أحكام القرآن - ج ٣

أبي بكر محمّد بن عبدالله [ ابن العربي ]

أحكام القرآن - ج ٣

المؤلف:

أبي بكر محمّد بن عبدالله [ ابن العربي ]


المحقق: علي محمّد البجاوي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الجيل
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٤٨

فإن قيل : فكيف يفعلون بقول عمر وعلى؟

قلنا : سبحان من لم يجعل الحجة إلا في قول صاحب المعجزة ، على أن الذي روى في ذلك إنما هو أنّ عمر كاتب عبدا له هو جدّ ميمون بن جابان فقال له عمر : كم تعرض؟ فقال عبده : أعرض مائتي أوقية. قال : فما استزادنى ، وكاتبني عليها ، فأراد أن يعجّل لي من ماله طائفة ، فأرسل إلى حفصة أم المؤمنين : إنى كاتبت غلامي ، فأردت أن أعجّل له طائفة من مالي ، فأرسلى إلىّ بمائتي درهم إلى أن يأتينا بشيء ، فأرسلت بها إليه ، فأخذها عمر بيمينه ، وقرأ هذه الآية : (وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ فَكاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً وَآتُوهُمْ مِنْ مالِ اللهِ الَّذِي آتاكُمْ) ، فخذها ، فبارك الله لك فيها. قال : فبارك الله لي فيها ، عتقت منها ، وأصبت خيرا كثيرا.

وقال على في قول الله : (وَآتُوهُمْ مِنْ مالِ اللهِ الَّذِي آتاكُمْ) قال : ربع الكتابة. وكاتب عبدا له على أربعة آلاف درهم ، فوضع عنه ربعها ، وهذا من فعل عمر ، وقول علىّ وفعله لا يقتضى إلا الندب ، وليس فيه على الوجوب دليل لا سيما وقد خالفهما عثمان ، فروى أنه كاتب عبده ، وحلف ألّا يحطّه ... في حديث طويل.

المسألة العاشرة ـ في أى وقت يؤتى؟ فيه أربعة أقوال :

الأول ـ قال ابن وهب سمعت مالكا يقول ـ وسألته عما يترك للمكاتب من كتابته التي يكاتب عليها : متى يترك ، وكيف يكتب؟ فقال مالك : يكتب في كتابه أنه كاتب على كذا ، وقد وضع عنه من أجر كتابته كذا.

الثاني ـ أنه يترك له من كل نجم ، قاله مجاهد.

الثالث ـ يوضع عنه من آخر الكتابة ، قاله على بن أبى طالب.

الرابع ـ يوضع عنه من أولها ، قاله عمر وفعله.

والأقوى عندي أنه يكون في آخرها ، ليستفيد بذلك براءته مما عليه ، وحصول العتق له ، والإسقاط أبدا إنما يكون في أخريات الديون.

المسألة الحادية عشرة ـ اختلفوا في صفة عقد الكتابة ، وروى أنه كان يقول : كاتبتك على

٣٤١

ألفين في عامين. وروى أنه يقول : فإذا أدّيت فأنت حر ، وهذا لا يلزم ، لأن لفظ القرآن لا يقتضيه والحال يشهد له ، فإن ذكره فحسن ، وإن تركه فهو معلوم لا يحتاج إليه.

المسألة الثانية عشرة ـ قوله : (وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً).

قال جابر بن عبد الله : كانت جارية لعبد الله بن أبىّ يقال لها مسيكة (١) فأكرهها على البغاء ، فقالت له : لئن كان هذا خيرا لقد استكثرت منه ـ وروى لقد استنكرت منه ـ وإن كان شرّا لقد بان لي أن أدعه. فأنزل الله الآية.

وروى الزهري أنه كان لعبد الله بن أبىّ جارية يقال لها معاذة ، وكان رجل من قريش أسر يوم بدر ، فكان عنده وكان القرشىّ يريد الجارية على نفسها ، وكانت الجارية تمتنع منه لإسلامها ، وكان عبد الله بن أبىّ يضربها على امتناعها من القرشي ، رجاء أن تحمل منه ، فيطلب فداء ولده ، فأنزل الله الآية. وكذا روى مالك عن الزهري نحوه.

المسألة الثالثة عشرة ـ وقع في مطلق هذه الآية النهى عن الإكراه على الزنا إن أرادت المكرهة الإحصان ، ولا يجوز الإكراه بحال ، فتعلّق بعض الغافلين بشيء من دليل الخطاب في هذه الآية ، وذكروه في كتب الأصول لغفلتهم عن الحقائق في بعض المعاني ، وهذا مما لا يحتاج إليه ، وإنما ذكر الله إرادة التحصّن من المرأة ، لأن ذلك هو الذي يصوّر الإكراه ، فأما إذا كانت راغبة في الزنا لم يتصوّر إكراه ، فحصّلوه إن شاء الله.

المسألة الرابعة عشرة ـ قد تكلمنا على الإكراه فيما سبق ، وهذه الآية تدلّ على تصوّر الإكراه في الزنا ، خلافا لمن أنكر ذلك من علمائنا ، وهو ابن الماجشون وغيره ، ولا ينهى الله إلا عن متصوّر ، ولا يقع التكليف إلا بما يدخل تحت القدرة ، ولذلك قلنا : إنه لا حدّ عليه ، لأن الإكراه يسقط حكم التكليف :

فإن قيل : إنّ الزاني ينتشر ويشتهى إذا اتصل بالمرأة طبعا.

قلنا : الإلجاء إلى ذلك هو الذي أسقط حكمه.

المسألة الخامسة عشرة ـ نهى النبىّ صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح عن مهر

__________________

(١) في ا : مسكة.

٣٤٢

البغىّ وحلوان الكاهن ، فإن من البغايا من كان يأخذ عوضا عن البغي ، وكذلك كان جرى في هذه القصة روى مجاهد في قوله : (وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ) : قال : كانوا يأمرون ولائدهم فيباغين فكنّ يفعلن ذلك فيصبن ، فيأتينهم بكسبهن. وكانت لعبد الله بن أبىّ ابن سلول جارية ، وكانت تباغى ، فكرهت ذلك ، وحلفت ألّا تفعله ، فانطلقت فباغت ببرد أخضر ، فأتتهم به ، فأنزل الله الآية.

