتح

[فيها خمس آيات]

الآية الأولى ـ قوله تعالى (١) : (قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرابِ سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللهُ أَجْراً حَسَناً وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَما تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً).

فيها خمس مسائل :

المسألة الأولى ـ قوله ـ (قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ).

قيل : هم الذين تخلّفوا عن الحديبية ، وهم خمس قبائل : جهينة ، ومزينة ، وأشجع ، وغفار ، وأسلم ، ستدعون إلى قوم أولى بأس شديد ، وهي :

المسألة الثانية ـ وفي تعيينهم ثلاثة أقوال :

أحدها ـ أنهم فارس والرّوم.

الثاني ـ أنهم بنو حنيفة مع مسيلمة الكذاب.

الثالث ـ أنهم هوازن وغطفان يوم حنين ، تقاتلونهم أو يسلمون ، وهذا يدلّ على أنهم باليمامة لا يفارس ولا بالروم ، وهي :

المسألة الثالثة ـ لأنّ الذي تعيّن عليه القتال حتى يسلم من غير قبول جزية هم العرب في أصحّ الأقوال والمرتدّون.

فأما فارس والروم فلا يقاتلون حتى يسلموا ، بل إن بذلوا الجزية قبلت منهم ، وجاءت الآية معجزة للنبي صلّى الله عليه وسلم وإخبارا بالغيب الآتي ، وهي :

المسألة الرابعة ـ ودلّت على إمامة أبى بكر وعمر ، وهي :

__________________

(١) آية ١٦.

(ـ أحكام ـ ٤)

١١٣

المسألة الخامسة ـ لأنّ الداعي لهم كان أبا بكر في قتال بنى حنيفة ، وهو استخلف عمّر ، وعمر كان الدّاعى لهم إلى قتال فارس والروم ، وخرج علىّ تحت لوائه ، [وأخذ سهمه من غنيمته ، واستولد حنيفة الحنفية ولده محمدا] (١) ، ولو كانت إمامة باطلة وغنيمة حراما لما جاز عندهم وطء على لها ، لأنه عندهم معصوم من جميع الذنوب.

الآية الثانية ـ قوله تعالى (٢) : (لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذاباً أَلِيماً).

وقد تقدم في سورة النّور بيانها (٣) ، والمراد بها هاهنا الجهاد.

الآية الثالثة ـ قوله تعالى (٤) : (هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْ لا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِساءٌ مُؤْمِناتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَؤُهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً).

فيها خمس مسائل :

المسألة الأولى ـ قوله تعالى : (هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا).

يعنى قريشا بغير (٥) خلاف ، لأنّ الآية نزلت فيهم ، والقصة مخصوصة بهم ، فلا يدخل غيرهم معهم ، منعوا النبىّ صلّى الله عليه وسلم من دخول مكة في غزوة الحديبية ، ومنعوا الهدى وحبسوه عن أن يبلغ محلّه ، وهذا كانوا لا يعتقدونه ، ولكنهم (٦) حملتهم الأنفة ، ودعتهم حميّة الجاهلية إلى أن يفعلوا ما لا يعتقدونه دينا (٧) ، فوبّخهم الله على ذلك ، وتوعّدهم عليه ، وأدخل الأنس على رسول الله صلّى الله عليه وسلم ببيانه ووعده.

المسألة الثانية ـ قوله تعالى : (أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ).

فيه قولان :

__________________

(١) ليس في ش.

(٢) آية ١٧.

(٣) صفحة ١٣٨٩

(٤) آية ٢٥

(٥) في ش : بلا خلاف.

(٦) في ا : ولكنه.

(٧) في ا : ذنبا.

١١٤

أحدهما ـ منحصره.

الثاني ـ الحرم ، قاله الشافعى.

وكان الهدى سبعين بدنة ، ولكن الله بفضله جعل ذلك الموضع محلا للعذر (١) ، ونحره النبىّ صلّى الله عليه وسلم وأصحابه فيه بإذن الله تعالى وقبوله وإبقائه (٢) سنة بعده لمن حبس عن البيت وصدّ كما صدّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم حسبما بيناه في تفسير سورة البقرة(٣).

