أحكام القرآن - ج ٣

أبي بكر محمّد بن عبدالله [ ابن العربي ]

أحكام القرآن - ج ٣

المؤلف:

أبي بكر محمّد بن عبدالله [ ابن العربي ]


المحقق: علي محمّد البجاوي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الجيل
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٤٨

ما أخبرنا أبو المعالي ثابت بن بندار البرقاني الحافظ ، أخبرنا الإسماعيلى ، حدثنا إبراهيم بن هاشم البغوي ، حدثنا محمد بن عباد ، حدثنا إسماعيل ، قال : رأيت عمرو بن دينار ، وأيوب ، وعمارا الرهينى ، اجتمعوا فتناكروا الذين حرقهم علىّ ، فحدّث أيوب ، عن عكرمة ، عن ابن عباس أنه لما بلغه قال : لو كنت أنا ما أحرقتهم ؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا تعذّبوا بعذاب الله ، ولقتلتهم ؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم : من ترك دينه فاقتلوه. فقال عمار : لم يكن حرقهم ، ولكنه حفر لهم حفائر ، وخرق بعضها إلى بعض ، ثم دخن عليهم حتى ماتوا. فقال عمار : قال الشاعر :

لترم بي المنايا حيث شاءت

إذا لم ترم بي في الحفرتين

إذا ما أجّجوا حطبا ونارا

هناك الموت نقدا غير دين

ومن حديث يحيى بن بكير ما يصدّق ذلك : عن علىّ أنه وجد في ضواحي (١) العرب رجلا ينكح كما تنكح المرأة كان اسمه الفجاءة ، فاستشار أبو بكر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وفيهم علىّ بن أبى طالب ، وكان يومئذ أشد فيهم قولا ، فقال على : إن هذا الذنب لم تعص به أمة من الأمم ، إلا أمة واحدة ، صنع الله بها ما علمتم ، أرى أن يحرق بالنار.

فاجتمع رأى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحرق بالنار ، فكتب أبو بكر إلى (٢) خالد بن الوليد أن يحرقهم بالنار ، فأحرقهم بالنار ، ثم أحرقهم ابن الزبير في زمانه ، ثم أحرقهم هشام بن عبد الملك ، ثم أحرقهم خالد القسري بالعراق.

وقد روى أنّ عبد الله بن الزبير أتى بسبعة أخذوا في لواط ، فسأل عنهم ، فوجدوا (٣) أربعة قد أحصنوا ، فأمر بهم فخرج بهم من الحرم ، ثم رجموا بالحجارة ، حتى ماتوا ، وجلد الثلاثة حتى ماتوا بالحد. قال : وعنده ابن عباس ، وابن عمر ، فلم ينكرا عليه.

وقد ذهب الشافعى إلى هذا ، والذي صار إليه مالك أحق ، وهو أصح سندا ، وأقوى معتمدا ، حسبما بيناه قبل هذا.

__________________

(١) الضاحية : أهل البادية ، وجمعه ضواحي.

(٢) في م : فكتب أبو بكر رضى الله عنه أن يحرق بالنار ، وكان الكتاب إلى خالد بن الوليد.

(٣) في ا : فوجد.

٤٤١

وقد روى عن ابن عباس أنه سئل عن حدّ اللواط ، فقال : يصعد به في الجبل ، ثم يردى منه ، ثم يتبع بالحجارة.

الآية الثالثة ـ قوله تعالى (١) : (اتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ وَاللهُ يَعْلَمُ ما تَصْنَعُونَ).

فيها أربع مسائل :

المسألة الأولى ـ في قوله تعالى : (إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ) قولان:

أحدهما ـ ما دام فيها.

والثاني ـ ما دام فيها وفيما بعدها.

قال ابن عباس : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر لم يزدد (٢) من الله إلا بعدا.

قال القاضي : قال شيوخ الصوفية : المعنى فيها أيضا أنّ من شأن المصلّى أن ينهى عن الفحشاء والمنكر ، كما من شأن المؤمن أن يتوكل على الله ، كما قال (٣) : (وَعَلَى اللهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ).

وكما لا يخرج المؤمن بترك التوكل على الله عن الإيمان كذلك لا يخرج المصلّى عن الصلاة بأن صلاته قصرت عن هذه الصفة.

وقال مشيخة الصوفية : الصلاة الحقيقية ما كانت ناهية ، فإن لم تنهه فهي صورة صلاة لا معناها ، ومعنى ذلك أنّ وقوفه بين يدي مولاه ومناجاته له إن لم تدم عليه بركتها ، وتظهر على جوارحه رهبتها حتى يأتى عليه صلاة أخرى ، وهو في تلك الحالة ، وإلا فهو عن ربه معرض ، وفي حال مناجاته غافل عنه.

المسألة الثانية ـ الفحشاء : الدنيا ، فتنهاه الصلاة عنها ، حتى لا يكون لغير الصلاة حظّ في قلبه ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : وجعلت قرّة عيني في الصلاة.

وقيل الفحشاء المعاصي ، وهو أقلّ الدرجات ، فمن لم تنهه صلاته عن المعاصي

__________________

(١) آية ٤٥.

(٢) في القرطبي : لم تزده من الله إلا بعدا.

(٣) سورة المائدة ، آية ٢٣.

٤٤٢

ولم تتمرن جوارحه بالركوع والسجود ، حتى يأنس بالصلاة وأفعالها أنسا يبعد به عن اقتراف الخطايا ، وإلا فهي قاصرة.

