أحكام القرآن - ج ٣

أبي بكر محمّد بن عبدالله [ ابن العربي ]

أحكام القرآن - ج ٣

المؤلف:

أبي بكر محمّد بن عبدالله [ ابن العربي ]


المحقق: علي محمّد البجاوي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الجيل
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٤٨

المسألة الرابعة من الآية الثامنة (١) : (فَلَمَّا بَلَغا مَجْمَعَ بَيْنِهِما نَسِيا حُوتَهُما فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَباً).

جعل الله تعالى النسيان سببا للزيادة على مقدار الحاجة في المسير ، لأنّ الله كان كتب له لقاءه ، وكتب الزيادة في السير على موضع اللقاء ، فنفذ الكلّ ، وفيه دليل على جواز النسيان على الأنبياء ، وكذلك على الخلق في معاني الدّين ، وهو عفو عند الله سبحانه ، كما تقدم.

المسألة الخامسة من الآية التاسعة ـ قوله تعالى (٢) : (قالَ لِفَتاهُ آتِنا غَداءَنا).

بيّن ذلك جواز الاستخدام للأصحاب أو العبيد في أمور المعاش وحاجة المنافع ، لفضل المنزلة ، أو لحقّ السيدية.

المسألة السادسة من الآية العاشرة ـ قوله تعالى (٣) : (وَما أَنْسانِيهُ إِلَّا الشَّيْطانُ).

نسيه يوشع ، ونسيه أيضا موسى ، ونسبة الفتى نسيانه إلى الشيطان ، لأنه متمكّن منه. ولا ينسب نسيان الأنبياء إلى الشيطان ، لأنه لا يتمكن منهم ، وإنما نسيانهم أسوة للخلق ، وسنّة فيهم.

المسألة السابعة ـ قوله تعالى (٤) : (وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَباً).

قال النبي صلى الله عليه وسلم : فصار الماء على الحوت مثل الطاق ، ليكون ذلك علامة لموسى ، ولولاه ما علم أين فقد الحوت ، ولا وجد إلى لقاء المطلوب سبيلا.

المسألة الثامنة من الآية الحادية عشرة ـ قوله تعالى (٥) : (هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ) وهو دليل على أنّ المتعلم تبع للعالم ، ولو تفاوتت المراتب.

المسألة التاسعة من الآية الثانية عشرة ـ قوله تعالى (٦) : (إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً). حكم عليه بعادة الخلق في عدم الصبر عما يخرج عن الاعتياد ، وهو أصل في الحكم بالعادة.

المسألة العاشرة من الآية الثالثة عشرة ـ قوله تعالى (٧) : (سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ صابِراً وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً).

قال علماؤنا رحمة الله عليهم : استثنى في التصبّر ، ولم يستثن في امتثال الأمر ، فلا جرم

__________________

(١) آية ٦١.

(٢) آية ٦٢.

(٣) آية ٦٣.

(٤) آية ٦٦.

(٥) آية ٦٧.

(٦) آية ٦٩.

٢٠١

وجّه ما استثنى فيه ، فكان إذا أراد أن يخرق السفينة أو يقتل الغلام لم يقبض يده ، ولا نازعه ، وخالفه في الأمر ، فاعترض عليه ، وسأله.

المسألة الحادية عشرة من الآية الرابعة عشرة ـ قوله تعالى (١) : (لا تُؤاخِذْنِي بِما نَسِيتُ) :

ذكر أنّ النسيان لا يقتضى المؤاخذة ، وهذا يدلّ على ما قدمناه من أنه لا يدخل تحت التكليف ، ولا يتعلّق به حكم في طلاق ولا غيره.

المسألة الثانية عشرة من الآية الخامسة عشرة ـ قوله تعالى (٢) : (إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَها فَلا تُصاحِبْنِي).

فهذا شرط ، وهو لازم ، والمسلمون عند شروطهم ، وأحقّ الشروط أن يوفّى به ما التزمه الأنبياء ، أو التزم للأنبياء ، فهذا أصل من القول بالشروط وارتباط الأحكام بها ، وهو يستدلّ به في الأيمان وغيرها.

المسألة الثالثة عشرة ـ قوله تعالى (٣) : (قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً).

هذا يدلّ على قيام الاعتذار بالمرة الواحدة مطلقا ، وبقيام الحجّة من المرة الثانية بالقطع.

المسألة الرابعة عشرة ـ صبر موسى على قتل من لا يستحقّ عنده القتل ، ولم يغترّ لما كان أعلمه من أنّ عنده علما ليس عنده ، ولو لا ذلك ما صبر على حال ظاهرها المحال ، وكان هو أعلم بباطنها في المآل.

المسألة الخامسة عشرة من الآية السادسة عشرة ـ قوله تعالى (٤) : (فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا أَتَيا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَما أَهْلَها).

وصلا إلى القرية محتاجين إلى الطعام ، فعرضوا أنفسهم عليهم ، وكانوا ثلاثة ، فأبوا عن قبول ذلك منهم ، وهذا سؤال ، وهو على مراتب في الشرع ، ومنازل بيّناها في كتاب شرح الصحيحين.

وهذا السؤال من تلك الأقسام هو سؤال الضيافة ، وهي فرض أو سنّة كما بيناه هنالك ، وسؤالها جائز ، فقد تقدم في حديث أبى سعيد الخدري أنهم نزلوا بقوم فاستضافوهم ، فأبوا

__________________

(١) آية ٧٣.

(٢) آية ٧٦.

(٣) آية ٧٧.

٢٠٢

أن يضيفوهم ، فلدغ سيّدهم ، فسألوهم : هل من راق ، فجاعلوهم على قطيع من الغنم ... الحديث إلى آخره.