المسألة السادسة عشرة ـ قوله تعالى : (فَإِنَّ اللهَ مِنْ بَعْدِ إِكْراهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ).

هذه المغفرة إنما هي للمكره لا للذي أكره عليه وألجأ المكره المضطر إليه ، ولذلك كان يقرؤها عبد الله بن مسعود ، فإن الله من بعد إكراههن لهنّ غفور رحيم. والمغفرة تتعلق بالمكره المضطر إليه فضلا من الله ، كما قال في الميتة (١) : (فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ).

الآية التاسعة عشرة ـ قوله تعالى (٢) : (اللهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ الزُّجاجَةُ كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ نُورٌ عَلى نُورٍ يَهْدِي اللهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ وَيَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ).

هذه آية عظيمة قد بيناها في كتاب المشكلين ، وفي قانون التأويل ، وأوضحنا المراد منها على أقوال العلماء ، وهذا الحرف منها ذكره بعض الأحكاميين ، فرأينا ألا نخلى هذا المختصر منه. واختلف في هذه الشجرة على ستة أقوال :

الأول ـ أنها ليست من شجر الشرق دون الغرب ، ولا من شجر الغرب دون الشرق ، لأنّ الذي يختصّ بإحدى الجهتين كان أدنى زيتا ، وأضعف ضوءا. ولكنها ما بين الشرق والغرب ، كالشام ، لاجتماع الأمرين فيه ، وهو قول مالك.

وفي رواية ابن وهب عنه ، قال : هو الشام ، الشرق من هاهنا والغرب من هاهنا ، ورأيته لابن شجرة أحد حذّاق المفسرين.

__________________

(١) سورة البقرة ، آية ١٧٣.

(٢) آية ٣٥.

٣٤٣

الثاني ـ أنها ليست بشرقية تستر عن الشمس عند الغروب ، ولا بغربية تستر عن الشمس وقت الطلوع ، بل هي بارزة ، وذلك أحسن لزيتها أيضا ، قاله قتادة.

الثالث ـ أنها وسط الشجر ، لا تنالها الشمس إذا طلعت ولا إذا غربت ، وذلك أجود لزيتها ، قاله عطية.

الرابع ـ أنها ليس في شجر الشرق ولا في شجر الغرب مثلها ، قاله يحيى بن سلام.

الخامس ـ أنها من شجر الجنة لا من الدنيا ، قاله الحسن.

السادس ـ أنها مؤمنة ليس بنصرانية تصلّى إلى الشرق ، ولا يهودية تصلى إلى الغرب ، وهو قول ابن عمر.

قال الفقيه القاضي أبو بكر رضى الله عنه : لا خلاف بين المحققين الذين ينزلون التفسير منازله ، ويضعون التأويل مواضعه من غير إفراط ولا تفريط ـ أنّ هذا مثل ضربه الله لنوره ، ولا يمكن أن يضرب لنوره المعظّم مثلا تنبيها لخلقه إلا ببعض خلقه ، لأن الخلق بقصورهم لا يفهمون إلا بأنفسهم ومن أنفسهم ، ولو لا ذلك ما عرف الله إلا الله وحده ، وأنور المصابيح في الدنيا مصباح يوقد من دهن الزيتون ، ولا سيما إذا كانت مفردة قد تباعد عنها الشجر فخلصت من الكلّ ، وأخذتها الشّمس من كل جانب ، فذلك أصفى لنورها ، وأطيب لزيتها ، وأنضر لأغصانها ، وذلك معنى بركة هذه الشجرة التي فهمها الناس حتى استعملوها في أشعارهم ، فقالوا (١) :

بورك الميت الغريب كما

بورك نضر (٢) الرمّان والزيتون

وقد رأيت في المسجد الأقصى زيتونة كانت بين محراب زكريّا وبين باب التوبة والرحمة الذي يقولون : إنه المراد بقوله : باب باطنه فيه الرحمة ، يعنى المسجد الأقصى ، وظاهره من قبله العذاب بشرقيّه دون السور ، وادي جهنم ، وفوقه أرض المحشر التي تسمّى بالساهرة ، فكانوا يقولون : إنها الشجرة المذكورة في هذه الآية. وربّك أعلم.

ومن غريب الأثر (٣) أن بعض علمائنا الفقهاء قال : إن هذا مثل ضربه الله لإبراهيم ،

__________________

(١) البيت لأبى طالب يرثى مسافر بن أبى عمرو بن أمية بن عبد شمس ـ كما في القرطبي.

(٢) في القرطبي : نبع الرمان.

(٣) في القرطبي : الأمر.

٣٤٤

ومحمد ، ولعبد المطلب ، وابنه عبد الله ، فالمشكاة هي الكوّة بلغة الحبشة ، فشبّه عبد المطلب بالكوّة فيها القنديل ، وهو الزجاجة ، وشبّه عبد الله بالقنديل وهو الزجاجة ، ومحمد كالمصباح ، يعنى من أصلابهما ، وكأنه كوكب درّيّ وهو المشترى ، يوقد من شجرة مباركة يعنى إرث النبوة من إبراهيم ، هو الشجرة المباركة ، يعنى حنيفية لا شرقية ولا غربية ، لا يهودية ولا نصرانية ، يكاد زيتها يضيء ، ولو لم تمسسه نار.

يقول : يكاد إبراهيم يتكلم بالوحي من قبل أن يوحى إليه ، نور على نور إبراهيم ثم محمد.

قال الفقيه القاضي أبو بكر رحمه الله : وهذا كلّه عدول عن الظاهر ، وليس يمتنع في التمثيل أن يتوسّع المرء فيه ، ولكن على الطريقة التي شرعناها في قانون التأويل لا على الاسترسال المطلق الذي يخرج الأمر عن بابه ، ويحمّل على اللفظ ما لا يطيقه ، فمن أراد الخبرة به والشفاء من دائه فلينظر هنالك.

الآية الموفية عشرين ـ قوله تعالى (١) : (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ).

فيها ثلاث مسائل :

المسألة الأولى ـ اختلف في البيوت على ثلاثة أقوال :

الأول ـ أنها المساجد ، وهو قول ابن عباس ، وجماعة.

الثاني ـ أنها بيت المقدس ، قاله الحسن.

الثالث ـ أنها سائر البيوت ، قاله عكرمة.

