أحكام القرآن - ج ٣

أبي بكر محمّد بن عبدالله [ ابن العربي ]

أحكام القرآن - ج ٣

المؤلف:

أبي بكر محمّد بن عبدالله [ ابن العربي ]


المحقق: علي محمّد البجاوي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الجيل
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٤٨

على الذين اختلفوا فيه ، فقال بعضهم : هو أفضل الأيام ، لأنّ الله فرغ من خلق الأشياء يوم الجمعة ، ثم سبت (١) يوم السبت.

وقال آخرون : أفضل الأيام يوم الأحد ، لأنه اليوم الذي ابتدأ فيه خلق الأشياء ، فاختلفوا في تعظيم غير ما فرض عليهم تعظيمه ، ثم بعد ذلك استحلّوه.

المسألة الثانية ـ ما الذي اختلفوا فيه؟ فيه خمسة أقوال :

الأول ـ أنهم اختلفوا في تعظيمه ، كما تقدم ، قاله مجاهد.

الثاني ـ اختلفوا فيه ، استحلّه بعضهم ، وحرمه آخرون ، قاله ابن جبير.

الثالث ـ قال ابن زيد : كانوا يطلبون يوم الجمعة فأخطأوه ، وأخذوا السبت ، ففرض عليهم. وقيل في القول الرابع : إنهم ألزموا يوم الجمعة عيدا ، فخالفوا وقالوا : نريد يوم السبت ، لأنه فرغ فيه من خلق السموات.

الخامس ـ روى أنّ عيسى أمر النصارى أن يتخذوا يوم الجمعة عيدا ، فقالوا : لا يكون عيدنا إلّا بعد عيد اليهود ، فجعلوه الأحد.

وروى أنّ موسى قال لبنى إسرائيل : تفرّغوا إلى الله في كل سبعة أيام في يوم تعبدونه ، ولا تعملون فيه شيئا من أمر الدنيا ، فاختاروا يوم السبت ، فأمرهم موسى بالجمعة ، فأبوا إلا السبت ، فجعله الله عليهم.

المسألة الثالثة ـ الذي يفصّل هذا القول ما روى أنّ النبىّ صلى الله عليه وسلم قال : نحن الآخرون السابقون يوم القيامة ، بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا ، وأوتيناه من بعدهم ، فهذا اليوم الذي اختلفوا فيه ، فهدانا الله ، فالناس لنا فيه تبع ، اليهود غدا والنصارى بعد غد.

فقوله صلى الله عليه وسلم : فهذا اليوم اختلفوا فيه فهدانا الله له ، يدلّ على أنه عرض عليهم ، فاختار كلّ أحد ما ظهر إليه ، وألزمناه من غير عرض ، فالتزمناه.

وقد روى في بعض طرق الحديث الصحيح : فهذا يومهم الذي فرض الله عليهم ،

__________________

(١) سبت : استراح.

١٤١

فاختلفوا فيه. وفي الصحيح في بعض طرق الحديث : فسكت ، ثم قال : حقّ على كل مسلم أن يغتسل في كل سبعة أيام يوما ، يغسل فيه رأسه وجسده ، وهذا مجمل ، فسره الحديث الصحيح : غسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم.

المسألة الرابعة ـ روى أنّ اليهود حين اختاروا يوم السبت قالوا : إنّ الله ابتدأ الخلقة يوم الأحد ، وأتمّها يوم الجمعة ، واستراح يوم السبت ، فنحن نترك العمل يوم السبت. فأكذبهم الله في قولهم بقوله تعالى : (وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ...) الآية.

فلما تركوا العمل في يوم السبت بالتزامهم ، وابتدعوه برأيهم الفاسد ، واختيارهم الفائل ، كان منهم من رعاه ، ومنهم من اخترمه ، فسخط الله على الجميع ، حسبما تقدم في سورة الأعراف.