وذكروا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فجوّز الكل ، وقد كان موسى ـ حين سقى لبنتي شعيب ـ أجوع منه حين أتى القرية مع الخضر ، ولم يسأل قوتا ، بل سقى ابتداء ، وفي القرية سألا القوت ، وفي ذلك للعلماء انفصالات كثيرة ، منها أنّ موسى كان في حديث مدين منفردا ، وفي قصة القرية تبعا لغيره.

وقيل : كان هذا سفر تأديب فوكل إلى تكليف المشقة ، وكان ذلك سفر هجرة فوكل إلى العون والقوة.

المسألة السادسة عشرة من الآية السابعة عشرة ـ قوله تعالى (١) : (أَمَّا السَّفِينَةُ فَكانَتْ لِمَساكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها وَكانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً).

فاستدلّ به من قال : إن المسكين هو الذي ليس له شيء ، وفرّ من ذلك قوم حتى قرءوها لمسّاكين ـ بتشديد السين ـ من الاستمساك ، وهذا لا حاجة إليه ، فإنه إنما نسبهم إلى المسكنة لأجل ضعف القوة ، بل عدمها في البحر ، وافتقار العبد إلى المولى كسبا وخلقا.

ومن أراد أن يعلم يقينا أن الحول والقوة لله فليركب البحر.

المسألة السابعة عشرة من الآية الثامنة عشرة ـ قوله تعالى (٢) : (وَأَمَّا الْجِدارُ فَكانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُما وَكانَ أَبُوهُما صالِحاً فَأَرادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغا أَشُدَّهُما وَيَسْتَخْرِجا كَنزَهُما رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ ، وَما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذلِكَ تَأْوِيلُ ما لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً).

الآية التاسعة عشرة ـ قوله تعالى (٣) : (قالُوا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً عَلى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا).

فيها مسألة واحدة :

الخرج الجزاء والأجرة ، وكان ملكا ينظر في أمورهم ، ويقوم بمصالحهم ، فعرضوا عليه

__________________

(١) آية ٧٩.

(٢) آية ٨٢.

(٣) آية ٩٤.

٢٠٣

جزاء في أن يكفّ عنهم ما يجدونه من عادية يأجوج ومأجوج ، وعلى الملك فرض أن يقوم بحماية الخلق في حفظ بيضتهم ، وسدّ فرجتهم ، وإصلاح ثغرهم من أموالهم التي تفي عليهم ، وحقوقهم التي يجمعها خزنتهم تحت يده ونظره ، حتى لو أكلتها الحقوق ، وأنفدتها المؤن ، واستوفتها العوارض ، لكان عليهم جبر ذلك من أموالهم ، وعليه حسن النظر لهم ، وذلك بثلاثة شروط :

الأول ـ ألّا يستأثر بشيء عليهم.

الثاني ـ أن يبدأ بأهل الحاجة منهم فيعينهم.

الثالث ـ أن يسوّى في العطاء بينهم على مقدار منازلهم ، فإذا فنيت بعد هذا ذخائر الخزانة وبقيت صفرا فأطلعت الحوادث أمرا بذلوا أنفسهم قبل أموالهم ، فإن لم يغن ذلك فأموالهم تؤخذ منهم على تقدير ، وتصرف بأحسن تدبير.

فهذا ذو القرنين لما عرضوا عليه المال قال : لست أحتاج إليه ، وإنما أحتاج إليكم فأعينونى بقوة ، أى اخدموا بأنفسكم معى ، فإنّ الأموال عندي والرجال عندكم ، ورأى أنّ الأموال لا تغنى دونهم ، وأنهم إن أخذوها أجرة نقص ذلك مما يحتاج إليه ، فعاد عليهم بالأخذ ، فكان التطوّع بخدمة الأبدان أولى.

وقد بينا ذلك كله في كتاب الفيء والخراج والأموال من شرح الحديث بيانا شافيا ، وهذا القدر يتعلق بالقرآن من الأحكام ، وتمامه هنالك.

وضبط الأمر فيه أنّه لا يحلّ أخذ مال أحد إلّا لضرورة تعرض فيؤخذ ذلك المال جهرا لا سرّا ، وينفق بالعدل لا بالاستئثار ، وبرأى الجماعة لا بالاستبداد بالرأى. والله الموفّق للصواب.

الآية الموفية عشرين ـ قوله تعالى (١) : (قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالاً الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً).

فيها مسألة : أجاب الله عما وقع التقرير عليهم بقوله (٢) : (أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ

__________________

(١) آية ١٠٤.

(٢) آية ١٠٥.

٢٠٤

رَبِّهِمْ وَلِقائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً). لكن العلماء من الصحابة ومن بعدهم حملوا عليهم غيرهم ، وألحقوا بهم من سواهم ممن كان في معناهم ، ويرجعون في الجملة إلى ثلاثة أصناف :

الصنف الأول ـ الكفار بالله ، واليوم الآخر ، والأنبياء ، والتكليف ، فإنّ الله زيّن لكل أمة عملهم ، إنفاذا لمشيئته ، وحكما بقضائه ، وتصديقا لكلامه.

الصنف الثاني ـ أهل التأويل الفاسد الدليل الذين أخبر الله عنهم بقوله (١) : (فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ) ، كأهل حروراء والنهروان ، ومن عمل بعملهم اليوم ، وشغّب الآن على المسلمين تشغيب أولئك حينئذ ، فهم مثلهم وشرّ منهم. قال على بن أبى طالب يوما ، وهو على المنبر : لا يسألنى أحد عن آية من كتاب الله إلّا أخبرته ، فقام ابن الكواء ، فأراد أن يسأله عما سأل عنه صبيغ (٢) عمر بن الخطاب ، فقال : ما الذاريات ذروا؟ قال علىّ : الرياح. قال : ما الحاملات وقرا؟ قال : السحاب. قال : فما الجاريات يسرا؟ قال : السفن. قال : فما المقسّمات أمرا؟ قال: الملائكة. قال : فقول الله تعالى (٣) : (هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالاً)؟ قال : ارق إلىّ أخبرك. قال : فرقى إليه درجتين ، قال : فتناوله بعصا كانت بيده ، فجعل يضربه بها. ثم قال : أنت وأصحابك ، وهذا بناء على القول بتكفير المتأولين. وقد قدمنا نبذة منه ، وتمامها في كتب الأصول.