المسألة الثانية ـ قوله : (تُرْفَعَ) فيها ثلاثة أقوال :

الأول ـ تبنى ـ كما قال (٢) : (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ) ، قاله مجاهد.

الثاني ـ تطهّر من الأنجاس والأقذار ، كقوله تعالى (٣) : (وَطَهِّرْ بَيْتِيَ).

__________________

(١) آية ٣٦.

(٢) سورة البقرة ، آية ١٢٧.

(٣) سورة الحج ، آية ٢٦.

٣٤٥

الثالث ـ أن تعظم ، قاله الحسن.

فأما من قال : إن معناها تبنى فهو متمعّن ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : من بنى لله مسجدا ولو مثل مفحص (١) قطاة بنى الله له بيتا في الجنة.

ومن قال : إنها تطهّر من الأقذار والأنجاس فذلك كقوله صلى الله عليه وسلم : إن المسجد لينزوى من النجاسة كما تنزوى الجلدة من النار. وهذا في النجاسة الظاهرة ، فما ظنّك بغيرها؟ وأما من قال : إنها ترفع فالرفع حسّا كالبناء ، وحكما كالتطهير والتنظيف ، وكما تطهر عن ذلك فإنها مطهّرة عن اللغو والرفث ، لقوله ، وهي :

المسألة الثالثة ـ (وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ). وهذا يدلّ على أنها المساجد كلها ، ضرب الله المثل لنوره بالزيت الذي يتوقّد منه المصباح في البقعة المكرمة ، وهي المساجد ، تتميما لتشريف المثل بالمثل وجلاله من كل جهة. وقد بينا في شرح الحديث من ذكر المساجد جملا عظيمة تربو على المأمول فيه.

الآية الحادية والعشرون ـ قوله تعالى (٢) : (وَإِذا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ).

فيها ثلاث مسائل :

المسألة الأولى ـ في سبب نزولها (٣) :

روى الطبرىّ أنّ رجلا من المنافقين كان يقال له بشر ، كانت بينه وبين رجل من اليهود خصومة ، وكان اليهودي يدعوه إلى [التحاكم عند] (٤) النبىّ ، وكان المنافق يدعوه إلى كعب بن الأشرف ، وقال : إن محمدا يحيف علينا ، وكان المنافق إذا توجّه عليه الحق دعا إلى غير النبي ، وإذا كان له الحق دعاه إليه ليستوفيه له ، فنزلت الآية فيه.

المسألة الثانية ـ قد بينا أنه إذا كان الحكم بين المعاهد والمسلم ـ أنّ القضاء يكون للمسلمين لا حقّ لأهل الذمة فيه ، وإن كان بين ذميين فذلك إليهما ، فإذا جاء قاضى الإسلام فإن شاء حكم وإن شاء أعرض ، حسبما تقدم بيانه مستوفى (٥) ، والحمد لله.

__________________

(١) مفحص القطاة : حيث تفرخ فيه من الأرض.

(٢) آية ٤٨.

(٣) أسباب النزول : ١٨٨.

(٤) من القرطبي.

(٥) تقدم في سورة المائدة.

٣٤٦

المسألة الثالثة ـ هذه الآية دليل على وجوب إجابة الدعوى إلى الحاكم ، لأنّ الله سبحانه ذمّ من دعى إلى رسول الله ليحكم بينه وبين خصمه ـ فلم يجب ـ بأقبح المذمة ، وقد بيّنا في أصول الفقه أنّ حدّ الواجب ما ذمّ تاركه شرعا ، والله أعلم.

وقد روى أبو الأشعث ، عن الحسن أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : من دعى إلى حاكم من المسلمين فلم يجب فهو ظالم ، ولا حقّ له. وهو حديث باطل ، فأما قوله : فهو ظالم فكلام صحيح. وأما قوله : لا حقّ له فلا يصحّ. ويحتمل أن يريد به أنه على غير الحق.

الآية الثانية والعشرون ـ قوله تعالى (١) : (وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُلْ لا تُقْسِمُوا طاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ).

فيها ثلاث مسائل :

المسألة الأولى ـ قوله : (جَهْدَ أَيْمانِهِمْ) ، يعنى غاية أيمانهم ، وقد تقدم بيانه.

المسألة الثانية ـ نزلت في قوم كانوا يتخلّفون عن الجهاد ثم يعتذرون ، فإذا عوتبوا قالوا : لو أمرتنا يا رسول الله لخرجنا ، ويحلفون على ذلك ، فقال الله لهم : (لا تُقْسِمُوا) ، ثم قال : وهي :

المسألة الثالثة ـ طاعة معروفة ، وفيها ثلاث تأويلات :

الأول ـ طاعة معروفة أمثل.

الثاني ـ طاعة معروفة بينكم فيها الكذب ، أى هي طاعة الله معروفة قولا ، باطلة قطعا ، لا يفعلونها إلا إذا أمرتهم ولو لم يؤمروا (٢) ما فعلوا.

الثالث ـ قال مجاهد : معنى قوله : طاعة معروفة. أنكم تكذبون ، يعنى ليست لكم طاعة. وقد قرئت «طاعة» بالنصب على المصدر ، ويكون قوله طاعة منصوبة ابتداء كلام ، ويرجع المعنى فيه إلى قول مجاهد ، إلا أن الإعراب يختلف ، والمعنى واحد.

__________________

(١) آية ٥٣.

(٢) في ا : إذ لا يفعلونها إلا أمرتهم ولو لم يؤمروا.

٣٤٧

الآية الثالثة والعشرون ـ قوله تعالى (١) : (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ).

فيها خمس مسائل :

المسألة الأولى ـ في سبب نزولها (٢) :

روى أن بعض أصحاب النبىّ صلى الله عليه وسلم شكا إليه ما هم فيه من العدوّ ، وتضييقه عليهم ، وشدة الخوف ، وما يلقون من الأذى ، فنزلت هذه الآية بالوعد الجميل لهم ، فأنجزه الله ، وملكهم ما وعدهم ، وأظهرهم على عدوّهم.

