أحكام القرآن - ج ٣

أبي بكر محمّد بن عبدالله [ ابن العربي ]

أحكام القرآن - ج ٣

المؤلف:

أبي بكر محمّد بن عبدالله [ ابن العربي ]


المحقق: علي محمّد البجاوي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الجيل
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٤٨

يدل عند جماعة على أنه القول المخصوص به الذي لا يجوز غيره فيه ، وعندنا يدلّ ذلك على أنه لا فضل فيه ، وقد (١) بينا ذلك في سورة القصص.

المسألة الثالثة ـ روى يحيى بن سلام وغيره أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا زيدا فقال : ائت زينب فاذكرني لها ، كما تقدم.

وقال يحيى : فأخبرها أنّ الله قد زوّجنيها ، فاستفتح زيد الباب ، فقالت : من؟ قال: زيد. قالت : ما حاجتك؟ قال : أرسلنى رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقالت : مرحبا برسول رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ففتحت له ، فدخل عليها وهي تبكى ، فقال زيد: لا أبكى الله لك عينا. قد كنت نعمت المرأة تبرّين قسمي ، وتطيعين أمرى ، وتبغين مسرتي ، وقد أبدلك الله خيرا منى. قالت : من؟ قال : رسول الله صلى الله عليه وسلم. فخرّت ساجدة.

وفي رواية ـ كما تقدم : قالت : حتى أوامر ربي ، وقامت إلى مصلّاها ، ونزل القرآن ، فدخل عليها النبىّ صلى الله عليه وسلم بغير إذن ، فكانت تفتخر على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ، فتقول : أما أنتن فزوجكن آباؤكن ، وأما أنا فزوّجنى الله من فوق سبع سموات.

وفي رواية : إن زيدا لما جاءها برسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم وجدها تخمّر عجينها ، قال : فما استطعت أن أنظر إليها من عظمها في صدري ، فولّيت لها ظهري ، ونكصت على عقبى ، وقلت : يا زينب ، أبشرى ، أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكرك ... الحديث.

وقال الشعبي : قالت زينب لرسول الله صلى الله عليه وسلم : إنى أدل عليك بثلاث ، ما من أزواجك امرأة تدلّ بهن عليك : جدي وجدّك واحد ، وإنى أنكحنيك الله من السموات ، وإنّ السفير جبريل.

المسألة الرابعة ـ قوله تعالى : (لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً).

يعنى دخلوا بهنّ ، وإنما الحرج في أزواج الأبناء من الأصلاب ، أو ما يكون في حكم الأبناء من الأصلاب بالبعضية (٢) ، وهو في الرضاع كما تقدم تحريره.

__________________

(١) صفحة ١٤٥٦.

(٢) في ا : البضعية.

٥٠١

الآية الثالثة عشرة ـ قوله تعالى (١) : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً. وَداعِياً إِلَى اللهِ بِإِذْنِهِ وَسِراجاً مُنِيراً).

إن الله سبحانه وتعالى خطط النبي صلى الله عليه وسلم بخططه ، وعدّد له أسماءه ، والشيء إذا عظم قدره عظمت أسماؤه ، قال بعض الصوفية : لله تعالى ألف اسم ، وللنبي ألف اسم.

فأما أسماء الله فهذا العدد حقير فيها ، (قُلْ) (٢) (لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً).

وأما أسماء النبي صلى الله عليه وسلم فلم أحصها ، إلا من جهة الورود الظاهر لصيغة الأسماء البينة ، فوعيت منها جملة ، الحاضر الآن منها سبعة وستون اسما :

أولها الرسول ، المرسل ، النبىّ ، الأمىّ ، الشهيد ، المصدق ، النور ، المسلم ، البشير ، المبشر ، النذير ، المنذر ، المبين ، [الأمين] (٣) ، العبد ، الداعي ، السراج ، المنير ، الإمام ، الذكر ، المذكّر ، الهادي ، المهاجر ، العامل ، المبارك ، الرحمة ، الآمر ، الناهي ، الطيب ، الكريم ، المحلّل ، المحرّم ، الواضع ، الرافع ، المخبر ، خاتم النبيين ، ثانى اثنين ، منصور ، أذن خير ، مصطفى ، أمين ، مأمون ، قاسم ، نقيب ، مزّمّل ، مدّثّر ، العلىّ ، الحكيم ، المؤمن ، [المصدق] (٤) ، الرءوف ، الرحيم ، الصاحب ، الشفيع ، المشفع ، المتوكل ، محمد ، أحمد ، الماحي ، الحاشر ، المقفى ، العاقب ، نبي التوبة ، نبي الرحمة ، نبي الملحمة ، عبد الله ، نبي الحرمين ، فيما ذكر أهل ما وراء النهر.

وله وراء هذه فيما يليق به من الأسماء ما لا يصيبه إلّا صميان (٥).

فأما الرسول فهو الذي تتابع خبره عن الله ، وهو المرسل ـ بفتح السين ، ولا يقتضى التتابع.

وهو المرسل ـ بكسر السين ، لأنه لا يعم بالتبليغ مشافهة ، فلم يك بدّ من الرسل

__________________

(١) آية ٤٥ ، ٤٦.

(٢) سورة الكهف ، آية ١٠٩.

(٣) زيادة يقتضيها ما يأتى من شرح لهذه الأسماء. مع أنه سيأتى : أمين.

(٤) زيادة يقتضيها ما يأتى من شرح هذه الأسماء.

(٥) الصميان ، من الرجال : الشديد المحتنك السن.

٥٠٢

ينوبون عنه ، ويتلقّون منه ، كما بلّغ عن ربه ، قال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه : تسمعون ، ويسمع منكم ، ويسمع ممن يسمع منكم.

وأما النبىء صلى الله عليه وسلم فهو مهموز من النبأ ، وهو الخبر. وغير مهموز من النبوة ، وهو المرتفع من الأرض ، فهو صلى الله عليه وسلم مخبر عن الله سبحانه وتعالى ، رفيع القدر عنده ، فاجتمع له الوصفان ، وتم له الشرفان.