الصنف الثالث ـ الذين أفسدوا أعمالهم بالرياء وضيّعوا أحوالهم بالإعجاب ، وقد أتينا على البيان في ذلك من قبل ، ويلحق بهؤلاء الأصناف كثير ، وهم الذين أفنوا زمانهم النفيس في طلب الخسيس. كان شيخا الطوسي الأكبر يقول : لا يذهب بكم الزمان في مصاولة الأقران ومواصلة الإخوان. وقد ختم الباري البيان ، وختم البرهان بقوله (٤) : (قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً).

__________________

(١) سورة آل عمران ، آية ٧.

(٢) صبيغ كأمير ابن عسيل كان يعنت الناس بالغوامض والسؤالات فنفاه عمر إلى البصرة (القاموس) وفي الأصل : صبيع ـ بالعين.

(٣) سورة الكهف ، آية ١٠٤.

(٤) آية ١١٠.

٢٠٥

سورة مريم

[فيها ست آيات]

الآية الأولى ـ قوله تعالى (١) : (ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا. إِذْ نادى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا).

فيها مسألتان :

المسألة الأولى ـ هذا يناسب قوله (٢) : (ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً).

وقد روى سعد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : خير الذكر الخفىّ ، وخير الرزق ما يكفى ، وذلك لأنه أبعد من الرياء ، فأما دعاء زكريا فإنما كان خفيّا ، وهي :

المسألة الثانية ـ لوجهين :

أحدهما ـ أنه كان ليلا.

والثاني ـ لأنه ذكر في دعائه أحوالا تفتقر إلى الإخفاء ، كقوله : وإنّى خفت الموالي من ورائي. وهذا مما يكتم ولا يجهر به ، وقد أسرّ مالك القنوت ، وجهر به الشافعى ، والجهر أفضل ، لأنّ النبىّ صلى الله عليه وسلم كان يدعو به جهرا حسبما ورد في الصحيح. والله أعلم.

الآية الثانية ـ قوله تعالى (٣) : (وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا).

فيها مسألتان :

المسألة الأولى ـ قد بينا أنّ للمولى ثمانية معان في كتب الأصول والحديث ، وأوضحنا أنّ من جملتها الوارث ، وابن العم. ولم يخف زكريا إرث المال ، ولا رجاه من الولد ، وإنما أراد إرث النبوة ، وعليها خاف أن تخرج عن عقبه ، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : إنا معشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة. وفي لفظ آخر : إنّ الأنبياء لم يورّثوا دينارا ولا درهما ، وإنما ورّثوا علما. والأول أصح.

__________________

(١) آية ٢ ، ٣ من السورة.

(٢) سورة الأعراف ، آية ٥٥.

(٣) آية ٥.

٢٠٦

المسألة الثانية ـ رجا زكريّا ربّه في الولد لوجهين :

أحدهما ـ أنه دعاه لإظهار دينه ، وإحياء نبوّته ، ومضاعفة أجره ، في ولد صالح نبىّ بعده ، ولم يسأله للدنيا.

الثاني ـ لأنّ ربّه كان قد عوّده الإجابة ، وذلك لقوله تعالى (١) : (وَلَمْ أَكُنْ بِدُعائِكَ رَبِّ شَقِيًّا). وهذه وسيلة حسنة أن يتشفّع إليه بنعمه ، ويستدرّ فضله بفضله. يروى أن حاتم الجواد لقيه رجل ، فسأله فقال له حاتم : من أنت؟ قال : أنا الذي أحسنت إليه عام أوّل. قال : مرحبا بمن تشفّع إلينا بنا.

الآية الثالثة ـ قوله تعالى (٢) : (يا يَحْيى خُذِ الْكِتابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا) :

فيها مسألتان :

المسألة الأولى ـ قد بيّنا الحكمة والحكم في سورة البقرة من كتابنا هذا ، وفي غيره من الكتب ، وأوضحنا وجوهها ومتصرّفاتها ومتعلقاتها كلّها ، وأجلّها مرتبة النّبوة.

المسألة الثانية ـ في المراد بالحكم هاهنا ، وفيه ثلاثة أقوال :

الأول ـ الوحى. والثاني النبوّة. والثالث المعرفة والعمل بها.

وهذا كلّه محتمل يفتقر إلى تحقيق ، فأما من قال : إنه الوحى فجائز أن يوحى الله إلى الصغير ، ويكاشفه بملائكته وأمره ، وتكون هذه المكاشفة نبوّة غير مهموزة رفعة ومهموزة إخبارا ، ويجوز أن يرسله إلى الخلق كامل العقل والعلم مؤيّدا بالمعجزة ، ولكن لم يرد بذلك خبر ، ولا كان فيمن تقدم. وقول عيسى (٣) : (إِنِّي عَبْدُ اللهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا) إخبار عما وجب له حصوله ، لا عما حصل بعد.

وأما العلم والعمل فقد روى ابن وهب ، عن مالك في قوله : (وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا).

قال عيسى : أوصيكم بالحكمة ، والحكمة في قول مالك هي طاعة الله ، والاتباع لها ، والفقه في الدين والعمل به ، وقال : ويبيّن ذلك أنّك تجد الرجل عاقلا في أمر الدنيا ذا بصر فيها ، وتجد آخر ضعيفا في أمر دنياه عالما بأمر دينه بصيرا به ، يؤتيه الله إياه ، ويحرمه هذا ، فالحكمة الفقه في دين الله.