وروى أبو العالية قال : مكث النبىّ عشر سنين خائفا يدعو إلى الله سرّا وجهرا ، ثم أمر بالهجرة إلى المدينة ، فمكث بها وأصحابه خائفين يصبحون في السلاح ويمسون ، فقال رجل : ما يأتى علينا يوم نأمن فيه ، ونضع عنا السلاح! فقال النبي صلى الله عليه وسلم كلمة معناها : لا تعبرون (٣) إلا يسيرا حتى يجلس الرجل منكم في الملأ العظيم محتبيا ليس بيده حديدة ، وأنزل الله هذه الآية.

المسألة الثانية ـ قال مالك : نزلت هذه الآية في أبى بكر وعمر : وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ... إلى آخرها.

وقال علماؤنا : هذه الآية وعد حق وقول صدق ، يدلّ ذلك على صحة إمامة الخلفاء الأربعة ، لأنه لم يتقدمهم أحد في الفضيلة إلى يومنا هذا ، فأولئك مقطوع بإمامتهم ، متّفق عليهم. وصدق وعد الله فيهم ، وكانوا على الدين الذي ارتضى لهم واستقرّ الأمر لهم ، وقاموا بسياسة المسلمين ، وذبّوا عن حوزة الدّين ، فنفذ الوعد فيهم ، وصدق الكلام فيهم ، وإذا لم يكن هذا الوعد بهم ينجز ، وفيهم نفذ ، وعليهم ورد ففيمن يكون إذن؟ وليس بعدهم مثلهم إلى يومنا هذا ، ولا يكون فيما بعده. قام أبو بكر بدعوة الحق ، واتفاق الخلق ، وواضح الحجة ، وبرهان

__________________

(١) آية ٥٥.

(٢) أسباب النزول : ١٨٨.

(٣) في القرطبي : لا تلبثون إلا يسيرا.

٣٤٨

الدين ، وأدلة اليقين ، فبايعه الصحابة ، ثم استخلف عمر فلزمت الخلافة ، ووجبت النّيابة ، وتعيّن السمع والطاعة ، ثم جعلها عمر شورى ، فصارت لعثمان بالنظر الصحيح ، والتبجيل الصريح ، والمساق الفسيح ، جعل الثلاثة أمرهم إلى ثلاثة ، ثم أخرج عبد الرحمن نفسه بشرط أن يكون إلى من اختاره من الرجلين ، فاختار عثمان ، وما عدل عن الخيار ، وقدمه ، وحقّه التقديم على علىّ.

ثم قتل عثمان مظلوما في نفسه ، مظلوما جميع الخلق فيه ، فلم يبق إلا علىّ أخذا بالأفضل فالأفضل ، وانتقالا من الأول إلى الأول ، فلا إشكال لمن جنف (١) عن المحال أنّ التنزيل على هؤلاء الأربعة وعد الله في هذه الآية.

ثم كملت لحال أبى بكر فاتحة وخاتمة.

ثم كملت لعمر ، وكسر الباب ، فاختلط الخشار (٢) باللباب ، وانجرت الحال مع عثمان واضحة للعقلاء ، معترضا عليها من الحمقى ، ثم نفذ القدر بقتله إيثار للخلق منه على نفسه وأهله ، ثم قام علىّ أحسن قيام لو ساعده النقض والإبرام ، ولكنه وجد الأمور نشرا ، وما رام رتق (٣) خصم إلا انفتق عليه خصم ، ولا حاول طىّ منتشر إلّا عارضه عليه أشر ، ونسبت إليه أمور هو منها برىء براءة الشمس من الدّنس ، والماء من القبس (٤) ، وطالبه الأجل حتى غلبه ، فانقطعت الخلافة ، وصارت الدنيا ملكا تارة لمن غلب ، وأخرى لمن خلب ، حتى انتهى الوعد الصادق ابتداؤه وانتهاؤه.

أما الابتداء فهذه الآية ، وأما الانتهاء فبحديث سفينة ، قال سعيد بن حمدان ، عن سفينة ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : خلافة النبوة ثلاثون سنة ، ثم يؤتى الله الملك من يشاء.

قال سعيد : قال لي سفينة : أمسك عليك ، أبو بكر سنتين ، وعمر عشرا ، وعثمان اثنى عشر ، وعلى كذا (٥).

قال سعيد : قلت لسفينة : إنّ هؤلاء يزعمون أنّ عليّا لم يكن خليفة. قال : كذبت ،

__________________

(١) جنف : مال.

(٢) الخشار والخشارة : الرديء من كل شيء.

(٣) رتق : إصلاح.

(٤) القبس : شعلة نار تقبس من معظم النار.

(٥) في القرطبي : وخلافة على ستا.

٣٤٩

استاءه بنور الزرقاء ـ يعنى بنى مروان ـ زاد في رواية : اعدد ، أبو بكر كذا ، وعمر كذا ، وعثمان كذا ، وعلى كذا ، والحسن ستة أشهر ، فهؤلاء ثلاثون سنة.

وقد روى الترمذىّ وغيره أنّ رجلا قام إلى الحسن بن على بعد ما بايع معاوية ، فقال له : يا مسوّد وجوه المؤمنين. فقال : لا بأس ، رحمك الله ، فإنّ النبي أرى بنى أمية على منبره ، فساءه ذلك ، فنزلت : (إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ). ونزلت : (إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ ، وَما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ ، لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ). يملكها بعدك بنو أمية يا محمد.

قال القاسم ـ راوي الحديث : فعددناها فإذا هي ألف شهر ، لا تزيد ولا تنقص.

وفي الحديث الصحيح أنّ النبي أجلس الحسن في حجره على المنبر ، وقال : إن ابني هذا سيّد ، ولعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين.

المسألة الثالثة ـ فإن قيل هذا الوعد يصحّ لكم في أبى بكر وحده ، فأما عمر فأىّ أمن معه ، وقد قتل غيلة. وعثمان قد قتل غلبة ، وعلىّ قد نوزع بالجنبة (١) والجلبة.

قلنا : هذا كلام جاهل غبىّ أو متهاون ، يكنّ على نفاق خفىّ ، أمّا عمر وعثمان فجاءهما أجلهما ، وماتا ميتتهما التي كتب الله لهما ، وليس في ضمن الأمن السلامة من الموت بأى وجه وقع.