المسألة الثالثة ـ المنكر ، وهو كلّ ما أنكره الشرع وغيره ، ونهى عنه.

المسألة الرابعة ـ (وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ).

فيها أربعة أقوال :

الأول ـ ذكر الله لكم أفضل من ذكركم له (١) ، أضاف المصدر إلى الفاعل.

الثاني ـ ذكر الله أفضل من كل شيء.

الثالث ـ ذكر الله في الصلاة أفضل من ذكره في غيرها ، يعنى لأنها عبادتان.

الرابع ـ ذكر الله في الصلاة أكبر من الصلاة ، وهذه كلّها من إضافة المصدر إلى المفعول. وهذا كلّه صحيح ، فإن الصلاة بركة عظيمة.

الآية الرابعة ـ قوله تعالى (٢) : (وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ ، وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلهُنا وَإِلهُكُمْ واحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ).

فيها ثلاث مسائل :

المسألة الأولى ـ قال قتادة : وهي منسوخة بآية القتال ، فإنه رفع الجدال (٣).

المسألة الثانية ـ قد بينا في القسم الثاني أنها ليست منسوخة ، وإنما هي مخصوصة ، لأن النبىّ عليه السلام بعث باللسان يقاتل به في الله ، ثم أمره الله بالسيف واللسان ، حتى قامت الحجة على الخلق الله ، وتبيّن العناد ، وبلغت القدرة غايتها عشرة أعوام متصلة ، فمن قدر عليه قتل ، ومن امتنع بقي الجدال في حقّه ، ولكن بما يحسن من الأدلة ، ويجمل من الكلام ، بأن يكون منك للخصم تمكين ، وفي خطابك له لين ، وأن تستعمل من الأدلة أظهرها ، وأنورها ، وإذا لم يفهم المجادل أعاد عليه الحجة وكررها ، كما فعل الخليل مع الكافر حين

__________________

(١) في القرطبي : ذكر الله لكم بالثواب والثناء عليكم أكبر من ذكركم له في عبادتكم وصلواتكم.

(٢) آية ٤٦.

(٣) في القرطبي : قال مجاهد : هي محكمة فيجوز مجادلة أهل الكتاب بالتي هي أحسن (١٣ ـ ٣٥٠).

٤٤٣

قال له إبراهيم (١) : (رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ). فقال له الكافر : أنا أحيى وأميت ، فحسن الجدال ، ونقل إلى أبين منه بالاستدلال. وقال : إنّ الله يأتى بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب. وهو انتقال من حقّ إلى حقّ أظهر منه ، ومن دليل إلى دليل أبين منه وأنور.

المسألة الثالثة ـ قوله : (إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا).

فيها أربعة أقول :

الأول ـ أهل الحرب.

الثاني ـ مانعو الجزية.

الثالث ـ من بقي على المعاندة بعد ظهور الحجّة.

الرابع ـ الذين ظلموا في جدالهم ، بأن خلطوا في إبطالهم.

وهذه الأقوال كلها صحيحة مرادة ، وقد كانت للنبي صلى الله عليه وسلم مجادلات مع المشركين ، ومع أهل الكتاب. وآيات القرآن في ذلك كثيرة ، وهي أثبت في المعنى.

وقد قال لليهود (٢) : (إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللهِ خالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ. وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ). فما أجابوا جوابا.

وقال لهم (٣) : (إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ) ؛ أى إن كنتم أبعدتم ولدا بغير أب فخذوا ولدا دون أب ولا أم.

وقال (٤) : (يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً).

وقال (٥) : (وَقالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصارى نَحْنُ أَبْناءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ. بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ).

وقال عمران بن حصين : قال النبي صلى الله عليه وسلم لأبى حصين : يا حصين ؛ كم إلها تعبد اليوم! قال : إنى أعبد سبعة ، واحدا في السماء ، وستّا في الأرض. قال : فأيهم تعدّ لرغبتك ورهبتك! قال : الذي في السماء. قال : يا حصين ، أما إنك إن أسلمت علمتك. وذكر الحديث.

__________________

(١) سورة البقرة ، آية ٢٥٨.

(٢) سورة البقرة ، آية ٩٤.

(٣) سورة آل عمران ، آية ٥٩.

(٤) سورة آل عمران ، آية ٦٤.

(٥) سورة المائدة ، آية ١٨.

٤٤٤

سورة الرّوم

[فيها ثلاث آيات]

الآية الأولى ـ قوله تعالى (١) : (فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ).

فيها ثلاث مسائل :

المسألة الأولى ـ في سبب نزولها (٢) :

روى الترمذي وغيره ـ واللفظ له ـ عن أبى سعيد الخدري ، قال : لما كان يوم بدر ظهرت الروم على فارس ، فأعجب ذلك المؤمنين ، فنزلت : (الم. غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ ...) إلى قوله : (يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللهِ). قال : ففرح المؤمنون بظهور الرّوم على فارس.

وذكر عن ابن عباس قال : غلبت الروم وغلبت ، كان المشركون يحبّون أن تظهر فارس على الروم ، لأنهم وإياهم أهل أوثان ، وكان المسلمون يحبّون أن تظهر الروم على فارس ، لأنهم وإياهم كانوا أهل الكتاب ، فذكروه لأبى بكر فذكره أبو بكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : أما إنهم سيغلبون. فذكره أبو بكر لهم ، فقالوا : اجعل بيننا وبينك أجلا ، فإن ظهرنا كان لنا كذا وكذا ، وإن ظهرتم كان لكم كذا. فجعل أجلا خمس سنين ، فلم يظهروا ، فذكر ذلك للنبىّ عليه السلام ، فقال : ألا أخفضت ، وفي رواية : ألا أحبطت. وفي رواية : ألا جعلته إلى دون ، أراه العشرة ،

قال أبو سعيد : والبضع ما دون العشرة ، ثم ظهرت الروم فذلك قوله تعالى : (الم. غُلِبَتِ الرُّومُ ...) إلى قوله : (يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللهِ).