__________________

(١) آية ٤.

(٢) آية ١٢.

(٣) آية ٣٠ من السورة.

٢٠٧

وروى عنه ابن القاسم أنه سئل عن تفسير قوله تعالى : (وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا) قال: المعرفة والعمل به ، انتهى قول مالك.

وفي الإسرائيليات أنه قيل ليحيى ، وهو صغير : ألا تذهب نلعب؟ قال : ما خلقت للعب.

الآية الرابعة ـ قوله تعالى (١) : (وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُساقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيًّا).

فيها ثلاث مسائل :

المسألة الأولى ـ قوله : (هُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ) : أمر بتكلّف الكسب في الرزق ، وقد كانت قبل ذلك يأتى رزقها من غير تكسّب ، كما قال تعالى (٢) : (كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً قالَ يا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هذا؟ قالَتْ : هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ).

قال علماؤنا : كان قلبها فارغا لله ، ففرغ الله جارحتها عن النصب ، فلما ولدت عيسى ، وتعلّق قلبها بحبه ، وكلها الله إلى كسبها ، وردّها إلى العادة في التعلق بالأسباب ، وفي معناه أنشدوا :

ألم تر أنّ الله قال لمريم

إليك فهزّى الجذع يساقط الرطب

ولو شاء أحنى الجذع من غير هزّها

إليها ، ولكن كلّ شيء له سبب

وقد كان حبّ الله أولى برزقها

كما كان حبّ الخلق أدعى إلى النصب

المسألة الثانية ـ في صفه الجذع قولان :

أحدهما ـ أنه كان لنخلة خضراء ، ولكنه كان زمان الشتاء ، فصار وجود التمر في غير إبّانه آية.

الثاني ـ أنه كان جذعا يابسا فهزّته ، فاخضرّ وأورق وأثمر في لحظة.

ودخلت بيت لحم سنة خمس وثمانين وأربعمائة ، فرأيت في متعبدهم ، غارا عليه جذع يابس كان رهبانهم يذكرون أنه جذع مريم بإجماع ، فلما كان في المحرم سنة اثنتين وتسعين دخلت

__________________

(١) آية ٢٥.

(٢) سورة آل عمران ، آية ٣٧.

٢٠٨

بيت لحم قبل استيلاء الروم عليه لستة أشهر ، فرأيت الغار في المتعبّد خاليا من الجذع ، فسألت الرهبان به ، فقالوا : نخر وتساقط ، مع أن الخلق كانوا يقطعونه استشفاء حتى فقد.

المسألة الثالثة ـ قال ابن وهب : قال مالك : قال الله : (رُطَباً جَنِيًّا).

الجنىّ : ما طاب من غير نقش (١) ولا إفساد ، والنقش أن ينقش في أسفل البسرة حتى ترطب ، فهذا مكروه ، يعنى مالك أنّ هذا تعجيل للشيء قبل وقته ، وإفساد لجناه ، فلا ينبغي لأحد أن يفعله ، ولو فعله فاعل ما كان ذلك مجوّزا لبيعه ، ولا حكما بطيبه ، وقد تقدم شيء من ذلك في سورة الأنعام (٢).

الآية الخامسة ـ قوله تعالى (٣) : (إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً).

فيها مسألتان :

المسألة الأولى ـ قال محمد بن كعب : لقد كاد أعداء الله أن يقيموا علينا الساعة بقولهم هذا ، لقوله تعالى (٤) : (تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا. أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً. وَما يَنْبَغِي لِلرَّحْمنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً. إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً).

وصدق ، فإنه قول عظيم سبق القضاء والقدر ، ولو لا أنّ البارئ لا يضعه كفر الكافر ، ولا يرفعه إيمان المؤمن ، ولا يزيد هذا في ملكه ، كما لا ينقص ذلك من ملكه ، لما جرى شيء من هذا على الألسنة ، ولكنه القدّوس الحكيم الحليم ، فلم يبال بعد ذلك بما يقوله المبطلون.

المسألة الثانية ـ قوله : (إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً) دليل على أنّ الرجل لا يجوز أن يملك ابنه.

ووجه الدليل عليه من هذه الآية أنّ الله تعالى جعل الولديّة والعبدية في طرفي تقابل ،

__________________

(١) المنقوش من البسر الذي يطعن فيه بالشوك لينضج ويرطب (اللسان).

(٢) صفحة ٧٣٤.

(٣) آية ٩٣.

(٤) آية ٩٠ ـ ٩٣. (١٤ ـ أحكام ـ ٣)

٢٠٩

فنفى إحداهما ، وأثبت الأخرى ، ولو اجتمعتا لما كان لهذا القول فائدة ، يقع الاحتجاج بها ، والاستدلال عليها ، والتبرّى منها ، ولهذا أجمعت الأمة على أن أمّة الرجل إذا حملت فإن ولدها في بطنها حرّ لا رقّ فيه بحال ، وما جرى في أمّه موضوع عنه ، ولو لم يوضع عنه ، فلا خلاف في الولد ، وبه يقع الاحتجاج.

وإذا اشترى الحرّ أباه وابنه عتقا عليه ، حين يتم الشراء. وفي الحديث الصحيح (١) : لن يجزى ولد والده إلّا أن يجده مملوكا فيشتريه فيعتقه. فهذا نصّ.

والأول دليل من طريق الأولى ، فإن الأب إذا لم يملك أبنه مع علوّ مرتبته عليه فالابن بعدم ملك الأب أولى ، مع قصوره عنه ، وكان الفرق بينهما أنّ هذا الولد مملوك لغيره ، فإذا أزال ملك الغير بالشراء إليه تبطل عنه ، وعتق ، والتحق بالأول ، وفي ذلك تفريع وتفصيل موضعه شرح الحديث ، ومسائل الفقه ، فلينظر فيها.