وأما الأمىّ ففيه أقوال ، أصحها أنه الذي لا يقرأ ولا يكتب ، كما خرج من بطن أمه ، لقوله تعالى : (وَاللهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً) ، ثم علمهم ما شاء.

وأما الشهيد فهو لشهادته على الخلق في الدنيا والآخرة. قال الله تعالى (١) : (وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ ، وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً).

وقد يكون بمعنى أنه تشهد له المعجزة بالصدق ، والخلق بظهور الحق.

وأما المصدق فهو بما صدق بجميع الأنبياء قبله ، قال الله تعالى (٢) : (وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ).

وأما النور ، فإنما هو نور بما كان فيه الخلق من ظلمات الكفر والجهل ، فنوّر الله الأفئدة بالإيمان والعلم.

وأما المسلم فهو خيرهم وأوّلهم ، كما قال (٣) : (وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ). وتقدم في ذلك بشرف انقياده بكل وجه ، وبكل حال إلى الله ، وبسلامة عن الجهل والمعاصي.

وأما البشير فإنه أخبر الخلق بثوابهم إن أطاعوا ، وبعقابهم إن عصوا ، قال الله تعالى(٤): (يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوانٍ). وقال تعالى (٥) : (فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ). وكذلك المبشر.

وأما النذير والمنذر ، فهو المخبر عما يخاف ويحذر ، ويكف عما يؤول إليه ويعمل بما يدفع فيه.

__________________

(١) سورة البقرة ، آية ١٤٣.

(٢) سورة آل عمران ، آية ٥٠.

(٣) سورة الأنعام ، آية ١٦٣.

(٤) سورة التوبة ، آية ٢١.

(٥) سورة آل عمران ، آية ٢١.

٥٠٣

وأما المبين ففيما أبان عن ربّه من الوحى والدين ، وأظهر من الآيات والمعجزات.

وأما الأمين فبأنه حفظ ما أوحى إليه وما وظف إليه ، ومن أجابه إلى أداء ما دعاه.

وأما العبد فإنه ذلّ لله خلقا وعبادة ، فرفعه الله عزّا وقدرا على جميع الخلق ، فقال : أنا سيد ولد آدم ولا فخر.

وأما الداعي فبدعائه الخلق ليرجعوا من الضلال إلى الحق.

وأما السراج فبمعنى النور ، إذ أبصر به الخلق الرّشد.

وأما المنير فهو مفعل من النور.

وأما الإمام فلاقتداء الخلق به ورجوعهم إلى قوله وفعله.

وأما الذكر فإنه شريف في نفسه ، مشرّف غيره ، مخبر عن ربه ، واجتمعت له وجوه الذكر الثلاثة.

وأما المذكّر فهو الذي يخلق الله على يديه الذّكر ، وهو العلم الثاني في الحقيقة ، وينطلق على الأول أيضا ، ولقد اعترف الخلق لله سبحانه بأنه الربّ ، ثم ذهلوا ، فذكّرهم الله بأنبيائه ، وختم الذكر بأفضل أصفيائه ، وقال (١) : (فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ).

ثم مكنه من السيطرة ، وآتاه السلطنة ، ومكّن له دينه في الأرض.

وأما الهادي فإنه بيّن الله تعالى على لسانه (٢) النجدين.

وأما المهاجر فهذه الصفة له حقيقة ، لأنه هجر ما نهى الله عنه ، وهجر أهله ووطنه ، وهجر الخلق ، أنسا بالله وطاعته (٣) ، فخلا عنهم ، واعتزلهم ، واعتزل منهم.

وأما العامل فلأنه قام بطاعة ربّه ، ووافق فعله واعتقاده.

وأما المبارك فبما جعل الله في حاله من نماء الثواب ، وفي حال أصحابه من فضائل الأعمال ، وفي أمته من زيادة العدد على جميع الأمم.

وأما الرحمة فقد قال الله تعالى (٤) : (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ) ، فرحمهم به

__________________

(١) سورة الغاشية ، آية ٢١ ، ٢٢.

(٢) في م : على يديه.

(٣) في ا : وطاعة.

(٤) سورة الأنبياء ، آية ١٠٧.

٥٠٤

في الدنيا من العذاب ، وفي الآخرة بتعجيل الحساب ، وتضعيف الثواب ، قال الله تعالى(١): (وَما كانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ ، وَما كانَ اللهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ).

وأما الآمر والناهي فذلك الوصف في الحقيقة لله تعالى ، ولكنه لما كان الواسطة أضيف إليه ، إذ هو الذي يشاهد آمرا ناهيا ، ويعلم بالدليل أنّ ذلك واسطة ، ونقل عن الذي له ذلك الوصف حقيقة.

وأما الطيب فلا أطيب منه ، لأنه سلم عن خبث القلب (٢) حين رميت منه العلقة السوداء. وسلم عن خبث القول ، فهو الصادق المصدق. وسلم عن خبث الفعل ، فهو كلّه طاعة.

وأما الكريم فقد بينا معنى الكرم ، وهو له على التمام والكمال.

وأما المحلّل والمحرّم فذلك بمعنى مبيّن الحلال والحرام ، وذلك بالحقيقة هو الله تعالى ، كما تقدّم ، والنبىّ متولّى ذلك بالوساطة والرسالة.

وأما الواضع والرافع فهو الذي وضع الأشياء ، مواضعها ، ببيانه ، ورفع قوما ، ووضع آخرين ، ولذلك قال الشاعر ـ يوم حنين حين فضل عليه بالعطاء غيره (٣) :

أتجعل نهبي (٤) ونهب العبي

د بين عيينة والأقرع

وما كان بدر ولا حابس

يفوقان مرداس في مجمع

وما كنت دون امرئ منهما

ومن تضع اليوم لا يرفع

فألحقه النبي صلى الله عليه وسلم في العطاء بمن فضل عنه.

وأما المخبر فهو النبىء ـ مهموزا.

وأما خاتم النبيين فهو آخرهم ، وهي عبارة مليحة شريفة تشريفا في الإخبار بالمجاز عن الآخرية ، إذا الختم آخر الكتاب ، وذلك بما فضل به ، فشريعته باقية ، وفضيلته دائمة إلى يوم الدين.

__________________

(١) سورة الأنفال ، آية ٣٣.