قال سفيان : سمعت أنهم ظهروا عليهم يوم بدر.

قال أبو عيسى : هذا حديث حسن صحيح غريب.

وروى أيضا عن نيار بن مكرم الأسلمى ، قال : لما نزلت : (الم غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ) ، وكانت فارس يوم نزلت هذه الآية ، قاهرين للرّوم ،

__________________

(١) آية ٥.

(٢) أسباب النزول : ١٩٧.

٤٤٥

وكان المسلمون يحبّون ظهور الروم عليهم ، لأنهم وإياهم أهل كتاب ، وذلك قوله : (وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) ، فكانت قريش تحبّ ظهور فارس ، لأنهم وإياهم ليسوا بأهل كتاب ، ولا إيمان ببعث ، فلما أنزل الله هذه الآية خرج أبو بكر الصديق يصيح في نواحي مكة : (الم. غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ). قال ناس من قريش لأبى بكر : فذلك بيننا وبينكم ، زعم صاحبك أنّ الروم ستغلب فارس في بضع سنين ، أفلا نراهنك على ذلك! قال : بلى. وذلك قبل تحريم الرّهان.

فارتهن أبو بكر والمشركون ، وتواضعوا الرهان ، وقالوا لأبى بكر : كم تجعل البضع؟ ثلاث سنين إلى (١) تسع سنين. فسمّ بيننا وبينكم وسطا (٢).

قال : فسمّوا بينهم ستّ سنين.

قال : فمضت الستّ سنين قبل أن يظهروا ، فأخذ المشركون رهن أبى بكر. فلما دخلت السنة السابعة ظهرت الروم على فارس ، فعاب المشركون على أبى بكر تسمية ست سنين ، لأنّ الله تعالى قال : (فِي بِضْعِ سِنِينَ).

قال : وأسلم عند ذلك ناس كثير ، فهذه أحاديث صحاح حسان غراب.

المسألة الثانية ـ في هذا الحديث جواز المراهنة.

وقد نهى النبىّ صلى الله عليه وسلم بعد ذلك عن الغرر والقمار ، وذلك نوع منه ، ولم يبق للرهان جواز إلا في الخيل ، حسبما بينّا في كتب الحديث والفقه.

المسألة الثالثة ـ قوله : (فِي بِضْعِ سِنِينَ).

البضع فيه لأهل اللغة خمسة أقوال :

الأول ـ أنه ما بين اثنين إلى عشرة ، أو اثنى عشر إلى عشرين ، فيقال : بضع عشرة في جمع المذكر ، وبضعة عشر في جمع المؤنث.

الثاني ـ البضع سبعة ، قاله الخليل.

__________________

(١) في القرطبي : أو تسع سنين.

(٢) في القرطبي : فسم بيننا وبينك وسطا ننتهي إليه.

٤٤٦

الثالث ـ البضع من الثلاث إلى التسع.

الرابع ـ قال أبو عبيدة : هو ما بين نصف العقدين ، يريد ما بين الواحد إلى الأربعة.

الخامس ـ هو ما بين خمس إلى سبع ، قاله يعقوب عن أبى زيد.

ويقال بكسر الباء وفتحها ، قال أكثرهم : ولا يقال بضع ومائة ، وإنما هو إلى التسعين.

والصحيح أنه ما بين الثلاث إلى العشر ، وبذلك يقضى في الإقرار ، وقد بيناه في فروع الأحكام.

الآية الثانية ـ قوله تعالى (١) : (فَسُبْحانَ اللهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ). وقد تقدم بيانها مع نظرائها من آيات الصلاة.

الآية الثالثة ـ قوله تعالى (٢) : (وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللهِ وَما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ).

فيها أربع مسائل :

المسألة الأولى ـ بينّا الربا ومعناه في سورة البقرة (٣) ، وشرحنا حقيقته وحكمه ، وهو هناك محرّم وهنا محلّل (٤) ، وثبت بهذا أنه قسمان ، منه حلال ومنه حرام.

المسألة الثانية ـ في المراد بهذه الآية :

فيه ثلاثة أقوال :

الأول ـ أنه الرجل يهب هبة يطلب أفضل منها ، قاله ابن عباس.

الثاني ـ أنه الرجل في السفر يصحبه رجل يخدمه ويعينه ، فيجعل المخدوم له بعض الربح جزاء خدمته ، لا لوجه الله ، قاله الشعبي.

الثالث ـ الرجل يصل قرابته ، يطلب بذلك كونه غنيا ، لا صلة لوجه الله ، قاله إبراهيم.

المسألة الثالثة ـ أما من يصل قرابته ليكون غنيا فالنية في ذلك متنوعة ، فإن كان

__________________

(١) آية ١٨.

(٢) آية ٣٩.

(٣) صفحة ٢٤٠.

(٤) الربا منه حلال وحرام ، فأما الربا الحلال فهو الذي يهدى ، يلتمس ما هو أفضل منه (القرطبي).