الآية السادسة ـ قوله تعالى (٢) : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا).

فيها مسألتان :

المسألة الأولى ـ روى مالك وغيره من الأئمة قال النبي صلى الله عليه وسلم : إنّ الله إذا أحبّ عبدا نادى جبريل : إنّى أحبّ فلانا فأحبه ، فيحبه جبريل. ثم ينادى ملائكة السماء : إن الله يحبّ فلانا فأحبوه ، فتحبه ملائكة السماء ، ثم يوضع له القبول في الأرض ، فذلك قول الله سبحانه : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا).

وإذا أبغض عبدا (٣) ... فذكر مثله. وفي كتب التفسير أحاديث في هذه الآية أعرضنا عنها لضعفها.

__________________

(١) صحيح مسلم : ١١٤٨.

(٢) آية ٩٦.

(٣) في القرطبي : وإذا أبغض عبدا دعا جبريل عليه السلام وقال : إنّى أبغض فلانا فأبغضه فيبغضه جبريل ، ثم ينادى في أهل السماء : إن الله يبغض فلانا فأبغضوه ـ قال : فيبغضونه ثم توضع له البغضاء في الأرض (١١ ـ ١٦١).

٢١٠

المسألة الثانية ـ روى ابن وهب وغيره عن مالك في حديث : اتق الله يحبك الناس ، وإن كرهوك ، فقال : هذا حقّ ، وقرأ : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ...) الآية. وقرأ مالك (١) : (وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي). وهذا يبين سبب حبّ الله ، وخلقه المحبة في الخلق ، وذلك نصّ في قوله (٢) : (فَإِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ). وهو أحد قسمي الشريعة من اجتناب النهى.

__________________

(١) آية ٣٩.

(٢) سورة آل عمران ، آية ٧٦.

٢١١

سورة طه

[فيها ست آيات]

الآية الأولى ـ قوله تعالى (١) : (إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً).

فيها مسألتان :

المسألة الأولى ـ في خلع النعلين قولان :

أحدهما ـ ما أنبأنا أبو زيد الحميرى ، أنبأنا أبو عبد الله اللخمي ، أنبأنا أبو على أحمد بن عبد الوهاب ، أنبأنا عمى عبد الصمد ، حدثنا عمى أبو عمر محمد بن يوسف ، حدثنا إسماعيل ابن إسحاق ، حدثنا مسدّد ، حدثنا عيسى بن يونس ، حدثنا حميد بن عبد الله ، عن عبد الله ابن الحارث ، عن ابن مسعود ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : كانت نعلا موسى من جلد حمار ميت.

وحدثنا إبراهيم الهروي ، حدثنا خلف بن خليفة الأشجعى ، عن حميد الأعرج ، عن عبد الله بن الحارث ، عن ابن مسعود ، قال : يوم كلّم الله موسى كان عليه جبّة صوف ، وكساء صوف ، وسراويل صوف ، وكمّة (٢) صوف ، ونعلان من جلد حمار غير مذكّى. ورواه ابن عرفة عن خلف بن خليفة بمثله مسندا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.

الثاني ـ قال مجاهد : قال له ربّه : «اخلع نعليك ، أفض بقدميك إلى بركة الوادي».

قال القاضي أبو بكر في المسألة الثانية : إن قلنا إن خلع النعلين كان لينال بركة التقديس فما أجدره بالصحة ؛ فقد استحق التنزيه عن النعل ، واستحقّ الواطئ التبرك بالمباشرة ، كما لا تدخل الكعبة بنعلين ، وكما كان مالك لا يركب دابة بالمدينة ؛ برّا بتربتها المحتوية على الأعظم الشريفة ، والجثة الكريمة

__________________

(١) آية ١٢.

(٢) الكمة ـ بالضم : القلنسوة المدورة (القاموس)

٢١٢

وإن قلنا برواية ابن مسعود ، وإن لم تصح ، فليس بممتنع أن يكون موسى أمر بخلع نعليه ، وكان أول تعبّد أحدث إليه ، كما كان أول ما قيل لمحمد صلى الله عليه وسلم (١) : (قُمْ فَأَنْذِرْ ، وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ ، وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ ، وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ).

وقد اختلف الناس في جلد الميتة على أربعة أقوال :

الأول ـ أنه ينتفع به على حاله ، وإن لم يدبغ ؛ قاله ابن شهاب ، لمطلق قوله صلى الله عليه وسلم : هلا أخذتم إهابها (٢) فانتفعتم به ؛ ولم يذكر دباغا.

الثاني ـ أنه يدبغ فينتفع به مدبوغا ؛ لقوله صلى الله عليه وسلم (٣) : هلا أخذتم إهابها فدبغتموه فانتفعتم به ؛ قاله مالك في أحد أقواله.

الثالث ـ أنه إذا دبغ فقد طهر ؛ لقوله صلى الله عليه وسلم (٤) : أيما إهاب دبغ فقد طهر. خرجه مسلم. وخرج البخاري أنه صلى الله عليه وسلم كان يتوضأ من قربة مدبوغة من جلد ميتة ، حتى صارت شنّا ؛ قاله مالك في القول الثاني ، وهو الرابع ، ووراء هذه تفصيل.

والصحيح جواز الطهارة على الإطلاق ، ويحتمل أن نكون نعلا موسى لم تدبغا ، ويحتمل أن تكونا دبغتا ، ولم يكن في شرعه إذن في استعمالها. والأظهر أنها لم تدبغ ، وقد استوفينا القول في كتب الفقه والحديث في الباب.