المسألة الثالثة ـ قوله تعالى : (وَلَوْ لا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِساءٌ مُؤْمِناتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ) بمكة ، فخيف وطؤكم لهم بغير علم لأدخلناكم عليهم عنوة ، وملكنا كم البلد قسرا ، ولكنا صنّا من كان [فيها] (٤) يكتم إيمانه خوفا ، وهذا حكم الله وحكمته ، ولا اعتراض عليه فيه ، فإنه قادر على كل شيء ، فإذا فعل بعضه لم يكن عن عجز ، وإنما هو عن حكمة.

المسألة الرابعة ـ قوله تعالى : (بِغَيْرِ عِلْمٍ).

تفضيل للصحابة ، وإخبار عن صفتهم الكريمة من العفّة عن المعصية ، والعصمة عن التعدّى ، حتى إنهم لو أصابوا من أولئك أحدا لكان من غير قصد ، وهذا كما وصفت النملة عن جند سليمان في قولها (٥) : (لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) حسبما بيناه في سورة النمل (٦).

المسألة الخامسة ـ قوله تعالى : (لَوْ تَزَيَّلُوا).

يعنى المؤمنون منهم لعذّبنا الذين كفروا منهم عذابا أليما. تنبيه على مراعاة الكافر في حرمة المؤمن إذا لم تمكن (٧) إذاية الكافر إلا بإذاية المؤمن.

وقال أبو زيد : قلت لابن القاسم : أرأيت لو أن قوما في المشركين في حصن من حصونهم حصرهم أهل الإسلام ، وفيهم قوم من المسلمين أسارى في أيديهم ، أيحرق هذا الحصن أم لا يحرق؟

قال : سمعت مالكا ـ وسئل عن قوم من المشركين [يرمون] (٨) في مراكبهم أخذوا

__________________

(١) في ا : جعل ذلك الموضع له محلا للعذر.

(٢) في ا : وإبقاؤه.

(٣) صفحة ١٣٨.

(٤) ليس في ش.

(٥) سورة النمل ، آية ١٨.

(٦) صفحة ١٤٣٩.

(٧) في ش : إذ لا يمكن.

(٨) من ش.

١١٥

أسارى من المسلمين ، [وأدركهم أهل الإسلام فأرادوا أن يحرفوهم ومراكبهم بالنار] (١) ومعهم الأسارى في مراكبهم ، قال : فقال مالك : لا أرى ذلك ، لقوله تعالى لأهل مكة : (لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً).

وقال جماعة : إنّ معناه لو تزيّلوا عن بطون النساء وأصلاب الرجال. وهذا ضعيف ، لقوله تعالى : (أَنْ تَطَؤُهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ) ، وهو في صلب الرجل لا يوطأ ولا تصيب منه (٢) معرّة ، وهو سبحانه وتعالى قد صرّح فقال : (وَلَوْ لا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِساءٌ مُؤْمِناتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَؤُهُمْ) ، وذلك لا ينطلق على ما في بطن المرأة وصلب الرجل ، وإنما ينطلق على مثل الوليد بن الوليد ، وسلمة بن هشام ، وعياش (٣) بن أبى ربيعة ، وأبى جندل بن سهيل ، وكذلك قال مالك.

وقد حاصرنا مدينة للروم ، فحبس عنهم الماء ، فكانوا ينزلون الأسارى يستقون لهم الماء ، فلا يقدر أحد على رميهم بالنّبل ، فيحصل لهم الماء بغير اختيارنا.

وقد جوّز أبو حنيفة وأصحابه والثوري الرمي في حصون المشركين ، وإن كان فيهم أسارى المسلمين وأطفالهم ، ولو تترّس (٤) كافر بولد مسلم رمى المشرك وإن أصيب أحد من المسلمين فلا دية فيه (٥) ولا كفارة.

وقال الثوري : فيه الكفارة ولا دية له.

وقال الشافعى بقولنا. وهذا ظاهر ، فإن التوصل إلى المباح بالمحظور (٦) لا يجوز ، ولا سيما بروح المسلم ، فلا قول إلا ما قاله مالك ، والله أعلم.