واختار الله لنا يوم الجمعة ، فقبلنا خيرة ربّنا لنا ، والتزمنا من غير مثنوية ما ألزمنا ، وعرفنا مقدار فضله ، فقال لنا في الحديث الصحيح ، عن أبى هريرة : خير يوم طلعت فيه الشمس يوم الجمعة ، فيه خلق آدم ، وفيه أهبط ، وفيه تيب عليه ، وفيه مات ، وفيه تقوم الساعة ، وما من دابّة إلا وهي مصيخة يوم الجمعة من حين تصبح إلى حين تطلع الشمس شفقا من الساعة إلّا الجنّ والإنس ، وفيه ساعة لا يصادفها عبد مسلم وهو يصلى يسأل الله شيئا إلا أعطاه إياه ... في حديث طويل هذا أكثره.

وجمع لنا فيه الوجهين : فضل العمل في الآخرة ، وجواز العمل في الدنيا ، وخشي علينا رسول الله ما جرى لمن كان قبلنا من التنطع في يومهم الذي اختاروه ، فمنعنا من صيامه ، فقال : لا تخصّوا يوم الجمعة بصيام ، ولا ليلتها بقيام. وعلى ذلك كثير من العلماء.

ورأى مالك أنّ صومه جائز كسائر الأيام. وقال : إنّ بعض أهل العلم في زمانه كان يصومه ، وأراه كان يتحرّاه.

ونهى النبي عن تخصيصه أشبه بحال العالم اليوم ، فإنهم يخترعون في الشريعة ما يلحقهم بمن تقدم ، ويسلكون به سنّتهم ، وذلك مذموم على لسان الرسول ، فإن الله شرع فيه الصلاة ،

__________________

(١) سورة ق ، آية ٣٨

١٤٢

ولم يشرع فيه الصيام ، وشرع فيه الذكر والدعاء ، فوجب الاقتفاء لسنته ، والاقتصار على ما أبان من شرعته ، والفرار عن الرهبانية المبتدعة ، والخشية من الباطل المذموم على لسان الرسول.

المسألة الخامسة ـ قوله : فيه خلق آدم ، يعنى جمع فيه خلقه ، ونفخ فيه الرّوح ، وهذا فضل بيّن. وقوله : فيه أهبط إلى الأرض. يخفى وجه الفضل فيه ، ولكن العلماء أشاروا إلى أنّ وجه التفضيل فيه أنه تيب عليه من ذنبه ، وهبط إلى الأرض لوعد ربه ، حين قال : إنّى جاعل في الأرض خليفة. فلما سبق الوعد به حققه الله له في ذلك ، ونفاذ الوعد خير كثير ، وفضل عظيم ، ووجه الفضل في موته أنّ الله جعل له ذلك اليوم للقائه.

فإن قيل : فقد جعل الله لمحمد صلى الله عليه وسلم يوم الاثنين وقتا للقائه.

قلنا : يكون هذا أيضا فضلا ، يشترك فيه مع يوم الجمعة ، ويبقى ليوم الجمعة فضله الذي أعطاه الله له زائدا على سائر أيام الجمعة ، ومن شارك شيئا في وجه ، وساواه فيه لا يمتنع أن يفضله في وجوه أخر سواه.

وأما وجه تفضيله في قيام الساعة فيه فلأن يوم القيامة أفضل الأيام ، فجعل قدومه في أفضل الأوقات ، وتكون فاتحته ، في أكرم أوقات سائر الأيام ، ومن فضله استشعار كلّ دابّة ، وتشوّقها إليه ، لما يتوقع فيه من قيام الساعة ، إذ هو وقت فنائها ، وحين اقتصاصها وجزائها ، حاش الجنّ والإنس اللذين ركبت فيهما الغفلة التي تردد فيها الآدمي بين الخوف والرجاء ، وهما ركنا التكليف ، ومعنى القيام بالأمر والنهى ، وفائدة جريان الأعمال على الوعد والوعيد ، وتمام الفضل ، ووجه الشرف تلك الساعة التي ينشر الباري فيها رحمته ، ويفيض في الخلق نيله ، ويظهر فيها كرمه ، فلا يبقى داع إلّا يستجيب له ، ولا كرامة إلا ويؤتيها ، ولا رحمة إلا يبثها لمن تأهّب لها ، واستشعر بها ، ولم يكن غافلا عنها.