الآية الثانية ـ قوله تعالى (٥) : (إِنَّنِي أَنَا اللهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي).

فيها أربع مسائل :

المسألة الأولى ـ في معنى قوله : (لِذِكْرِي).

وفي ذلك ثلاثة أقوال :

الأوّل ـ أقم الصلاة ، لأن تذكرني ؛ قاله مجاهد.

الثاني ـ أقم الصلاة لذكرى لك بالمدح.

__________________

(١) سورة المدثر : الآيات من ٢ ـ ٥.

(٢) الإهاب : الجلد.

(٣) صحيح مسلم : ٢٧٦ ، ٢٧٧

(٤) آية ١٤.

٢١٣

الثالث ـ أقم الصلاة إذا ذكرتني. وقرأ أبو عبد الرحمن السلمى ـ ورويت عن ابن عباس : أقم الصلاة للذّكر ، وقرئ : للذّكرى.

المسألة الثانية ـ لا خلاف في أن الذكر مصدر مضاف إلى الضمير ، ويحتمل أن يكون مضافا إلى الفاعل ، ويحتمل أن يكون مضافا إلى ضمير المفعول.

وقد روى مالك وغيره أنّ النبىّ صلى الله عليه وسلم قال : من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها ؛ فإن الله يقول : أقم الصلاة للذكرى ، ولذكرى ، ومعنى قوله : للذكرى إذا ذكّرتك بها ؛ ولتذكرني فيها ، ولذكرى لك بها.

فإن قيل : الذكر مصدر في الإثبات ، ولا يحتمل العموم.

قلنا : بل يحتمل العموم ، كما تقول : عجبت من ضربي زيدا ، إذا كان الضرب الواقع به عاما في جميع أنواع الضرب ، فيكون العموم في كيفيات الضرب ومتعلقاته ، والإثبات في النكرة التي لا تعمّ ما يتناول الأشخاص.

المسألة الثالثة ـ قوله : «من نام عن صلاة أو نسيها فليصلّها إذا ذكرها» يقتضى وجوب الصلاة على كل ذاكر إذا ذكر ، سواء كان الذكر دائما ، كالتارك لها عن علم ؛ أو كان الذكر طارئا ، كالتارك لها عن غفلة ، وكلّ ناس تارك ، إلا أنه قد يكون بقصد وبغير قصد ، فمتى كان الذكر وجب الفعل دائما أو منقطعا.

فافهموا هذه النكتة تريحوا أنفسكم من شغب المبتدعة ، فما زالوا يزهّدون الناس في الصلاة ، حتى قالوا : إنّ من تركها متعمدا لا يلزمه قضاؤها ، ونسبوا ذلك إلى مالك. وحاشاه من ذلك! فإن ذهنه أحدّ ، وسعيه في حياطة الدّين آكد من ذلك ، إنما قال : إن من ترك صلاة متعمدا لا يقضى أبدا. كما قال في الأثر : من أفطر يوما من رمضان متعمدا لم يجزه (١) صيام الدهر وإن صامه ، إشارة إلى أن ما مضى لا يعود ، لكن مع هذا لا بدّ من توفية التكليف حقه بإقامة القضاء مقام الأداء ، وإتباعه بالتوبة ، ويفعل الله بعد ذلك ما يشاء.

المسألة الرابعة ـ قالت المتزهدة : معنى (أَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي) ؛ أى لا تذكر فيها غيرى ؛

__________________

(١) في ا : لم يقضه. وفي القرطبي ـ عن ابن مسعود : لم يكفره صيام الدهر.

٢١٤

فإنه قال : فاعبدني ، أى تذلل لي ، وأقم الصلاة لمجرد ذكرى ، تحرّم عن الدنيا ، وأخلص للأخرى ، واعمر لسانك وقلبك بذكر المولى.

وقد بينا أن هذا لمن قدر عليه هو الأولى ، فمن لم يفعل كتب له منها بمقدار ذلك فيها ، وقد مهدنا هذا في شرح الحديث.

الآية الثالثة ـ قوله تعالى (١) : (وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسى. قالَ هِيَ عَصايَ أَتَوَكَّؤُا عَلَيْها وَأَهُشُّ بِها عَلى غَنَمِي وَلِيَ فِيها مَآرِبُ أُخْرى).

فيها خمس مسائل :

المسألة الأولى ـ قوله : (وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ).

قال علماؤنا : إنما سأله عنها لما كان أضمر من الآية له فيها ، حتى إذا رجع عليها ، وتحقّق حالها ، وكسيت تلك الحلة الثعبانية بمرأى منه لابتدائها كان تبديلها مع الذكر أوقع في القلب وأيسر له من أن يغفل عنها ، فيراها بحلة الثعبانية مكسوّة ، فيظن أنها عين أخرى سواها.

المسألة الثانية ـ (قالَ هِيَ عَصايَ).

قال أرباب القلوب : الجواب المطلق أن يقول هي عصا ، ولا يضيف إلى نفسه شيئا ، فلما أراد أن يكونا اثنين أفرد عنها بصفة الحية ؛ فبقى وحده لله كما يحب ، حتى لا يكون معه إلا الله ، يقول الله : أنت عبدى ، ويقول موسى : أنت ربّى.

المسألة الثالثة ـ أجاب موسى بأكثر من المعنى الذي وقع السؤال عنه ؛ فإنه ذكر في الجواب أربعة معان (٢) ، وكان يكفى واحد ، قال : الإضافة (٣) ، والتوكؤ ، والهشّ ، والمآرب المطلقة ، وكان ذلك دليلا على جواب السؤال بأكثر من مقتضى ظاهره. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : هو الطّهور ماؤه الحلّ ميتته ، لمن سأله عن طهورية ماء البحر.