(٢) في م : القلوب.

(٣) اللسان ـ نهب. وهي للعباس بن مرداس.

(٤) النهب بمعنى المنهوب.

٥٠٥

وأما قوله : ثانى اثنين فاقترانه في الخبر بالله.

وأما منصور فهو المعان من قبل الله بالعزّة والظّهور على الأعداء ، وهذا عامّ في الرسل ، وله أكثر ، قال الله تعالى (١) : (وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ ، إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ ، وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ). وقال له : اغزهم نمدّك ، وقاتلهم نعدّك ، وابعث جيشا نبعث عشرة أمثاله.

وأما أذن خير ، فهو بما أعطاه الله من فضيلة الإدراك لقيل (٢) الأصوات لا يعي من ذلك إلا خيرا ، ولا يسمع إلا أحسنه.

وأما المصطفى فهو المخبر عنه بأنه صفوة الخلق ، كما رواه عنه واثلة بن الأسقع أنه قال : إن الله اصطفى من ولد إبراهيم إسماعيل ، واصطفى من ولد إسماعيل بنى كنانة ، واصطفى من بنى كنانة قريشا ، واصطفى من قريش بنى هاشم ، واصطفاني من بنى هاشم.

وأما الأمين (٣) فهو الذي تلقى إليه مقاليد المعاني ثقة بقيامه عليها وحفظا منه.

وأما المأمون فهو الذي لا يخاف من جهته شر.

وأما قاسم فبما ميّزه به من حقوق الخلق في الزكوات والأخماس وسائر الأموال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : الله يعطى ، وإنما أنا قاسم.

وأما نقيب فإنه فخر بالأنصار على سائر الأصحاب من الصحابة ، بأن قال لها : أنا نقيبكم ، إذ كلّ طائفة لها نقيب يتولّى أمورها ، ويحفظ أخبارها ، ويجمع نشرها ، والتزم صلى الله عليه وسلم ذلك لأنصار ، تشريفا لهم.

وأما كونه مرسلا (٤) فببعثه الرسل بالشرائع إلى الناس في الآفاق ممن نأى عنه.

وأما العلىّ فبما رفع الله من مكانه وشرّف من شأنه ، وأوضح على الدعاوى من برهانه.

وأما الحكيم فإنه عمل بما علم ، وأدّى عن ربه قانون المعرفة والعمل.

وأما المؤمن فهو المصدّق لربه ، العامل اعتقادا وفعلا بما أوجب الأمن له.

__________________

(١) سورة الصافات ، آية ١٧١ ، ١٧٢ ، ١٧٣.

(٢) في م : لقبيل.

(٣) تقدم شرحه في صفحة ١٥٣٦.

(٤) تقدم معنى المرسل ـ بفتح السين في أول هذه الأسماء صفحة ١٥٣٤

٥٠٦

وأما المصدق فقد تقدّم بيانه (١) ، فإنه صدق ربه بقوله تعالى ، وصدق قوله بفعله ، فتمّ له الوصف على ما ينبغي من ذلك.

وأما الرءوف الرحيم فبما أعطاه الله من الشفقة على الناس. قال صلى الله عليه وسلم : لكل نبىّ دعوة مستجابة ، وإنى اختبأت دعوتي شفاعة لأمتى يوم القيامة.

وقال كما قال من قبله : اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون.

وأما الصاحب فبما كان مع من اتّبعه من حسن المعاملة وعظيم الوفاء ، والمروءة والبرّ والكرامة.

وأما الشفيع المشفّع فإنه يرغب إلى الله في أمر الخلق بتعجيل الحساب ، وإسقاط العذاب وتخفيفه ، فيقبل ذلك منه ، ويخصّ به دون الخلق ، ويكرم بسببه غاية الكرامة.

وأما المتوكل فهو الملقى مقاليد الأمور إلى الله علما ، كما قال : لا أحصى ثناء عليك ، أنت كما أثنيت على نفسك ، وعملا ، كما قال : إلى من تكلني؟ إلى بعيد يتجهمني ، أو إلى عدوّ ملكته أمرى؟

وأما المقفى (٢) في التفسير فكالعابد.

ونبىّ التوبة لأنه تاب الله على أمته بالقول والاعتقاد ، دون تكليف قتل أو إصر.

ونبي الرحمة تقدم في اسم الرحيم.

ونبي الملحمة لأنه المبعوث بحرب الأعداء والنصر عليهم ، حتى يعودوا جزرا على إضم (٣) ولحما على وضم.

الآية الرابعة عشرة ـ قوله تعالى (٤) : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَراحاً جَمِيلاً).

فيها ثلاث مسائل :

المسألة الأولى ـ هذه الآية نصّ في أنه لا عدّة على مطلّقة قبل الدخول ، وهو إجماع الأمّة

__________________

(١) صفحة ١٥٣٥.

(٢) ترك تفسير : محمد ، أحمد ، الماحي ، الحاشر.

(٣) إضم كعنب : جبل.

(٤) آية ٤٩.

٥٠٧

لهذه الآية ، وإذا دخل بها فعليها العدّة إجماعا ، لقوله تعالى (١) : (الطَّلاقُ مَرَّتانِ فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ) ولقوله تعالى (٢) : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ ...) إلى قوله تعالى : (لا تَدْرِي لَعَلَّ اللهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً) ، وهي الرجعة على ما يأتى بيانه في آيته إن شاء الله تعالى.

المسألة الثانية ـ الدخول بالمرأة وعدم الدخول بها إنما يعرف مشاهدة بإغلاق الأبواب على خلوة ، أو بإقرار الزّوجين ، فإن لم يكن دخول وقالت الزوجة : وطأني ، وأنكر الزوج حلف ولزمتها العدة ، وسقط عنه نصف المهر.

وإن قال الزوج : وطئتها وجب عليه المهر كلّه ، ولم تكن عليها عدّة. وإن كان دخول فقالت المرأة : لم يطأنى لم تصدق في العدة ، ولا حقّ لها في المهر.

وقد تقدم القول في الخلوة ، هل تقرر المهر؟ في سورة البقرة (٣).