٤٤٧

ليتظاهر به دنيا فليس لوجه الله تعالى ، وإن كان ذلك لما له من حقّ القرابة وبينهما من وشيجة الرحم ، فإنه لوجه الله تعالى.

وأما من يعين الرجل بخدمته في سفره بجزء من ماله فإنّه للدنيا لا لوجه الله ، ولكن هذا المربى ليس ليربو في أموال الناس ، وإنما هو ليربو في مال نفسه ، وصريح الآية فيمن يهب يطلب الزيادة من أموال الناس في المكافأة ، وذلك له.

وقد قال عمر بن الخطاب : أيما رجل وهب هبة يرى أنها للثواب فهو على هبته حتى يرضى منها.

وقال الشافعى : الهبة إنما تكون لله أو لجلب المودّة ، كما جاء في الأثر : تهادوا تحابّوا.

وهذا باطل ، فإنّ العرف جار بأن يهب الرجل الهبة لا يطلب إلا المكافأة عليها ، وتحصل في ذلك المودّة تبعا للهبة.

وقد روى أنّ النبىّ صلى الله عليه وسلم أثاب على لقحة (١) ، ولم ينكر على صاحبها حين طلب الثواب ، إنما أنكر سخطه للثواب ، وكان زائدا على القيمة.

وقد اختلف علماؤنا فيما إذا طلب الواهب في هبته زائدا على مكافأته ، وهي :

المسألة الرابعة ـ فإن كانت الهبة قائمة لم تتغيّر ، فيأخذ ما شاء ، أو يردّها عليه.

وقيل : تلزمه القيمة ، كنكاح التفويض.

وأما إذا كان بعد فوات الهبة فليس له إلا القيمة اتفاقا.

وقد قال تعالى (٢) : (وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ) ، أى لا تعط مستكثرا ـ على أحد التأويلات ، ويأتى بيانه إن شاء الله تعالى.

__________________

(١) اللقحة : الناقة الحلوب.

(٢) سورة المدثر ، آية ٦.

٤٤٨

سورة لقمان

[فيها خمس آيات]

الآية الأولى ـ قوله تعالى (١) : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَها هُزُواً أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ).

فيها ثلاث مسائل :

المسألة الأولى ـ (لَهْوَ الْحَدِيثِ) : هو الغناء وما اتّصل به. فروى الترمذي والطبري وغيرهما عن أبى أمامة الباهلي أنّ النبىّ صلى الله عليه وسلم قال : لا يحل بيع المغنيات ، ولا شراؤهنّ ، ولا التجارة فيهن ، ولا أثمانهن ، وفيهن أنزل الله تعالى : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ ...) الآية.

وروى عبد الله بن المبارك عن مالك بن أنس ، عن محمد بن المنكدر ، عن أنس بن مالك ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من جلس إلى قينة يسمع منها صبّ في أذنيه الآنك (٢) يوم القيامة.

وروى ابن وهب ، عن مالك بن أنس ، عن محمد بن المنكدر ـ أنّ الله يقول يوم القيامة : أين الذين كانوا ينزّهون أنفسهم وأسماعهم عن اللهو ومزامير الشيطان؟ أدخلوهم (٣) في رياض المسك. ثم يقول للملائكة : أسمعوهم حمدي وشكرى ، وثنائى عليهم ، وأخبروهم أن لا خوف عليهم ولا هم يحزنون.

ومن رواية مكحول ، عن عائشة ، قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من مات وعنده جارية مغنّية فلا تصلّوا عليه.

الثاني (٤) ـ أنه الباطل.

__________________

(١) آية ٦.

(٢) الآنك : الرصاص.

(٣) في القرطبي : أحلوهم رياض المسك.

(٤) كأنه عد قوله : هو الغناء ... الأول. (٢٩ ـ أحكام ـ ٣)

٤٤٩

الثالث ـ أنه الطبل ، قاله الطبري.

المسألة الثانية ـ في سبب نزولها (١) :

وفيه قولان :

أحدهما ـ أنها نزلت في النّضر بن الحارث ، كان يجلس بمكة ، فإذا قالت قريش : إنّ محمدا قال كذا وكذا ضحك منه ، وحدّثهم بأحاديث ملوك الفرس ، ويقول : حديثي هذا أحسن من قرآن محمد.

الثاني ـ أنها نزلت في رجل من قريش اشترى جارية مغنية ، فشغل الناس بلهوها عن استماع النبي صلى الله عليه وسلم.

المسألة الثالثة ـ هذه الأحاديث التي أوردناها لا يصح منها شيء بحال ، لعدم ثقة ناقليها إلى من ذكر من الأعيان فيها.

وأصحّ ما فيه قول من قال : إنه الباطل. فأما قول الطبري : إنه الطبل فهو على قسمين : طبل حرب ، وطبل لهو ، فأما طبل الحرب فلا حرج فيه ، لأنه يقيم النفوس ، ويرهب على العدو. وأما طبل الّلهو فهو كالدفّ. وكذلك آلات اللهو المشهرة للنكاح يجوز استعمالها فيه ، لما يحسن من الكلام ، ويسلم من الرّفث.

وأما سماع القينات فقد بينا أنه يجوز للرجل أن يسمع غناء جاريته ، إذ ليس شيء منها عليه حراما ، لا من ظاهرها ولا من باطنها ، فكيف يمنع من التلذذ بصوتها؟ ولم يجز الدف في العرس لعينه ، وإنما جاز لأنه يشهره ، فكلّ ما أشهره جاز.