وأما علىّ فلم يكن نزاله في الحرب مذهبا للأمن ، فليس من شرط الأمن رفع الحرب ، إنما من شرطه ملك الإنسان لنفسه باختياره ، وسلامته عن الغلبة المشحونة بالذّلة ، كما كان أصحاب النبي بمكة ، فأما بعد ما صاروا إلى المدينة فقد آلوا إلى الأمن والعزّة.

في الصحيح عن خبّاب بن الأرتّ ، قال : شكونا إلى النبىّ صلى الله عليه وسلم وهو متوسّد بردة له في ظلّ الكعبة ، فقلنا له : ألا تستنصر لنا! ألا تدعو الله لنا! قال : كان الرجل فيمن كان قبلكم يحفر له في الأرض ، فيجعل فيه فيجاء بالمنشار ، فيوضع على رأسه ، فيشقّ باثنين ، وما يصدّه ذلك عن دينه ، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحم من عظم وعصب ، وما يصدّه ذلك عن دينه ، والله ليتمّنّ هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء الى حضرموت ، لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه. ولكنكم تستعجلون.

__________________

(١) الجنبة : الاعتزال.

٣٥٠

وحقيقة الحال أنهم كانوا مقهورين فصاروا قاهرين ، وكانوا مطلوبين فعادوا طالبين ، وهذا نهاية الأمن والعز (١).

المسألة الرابعة ـ قال قوم : إن هذا وعد لجميع الأمّة في ملك الأرض كلها تحت كلمة الإسلام ، كما قال صلى الله عليه وسلم : زويت لي (٢) الأرض ، فأريت مشارقها ومغاربها ، وسيبلغ ملك أمتى ما زوى لي منها.

قلنا لهم : هذا وعد عامّ في النبوة والخلافة ، وإقامة الدعوة ، وعموم الشريعة ، بنفاذ الوعد في كل أحد بقدره وعلى حاله ، حتى في المفتين والقضاة والأئمة ، وليس للخلاف محلّ تنفذ فيه هذه الموعدة الكريمة إلّا من تقدّم من الخلفاء الأربعة.

المسألة الخامسة ـ قوله : (لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ).

فيه قولان :

أحدهما ـ أنها أرض مكة ، وعدت الصحابة أن يستخلفوا فيها الكفار.

الثاني ـ أنها بلاد العرب والعجم.

وهو الصحيح ، لأن أرض مكة محرّمة على المهاجرين. قال النبي صلى الله عليه وسلم: لكن البائس سعد بن خولة ـ يرثى له رسول الله صلى الله عليه وسلم أن مات بمكة.

وقال في الصحيح أيضا : يمكث المهاجر بمكة بعد قضاء نسكه ثلاثا. من رواية العلاء بن الحضرمي.

الآية الرابعة والعشرون ـ قوله تعالى (٣) : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشاءِ ثَلاثُ عَوْراتٍ لَكُمْ لَيْسَ

__________________

(١) في القرطبي : قلت هذه الحال لم تختص بالخلفاء الأربعة حتى يخصوا بها من عموم الآية ، بل شاركهم في ذلك جميع المهاجرين بل وغيرهم (١٢ ـ ٢٩٨).

(٢) صحيح مسلم : ٢٢١٥. زويت : جمعت.

(٣) آية ٥٨.

٣٥١

عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُناحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلى بَعْضٍ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ).

فيها اثنتا عشرة مسألة :

المسألة الأولى ـ هذه آية خاصة ، والتي قبلها عامة ، لأنه قال فعمّ (١) : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها) ، ثم خصّ هاهنا : فقال : (لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) ، فخصّ في هذه الآية بعض المستأذنين ، وهم الذين ملكت أيمانكم من مسألة جميع المسلمين في الآية قبلها ، وكذلك أيضا تناول (٢) القول في الآية الأولى جميع الأوقات عموما ، وخصّ في هذه الآية بعض الأوقات ، وهي المفسرة على ما يأتى ذكره إن شاء الله.

المسألة الثانية ـ في قوله : (مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ).

ثلاثة أقوال :

الأول ـ أنهم الذكران والإناث.

الثاني ـ أنه العبد دون الأمّة ، قاله ابن عباس ، وابن عمر.

الثالث ـ أنهن الإناث ، قاله أبو عبد الرحمن السلمى.

المسألة الثالثة ـ هل الآية محكمة أو منسوخة؟

فقال ابن عمر : هي محكمة ، يعنى في الرجال خاصّة. وقال ابن عباس : قد ذهب حكمها ، روى عكرمة أنّ نفرا من أهل العراق سألوا ابن عباس ، فقالوا : يا ابن عباس ، كيف ترى في هذه الآية التي أمرنا فيها بما أمرنا ، فلا يعمل بها أحد ، قول الله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) ... وقرأها إلى قوله تعالى : (عَلى بَعْضٍ)؟ فقال ابن عباس : إنّ الله رفيق بجميع المؤمنين يحبّ الستر. وكان الناس ليس لبيوتهم ستور ولا حجال (٣) ، فربما دخل الخادم أو ولده أو يتيمه ، والرجل على أهله ، فأمر الله بالاستئذان في تلك العورات ، فجاءهم الله بالستور ، والخير ، فلم أر أحدا يعمل بذلك.

__________________

(١) آية ٢٧ من السورة.

(٢) في القرطبي : يتأول.

(٣) الحجال : جمع الحجلة ـ بالتحريك ـ وهو بيت كالقبة يستر بالثياب.

٣٥٢

وهذا ضعيف جدّا بما بيناه في غير موضع من أنّ شروط النسخ لم تجتمع فيه من المعارضة ، ومن التقدم والتأخر ، فكيف يصحّ لناظر أن يحكم به؟

المسألة الرابعة ـ في التنقيح :

اعلموا وفّقكم الله أنّ الحجبة (١) واقعة من الخلق شرعا ، ولذلك وجب الاستئذان حتى يخلص به المحجور من المطلق ، والمحظور من المباح ، وقد قال الله تعالى : (لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها). ثم قال : (أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) على ما شرحناه ، فاستثنى ما ملكت اليمين من المحجور ، ثم استثنى في ملك اليمين هذه الأوقات الثلاثة ، فالعبد إذا كان وغدا ، أو ذا منظرة (٢) ، وكان حكمه في الحجبة على صفة فإن هذه الأوقات الثلاث لا يدخل فيها عبد كيفما كان ولا أمة إلا بعد الاستئذان.