فإن قال : وطئتها ، وأنكرت وجبت عليها العدّة ، وأخذ منه الصداق ، ووقف حتى يفيء أو يطول المدى ، فيردّ إلى صاحبه أو يتصدق به على القولين ، وذلك مستوفى في فروع الفقه بخلافه وأدلته.

المسألة الثالثة ـ (وَمَتِّعُوهُنَ) تقدّم في سورة البقرة ذلك باختلافه وأدلته ، وفي مسائل الفقه بفروعه.

الآية الخامسة عشرة ـ قوله تعالى (٤) : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَما مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفاءَ اللهُ عَلَيْكَ وَبَناتِ عَمِّكَ وَبَناتِ عَمَّاتِكَ وَبَناتِ خالِكَ وَبَناتِ خالاتِكَ اللَّاتِي هاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَها خالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنا ما فَرَضْنا عَلَيْهِمْ فِي أَزْواجِهِمْ وَما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً).

فيها ثمان وعشرون مسألة :

__________________

(١) سورة البقرة ، آية ٢٢٩.

(٢) سورة الطلاق ، آية ١.

(٣) صفحة ٢١٨.

(٤) آية ٥٠.

٥٠٨

المسألة الأولى ـ في سبب نزولها :

روى الترمذي (١) وغيره أن أمّ هانئ بنت أبى طالب قالت : خطبنى رسول الله صلى الله عليه وسلم واعتذرت إليه ، فعذرنى ، ثم أنزل الله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَما مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفاءَ اللهُ عَلَيْكَ وَبَناتِ عَمِّكَ وَبَناتِ عَمَّاتِكَ وَبَناتِ خالِكَ وَبَناتِ خالاتِكَ اللَّاتِي هاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِّ ...) الآية

] قالت (٢) : فلم اکن احل له ؛ لأني لم أهاجر ، كنت من الطلقاء [.

قال أبو عيسى : هذا حديث لا يعرف إلا من حديث السدى.

قال القاضي : وهو ضعيف جدا ، ولم يأت هذا الحديث من طريق صحيح يحتجّ في مواضعه بها.

المسألة الثانية ـ (يا أَيُّهَا النَّبِيُ) ، قد تقدم تفسيره في هذا الكتاب.

المسألة الثالثة ـ قوله : (أَحْلَلْنا لَكَ).

وقد تقدم القول في تفسير الإحلال والتحريم في سورة النساء (٢) وغيرها.

المسألة الرابعة ـ قوله : (أَزْواجَكَ).

والنكاح والزوجية معروفة.

وقد اختلف في معنى الزوجية في حق النبي صلى الله عليه وسلم ، هل هنّ كالسرائر عندنا ، أو حكمهنّ حكم الأزواج المطلقة؟

قال إمام الحرمين : في ذلك اختلاف. وسنبينه في قوله : (تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَ). والصحيح أنّ لهن حكم الأزواج في حق غيره ، فإذا ثبت هذا فهل المراد بذلك كل زوجة أم من تحته منهن؟ وهي :

المسألة الخامسة ـ في ذلك قولان :

قيل : إن المعنى أحللنا لك أزواجك اللاتي آتيت أجورهنّ ، أى كلّ زوجة آتيتها مهرها ، وعلى هذا تكون الآية عموما للنبي صلى الله عليه وسلم ولأمته.

__________________

(١) أسباب النزول للسيوطي : ١٤١.

(٢) صفحة ٣٨٤.

٥٠٩

الثاني ـ وهو قول الجمهور ـ أحللنا لك أزواجك الكائنات عندك ، وهو الظاهر ، لأن قوله : (آتَيْتَ) خبر عن أمر ماض ، فهو محمول عليه بظاهره ، ولا يكون الفعل الماضي بمعنى الاستقبال إلا بشروط ليست هاهنا ، يطول الكتاب بذكرها ، وليست مما نحن فيه.

وقد عقد رسول الله صلى الله عليه وسلم على عدّة من النساء نكاحه ، فذكرنا (١) عدتهنّ في مواضع منها هاهنا وفي غيره ، وهنّ خديجة بنت خويلد ، وعائشة بنت أبى بكر ، وسودة بنت زمعة ، وحفصة بنت عمر ، وأم سلمة بنت أبى أمية بن المغيرة ، وأم حبيبة بنت أبى سفيان ، فهؤلاء ستّ قرشيات. وزينب بنت خزيمة العامرية ، وزينب بنت جحش الأسدية أسد خزيمة ، وميمونة بنت الحارث الهلالية ، وصفية بنت حيىّ بن أخطب الهارونية (٢) ، وجويرية بنت الحارث المصطلقية ، ومات عن تسع ، وسائرهنّ في شرح البخاري مذكورات.

المسألة السادسة ـ أحلّ الله بهذه الآية الأزواج اللاتي كنّ معه قبل نزول هذه الآية ، فأما إحلال غيرهنّ فلا ، لقوله (٣) : (لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ) ، وهذا لا يصح ، فإن الآية نصّ في إحلال غيرهن من بنات العم والعمات والخال والخالات ، وقوله : (لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ) يأتى الكلام عليه إن شاء الله تعالى.

المسألة السابعة ـ قوله : (اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَ) ، يعنى اللواتي تزوّجت بصداق ، وكان أزواج النبي صلى الله عليه وسلم على ثلاثة أقسام ، منهنّ من ذكر لها صداقا ، ومنهن من كان ذكر لها الصداق بعد النكاح ، كزينب بنت جحش في الصحيح من الأقوال ، فإن الله تعالى أنزل نكاحها من السماء ، وكان فرض الصداق بعد ذلك لها ، ومنهن من وهبت نفسها وحلّت له ، ويأتى بيانه إن شاء الله تعالى.

المسألة الثامنة ـ قوله : (وَما مَلَكَتْ يَمِينُكَ) ، يعنى السراري ، وذلك أنّ الله تعالى أحلّ السراري لنبيه صلى الله عليه وسلم ولأمّته بغير عدد ، وأحلّ الأزواج لنبيه مطلقا ، وأخلهنّ للخلق بعدد ، وكان ذلك من خصائصه في شريعة الإسلام.

وقد روى عمن كان قبله في أحاديثهم أنّ داود عليه السلام كانت له مائة امرأة ، كما تقدم.