وقد بينا جواز الزّمر في العرس بما تقدم من قول أبى بكر : أمزمار الشيطان في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال : دعهما يا أبا بكر ، فإنه يوم عيد ، ولكن لا يجوز انكشاف النساء للرجال ، ولا هتك الأستار ، ولا سماع الرّفث ، فإذا خرج ذلك إلى ما لا يجوز منع من أوله ، واجتنب (٢) من أصله.

الآية الثانية ـ قوله تعالى (٣) : (وَلَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ).

__________________

(١) أسباب النزول : ١٩٧.

(٢) في القرطبي : واجتث.

(٣) آية ١٢.

٤٥٠

فيها أربع مسائل :

المسألة الأولى ـ في ذكر لقمان.

وفيه سبعة أقوال :

الأول ـ قال سعيد بن المسيّب : كان لقمان أسود من سودان مصر ، حكيما ، ذا مشافر ، ولم يكن نبيّا.

الثاني ـ قال قتادة : خيّره الله بين النبوّة والحكمة ، فاختار الحكمة (١) ، فأتاه جبريل وهو نائم ، فقذف (٢) عليه الحكمة ، فأصبح ينطق بها ، فسئل عن ذلك ، فقال : إنه لو أرسل إلىّ النبوة عزمة لرجوت الفوز ، وأن أقوم بها ، ولكنه خيّرنى ، فخفت أن أضعف عن النبوة.

الثالث ـ أنه كان من النّوبة قصيرا أفطس.

الرابع ـ أنه كان حبشيّا.

الخامس ـ أنه كان خيّاطا.

السادس ـ أنه كان راعيا ، فرآه رجل كان يعرفه قبل ذلك ، قال : ألست عبد بنى فلان الذي كنت ترعى بالأمس؟ قال : بلى. قال : فما بلغ بك ما أرى؟ قال : قدر الله ، وأداء الأمانة ، وصدق الحديث ، وترك ما لا يعنيني.

السابع ـ أنه كان عبدا نجارا ، قال له سيده : اذبح شاة ، وأتنى بأطيبها بضعتين. فأتاه بالقلب واللسان. ثم أمره بذبح شاة ، وقال له : ألقى أخبثها بضعتين (٣) ، فألقى اللسان ، والقلب ، فقال : أمرتك أن تأتينى بأطيبها بضعتين فأتيتنى باللسان والقلب ، وأمرتك أن تلقى أخبثها بضعتين ، فألقيت اللسان والقلب! فقال : ليس شيء أطيب منهما إذا طابا ، ولا شيء أخبث منهما إذا خبثا.

المسألة الثانية ـ روى علماؤنا ، عن مالك ، أنّ لقمان قال لابنه : يا بنىّ ، إنّ الناس قد تطاول عليهم ما يوعدون ، وهم إلى الآخرة سراعا يذهبون ، وإنك قد استدبرت الدنيا منذ كنت ، واستقبلت الآخرة ، وإنّ دارا تسير إليها أقرب إليك من دار تخرج عنها.

__________________

(١) في م : فاختار النبوة.

(٢) في القرطبي : فذر.

(٣) في القرطبي : مضغتين.

٤٥١

وقال لقمان : يا بنى ، ليس غنى كصحّة ، ولا نعمة كطيب نفس.

وقال لقمان لابنه : يا بنى ، لا تجالس الفجّار ، ولا تماشهم ، اتّق أن ينزل عليهم عذاب من السماء ، فيصيبك معهم.

وقال : يا بنى ، جالس العلماء ، وماشهم ، عسى أن تنزل عليهم رحمة فتصيبك معهم.

وقال : يا بنى ، جالس العلماء وزاحمهم بركبتيك ، فإن الله يحيى القلوب الميتة بالعلم ، كما يحيى الأرض بوابل المطر.

المسألة الثالثة ـ ذكر المؤرخون أنه كان لقمان بن عاد الأكبر ، وكان لقمان الأصغر ، وليس بلقمان المذكور في القرآن. وكان لقمان هذا الذي تذكره العرب حكيما.

وفي أخبارها أنّ أخت لقمان كانت امرأة محمقة ، وكان لقمان حكيما نجيبا ، فقالت أخته لامرأته : هذه ليلة طهرى فهبى لي ليلتك ، طمعا في أن تعلق من أخيها بنجيب ، ففعلت ، فحملت من أخيها ، فولدت لقيم بن لقمان ، وفيه يقول النمر بن تولب (١) :

لقيم بن لقمان من أخته

فكان ابن أخت لها وابنما

ليالي حمّق فاستحصنت

عليه فغرّ بها مظلما

فقرّ به رجل محكم (٢)

فجاءت به رجلا محكما

المسألة الرابعة ـ ذكر مالك كلاما كثيرا من الحكمة عن لقمان ، وأدخل من حكمته فصلا في كتاب الجامع من موطّئه ، لأن الله ذكره في كتابه ، وذكر من حكمته فصلا يعضده الكتاب والسنة ، لينبّه بذلك على أنّ الحكمة تؤخذ (٣) من كل أحد ، وجائز أن يكون نبيا ، وجائز أن يكون عالما ، أى أوتى الحكمة ، وهي العمل بالعلم.

الآية الثالثة ـ قوله تعالى (٤) : (وَلا تُصَعِّرْ) (٥) (خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ).

فيها مسألتان :

__________________

(١) الأبيات في ابن الشجري : ١٨ ، والبيت الأول وحده في اللسان ـ لقم.