المسألة الخامسة ـ قوله : (ثَلاثَ مَرَّاتٍ) ، فذكر قبل صلاة الفجر ، وعند الظّهيرة ، وهي القائلة ، ومن بعد صلاة العشاء ، وهي أوقات الخلوة التي يكون فيها التصرف بخلاف الليل كلّه ، فإنه وقت خلوة ، ولكن لا تصرّف فيه ، لأنّ كل أحد مستغرق بنومه ، وهذه الأوقات الثلاثة أوقات خلوة وتصرّف ، فنهوا عن الدخول بغير إذن لئلا يصادفوا منظرة مكروهة.

وفي الصحيح : كان النبىّ صلى الله عليه وسلم يصلّى كذا وركعتين قبل صلاة الصبح ، وكانت ساعة لا يدخل على النبي صلى الله عليه وسلم فيها ـ من حديث ابن عمر.

وفي رواية عنه : لا أدخل.

وعن عائشة : كان النبىّ صلى الله عليه وسلم ينام أول الليل ، ويقوم آخره ، ثم يرجع إلى فراشه حتى يأتيه المؤذّن ، فإن كانت به حاجة اغتسل ، وإلّا توضّأ وخرج ـ رواه البخاري وغيره.

وفي الآثار التفسيرية أنّ النبىّ صلى الله عليه وسلم أرسل إلى عمر غلاما من الأنصار ـ يقال له مدلج ـ في الظهيرة ، فدخل على عمر بغير إذن ، فأيقظه بسرعة ، فانكشف شيء من جسده ،

__________________

(١) حجبه حجبا وحجابا : ستره.

(٢) المنظر والمنظرة : ما نظرت إليه فأعجبك أو ساءك. (٢٣ ـ أحكام ـ ٣)

٣٥٣

فنظر إليه الغلام ، فحزن لها عمر فقال : وددت أنّ الله بفضله نهى عن الدخول علينا في هذه الساعات إلا بإذننا. ثم انطلق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجد هذه الآية قد أنزلت عليه ، فحمد الله.

المسألة السادسة ـ يريد بقوله : (صَلاةِ الْعِشاءِ) التي يدعوها الناس العتمة.

وفي الصحيح من رواية عبد الله بن المغفل المزني أنّ النبىّ صلى الله عليه وسلم قال : لا يغلبنّكم الأعراب على اسم صلاتكم المغرب. قال : والأعراب تقول العشاء ، وتسمّى أيضا العشاء العتمة ، ففي الحديث الصحيح (١) : لو يعلمون ما في العتمة والفجر لأتوهما ولو حبوا.

وفي البخاري أيضا ، عن أبى برزة : كان النبي صلى الله عليه وسلم يؤخّر العشاء.

وقال أنس (٢) : أخّر النبىّ صلى الله عليه وسلم العشاء الآخرة.

وفي حديث عائشة : أعتم النبىّ صلى الله عليه وسلم بالعتمة.

وقول أنس في البخاري : العشاء الآخرة يدلّ على العشاء الأولى.

وفي الحديث (٣) : لا يغلبنّكم الأعراب على اسم صلاتكم العشاء يدعونها العتمة ، لأنهم يعتمون بحلاب الإبل.

وهذه أخبار متعارضة لا يعلم منها الأول من الآخر بالتاريخ ، لكن كلّ حديث بذاته يبيّن وقته ، وذلك أنّ النّهى من النبىّ صلى الله عليه وسلم عن تسمية صلاة المغرب عشاء ، وعن تسمية صلاة العشاء عتمة ثابت ، فلا مردّ له من أقوال الصحابة فضلا عمّن عداهم.

وقد كان ابن عمر يقول : من قال صلاة العتمة فقد أثم. وقال ابن القاسم : قال مالك : (وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشاءِ ثَلاثُ عَوْراتٍ لَكُمْ) ، فالله سماها صلاة العشاء ، فأحبّ النبىّ صلى الله عليه وسلم أن تسمّى بما سمّاها به الله ، ويعلّمها الإنسان أهله وولده ، ولا يقل عتمة إلا عند خطاب من لا يفهم ، وقد قال حسان (٤) :

وكانت لا يزال بها أنيس

خلال مروجها نعم وشاء

فدع هذا ولكن من لطيف

يؤرّقنى إذا ذهب العشاء

__________________

(١) صحيح مسلم : ٣٢٥ ، وفيه : ما في العتمة والصبح ...

(٢) صحيح مسلم : ٤٤٥.

(٣) ديوانه : ٢.

٣٥٤

المسألة السابعة ـ قوله : (ثَلاثُ عَوْراتٍ). العورة كلّ شيء لا مانع دونه. ومنه قوله تعالى (١) : (إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ). أى سهلة المدخل ، لا مانع دونها ، فبين العلّة الموجبة للإذن ، وهي الخلوة في حال العورة ، فتعيّن امتثاله ، وتعذّر نسخه ، ثم رفع الجناح بعدهن في ذلك ، وهو الميل بالعتاب أو العقاب على الفاعل ، وهي :

المسألة الثامنة ـ ثم بيّن العلة الأصلية والحالة الأهلية ، وهي :

المسألة التاسعة ـ قوله : (طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ) ، أى متردّدون عليكم في الخدمة ، وما لا غنى بكم عنه منهم ، فسقط الحرج عن ذلك ، وزال المانع ، كما قال صلى الله عليه وسلم في الهرة حين أصغى (٢) لها الإناء : إنها من الطوّافين عليكم أو الطّوّافات. وذلك مسقط لحكم سؤرها في مباشرتها النجاسة وحملها أبدا على الطهارة ، إلا أن يرى في فمها أذى.

المسألة العاشرة ـ قوله : (بَعْضُكُمْ عَلى بَعْضٍ) ، يريد بعضكم من بعض في المخالطة والملابسة ، فلذلك سقط الاستئذان لهم عليكم ، ولكم عليهم ، كما ارتفع الجناح (٣) بينكم وبينهم ، منهم لكم ، ومنكم لهم.

المسألة الحادية عشرة ـ قوله : (كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ).

المعنى يبيّن الله الآيات الدالة على المعجزة والتوحيد ، كما يبين الآيات الدالة على الأحكام ، وقد بينا في كتب الأصول ما يدلّ الشّرع عليه ، وما يدلّ العقل عليه ، وما يشترك فيه دليل العقل والشرع بأوضح بيان. والله أعلم.