__________________

(١) في م : قد ذكرنا.

(٢) ينتهى نسبها إلى هارون عليه السلام كما في المحبر صفحة ٩٠.

(٣) آية ٥٢.

٥١٠

وكان لسليمان عليه السلام ثلاثمائة حرة وسبعمائة سريّة ، والحقّ ما ورد في الصحيح أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال : إن سليمان قال : لأطوفنّ الليلة على سبعين امرأة كل امرأة تلد غلاما يقاتل في سبيل الله ـ ونسى أن يقول إن شاء الله ـ فلم تلد منهنّ إلا امرأة واحدة. المسألة التاسعة ـ قوله : (مِمَّا أَفاءَ اللهُ عَلَيْكَ).

والمراد به الفيء المأخوذ على وجه القهر والغلبة الشرعية ، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يأكل من عمله ، ويطأ من ملك يمينه ، بأشرف وجوه الكسب ، وأعلى أنواع الملك ، وهو القهر والغلبة ، لا من الصّفق (١) بالأسواق.

وقد قال عليه السلام : جعل رزقي تحت ظلّ رمحي.

المسألة العاشرة ـ قوله : (وَبَناتِ عَمِّكَ ، وَبَناتِ عَمَّاتِكَ ، وَبَناتِ خالِكَ ، وَبَناتِ خالاتِكَ).

المعنى أحللنا لك ذلك زائدا إلى ما عندك من الأزواج اللاتي آتيت أجورهن ، قاله أبىّ ابن كعب.

فأما من عداهنّ من الصنفين من المسلمات فلا ذكر لإحلالهنّ هاهنا ، بل هذا القول بظاهره يقتضى أنه لا يحلّ له غير هذا ، وبهذا يتبيّن أنّ معناه أحللنا لك أزواجك اللاتي عندك ، لأنه لو أراد أحللنا لك كلّ امرأة تزوجت وآتيت أجرها لما قال بعد ذلك : وبنات عمك وبنات عماتك ، لأن ذلك داخل فيما يتقدم.

فإن قيل : إنما كرّره لأجل شرط الهجرة ، فإنه قال : اللاتي هاجرن معك.

قلنا : وكذلك أيضا لا يصحّ هذا مع هذا القول ، لأنّ شرط الهجرة لو كان كما قتلتم لكان شرطا في كل امرأة تزوّجها ، فأما أن يجعل شرطا في القرابة المذكورة فلا يتزوّج منهن إلّا من هاجر ولا يكون شرطا في سائر النساء ، فيتزوّج منهن من هاجر ومن لم يهاجر ، فهذا كلام ركيك من قائله بيّن خطؤه لمتأمّله ، حسبما قدّمنا ذكره ، من أنّ الهجرة لو كانت شرطا في كل زوجة لما كان لذكر القرابة فائدة بحال.

__________________

(١) صفق له بالبيع يصفقه ، وصفق يده بالبيعة ، وعلى يده ، صفقا وصفقة : ضرب يده على يده ، وذلك عند وجوب البيع. والاسم : الصفق.

٥١١

المسألة الحادية عشرة ـ قوله : (اللَّاتِي هاجَرْنَ مَعَكَ).

وفيه قولان :

أحدهما ـ أنّ معناه لا يحلّ لك أن تنكح من بنات عمك وبنات عماتك إلّا من أسلم ، لقوله صلى الله عليه وسلم : المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده ، والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه.

الثاني ـ أنّ المعنى لا يحلّ لك منهنّ إلّا من هاجر إلى المدينة ، لأن من لم يهاجر ليس من أوليائك ، لقوله تعالى (١) : (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهاجِرُوا ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهاجِرُوا).

ومن لم يهاجر لم يكمل ، ومن لم يكمل لم يصلح لرسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كمل وشرف وعظم.

وهذا يدلّ على أنّ الآية مخصوصة برسول الله صلى الله عليه وسلم ليست بعامّة له ولأمته ، كما قال بعضهم ، لأنّ هذه الشروط تختصّ به.

ولهذا المعنى نزلت الآية في أم هانئ بأنها لم تكن هاجرت ، فمنع منها لنقصها بالهجرة ، والمراد بقوله : (هاجَرْنَ) خرجن إلى المدينة ، وهذا أصحّ من الأول ، لأنّ الهجرة عند الإطلاق هي الخروج من بلد الكفر إلى دار الإيمان ، والأسماء إنما تحمل على عرفها ، والهجرة في الشريعة أشهر من أن تحتاج إلى بيان ، أو تختصّ بدليل ، وإنما يلزم (٢) ذلك لمن ادّعى غيرها.

المسألة الثانية عشرة ـ قوله : (مَعَكَ) ، والمعيّة هاهنا الاشتراك في الهجرة لا في الصحبة فيها ، فمن هاجر حلّ له ، كان في صحبته إذ هاجر أو لم يكن ، يقال : دخل فلان معى ، أى في صحبتي ، فكنّا معا ، وتقول : دخل فلان معى وخرج معى ، أى كان عمله كعملى ، وإن لم يقترن فيه عملكما. ولو قلت : خرجنا معا لاقتضى ذلك المعنيين جميعا : المشاركة في الفعل ، والاقتران فيه ، فصار قولك : «معى» للمشاركة ، وقولك : «معا» للمشاركة والاقتران.

المسألة الثالثة عشرة ـ قوله : (وَبَناتِ عَمِّكَ) ، فذكره مفردا. وقال : (وَبَناتِ عَمَّاتِكَ) ، فذكرهنّ جميعا. وكذلك قال : وبنات خالك فردا وبنات خالاتك جمعا.

__________________

(١) سورة الأنفال ، آية ٧٢.

(٢) في م : وإنما يلزم من ذلك من أراد غيرها.

(٣) في ا : والراجل.

٥١٢

والحكمة في ذلك أنّ العمّ والخال في الإطلاق اسم جنس كالشاعر والراجز (٣) ، وليس كذلك في العمة والخالة. وهذا عرف لغوىّ ، فجاء الكلام عليه بغاية البيان لرفع الإشكال ، وهذا دقيق فتأملوه.