(٢) في ابن الشجري : فأحبلها رجل نابه.

(٣) في م : توجد.

(٤) آية ١٨.

(٥) في ا : لا تصاعر ، وهي قراءة نافع وأبى عمرو وحمزة والكسائي وابن محيصن ، كما في القرطبي.

٤٥٢

المسألة الأولى ـ (لا تُصَعِّرْ خَدَّكَ) ، يعنى لا تمله عنهم تكبّرا ، يريد أقبل عليهم متواضعا ، مؤنسا مستأنسا ، وإذا حدّثك أحدهم فأصغ إليه ، حتى يكمل حديثه ، وكذلك كان يفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال الشاعر (١) :

وكنّا إذا الجبّار صعّر خدّه

أقمنا له من ميله فتقوّم

يريد : فتقوّم أنت ، أمر ، ثم كسرت للقافية.

المسألة الثالثة ـ قوله : (وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً).

قد تقدّم (٢) بيان ذلك في سورة سبحان.

وفي الحديث الصحيح ، عن مالك وغيره (٣) : بينما رجل يتبختر في برديه أعجبته نفسه ، فخسف الله به الأرض ، وهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة ، وعنه ـ صحيحا : الذي يجرّثوبه خيلاء لا ينظر الله إليه يوم القيامة.

وعنه مثله : لا ينظر الله إلى من جرّ إزاره بطرا.

وعنه مثله ، عن أبى سعيد الخدري : أنه سئل عن الإزار ، فقال أبو سعيد : أنا أخبركم بعلم : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : إزرة (٤) المؤمن إلى إنصاف ساقيه ، لا جناح عليه فيما بينه وبين الكعبين ، وما أسفل من ذلك ففي النار.

قال القاضي : روى أنّ المختال هو قارون ، وذلك أنّ هذه الأمة معصومة من الخسف. وفي بعض الآثار ، وفي صحيح الأخبار أنه سيخسف بجيش في البيداء يقصد البيت. وقد بينا ذلك في شرح الحديث ، أما أنه يتبختر فلم (٥) تخسف به الأرض حقيقة خسف به في العمل مجازا ، فلم يرق له عمل إلى السماء ، وهو أشدّ الخسف.

الآية الرابعة ـ قوله تعالى (٦) : (وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ).

فيها مسألتان :

__________________

(١) البيت لعمرو بن حنى التغلبي كما في القرطبي. وفي اللسان نسب للمتلمس ، وروى فيه : فتقوما ـ (صعر)

(٢) صفحة ١٢٠١.

(٣) صحيح مسلم : ١٦٥٤.

(٤) الإزرة ـ بالكسر : الحالة وهيئة الائتزاز (النهاية).

(٥) في م : أما إن يتبختر فإن لم تحسف ...

(٦) آية ١٩.

٤٥٣

المسألة الأولى ـ القصد في المشي يحتمل أن يريد به وجهين :

أحدهما ـ أن تكون السرعة ، ويحتمل التؤدة ، وكلاهما صحيح في موضعه.

ويحتمل أن يريد به المشي بقصد ، لا يكون عادة ، بل يجرى على حكم النية ، ولا يسترسل استرسال البهيمة ، والكلّ صحيح مراد. والله أعلم.

المسألة الثانية ـ قوله : (وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ).

يعنى لا تتكلف رفع الصوت ، وخذ منه ما تحتاج إليه ، فإنّ الجهر بأكثر من الحاجة تكلّف يؤذى.

وقد قال عمر لمؤذن تكلّف رفع الأذان بأكثر من طاقته : لقد خشيت أن تنشقّ مريطاؤك.

والمؤذّن هو أبو محذورة سمرة بن معير (١). والمريطاء : ما بين السرة إلى العانة.

الآية الخامسة ـ قوله تعالى (٢) : (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ ، حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلى وَهْنٍ ، وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ).

يأتى في (٣) سورة الأحقاف إن شاء الله.

__________________

(١) في الأصول معمر. والصواب من الاستيعاب (٢ ـ ٦٥٦).

(٢) آية ١٤ ، وهي في السورة قبل الآية التي سبقتها.

(٣) صفحة ١٦٨٥.

٤٥٤

سورة السجدة

[فيها ثلاث آيات]

الآية الأولى ـ قوله تعالى (١) : (تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ).

فيها ثلاث مسائل :

المسألة الأولى ـ المضاجع جمع مضجع ، وهي مواضع النوم. ويحتمل وقت الاضطجاع ، ولكنه مجاز. والحقيقة أولى ، وذلك كناية عن السهر في طاعة الله تعالى.

المسألة الثانية ـ إلى أى طاعة الله تتجافى؟

وفيه قولان :

أحدهما ـ ذكر الله. والآخر الصلاة.

وكلاهما صحيح ، إلا أن أحدهما عامّ ، والآخر خاص.

فإن قلنا : إن ذلك في الصلاة ، فأىّ صلاة هي؟

في ذلك أربعة أقوال ، وهي :

المسألة الثالثة ـ الأول : أنها النّفل بين المغرب والعشاء ، قاله قتادة.

الثاني ـ أنها العتمة ، قاله أنس وعطاء.

الثالث ـ أنها صلاة العتمة والصبح في جماعة ، قاله أبو الدرداء.

الرابع ـ أنه قيام (٢) الليل ، قاله مجاهد ، والأوزاعى ، ومالك.