المسألة الثانية عشرة ـ لا بأس أن يجلس الرجل مع أهله وفخذه منكشفة ، وحديث جرهد ـ وكان من أصحاب الصّفة أنه قال : جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم عندنا وفخذي منكشفة ، فقال : خمّر عليك ، أما علمت أن الفخذ عورة ، وقد غطاها رسول الله صلى الله عليه وسلم عند دخول عثمان ، لأنها كانت منكشفة من جهته التي جلس منها.

__________________

(١) سورة الأحزاب ، آية ١٣.

(٢) أصغى : أمال (النهاية).

(٣) في القرطبي : ثم رفع الجناح بقوله : ليس عليكم ولا عليهم جناح بعدهن طوافون عليكم بعضكم على بعض. أى يطوف بعضكم على بعض (١٢ ـ ٣٠٦).

٣٥٥

ومن حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدّه : إذا زوّج أحدكم عبده أو أجيره فلا ينظر إلى ما دون السرّة وفوق الركبة ، فإنه عورة.

وقال الأوزاعى : إنما أمر النبي صلى الله عليه وسلم جرهدا لأنه كان في المسجد مريضا ، وليس الفخذ عورة.

الآية الخامسة والعشرون ـ قوله تعالى (١) : (وَإِذا بَلَغَ الْأَطْفالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آياتِهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ).

فيها مسألة واحدة :

هذه الآية مبينة قوله : (٢) (أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلى عَوْراتِ النِّساءِ) ، فكان الطفل مستثنى من عموم الحجبة في الآية الأولى إذا لم يظهر على العورة ، ثم بين الله أنّ الطفل إذا ظهر على العورة ، وهو بالبلوغ ، يستأذن ، وقد كان قوله : (أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلى عَوْراتِ النِّساءِ) كافيا لأنّ المستثنى طفل بصفته المختصة به ، ويبقى غيره على الحجر ، فكانت هذه الآية زيادة بيان ، لإبانة الله في أحكامه وإيضاح حلاله وحرامه.

الآية السادسة والعشرون ـ قوله تعالى (٣) : (وَالْقَواعِدُ مِنَ النِّساءِ اللَّاتِي لا يَرْجُونَ نِكاحاً فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُناحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ).

فيها أربع مسائل :

المسألة الأولى ـ قوله : (الْقَواعِدُ مِنَ النِّساءِ) ، جمع قاعد بغير هاء فرقا بينها وبين القاعدة من الجلوس في قول بعضهم. وهن اللواتي قعدن عن الحيض وعن الولد ، فليس فيهنّ رغبة لكل أحد ، ولا يتعلق بهن القلب في نكاح ، ويجوز النّظر إليهنّ بخلاف الشباب منهنّ.

__________________

(١) آية ٥٩.

(٢) من الآية ٣١.

(٣) آية ٦٠.

٣٥٦

المسألة الثانية ـ قوله : (فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُناحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيابَهُنَ).

فيه قولان :

أحدهما ـ جلبابهنّ ، وهو قول ابن مسعود ، يعنى به الرّداء أو المقنعة التي فوق الخمار تضعه عنها إذا سترها ما بعده من الثياب.

والثاني ـ تضع خمارها ، وذلك في بيتها ، ومن وراء سترها من ثوب أو جدار ، وذلك قوله : غير متبرّجات بزينة ، يعنى وهي :

المسألة الثالثة ـ غير مظهرات لما يتطلّع إليه منهنّ ، ولا متعرضات بالتزيين للنظر إليهنّ ، وإن كنّ ليس بمحل ذلك منهن ، وإنما خصّ القواعد بذلك دون غيرهنّ لانصراف النفوس عنهن ، ولأن يستعففن بالتستر الكامل خير لهن من فعل المباح لهن من وضع الثياب. والله أعلم.

المسألة الرابعة ـ من التبرج أن تلبس المرأة ثوبا رقيقا يصفها ، وهو المراد بقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح : ربّ نساء كاسيات عاريات ، مائلات مميلات ، لا يدخلن الجنة ، ولا يجدن ريحها. وإنما جعلهنّ كاسيات لأنّ الثياب عليهن ، وإنما وصفهن بعاريات (١) لأنّ الثّوب إذا رقّ يكشفهن (٢) ، وذلك حرام.

الآية السابعة والعشرون ـ قوله تعالى (٣) : (لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلا عَلى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَواتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خالاتِكُمْ أَوْ ما مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتاتاً فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللهِ مُبارَكَةً طَيِّبَةً كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ).

__________________

(١) في القرطبي : وصفهن بأنهن عاريات.

(٢) في القرطبي : وإنما وصفهن بأنهن عاريات لأن الثوب إذا رق يصفهن ويبدي محاسنهن ، وذلك حرام.

(٣) آية ٦١.

٣٥٧

فيها أربع عشرة مسألة :

المسألة الأولى ـ في سبب نزولها (١) :

وفي ذلك ثمانية أقوال :

الأول ـ أنّ الأنصار كانوا يتحرّجون إذا دعوا إلى طعام أن يأكلوا مع هؤلاء من طعام واحد ، ويقولون : الأعمى لا يبصر طيّب الطعام ، والأعرج لا يستطيع الزّحام عند الطعام ، والمريض يضعف عن مشاركة الصحيح في الطعام ، وكانوا يعزلون طعامهم مفردا ، ويرون أنه أفضل ، فأنزل الله الآية ، ورفع الحرج عنهم في مؤاكلتهم ، وهذا قول ابن عباس. الثاني ـ أن أهل الزّمانة (٢) هؤلاء ليس عليهم حرج أن يأكلوا من بيوت من سمى الله بعد هذا من أهاليهم ، قاله مجاهد.

الثالث ـ رواه مالك ، عن الزهري ، عن سعيد بن المسيب ـ أن الآية نزلت في أناس كانوا إذا خرجوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ يعنون في الجهاد ـ وضعوا مفاتيح بيوتهم عند أهل العلّة ممن يتخلّف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : عند الأعمى ، والأعرج ، والمريض ، وعند أقاربهم ، وكانوا يأمرونهم أن يأكلوا من بيوتهم إذا احتاجوا إلى ذلك ، فكانوا يتّقونه ويقولون : نخشى ألا تكون نفوسهم بذلك طيبة ، فأنزل الله هذه الآية يحلّه لهم.