ولما كان وقتا مخصوصا بالفضل من بين سائر الأوقات قرنه الله بأفضل الحالات للعبد ، وهي حالة الصلاة ، فلا عبادة أفضل منها ، ولا حالة أخصّ بالعبد من تلك الحالة ، لأنّ الله جمع فيها عبادات الملائكة كلّهم ، إذ منهم قائم لا يبرح عن قيامه ، وراكع لا يرفع عن

١٤٣

ركوعه ، وساجد لا يتفصّى (١) من سجوده ، فجمع الله لبنى آدم عبادات الملائكة في عبادة واحدة.

وقد جاء في الحديث : إنّ العبد إذا نام في سجوده باهى الله به ملائكته ، يقول : يا ملائكتي ، انظروا عبدى ، روحه عندي ، وبدنه في طاعتي. وصارت هذه الساعة في الأيام كليلة القدر في الليالى في معنى الإبهام ، لما بيناه من قبل في أنّ إبهامها أصلح للعباد من تعيينها لوجهين :

أحدهما ـ أنها لو علمت وهتكوا حرمتها ما أمهلوا ، وإذا أبهمت عليهم عمّ عملهم اليوم كلّه والشهر كله ، كما أبهمت الكبائر في الطرف الآخر ، وهو جانب السيئات ، ليجتنب العبد الذنوب كلّها ، فيكون ذلك أخلص له ، فإذا أراد العبد تحصيل ليلة القدر فليقم الحول على رأى ابن مسعود ، أو الشهر كلّه على رأى آخرين ، أو العشر الأواخر على رأى كلّ أحد.

ولقد كنت في البيت المقدّس ثلاثة أحوال (٢) ، وكان بها متعبّد يترصّد ساعة الجمعة في كل جمعة ، فإذا كان هذا يوم الجمعة مثلا خلا بربّه من طلوع الفجر إلى الضحى ، ثم انصرف ، فإذا كان في الجمعة الثانية خلا بربه من الضحى إلى زوال الشمس ، فإذا كان في الجمعة الثالثة خلا بربه من زوال الشمس إلى العصر ، ثم انقلب ، فإذا كان في الجمعة الرابعة خلا بربه من العصر إلى مغرب الشمس ، فتحصل له الساعة في أربع جمع ، فاستحسن الناس ذلك منه.

وقال لنا شيخنا أبو بكر الفهري : هذا لا يصحّ له ، لأنّ من الممكن أن تكون في اليوم الذي يرصدها من الزوال إلى العصر تكون من العصر إلى الغروب ، وفي اليوم الذي تكون من العصر إلى الغروب يترصّدها هو من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس إلى الضحى ، إذ يمكن أن تنتقل في كل جمعة ، ولا تثبت على ساعة واحدة في كل يوم ، يشهد لصحة ذلك انتقال ليلة القدر في ليالي الشهر فإنها تكون في كل عام في ليلة ، لا تكون فيها في العام الآخر.

__________________

(١) تفصيت من الأمر تفصيا : إذا خرجت منه وتخلصت.

(٢) الحول : السنة ، وجمعه أحوال.

١٤٤

والدليل عليه أنّ النبىّ صلى الله عليه وسلم نصب لهم عليها علامة مرة ، فوجدوا تلك العلامة ليلة سبع وعشرين ، وسأله آخر متى ينزل : فإنه شاسع الدار؟ فقال له : انزل ليلة ثلاث وعشرين ، وما كان صلى الله عليه وسلم ليعلم علامة فلا يصدق ، وما كان أيضا ليسأله سائل ضعيف لا يمكنه ملازمته عن أفضل وقت ينزل إليه فيه ، وأكرم ليلة يأتيه فيها ، ليحصل له فضله ، فيحمله على الناقص عن غيره ، المحطوط عن سواه ، وهذا كلّه يدلّك على أنّ من أراد تحصيل الساعة عمر اليوم كلّه بالعبادة ، أو تحصيل الليلة قام الشّهر كلّه في جميع لياليه.