المسألة الرابعة عشرة ـ في فائدة الآية ولأجل ما سيقت له ، وفي ذلك أربع روايات :

الأولى ـ نسخ (١) الحكم الذي كان الله قد ألزمه بقوله : (لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ) ، فأعلمه الله أنه قد أحلّ له أزواجه اللواتي عنده ، وغيرهن ممّن سماه معهنّ في هذه الآية.

الثانية ـ أنّ الله تعالى أعلمه أنّ الإباحة ليست مطلقة في جملة النساء ، وإنما هي في المعيّنات المذكورات من بنات العمّ والعمّات ، وبنات الخال والخالات المسلمات ، والمهاجرات والمؤمنات.

الثالثة ـ أنه إنما أباح له نكاح المسلمة ، فأما الكافرة فلا سبيل له إليها على ما يأتى بعد ذلك إن شاء الله تعالى.

الرابعة ـ أنه لم يبح له نكاح الإماء أيضا صيانة له ، وتكرمة لقدره ، على ما يأتى بيانه إن شاء الله تعالى.

ومعنى هذا الكلام قد روى عن ابن عباس.

المسألة الخامسة عشرة ـ قوله : (وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِ) :

وقد بينا سبب نزول هذه الآية في سورة القصص (٢) وغيرها : أنّ امرأة جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فوقفت عليه ، وقالت : يا رسول الله ، إنى وهبت لك نفسي ... الحديث إلى آخره.

وورد في ذلك للمفسرين خمسة أقوال :

الأول ـ نزلت في ميمونة بنت الحارث ، خطبها لرسول الله صلى الله عليه وسلم جعفر ابن أبى طالب ، فجعلت أمرها إلى العباس عمه.

وقيل : وهبت نفسها له ، قاله الزهري ، وعكرمة ، ومحمد بن كعب ، وقتادة.

__________________

(١) في ا : ينسخ.

(٢) صفحة ١٤٥٥. (٣٣ ـ أحكام ـ ٣)

٥١٣

الثاني ـ أنها نزلت في أم شريك الأزديّة (١) ، وقيل العامريّة ، واسمها غزية (٢) ، قاله على ابن الحسين ، وعروة ، والشعبي.

الثالث ـ أنها زينب بنت خزيمة أم المساكين.

الرابع ـ أنها أم كلثوم بنت عقبة بن أبى معيط.

الخامس ـ أنها خولة بنت حكيم السلمية.

قال القاضي ابن العربي : أما سبب نزول هذه الآية فلم يرد من طريق صحيح ، وإنما هذه الأقوال واردة بطرق من غير خطم (٣) ولا أزمّة ، بيد أنه روى عن ابن عباس ومجاهد أنهما قالا : لم يكن عند النبي صلى الله عليه وسلم امرأة موهوبة.

وقد بينا الحديث الصحيح في مجيء المرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم ووقوفها عليه ، وهبتها نفسها له من طريق سهل وغيره في الصحاح ، وهو (٤) القدر الذي ثبت سنده ، وصحّ نقله.

والذي يتحقق أنها لما قالت للنبي صلى الله عليه وسلم : وهبت نفسي لك ، فسكت عنها ، حتى قام رجل فقال : زوّجنيها يا رسول الله إن لم تكن لك بها حاجة.

ولو كانت هذه الهبة غير جائزة لما سكت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لأنه لا يقرّ على الباطل إذا سمعه ، حسبما قررناه في كتب الأصول.

ويحتمل أن يكون سكوته لأنّ الآية قد كانت نزلت بالإحلال.

ويحتمل أن يكون سكت منتظرا بيانا ، فنزلت الآية بالتحليل والتخيير ، فاختار تركها وزوّجها من غيره.

ويحتمل أن يكون سكت ناظرا في ذلك حتى قام الرجل لها طالبا.

وقد روى مسلم ، عن عائشة أنها قالت : كنت أغار من اللاتي وهبن أنفسهنّ لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقالت (٥) : أما تستحي امرأة أن تهب نفسها ، حتى أنزل الله : (تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشاءُ) فقلت : ما أرى ربّك إلا يسارع في هواك.

__________________

(١) في القرطبي : الأنصارية.

(٢) في القرطبي : واسمها غزية. وقيل غزيلة.

(٣) الخطام ـ ككتاب : كل ما وضع في أنف البعير ليقتاد به ، والجمع خطم ـ ككتب.

(٤) في م : وهذا.

(٥) في القرطبي : وأقول.

٥١٤

فاقتضى هذا اللفظ أن من وهبت نفسها للنبي عدّة ، ولكنه لم يثبت عندنا أنه تزوّج منهنّ واحدة أم لا.

المسألة السادسة عشرة ـ قوله : (وَامْرَأَةً).

المعنى أحللنا لك امرأة تهب نفسها من غير صداق ، فإنه أحلّ له في الآية قبلها أزواجه اللاتي آتى أجورهنّ. وهذا معنى يشاركه فيه غيره ، فزاده فضلا على أمته أن أحلّ له الموهوبة ، ولا تحل لأحد غيره.

المسألة السابعة عشرة ـ قوله : (مُؤْمِنَةً).

وهذا تقييد من طريق التخصيص بالتعليل والتشريف ، لا من طريق دليل الخطاب ، حسبما تقدم بيانه في أصول الفقه ، وفي هذا الكتاب في أمثال هذا الكلام أن الكافرة لا تحلّ له.

قال إمام الحرمين : وقد اختلف في تحريم الحرة الكافرة عليه.

قال ابن العربي : والصحيح عندي تحريمها عليه ، وبهذا يتميّز علينا ، فإنه ما كان من جانب الفضائل والكرامة فحظّه فيه أكثر ، وما كان من جانب النقائص فجانبه عنها (١) أظهر ، فجوّز لنا نكاح الحرائر من الكتابيات ، وقصر هو لجلالته على المؤمنات ، وإذا كان لا يحلّ له من لم يهاجر لنقصان فضل الهجرة فأحرى ألا تحلّ له الكتابية الحرة لنقصان الكفر.

المسألة الثامنة عشرة ـ قوله : (إِنْ وَهَبَتْ).