المسألة الرابعة ـ الهش : هو أن يضع المحجن في أصل الغصن ويحرّكه فيسقط منه ما سقط ، ويثبت ما ثبت ؛ قاله ابن القاسم ، عن مالك ، وروى عنه أيضا أنه قال : مرّ النبىّ

__________________

(١) آية ١٧ ، ١٨.

(٢) في ا : خمسة معان. وهو تحريف.

(٣) في القرطبي : إضافة العصا إليه ، وكان حقه أن يقول عصا.

٢١٥

صلى الله عليه وسلم براع يعضد (١) شجرة فنهاه عن ذلك ، وقال : هشّوا وارعوا ، وهذا من باب الاقتصاد في الاقتيات ، فإنه إذا عضد الشجرة اليوم لم يجد فيها غدا شيئا ولا غيره ممن يخلفه ، فإذا هشّ ورعى أخذ وأبقى ، والناس كلّهم فيه شركاء ، فليأخذ وليدع ، إلا أن يكون الشيء كثيرا فليأخذه كيف شاء.

المسألة الخامسة ـ تعرّض قوم لتعديد منافع العصا ، كأنهم يفسرون بذلك قول موسى (وَلِيَ فِيها مَآرِبُ أُخْرى) ، وهذا مما لا يحتاج إليه في العلم ، وإنما ينبغي أن يصرّف العصا في حاجة عرضت ؛ أما إنه يحتاج إليها في الدين في موضع واحد إجماعا وهو الخطبة ، وفي موضع آخر باختلاف وهو التوكؤ عليها في صلاة النافلة.

وقد روى أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر به ، رواه أبو داود وغيره ؛ وقد قدمنا ذكره في كل موضع هنا وسواه.

الآية الرابعة ـ قوله تعالى (٢) : (اذْهَبا إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى. فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى. قالا رَبَّنا إِنَّنا نَخافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنا أَوْ أَنْ يَطْغى).

فيها مسألتان :

المسألة الأولى ـ يجوز أن يرسل الله رسولين ، وقد بينا ذكر قاضيين وأميرين ، والرسالة بخلاف ذلك ، فإنها تبليغ عن الله ، فهي بمنزلة الشهادة ، فإن كان القضاء وقلنا لا يجوز لنبي أن يشرع إلا بوحي جاز أن يحكما معا ، وإن قلنا إنه يجوز أن يجتهد النبىّ لم يحكم إلا أحدهما ، وهذا يتم بيانه في قصة داود وسليمان إن شاء الله تعالى.

المسألة الثانية ـ في هذا جواز الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر باللين لمن معه القوة ، وضمنت له العصمة ؛ ألا تراه قال لهما : قولا له قولا لينا ، ولا تخافا إننى معكما أسمع وأرى.

ففي الإسرائيليات أن موسى أقام على باب فرعون سنة لا يجد رسولا يبلّغ كلاما ، حتى لقيه حين خرج فجرى له ما قصّ الله علينا من أمره ، وكان ذلك تسلية لمن جاء بعده من المؤمنين في سيرتهم مع الظالمين. وربّك أعلم بالمهتدين.

__________________

(١) يعضد : يقطع.

(٢) الآيات ٤٣ ، ٤٤ ، ٤٥.

٢١٦

الآية الخامسة ـ قوله تعالى (١) : (وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً).

وقد تقدّم ما في مثلها من أحكام ؛ بيد أنه كنّا في الإملاء الأول قد وعدنا ـ في قولهم : إنه أكلها ناسيا ـ ببيانه في هذا الموضع ، فها نحن بقوة الله لانتقض عن عهدة الوعد ، فنقول : كم قال في تنزيه الأنبياء عن الذي لا يليق بمنزلتهم مما ينسب الجهلة إليهم من وقوعهم في الذنوب عمدا منهم إليها ، واقتحاما لها مع العلم بها ، وحاش لله ، فإن الأوساط من المسلمين يتورّعون عن ذلك ، فكيف بالنبيين ، ولكن البارئ سبحانه وتعالى بحكمه النافذ ، وقضائه السابق ، أسلم آدم إلى المخالفة ، فوقع فيها متعمّدا ناسيا ، فقيل في تعمّده (٢) : (عَصى آدَمُ رَبَّهُ). وقيل في بيان عذره : (وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ). ونظيره من التمثيلات أن يحلف الرجل لا يدخل دارا أبدا ، فيدخلها متعمّدا ناسيا ليمينه ، أو مخطئا في تأويله ، فهو عامد ناس ، ومتعلّق العمد غير متعلّق النسيان ؛ وجاز للمولى أن يقول في عبده : عصى تحقيرا وتعذيبا ، ويعود عليه بفضله ، فيقول : نسى تنزيها ؛ ولا يجوز لأحد منا أن يخبر بذلك عن آدم ، إلّا إذا ذكرناه في أثناء قول الله عنه ، أو قول نبيه.

وأما أن نبتدئ في ذلك من قبل أنفسنا فليس بجائز لنا في آبائنا الأدنين إلينا ، المماثلين لنا ، فكيف بأبينا الأقدم الأعظم ، النبي المقدم ، الذي عذره الله ، وتاب عليه ، وغفر له.

ووجه الخطأ في قصّة آدم غير متعيّن ؛ ولكن وجوه الاحتمالات تتصرّف ، والمدرك منها عندنا أن يذهل عن أكل الشجرة ، كما ضربنا المثل في دخول الدار.

الثاني ـ أن يذهل عن جنس منهىّ منه ، ويعتقده في عينه ؛ إذ قال الله له هذه الشجرة ، كما تقدم في سورة البقرة.

الثالث ـ أن يعتقد أنّ النهى ليس على معنى الجزم الشرعي لمعنى مغيّب.

فإن قيل : فقد قال (٣) : (فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ).