فإن قيل : فإذا خرج إلى الوضوء ، أو اشتغل بالأكل ، فجاءت تلك الساعة في تلك الحالة ، وهو غير داع ولا سائل ، كيف يكون حاله؟

قلنا : إذا كان وقته كلّه معمورا بالعبادة والدعاء ، فجاءت وقت الوضوء أو الأكل أعطى طلبته ، وأجيبت دعوته ، ولم يحاسب من أوقاته بما لا بدّله منه ، على أنى قد رأيت من علمائنا من قال : إذا توضأ أو أكل ، فاشتغل بذلك بدنه ولسانه ، فليقبل على الطاعة بقلبه ، حتى يلقى تلك الساعة متعبّدا بقلبه. وهذا حسن ، وهو عندي غير لازم ، بل يكفى أن يكون ملازما للعبادة ، ما عدا أوقات الوضوء والأكل ، فيعفى عنه فيها ، ويعطى عندها كل ما سأل في غيرها بلطف الله بعباده ، وسعة رحمته لهم ، وعموم فضله ، لا ربّ غيره.

على أنّ مسلما (١) قد كشف الغطاء عن هذا الخفاء ، فقال عن النبي صلى الله عليه وسلم : إنه سئل عن الساعة التي في يوم الجمعة ، فقال : هي من جلوس الإمام على المنبر إلى انقضاء الصلاة. وهذا نصّ جلىّ ، والحمد لله. وفي سنن أبى داود عن النبي صلى الله عليه وسلم نصّ في أنها بعد العصر ، ولا يصحّ.

الآية الحادية والعشرون ـ قوله تعالى (٢) : (وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ).

__________________

(١) صحيح مسلم : ٥٨٤.

(٢) آية ١٢٦. (١٠ ـ أحكام ـ ٣)

١٤٥

فيها أربع مسائل :

المسألة الأولى ـ في سبب نزولها : وفي ذلك روايات ، أصلها روايتان (١) :

إحداهما ـ أنه لما كان يوم أحد أصيب من الأنصار أربعة وستون رجلا ، ومن المهاجرين ستة ، فيهم حمزة ، فمثّلوا بهم ، فقالت الأنصار : لئن أصبنا منهم يوما مثل هذا لنربينّ عليهم ، قال : فلما كان فتح مكة ، فأنزل الله (وَإِنْ عاقَبْتُمْ ...) الآية ، فقال رجل : لا قريش بعد اليوم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : كفّوا عن القوم إلا أربعة.

الثانية ـ أن النبىّ صلى الله عليه وسلم وقف على حمزة بن عبد المطلب حين استشهد ، فنظر إلى شيء لم ينظر إلى شيء كان أوجع منه لقلبه ، ونظر إليه قد مثّل به ، فقال : رحمة الله عليك ، فإنك كنت ـ ما عرفتك ـ فعولا للخيرات ، وصولا للرحم ، ولو لا حزن من بعدك عليك لسرّنى أن أدعك ، حتى تحشر من أفراد شتى. أما والله مع ذلك لأمثلنّ بسبعين منهم.

فنزل جبريل ـ والنبىّ صلى الله عليه وسلم واقف ـ بخواتيم النحل : (وَإِنْ عاقَبْتُمْ) الآيات ، فصبر النبي ، وكفّر عن يمينه ، ولم يمثّل بأحد.

المسألة الثانية ـ قال علماؤنا : الجزاء على المثلة عقوبة ، فأما ابتداء فليس بعقوبة ، ولكنها سميت باسمها ، كما قال (٢) : (فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ) ، وكما قال (٣) : (وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها). وعادة العرب هكذا في الازدواج ، فجاء القرآن على حكم اللغة ، وقد تقدّم بيان ذلك.

المسألة الثالثة ـ في هذه الآية جواز التماثل في القصاص ، فمن قتل بحديدة قتل بها ، وكذلك من قتل بحجر أو حبل أو عود امتثل فيه ما فعل ، وقد بيّنا ذلك فيما تقدم في البقرة والمائدة وغيرهما ، فلا معنى لإعادته.

المسألة الرابعة ـ قوله تعالى : (وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ).

إشارة إلى فضل العفو ، وقد تقدّم في المائدة وغيرها. والله الموفق للصواب.