قرئت بالفتح في الألف وكسرها ، وقرأت الجماعة فيها بالكسر ، على معنى الشرط. تقديره وأحللنا لك امرأة إن وهبت نفسها لك ، لا يجوز تقدير سوى ذلك.

وقد قال بعضهم : يجوز أن يكون جواب إن محذوفا ، وتقديره إن وهبت نفسها للنبي حلّت له. وهذا فاسد من طريق المعنى والعربية ، وذلك مبيّن في موضعه.

ويعزى إلى الحسن أنه قرأها بفتح الهمزة ، وذلك يقتضى أن تكون امرأة واحدة حلّت له ، لأجل أن وهبت نفسها ، وهذا فاسد من وجهين :

__________________

(١) في م : علمها.

٥١٥

أحدهما ـ أنها قراءة شاذة ، وهي لا تجوز تلاوة ، ولا توجب حكما.

الثاني ـ أن توجب أن يكون إحلالا (١) لأجل هبتها لنفسها ، وهذا باطل ، فإنها حلال له قبل الهبة بالصداق.

وقد نسب لابن مسعود أنه كان يسقط في قراءته «أن» ، فإن صح ذلك فإنما كان يريد أن يبين ما ذكرنا من أن الحكم في الموهوبة ثابت قبل الهبة ، وسقوط الصداق مفهوم من قوله : (خالِصَةً لَكَ) لا من جهة الشرط.

وقد بينا حكم هذا الشرط وأمثاله في سورة النور.

المسألة التاسعة عشرة ـ قوله : (وَهَبَتْ نَفْسَها).

وهذا يبين أنّ النكاح عقد معاوضة ، ولكنه على صفات مخصوصة من جملة المعاوضات وإجارة مباينة للإجارات ، ولهذا سمّى الصداق أجرة ، وقد تقدم بيان ذلك في سورة النساء (٢) ، فأباح الله لرسوله أن يتزوّج بغير الصداق ، لأنه أولى بالمؤمنين من أنفسهم. وقد تقدم ذكره.

المسألة الموفية عشرين ـ قوله : (إِنْ أَرادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَها).

معناه أنها إذا وهبت المرأة نفسها لرسول الله صلى الله عليه وسلم فرسول الله صلى الله عليه وسلم مخيّر بعد ذلك إن شاء نكحها وإن شاء تركها ، وإنما بيّن ذلك ، وجعله قرآنا يتلى ـ والله أعلم ، لأنّ من مكارم أخلاق نبينا أن يقبل من الواهب هبته ، ويرى الأكارم أنّ ردّها هجنة في العادة ، ووصمة على الواهب ، وإذاية لقلبه ، فبيّن الله سبحانه ذلك في حق رسوله لرفع الحرج عنه ، وليبطل ظنّ الناس في عادتهم وقولهم.

المسألة الحادية والعشرون ـ قوله : (خالِصَةً لَكَ).

وقد اختلف العلماء في ذلك على ثلاثة أقوال :

أحدها ـ خالصة لك : إذا وهبت لك نفسها أن تنكحها بغير صداق ولا ولىّ ، وليس ذلك لأحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ قاله (٣) قتادة. وقد أنفذ الله لرسوله نكاح زينب بنت جحش في السماء بغير ولىّ من الخلق ، ولا بذل صداق من النبي صلى الله عليه وسلم ، وذلك بحكم أحكم الحاكمين ومالك العالمين.

__________________

(١) في م : أجلا.

(٢) صفحة ٣٨٩.

(٣) في م : قال قتادة.

٥١٦

الثاني ـ نكاحه بغير صداق ، قاله سعيد بن المسيب.

الثالث ـ أن عقد نكاحها بلفظ الهبة خالصا لك ، وليس ذلك لغيرك [من المؤمنين](١) ، قاله الشعبي.

قال القاضي : القول الأول والثاني راجعان إلى معنى واحد ، إلا أن القول الثاني أصحّ من الأول ، لأنّ سقوط الصّداق مذكور في الآية ، ولذلك جاءت ـ وهو قوله : إن وهبت نفسها للنبي ، فأما سقوط الولي فليس له فيها ذكر ، وإنما يؤخذ من دليل آخر ، وهو أنّ للولي النكاح ، وإنما شرع لقلة الثقة بالمرأة في اختيار أعيان الأزواج ، وخوف غلبة الشهوة في نكاح غير الكفء ، وإلحاق العار بالأولياء ، وهذا معدوم في حق النبي صلى الله عليه وسلم.

وقد خصص الله رسوله صلى الله عليه وسلم في أحكام الشريعة بمعان لم يشاركه فيها أحد في باب الفرض والتحريم والتحليل ، مزية على الأمة ، وهيبة له ، ومرتبة خصّ بها ، ففرضت عليه ، وما فرضت على غيره ، وحرمت عليه أشياء وأفعال لم تحرّم عليهم ، وحللت له أشياء لم تحلل لهم ، منها متفق عليه ، ومنها مختلف فيه ، أفادنيها ذانشمند (٢) الأكبر ، عن إمام الحرمين ، وقد استوفينا ذلك في كتاب النبي صلى الله عليه وسلم ، بيد أنا نشير هاهنا إلى جملة الأمر لمكان الفائدة فيه ، وتعلّق المعنى فيه إشارة موجزة ، تبين للبيب وتبصر المريب ، فنقول :

أما قسم الفريضة فجملته تسعة :

الأول ـ التهجد بالليل.

الثاني ـ الضحى.

الثالث ـ الأضحى.

الرابع ـ الوتر ، وهو يدخل في قسم التهجد.

الخامس ـ السواك.

السادس ـ قضاء دين من مات معسرا.

__________________

(١) ليس في م.

(٢) في م : ذاتسمند ، ولم نقف على ضبطه.

٥١٧

السابع ـ مشاورة ذوى الأحلام في غير الشرائع.

الثامن ـ تخيير النساء.

التاسع ـ كان إذا عمل عملا أثبته.

وأما قسم التحريم فجملته عشرة :

الأول ـ تحريم الزكاة عليه وعلى آله.

الثاني ـ صدقة التطوّع عليه ، وفي آله تفصيل باختلاف.