الآية الرابعة ـ قوله تعالى (٧) : (لَقَدْ صَدَقَ اللهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخافُونَ فَعَلِمَ ما لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ فَتْحاً قَرِيباً).

فيها مسألتان :

__________________

(١) ليس في ش.

(٢) في ش : منهم.

(٣) في ا : عباس.

(٤) تترس : تستر.

(٥) في ش : له.

(٦) في ش : بالمحرم.

(٧) آية ٢٧.

١١٦

المسألة الأولى ـ قوله تعالى : (لَقَدْ صَدَقَ اللهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِ).

وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يرى أنه يدخل مكة ويطوف ، فأنذر أصحابه بالعمرة ، وخرج في ألف وأربعمائة من أصحابه ، ومائتي قرشي ، حتى أتى أصحابه ، وبلغ الحديبية فصدّه المشركون وصالحوه أن يدخل مكة من العام المقبل بسلاح الراكب بالسيف والفرس. وفي رواية : بجلبّان السلاح ـ وهو السيف في قرابه ، فسميت عمرة القضية ، لما كتب رسول الله صلّى الله عليه وسلم بينهم من القضية ، وسميت عمرة القضاء ، لأن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قضاها من قابل. وسميت عمرة القصاص لقوله تعالى (١) : (الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ) ، أى اقتصصتم منهم كما صدّوكم ، فارتاب المنافقون ، ودخل الهمّ على جماعة من الرفعاء من أصحابه ، فجاء عمر بن الخطاب إلى أبى بكر الصديق رضى الله عنهما ، فقال له : ألم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم : إنه داخل البيت فمطوّف به! قال : نعم ، ولكن لم يقل العام ، وإنه آتيه فمطوّف به. وجاء رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقال له مثل ما قال لأبى بكر ، وراجعه رسول الله صلّى الله عليه وسلم بمراجعة أبى بكر. قال عمر بن الخطاب : فعملت لذلك أعمالا ـ يعنى من الخير ـ كفارة لذلك التوقّف الذي داخلة حين رأى النبي صلّى الله عليه وسلم وقد صدّ عن البيت ، ولم تخرج رؤياه في ذلك العام. المسألة الثالثة ـ فلما كان في العام القابل دخله رسول الله صلّى الله عليه وسلم وأصحابه آمنين فحلقوا وقصّروا.

وفي الصحيح أن معاوية أخذ من شعر رسول الله صلّى الله عليه وسلم على المروة بمشقص (٢) وهذا كان في العمرة لا في الحج ، لأنّ النبي صلّى الله عليه وسلم حلق في حجّته ، وأقام بها ثلاثة أيام ، فلما انقضت الثلاث أراد أن يبنى بميمونة بمكة ، فأبوا ذلك على رسول الله صلّى الله عليه وسلم ، فبنى بها بسرف ، وكذلك روى ابن القاسم عن مالك في ذكر ميمونة خاصة مما تقدّم ذكره.

الآية الخامسة ـ قوله تعالى (٣) : (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ

__________________

(١) سورة البقرة ، آية ١٩٤.

(٢) المشقص ـ كمنبر : نصل عريض أو سهم فيه ذلك.

(٣) آية ٢٩.

١١٧

رُحَماءُ بَيْنَهُمْ تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْواناً سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً).

فيها مسألتان :

المسألة الأولى ـ يعنى علامتهم ، وهي سيما وسيميا ، وفي الحديث قال النبي صلّى الله عليه وسلم : لكم سيما ليست لغيركم من الأمم ، تأتون يوم القيامة غرّا محجّلين من آثار الوضوء.

رويت في هذا الحديث بالمد والقصر.

المسألة الثانية ـ في تأويلها :

وقد تؤولت على ستة أقوال :

الأول ـ أنه يوم القيامة.

الثاني ـ ثرى (١) الأرض ، قاله ابن جبير.

الثالث ـ تبدو صلاتهم في وجوههم ، قاله ابن عباس.

الرابع ـ أنه السّمت الحسن ، قاله ابن عباس والحسن.