__________________

(١) أسباب النزول : ١٦٣.

(٢) سورة البقرة ، آية ١٩٤.

(٣) سورة الشورى ، آية ٤٠.

١٤٦

سورة الإسراء

[فيها عشرون آية]

الآية الأولى ـ قوله تعالى (١) : (سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ).

فيها ستّ مسائل :

المسألة الأولى ـ في «سبحان» ، وفيه أربعة أقوال :

الأول ـ أنه منصوب على المصدر ؛ قاله (٢) سيبويه والخليل. ومنعه عندهما من الصرف كونه معرفة في آخره زائدان. وذكر سيبويه أن من العرب من يصرفه ويصرّفه.

الثاني ـ قال أبو عبيدة : هو منصوب على النداء.

الثالث أنه موضوع موضع المصدر منصوب لوقوعه موقعه.

الرابع ـ أنها كلمة رضيها الله لنفسه ؛ قاله علىّ بن أبى طالب ، ومعناها عندهم براءة الله من السوء ، وتنزيه الله منه ، قال الشاعر (٣) :

أقول لمّا جاءني فخره

سبحان من علقمة الفاخر

المسألة الثانية ـ أما القول بأنه مصدر فلأنه جار على بناء المصادر ، فكثيرا ما يأتى على فعلان. وأما القول بأنه اسم وضع للمصدر فلأنهم رأوه لا يجرى على الفعل الذي هو سبّح. وأما قول أبى عبيدة بأنه منادى فإنه ينادى فيه بالمعرفة من مكان بعيد ، وهو كلام جمع فيه بين دعوى فارغة لا برهان عليها ، ثم لا يعصمه ذلك من أن يقال له : هل هو اسم أو مصدر؟

__________________

(١) الآية الأولى من السورة.

(٢) في : قال.

(٣) هو الأعشى ، يقول هذا لعلقمة بن علاثة الجعفري في منافرته لعامر بن الطفيل ، وكان الأعشى قد فضل عامرا وتبرأ من علقمة وفخره على عامر. ديوانه : ١٤٣.

١٤٧

وما زال أبو عبيدة يجرى في المنقول طلقه (١) حتى إذا جاء المعقول عقله العىّ وأغلقه.

وقد جمع في هذه الكلمة أبو عبد الله بن عرفة جزءا قرأناه بمدينة السلام ، ولم يحصل له فيه عن التقصير سلام ، والقدر الذي أشار إليه سيبويه فيه يكفى ، فليأخذ كل واحد منكم ويكتفى.

المسألة الثالثة ـ قوله : (أَسْرى بِعَبْدِهِ).

قال علماؤنا : لو كان للنبي اسم أشرف منه لسمّاه في تلك الحالة العلية به ، وفي معناه تنشد الصوفية :

يا قوم قلبي عند زهراء

يعرفها (٢) السامع والرائي

لا تدعني إلّا بيا عبدها

فإنه أشرف أسمائى

وقال الأستاذ جمال الإسلام أبو القاسم عبد الكريم بن هوازن : لما رفعه إلى حضرته السنية ، وأرقاه فوق الكواكب العلوية ، ألزمه اسم العبودية له ، تواضعا للإلهية.

المسألة الرابعة ـ قضى الله بحكمته وحكمه أن يتكلم الناس ، هل أسرى بجسد رسول الله صلى الله عليه وسلم أم بروحه؟ ولو لا مشيئة ربنا السابقة بالاختلاف لكانت المسألة أبين عند الإنصاف ؛ فإن المنكر لذلك لا يخلو أن يكون ملحدا ينكر القدرة ، ويرى أن الثقيل لا يصعد علوا ، وطبعه استفالى ، فما باله يتكلم معنا في هذا الفرع ، وهو منكر للأصل ، وهو وجود الإله وقدرته ، وأنه يصرّف الأشياء بالعلم والإرادة ، لا بالطبيعة.