قال ابن وهب : هو قيام الليل بعد النوم ، وذلك أثقله على الناس ، ومتى كان النوم حينئذ أحبّ فالصلاة حينئذ أحبّ وأولى.

والقول في صلاة الليل مضى ، وسيأتى في سورة الزمر إن شاء الله تعالى.

__________________

(١) آية ١٦.

(٢) في م : صلاة الليل.

٤٥٥

الآية الثانية ـ قوله تعالى (١) : (قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ).

قال القاضي : هذه الآية لم يذكرها من طالعت كلامه في جميع الأحكام القرآنية ، وذكرها القرطبي في كتب الفقه خاصة منتزعا بها لجواز الوكالة من قوله : (الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ) ، وهذا أخذ من لفظه ، لا من معناه ، فإن كلّ فاعل غير الله إنما يفعل بما خلق الله فيه من الفعل ، لا بما جعل إليه ، حسبما بيناه في أصول الدين. ولو اطرد ذلك لقلنا في قوله (٢) : (قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً) أنها نيابة عن الله تعالى ، ووكالة في تبليغ رسالته ، ولقلنا أيضا في قوله : (وَآتُوا الزَّكاةَ) أنه وكالة في (٣) أنّ الله ضمن الرزق لكلّ دابّة ، وخصّ الأغنياء بالأغذية ، وأوعز إليهم بأنّ رزق الفقراء عندهم ، وأمرهم بتسليمه إليهم ، مقدّرا معلوما في وقت معلوم ، ودبّره بعلمه ، وأنفذه من حكمه ، وقدّره بحكمته ، حسبما بيناه في موضعه.

ولا تتعلّق الأحكام بالألفاظ ، إلا أن ترد على موضوعاتها الأصلية في مقاصدها المطلوبة ، فإن ظهرت في غير مقصدها لم تعلّق عليها مقاصدها. ألا ترى أنّ البيع والشراء معلوم اللفظ والمعنى ، وقد قال الله تعالى (٤) : (إِنَّ اللهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ ...) الآية.

ولا يقال : هذه الآية دليل على جواز مبايعة السيد لعبده ، لأنّ المقصودين (٥) مختلفان.

وهذا غرض شبّ طوق أصحابنا عنه ، فإذا أرادوا لبسه لم يستطيعوا جوبه ، ولا وجد امرؤ منهم جيبه.

وقد تكلمنا على هذه الآية في المشكلين ، وأحسن ما قيدنا فيها عن الإسفراينى ، من طريق الشهيد أبى سعيد المقدسي ، أن الله هو الخالق لكلّ شيء ، الفاعل حقيقة لكل فعل ، في أى محل كان ، ومتى ترتّب المحال ، وتناسقت الأفعال فالكل إليه راجعون ،

__________________

(١) آية ١١ ، وهي أيضا في السورة قبل الآية التي سبقت. ولكن هكذا بالأصول.

(٢) سورة الأعراف ، آية ١٥٨.

(٣) في القرطبي : فإن الله ضمن ...

(٤) سورة التوبة ، آية ١١٢.

(٥) في القرطبي : المقصدين.

٤٥٦

وعلى قدرته محالون ، ومن فعله محسوب ، وفي كتابه مكتوب ، وقد خلق ملك الموت ، وخلق على يديه قبض الأرواح ، واستلالها من الأجسام ، وإخراجها منها على كيفية بينّاها في كتب الأصول ، وخلق جندا يكونون معه ، يعملون عمله بأمره مثنى وفرادى. والباري تعالى خالق الكل ، فأخبر عن الأحوال الثلاثة بثلاث عبارات ، فقال (١) : (اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها ...) الآية ، إخبارا عن الفعل الأول ، وهو الحقيقة.

وقال في الآية الأخرى (٢) : (قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ...) الآية خبرا عن المحل الأول الذي نيط به ، وخلق فعله فيه.

وقال (٣) : (وَلَوْ تَرى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ) ، وما أشبه ذلك من ألفاظ الحديث (٤) خبرا (٥) عن الحالة الثانية التي تباشر فيها ذلك. فالأولى حقيقة عقلية إلهية ، والثانية حقيقة عربية شرعية بحكم المباشرة.

وقال : ملك الموت إن باشر مثلها وإن أمر فهو كقولهم : حدّ الأمير الزّانى وعاقب الجاني. وهذه نهاية في تحقيق القول.

قال ابن العربي : أما إنه إذا لم يكن بدّ من التسوّر على المعاني ، ودفع الجهل عنها في غير موضعها ، والإعراض عن المقاصد في ذلك ، فيقال : إن هذه الآية دليل على أن للقاضي أن يستنيب من يأخذ الحقّ ممن هو عليه قسرا دون أن يكون له في ذلك فعل أو يرتبط به رضا إذا وجد ذلك.

وهو (٦) التحقيق الحاضر الآن ، وتمامه في الكتاب الكبير.

الآية الثالثة ـ قوله تعالى (٧) : (أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لا يَسْتَوُونَ).

فيها مسألتان :

المسألة الأولى ـ فيمن نزلت (٨)؟

وقد روى أنها نزلت في علىّ بن أبى طالب المؤمن ، وفي عقبة بن أبى معيط الكافر ،

__________________

(١) سورة الزمر ، آية ٤٢.

(٢) سورة سبح ، آية ١١.

(٣) سورة الأنفال ، آية ٥٠.

(٤) في م : القرآن.

(٥) في م : حذرا.

(٦) في م : وهذا.