الخامس ـ أنه الخشوع ، قاله مجاهد.

السادس ـ أنه من صلّى بالليل أصبح وجهه مصفرّا ، قاله الضحاك.

وقد قال بعض العلماء :

من كثرت صلاته بالليل حسن وجهه بالنهار.

ودسّه قوم في حديث النبي صلّى الله عليه وسلم على وجه الغلط ، وليس للنبي صلّى الله عليه وسلم فيه ذكر بحرف.

وقد قال مالك فيما روى ابن وهب عنه : سيماهم في وجوههم من أثر السجود ، ذلك مما يتعلق (٢) بجباههم من الأرض عند السجود ، وبه قال سعيد بن جبير.

__________________

(١) في ش : ندى الأرض.

(٢) في ا : ما يتعلق.

١١٨

وفي الحديث الصحيح (١) أنّ النبي صلّى الله عليه وسلم صلّى الصبح صبيحة إحدى وعشرين من رمضان ، وقد وكف المسجد (٢) ، وكان على عريش ، فانصرف النبىّ صلّى الله عليه وسلم من صلاته وعلى جبهته وأرنبته أثر الماء والطين.

وفي الحديث الصحيح عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم : يأمر الله الملائكة أن يخرجوا من النار من شهد (٣) أن لا إله إلا الله ، فيعرفونهم بعلامة أثر (٤) السجود. وحرّم الله تعالى على النار أن تأكل من ابن آدم آثار السجود.

وقد روى منصور عن مجاهد قال : هو الخشوع.

قلت : هو أثر السجود ، فقال : إنه يكون بين عينيه مثل ركبة العنز ، وهو كما شاء الله.

وقال علماء الحديث : ما من رجل يطلب الحديث إلّا كان على وجهه نضرة ، لقول النبي صلّى الله عليه وسلم : نضّر الله امر أسمع مقالتي فوعاها فأدّاها كما سمعها ... الحديث.

__________________

(١) مسلم : ٨٢٤.

(٢) وكف المسجد : قطر ماء المطر من سقفه.

(٣) في ش : يشهد.

(٤) في ا : آثار.

١١٩

سورة الحجرات

[فيها سبع آيات]

الآية الأولى ـ قوله تعالى (١) : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)

فيها خمس مسائل :

المسألة الأولى ـ في سبب نزولها (٢) :

وفيه خمسة أقوال :

الأول ـ أن قوما كانوا يقولون لو أنزل في كذا وكذا ، فأنزل الله هذه الآية ، قاله قتادة.

الثاني ـ نهوا أن يتكلّموا بين يدي كلامه ، قاله ابن عباس.

الثالث ـ لا تفتاتوا على الله ورسوله في أمر حتى يقضى الله على لسان رسول الله صلّى الله عليه وسلم ما يشاء (٣) ، قاله مجاهد.

الرابع ـ أنها نزلت في قوم ذبحوا قبل أن يصلّى النبي صلّى الله عليه وسلم ، فأمرهم أن يعيدوا الذبح ، قاله الحسن.

وفي الصحيح أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال [لأصحابه في] (٤) يوم الأضحى(٥): من ذبح قبل الصلاة فإنما هو لحم قدّمه لأهله. فقام أبو بردة بن نيار خال البراء بن عازب ، فقال : يا رسول الله ، هذا يوم يشتهى فيه اللحم ، وإنى ذبحت قبل أن أصلّى ، وعندي عناق (٦) جذعة خير من شاتى لحم. فقال : تجزئك ولن تجزئ عن أحد بعدك.

الخامس ـ لا تقدّموا أعمال الطاعة قبل وقتها ، قاله الزجاج.

__________________

(١) آية ١.

(٢) أسباب النزول للواحدي : ٢١٨ ، وللسيوطي ١٥٥.

(٣) في ا : ما شاء.

(٤) ليس في ش.

(٥) مسلم : ١٥٥٢.

(٦) العناق : هي الأنثى من المعز إذا قويت ما لم تستكمل سنة. وفي مسلم : عناق لبن. يريد أنها صغيرة قريبة مما ترضع.

١٢٠