وإن كان المنكر من أغبياء الملة يقرّ معنا بالإلهية والعلم ، والإرادة والقدرة على التصريف والتدبير والتقدير ، فيقال له : وما الذي يمنع من ارتقاء النبي في الهواء بقدرة خالق الأرض والسماء. فإن قال : لأنه لم يرد. قلنا له : قد ورد من كل طريق على لسان كلّ فريق ، منهم أبو ذرّ ؛ قال أنس ، قال أبو ذر (٣) : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : فرج سقف بيتي ، وأنا بمكة ، فنزل جبريل ، ففرج صدري ، ثم غسله بماء زمزم ، ثم جاء بطست من ذهب ممتلئ

__________________

(١) الطلق : كلب الصيد ، أو الناقة غير المقيدة.

(٢) في القرطبي : يعرفه.

(٣) صحيح مسلم : ١٤٨.

١٤٨

حكمة وإيمانا ، فأفرغه (١) في صدري ، ثم أطبقه ، ثم أخذ بيدي فعرج بي إلى السماء الدنيا ، فلما انتهينا إلى سماء (٢) الدنيا قال جبريل لخازن السماء : افتح. قال : من هذا؟ قال : هذا جبريل. قال : هل معك أحد؟ قال : نعم ، معى محمد. فقال : أرسل إليه؟ فقال : نعم. فلما فتح (٣) علونا السماء الدنيا فإذا رجل على يمينه أسودة (٤) ، وعلى يساره أسودة. إذا نظر قبل يمينه ضحك ، وإذا نظر قبل شماله بكى ، فقال : مرحبا بالنبي الصالح ، والابن الصالح.

قلت : يا جبريل ، من هذا؟ قال : هذا آدم ، وهذه الأسودة عن يمينه وعن شماله نسم (٥) بنيه ، فأهل اليمين منهم أهل الجنة (٦) ، والأسودة التي عن شماله أهل النار ، فإذا نظر عن يمينه ضحك ، وإذا نظر عن شماله بكى. ثم عرج بي إلى السماء الثانية ، فقال لخازنها : افتح ، فقال له خازنها مثل ما قال له الأول ، ففتح.

قال أنس : فذكر أنه وجد في السماء آدم ، وإدريس ، وموسى ، وعيسى ، وإبراهيم ، ولم يثبت كيف منازلهم ، غير أنه ذكر أنه وجد آدم في السماء الدنيا ، وإبراهيم في السماء السادسة.

قال أنس : فلما مرّ النبىّ صلى الله عليه وسلم مع جبريل بإدريس ، فقال : مرحبا بالنبي الصالح ، والأخ الصالح. فقلت : من هذا؟ قال : هذا إدريس. ثم مررت بموسى ، فقال : مرحبا بالنبىّ الصالح والأخ الصالح. قلت : من هذا؟ قال : موسى. ثم مررت بعيسى ، فقال : مرحبا بالنبي الصالح والأخ الصالح. قلت : من هذا؟ قال : عيسى. ثم مررت بإبراهيم ، فقال : مرحبا بالنبىّ الصالح والابن الصالح. قلت : من هذا؟ قال : إبراهيم.

قال ابن شهاب. فأخبرنى ابن حزم أنّ ابن عباس وأبا حبّة الأنصارى كانا يقولان : قال النبىّ صلى الله عليه وسلم ثم عرج بي حتى ظهرت لمستوى أسمع فيه صريف الأقلام.

__________________

(١) في مسلم : فأفرغها.

(٢) في صحيح مسلم : فلما جئنا السماء الدنيا.

(٣) في مسلم : ففتح. قال : فلما علونا السماء الدنيا.

(٤) في مسلم : عن يمينه .. ، وعن يساره. والأسودة جمع سواد مثل سنام وأسنمة وتجمع الأسودة على أساود. وقال أهل اللغة : السواد الشخص. وقيل السواد الجماعات.

(٥) نسم بنيه : الواحدة نسمة. والمراد أرواح بنى آدم.

(٦) في مسلم : فأهل اليمين أهل الجنة.