(٧) آية ١٨.

(٨) أسباب النزول : ٢٠٠.

٤٥٧

فاخر عقبة عليّا ، فقال : أنا أبسط منك لسانا ، وأحدّ سنانا ، وأملأ (١) في الكتيبة منك حشوا.

فقال له علىّ : ليس كما قلت يا فاسق.

قال قتادة : والله ما استويا في الدنيا ، ولا عند الموت ، ولا في الآخرة.

المسألة الثانية ـ في هذا القول نفى المساواة بين المؤمن والكافر ، وبهذا منع القصاص بينهما ، إذ من شروط وجود القصاص المساواة بين القاتل والمقتول ، وبذلك احتجّ علماؤنا على أبى حنيفة في قتله المسلم بالذمي.

وقال : أراد نفى المساواة هاهنا في الآخرة في الثواب ، وفي الدنيا في العدالة ، ونحن حملناه على عمومه ، وهو أصحّ ، إذ لا دليل يخصّه حسبما قرّرناه في مسائل الخلاف.

__________________

(١) في ا : وأنبأ. وفي القرطبي : وأرد للكتيبة ـ وروى : وأملأ في الكتيبة جسدا.

٤٥٨

سورة الأحزاب

[فيها أربع وعشرون آية]

الآية الأولى ـ قوله تعالى (١) : (ما جَعَلَ اللهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَما جَعَلَ أَزْواجَكُمُ اللَّائِي تُظاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهاتِكُمْ وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ ذلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْواهِكُمْ وَاللهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ).

فيها أربع مسائل :

المسألة الأولى ـ في سبب نزولها : (٢)

فيها أربعة أقوال :

الأول ـ أنها مثل ضربه الله لزيد بن حارثة وللنبي صلى الله عليه وسلم ، يقول : ليس ابن رجل آخر ابنك.

الثاني ـ قال قتادة : كان رجل لا يسمع شيئا إلا وعاه ، فقال الناس : ما يعي هذا إلا لأن له قلبين ، فسمى ذا القلبين ، فقال الله تعالى : (ما جَعَلَ اللهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ) ، [فكان ما قال] (٣).

الثالث ـ قال مجاهد : إن رجلا من بنى فهر قال : إنّ في جوفي قلبين ، أعمل بكل واحد منهما عملا أفضل من عمل محمد.

الرابع ـ قيل لابن عباس : أرأيت قول الله تعالى : (ما جَعَلَ اللهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ) ما عنى بذلك؟

قال : قام نبىّ الله صلى الله عليه وسلم يصلّى ، فخطر خطرة (٤) ، فقال المنافقون الذين يصلّون معه : ألا ترون له قلبين : قلبا معكم ، وقلبا معهم (٥) ، فأنزل الله تعالى الآية.

__________________

(١) آية ٤.

(٢) أسباب النزول : ٢٠١.

(٣) من م.

(٤) في ا : فحظر حظيرة.

(٥) في م : معه.

٤٥٩

المسألة الثانية ـ قوله : (مِنْ قَلْبَيْنِ).

القلب : بضعة (١) صغيرة الجرم على هيئة الصنوبرة ، خلقها الله تعالى في الآدمي وجعلها محلّا للعلم. والروح أيضا ، في قول ، يحصى به العبد من العلوم ما لا يسع في أسفار ، يكتبه الله له فيه (٢) بالخط الإلهى ، ويضبطه فيه بالحفظ الرّبانى حتى يحصيه ولا ينسى منه شيئا.

وهو بين لمتين : لمة (٣) من الملك ، ولمة من الشيطان ، كما تقدم بيانه في الحديث.

وهو محلّ الخطرات والوساوس ، ومكان الكفر والإيمان ، وموضع الإصرار والإنابة ، ومجرى الانزعاج والطمأنينة.

والمعنى في الآية أنه لا يجتمع في القلب الكفر والإيمان ، والهدى والضلال ، والإنابة والإصرار ، وهذا نفى لكل ما توهّمه أحد في ذلك من حقيقة أو مجاز.

المسألة الثالثة ـ قوله : (وَما جَعَلَ أَزْواجَكُمُ اللَّائِي تُظاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهاتِكُمْ).

نهى الله سبحانه أن تكون الزوجة أمّا بقول الرجل : هي علىّ كظهر أمىّ. ولكنه حرّمها عليه ، وجعل تحريم القول يمتدّ إلى غاية ، وهي الكفّارة ، على ما يأتى بيانه (٤) في سورة المجادلة.

المسألة الرابعة ـ قوله : (وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ).

كان الرجل يدعو الرجل ابنا إذا ربّاه ، كأنه تبنّاه ، أى يقيمه مقام الابن ، فردّ الله عليهم قولهم ، لأنهم تعدّوا به إلى أن قالوا : المسيح ابن الله. وإلى أن يقولوا زيد بن محمد. فمسخ الله هذه الذّريعة ، وبت (٥) حبلها ، وقطع وصلها بما أخبر من إبطال ذلك.

الآية الثانية ـ قوله تعالى (٦) : (ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آباءَهُمْ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ فِيما أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلكِنْ ما تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً).

فيها خمس مسائل :

__________________

(١) البضعة : القطعة من اللحم ـ بالفتح وقد تكسر.

(٢) في القرطبي : بالخط الإلهى.

(٣) اللمة ـ بالفتح : الخطرة تقع في القلب.

(٤) صفحة ١٧٣٤.

(٥) بت : قطع.

(٦) آية ٥.

٤٦٠