الثالث ـ خائنة الأعين ، وهو أن يظهر خلاف ما يضمر ، أو ينخدع عما يحب.

وقد ذمّ بعض الكفار عند إذنه ، ثم ألان له القول عند دخوله.

الرابع ـ حرّم عليه إذا لبس لأمته أن يخلعها عنه ، أو يحكم بينه وبين محاربه ، ويدخل معه غيره من الأنبياء في الخير.

الخامس ـ الأكل متكئا.

السادس ـ أكل الأطعمة الكريهة الرائحة.

السابع ـ التبدل بأزواجه.

الثامن ـ نكاح امرأة تكره صحبته.

التاسع ـ نكاح الحرة الكتابية.

العاشر ـ نكاح الأمة ، وفي ذلك تفصيل يأتى بيانه في موضعه.

وأما قسم التحليل فصفىّ (١) المغنم.

الثاني (٢) ـ الاستبداد بخمس الخمس أو الخمس.

الثالث ـ الوصال.

الرابع ـ الزيادة على أربع نسوة.

الخامس ـ النكاح بلفظ الهبة.

السادس ـ النكاح بغير ولىّ.

__________________

(١) الصفي : ما كان يأخذه رئيس الجيش ويختاره لنفسه من الغنيمة قبل القسمة.

(٢) جعل صفى المغنم الأول ، ولذلك قال : الثاني.

٥١٨

السابع ـ النكاح بغير صداق.

وقد اختلف العلماء في نكاحه بغير ولىّ ، وقد قدّمنا أنّ الأصحّ عدم اشتراط الولي في حقه ، وكذلك اختلفوا في نكاحه بغير مهر ، فالله أعلم.

الثامن ـ نكاحه في حالة الإحرام ، ففي الصحيح أنه تزوّج ميمونة وهو محرم ، وقد بيناه في مسائل الخلاف.

التاسع ـ سقوط القسم بين الأزواج عنه ، على ما يأتى بيانه في قوله : (تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشاءُ).

العاشر ـ إذا وقع بصره على امرأة وجب على زوجها طلاقها ، وحلّ له نكاحها.

قال القاضي : هكذا قال إمام الحرمين ، وقد بينا الأمر في قصة زيد بن حارثة كيف وقع.

الحادي عشر ـ أنه أعتق صفيّة وجعل عتقها صداقها ، وفي هذا اختلاف بينّاه في كتاب الإنصاف ، ويتعلق بنكاحه بغير مهر أيضا.

الثاني عشر ـ دخول مكة بغير إحرام ، وفي حقّنا فيه اختلاف.

الثالث عشر ـ القتال بمكة ، وقد قال عليه السلام : لم تحلّ لأحد قبلي ، ولا تحلّ لأحد بعدي ، وأنما أحلّت لي ساعة من نهار.

الرابع عشر ـ أنه لا يورث.

قال القاضي : إنما ذكرته في قسم التحليل ، لأن الرجل إذا قارب الموت بالمرض زال عنه أكثر ملكه ، ولم يبق له إلا الثلث خالصا ، وبقي ملك رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد موته على ما تقدّم في آية الميراث.

الخامس عشر ـ بقاء زوجيته (١) من بعد الموت.

السادس عشر ـ إذا طلق امرأة ، هل تبقى حرمته (٢) عليها فلا تنكح؟

وهاتان المسألتان ستأتيان إن شاء الله تعالى.

__________________

(١) في م : زوجته.

(٢) في م : حرمة.

٥١٩

وهذه الأحكام في الأقسام المذكورة على اختلافها مشروحة في تفاريقها ، حيث وقعت مجموعة في شرح الحديث الموسوم بالنيرين في شرح الصحيحين.

المسألة الثانية والعشرون ـ تكلم الناس في إعراب قوله : (خالِصَةً لَكَ) ، وغلب عليهم الوهم فيه ، وقد شرحناه في ملجئة المتفقهين.

وحقيقته عندي أنه حال من ضمير متصل بفعل مضمر دلّ عليه المظهر ، تقديره أحللنا لك أزواجك ، وأحللنا لك امرأة مؤمنة ، أحللناها خالصة بلفظ الهبة وبغير صداق ، وعليه انبنى معنى الخلوص هاهنا.

المسألة الثالثة والعشرون ـ قيل : هو خلوص النكاح له بلفظ الهبة دون غيره ، وعليه انبنى معنى الخلوص هاهنا.

وهذا ضعيف ، لأنا إن قلنا : إنّ نكاح النبىّ صلى الله عليه وسلم لا بدّ فيه من الولىّ ـ وعليه يدلّ قوله لعمرو بن أبى سلمة ربيبة ، حين زوّج أمه : قم يا غلام فزوّج أمك.

ولا يصح أن يكون المراد بهذه الآية هذا ، لأن قول الموهوبة : وهبت نفسي لك لا ينعقد به النكاح ، ولا بدّ بعده من عقده مع الولي ، فهل ينعقد بلفظه وصفته أم لا؟ مسألة أخرى لا ذكر للآية فيها.

الثاني (١) ـ أن المقصود بالآية خلوّ النكاح من الصداق ، وله جاء البيان ، وإليه يرجع الخلوص المخصوص به.

الثالث أنه قال بعد ذلك : إن أراد النبىّ صلى الله عليه وسلم أن يستنكحها ، فذكره في جنبته (٢) بلفظ النكاح المخصوص بهذا العقد ، فهذا يدلّ على أنّ المرأة وهبت نفسها بغير صداق ، فإن أراد النبىّ صلى الله عليه وسلم أن يتزوّج تزوّج ، فيكون النكاح حكما مستأنفا ، لا تعلّق له بلفظ الهبة ، إلا في المقصود من الهبة ، وهو سقوط العوض وهو الصّداق.

الرابع ـ إنا لا نقول : إنّ النكاح بلفظ الهبة جائز في حق غيره من هذا اللفظ ، فإن تقدير الكلام على ما بيناه أحللنا لك أزواجك ، وأحللنا لك المرأة الواهبة نفسها خالصة ،

__________________

(١) عد قوله : قيل هو خلوص النكاح الأول ، ولذلك قال هنا الثاني.

(٢) جنبته : جانبه.

٥٢٠