١٤٩

قال ابن حزم ، وأنس بن مالك ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : ففرض الله على أمتى خمسين صلاة ، فرجعت بذلك حتى مررت بموسى ، فقال : ماذا فرض الله على أمتك؟ قلت : فرض خمسين صلاة. قال : ارجع إلى ربك ؛ فإنّ أمتك لا تطيق ذلك ، فراجعني ، فرجعت ، فوضع شطرها ، فرجعت إلى موسى ، قلت : وضع شطرها (١). فقال : ارجع إلى ربك ، فإن أمتك لا تطيق ذلك. فرجعت (٢) ، فوضع شطرها ، فرجعت إليه ، فقال : ارجع إلى ربك فإنّ أمتك لا تطيق ذلك ، فراجعته ، فقال : هي خمس ، وهي خمسون لا يبدّل القول لدىّ.

فرجعت إلى موسى ، فقال : ارجع إلى ربك ، فقلت : قد استحييت من ربي.

قال : ثم انطلق بي حتى انتهى إلى سدرة المنتهى ، وغشيها (٣) ألوان لا أدرى ما هي ، ثم أدخلت الجنة ، فإذا فيها جنابذ اللؤلؤ (٤) ، وإذا ترابها المسك.

فإن قيل : فقد ثبت في الصحيح عن أنس أنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : بينا أنا بين النائم واليقظان ... وذكر حديث الإسراء بطوله ، إلى أن قال : ثم استيقظت ، وأنا في المسجد الحرام.

قلنا عنه أجوبة ؛ منها :

أن هذا اللفظ رواه شريك عن أنس ، وكان تغيّر بأخرة فيعوّل على روايات الجميع.

الثاني ـ أنه يحتمل أنه رأى النبىّ صلى الله عليه وسلم الإسراء رؤيا منام ، وطده الله بها ، ثم أراه إياها رؤيا عين ، كما فعل به حين أراد مشافهته بالوحي ؛ أرسل إليه الملك في المنام بنمط من ديباج فيه : اقرأ باسم ربّك ، وقال له اقرأ. فقال : ما أنا بقارئ ، فغطّه (٥) حتى بلغ منه الجهد ، ثم أرسله ، فقال : اقرأ. قال ما أنا بقارئ ... إلى آخر الحديث.

فلما كان بعد ذلك جاءه الملك في اليقظة بمثل ما أراه في المنام. وكانت الحكمة في ذلك أن أراه الله في المنام ما أراه من ذلك توطيدا وتثبيتا لنفسه ، حتى لا يأتيه الحال فجأة ، فتقاسى نفسه الكريمة منها شدة ، لعجز القوى الآدمية عن مباشرة الهيئة الملكية.

__________________

(١) في مسلم : فرجعت إلى موسى فأخبرته. قال : راجع ربك.

(٢) في مسلم : فراجعت ربي.

(٣) في مسلم : فغشيها.

(٤) جنابذ : قباب واحدتها جنبذة ، وهي القبة (النهاية).

(٥) الغط : العصر الشديد (النهاية).

١٥٠

وقد ثبت في الصحيح وغيره من طرق ، عن ابن عباس في قوله تعالى (١) : (وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ). ولو كانت رؤيا منام ما افتتن بها أحد ، ولا أنكرها ؛ فإنه لا يستبعد على أحد أن يرى نفسه يخترق السموات ، ويجلس على الكرسي ، ويكلمه الرب.

المسألة الخامسة ـ في هذه القصة كان فرض الصلاة ، وقد روى أن النّبى صلى الله عليه وسلم كان يصلّى قبل الإسراء صلاة العشى والإشراق ، ويتنفّل في الجملة ، ولم يثبت ذلك من طريق صحيحة ، حتى رفعه الله مكانا عليّا ، وفرض عليه الصلاة ، ونزل عليه جبريل فعلّمه أعدادها وصفاتها ، وهي :