قلنا : قد قيل معناه من الظالمين لأنفسكما ، كما قال (٤) : (فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ).

__________________

(١) آية ١١٥.

(٢) آية ١٢١.

(٣) سورة البقرة ، آية ٣٥.

(٤) سورة فاطر ، آية ٣٢.

٢١٧

والصحيح هو المعنى الأول ، وهو الذي نسى من تحذير الله له ، أو تأويله في تنزيله ، وربّك أعلم كيف دار الحديث. والتعيين يفتقر إلى تأويله ، وكذلك قلنا إن الناسي في الحنث معذور ، ولا يتعلّق به حكم ، والله أعلم.

الآية السادسة ـ قوله تعالى (١) : (فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِها وَمِنْ آناءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرافَ النَّهارِ لَعَلَّكَ تَرْضى).

فيها خمس مسائل :

المسألة الأولى ـ قوله تعالى : (وَمِنْ آناءِ) وزنه أفعال ، واحدها إنى مثل عدل ، وإنى (٢) مثل عنب في السالم ، قال الله تعالى (٣) : (غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ).

المسألة الثانية ـ لا خلاف أنّ المراد بقوله تعالى هاهنا : (سَبِّحْ) ، صلّ ، لأنه غاية التسبيح وأشرفه.

واختلف الناس هل ذلك بيان لصلاة الفرض أم لصلاة النفل؟

فقيل : قبل طلوع الشمس ، يعنى الصبح. وقبل غروبها ، يعنى العصر. وقد قال صلى الله عليه وسلم : إنكم ترون ربّكم ، كما ترون القمر ليلة البدر ، فإن استطعتم ألّا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها فافعلوا. وفي الحديث الصحيح أيضا (٤) : من صلّى البردين (٥) دخل الجنة.

المسألة الثالثة ـ قوله تعالى : (وَمِنْ آناءِ اللَّيْلِ) :

يعنى ساعاته ، يريد بذلك قيام الليل كلّه على أحد القولين. وفي الثاني صلاة المغرب والعشاء الآخرة على حدّ قوله تعالى (٦) : (حِينَ تُمْسُونَ) في الفرض ، وعلى حد قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً) ، على حدّ قولنا في أنه النفل.

__________________

(١) آية ١٣٠.

(٢) في ا : وإنا. وفي القرطبي : إنى ، أنى.

(٣) سورة الأحزاب ، آية ٥٣.

(٤) صحيح مسلم : ٤٤٠.

(٥) البردان ، والأبردان : الغداة والعشى. وقيل ظلاهما. (النهاية).

(٦) سورة الروم ، آية ١٧.

٢١٨

المسألة الرابعة ـ قوله تعالى : (وَأَطْرافَ النَّهارِ) :

يعنى في أحد القولين صلاة الظهر. وقيل صلاة المغرب ، لأنها في الطرف الثاني.

والأول أصحّ ، لأن المغرب من طرف الليل ، لا من طرف النهار. وفي القول الثاني يعنى به صلاة التطوّع ، وهو قول الحسن. والأول أصح.

المسألة الخامسة ـ قوله تعالى : (لَعَلَّكَ تَرْضى).

هو مجمل (١) قوله المفسّر (٢) : (عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً) ، ويماثل قوله تعالى (٣) : (وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى).

__________________

(١) في القرطبي : لعلك ترضى ـ بفتح التاء ، أى لعلك تثاب على هذه الأعمال بما ترضى به. وقرئ بضم التاء ، أى لعلك تعطى ما يرضيك.

(٢) سورة الإسراء ، آية ٧٩.

(٣) سورة الضحى ، آية ٥.

٢١٩

سورة الأنبياء

[فيها ثلاث آيات]

الآية الأولى ـ قوله تعالى (١) : (قالَ : بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ).

فيها أربع مسائل :

المسألة الأولى ـ روى الأئمة عن أبى هريرة وغيره ، واللفظ له ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : لم يكذب إبراهيم في شيء قطّ إلا في ثلاث : قوله : إنّى سقيم ، ولم يكن سقيما ، وقوله لسارة : أختى ، وقوله تعالى : (بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا).

وثبت أيضا في الصحيح ، عن أبى هريرة أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (٢) : لم يكذب إبراهيم إلا ثلاث كذبات ، ثنتين منها في ذات الله ، قوله (٣) : إنى سقيم. وقوله : بل فعله كبيرهم هذا. وبينا هو ذات يوم وسارة إذ أتى على جبّار من الجبابرة فقيل : إن هاهنا رجلا معه امرأة من أحسن الناس ، فأرسل إليه ، فسأله عنها ، فقال : من هذه؟ قال : أختى. فأتى سارة فقال : يا سارة ، ليس على وجه الأرض مؤمن غيرى وغيرك ، وإنّ هذا سألنى فأخبرته أنك أختى ، فلا تكذبيننى. فأرسل إليها فلما دخلت عليه ذهب يتناولها بيده ، فأخذ ، فقال : ادعى الله لي ولا أضرّك ، فدعت الله ، فأطلق. ثم تناولها الثانية فأخذ مثلها أو أشدّ. فقال : ادعى الله لي ولا أضرك ، فأطلق ، فدعا بعض حجبته فقال : لم تأتنى بإنسان ، إنما أتيتنى بشيطان ، فأخذمها هاجر.

المسألة الثانية ـ قوله تعالى : (بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا).

اختلف الناس في ظاهر المقصود به ، فمنهم من قال : هذا تعريض ، وفي التعاريض مندوحة عن الكذب ، ومنهم من قال : بل فعله كبيرهم إن كانوا ينطقون ، فشرط النّطق في الفعل.

__________________

(١) آية ٦٣.

(٢) صحيح مسلم : ١٨٤٠.

(٣) في ا : قوله تعالى.

٢٢٠