الرابع ـ أن على بن أبى طلحة روى عن ابن عباس لما أنزل الله (٣) : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ). فقال المسلمون : إنّ الله قد نهانا أن نأكل أموالنا بيننا بالباطل ، والطعام هو من أفضل الأموال ، فلا يحلّ لأحد منا أن يأكل عند أحد ، فكفّ الناس عن ذلك ، فأنزل الله هذه الآية إلى قوله .... أو ما ملكتم مفاتحه. وهو الرجل يوكل الرجل بضيعته.

الخامس ـ من دعى إلى وليمة من هؤلاء الزّمنى فلا حرج عليه أن يدخل معه قائده.

السادس ـ أنها نزلت حين كانت البيوت لا أبواب لها والستور مرخاة ، والبيت يدخل ، فربما لم يوجد فيه أحد ، والبيوت اليوم فيها أهلها ، فإذا خرجوا أغلقوها.

__________________

(١) أسباب النزول : ١٨٩.

(٢) الزمالة : العاهة.

(٣) سورة النساء ، آية ٢٩.

٣٥٨

السابع ـ أنها نزلت في جواز مبايعة الزّمنى ، ومعاملتهم ، قالته عائشة.

الثامن ـ قاله الحسن : قوله تعالى : (لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ) : نفى لوجوب الجهاد عليهم. وقوله تعالى بعد ذلك : (وَلا عَلى أَنْفُسِكُمْ) كلام مستأنف خوطب به جميع الناس.

المسألة الثانية ـ قوله تعالى : (وَلا عَلى أَنْفُسِكُمْ) يعنى ولا عليكم أيها الناس ، ولكن لما اجتمع مخاطب وغير مخاطب غلب المخاطب لينتظم الكلام. وكان المعنى يراد به جميع من ذكر ، من الأعمى ، والأعرج ، والمريض ، وأصحاب البيوت.

المسألة الثالثة ـ قوله تعالى : (مِنْ بُيُوتِكُمْ).

فيه ثلاثة أقاويل :

الأول ـ يعنى من أموال عيالكم وأزواجكم ، لأنهم في بيته.

الثاني ـ من بيوت أولادكم ، ونسبت بيوت أولادهم إليهم لما جاء في الأثر : أنت ومالك لأبيك ، ولذلك لم يذكر الله بيوت الأبناء حين ذكر بيوت الآباء والأقارب ، لدخولهم فيما تقدّم من ذكر الأنفس ، كما قررناه.

الثالث ـ أن المراد به البيوت التي أهلوها وساكنوها خدمة لأصحابها.

المسألة الرابعة ـ قوله تعالى : (أَوْ بُيُوتِ آبائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَواتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خالاتِكُمْ).

فأباح الأكل لهؤلاء من جهة النّسب من غير استئذان في الأكل إذا كان الطعام مبذولا. فإن كان محرزا دونهم لم يكن لهم أخذه ، ولا يجوز أن يجاوزوا إلى الادّخار ، ولا إلى ما ليس بمأكول ، وإن كان غير محرز عنهم إلا بإذن منهم ، وهي المسألة الخامسة.

المسألة السادسة ـ قوله تعالى : (أَوْ ما مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ).

فيه ثلاثة أقوال :

أحدها ـ أنه عنى به وكيل الرجل على ضيعته ، وخازنه على ماله ، فيجوز له ، أن يأكل مما هو قيّم عليه ، قاله ابن عباس.

٣٥٩

الثاني ـ أنه أراد به منزل الرجل نفسه ، يأكل مما ادّخره فيه ، وهذا قول قتادة.

الثالث ـ أنه عنى به أكل السيد من منزل عبده وماله ، لأن مال العبد لسيده ، حكاه ابن عيسى.

المسألة السابعة ـ قوله تعالى : (أَوْ صَدِيقِكُمْ).

فيه قولان :

أحدهما ـ أن يأكل من بيت صديقه في وليمة أو غيرها إذا كان الطعام حاضرا غير محرز ، قاله ابن عباس. والأصدقاء أكثر من الآباء ، ألا ترى أن الجهنميين لم يستغيثوا بالآباء والأمهات ، وإنما قالوا (١) : (فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ).

المسألة الثامنة ـ في تنقيح معاني الآية المذكورة في المسائل السبعة ، وذلك يكون بنظم التأويل في الأقوال على سرد ، فيتبيّن المعنى المستقيم من غيره.

أما إن قلنا بقول الحسن من أن نفى الحرج عن الثلاثة الأصناف الزّمنى مقطوع عما قبله ، وأنّ قوله تعالى : (وَلا عَلى أَنْفُسِكُمْ) كلام مستأنف. وأما قول من قال في الأول : إن الأنصار تحرّجوا أن يأكلوا معهم ، فلو كان هذا صحيحا لكان المعنى ليس على من أكل مع هؤلاء حرج ، فأما أن يتحرّج غيرهم منهم ، وينفى الحرج عنهم ، فهو قلب للقول من غير ضرورة عقل ولا رواية صحيحة في نقل.

وأما القول الثاني فإنه كلام ينتظم ، لأن نفى الحرج عن أصحاب الزّمانة وعمّن سواهم أن يأكلوا من بيوت من سمى الله فهو كلام منتظم ، ولكن بقي وجه الفائدة في تخصيص أهل الزمانة بالذّكر ، مع أن عموم قوله : (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَأْكُلُوا) يكفى في تخصيصهم ، فيحتمل أن يكون وجهه أنه بدأ بهم ، لأنهم رأوا أنهم بضرارتهم أحقّ من الأصحّاء بالمواساة والمشاركة.

وأما رواية مالك عن ابن المسيب فهو أيضا كلام منتظم ، لأجل تخلّفهم عنهم في الجهاد ، وبقاء أموالهم بأيديهم ، لكن قوله : (أَوْ ما مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ) قد اقتضاه وأفاده ، فأىّ معنى لتكراره ، فكأن هذا القول بعيد جدّا.

__________________

(١) سورة الشعراء ، آية ١٠٠.

٣٦٠