المسألة السادسة ـ قال النبي صلى الله عليه وسلم : أمّنى جبريل عند البيت مرتين وصلى بي الظهر في اليوم الأول حين زالت الشمس ، وصلّى بي العصر عند ما صار ظلّ كل شيء مثله ، وصلى بي المغرب حين غربت الشمس ، وصلى بي العشاء عند ما غاب الشفق ، وصلى بي الصبح حين برق الفجر وحرم الطعام والشراب على الصائم. ثم صلى بي الظهر في اليوم الثاني حين صار ظلّ كلّ شيء مثله لوقت العصر بالأمس ، وصلى بي العصر حين صار ظلّ كل شيء مثليه ، وصلى بي المغرب حين غربت الشمس لوقتها بالأمس ، وصلى بي العشاء حين ثلث الليل ، وصلى بي الصبح وقائل يقول : أطلعت الشمس؟ لم تطلع ، ثم قال : يا محمد ، هذا وقتك ، ووقت الأنبياء قبلك ، والوقت ما بين هذين الوقتين ، وقد مهدنا القول في الحديث في شرح الصحيحين ، وبينا ما فيه من علوم ، على اختلاف أنواعها من حديث وطرقه ، ولغة وتصريفها ، وتوحيد وعقليات ، وعبادات وآداب ، ونحو ذلك فيما نيّف على ثلاثين ورقة ، فلينظر هنالك ، ففيه الشفاء من داء الجهل إن شاء الله.

الآية الثانية ـ قوله تعالى (٢) : (وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً).

فيها مسألة واحدة ، وهي قوله : أمرنا.

__________________

(١) آية ٦٠ من سورة الإسراء.

(٢) آية ١٦.

١٥١

فيها من القراآت ثلاث قراءات.

القراءة الأولى ـ أمرنا بتخفيف الميم. القراءة الثانية بتشديدها. القراءة الثالثة آمرنا بمدّ بعد الهمزة وتخفيف الميم.

فأما القراءة الأولى فهي المشهورة ، ومعناه أمرناهم بالعدل ، فخالفوا ، ففسقوا بالقضاء والقدر ، فهلكوا بالكلمة السابقة الحاقّة عليهم.

وأما القراءة الثانية ـ بتشديد الميم ـ فهي قراءة علىّ ، وأبى العالية ، وأبى عمرو ، وأبى عثمان النهدي ، ومعناه كثّرناهم ، والكثرة إلى التخليط أقرب عادة.

وأما قراءة المد في الهمزة وتخفيف الميم فهي قراءة الحسن ، والأعرج ، وخارجة عن نافع. ويكون معناه الكثرة ؛ فإن أفعل وفعّل ينظران في التصريف من مشكاة واحدة.

ويحتمل أن يكون من الإمارة ، أى جعلناهم أمراء ، فإما أن يريد من جعلهم ولاة فيلزمهم الأمر بالمعروف ، والنهى عن المنكر ، فيقصّرون فيه فيهلكون.

وإما أن يكون من أن كل من ملك دارا وعيالا وخادما فهو ملك وأمير ، فإذا صلحت أحوالهم أقبلوا على الدنيا ، وآثروها على الآخرة فهلكوا ، ومنه الأثر : خير المال سكّة (١) مأبورة ومهرة مأمورة : أى كثيرة النتاج ، وإليه يرجع قوله : لقد جئت شيئا إمرا (٢) ؛ أى عظيما.

والقول فيها من كل جهة متقارب متداخل ، وقد قدمنا القول في الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر بما يغنى عن إعادته. وأكثر ما يكون هذا الفسق وأعظمه في المخالفة الكفر أو البدعة ، وقد قال تعالى (٣) ـ في نظيره : (ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْقُرى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْها قائِمٌ وَحَصِيدٌ. وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَما أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَما زادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ. وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ).

__________________

(١) السكة : الطريقة المصطفة من النخل. المأبورة : الملقحة. وقيل : السكة سكة الحرث. والمأبورة المصلحة له ، أراد خير المال نتاج وزرع (النهاية).

(٢) سورة الكهف ، آية ٧٢.

(٣) سورة هود ، آية ١٠٠ ، ١٠١ ، ١٠٢.

١٥٢

فهؤلاء قوم عصوا وكفروا ، وهذه صفة الأمم السالفة في قصص القرآن ، وأخبار من مضى من الأمم.

الآية الثالثة ـ قوله تعالى (١) : (مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاها مَذْمُوماً مَدْحُوراً. وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَسَعى لَها سَعْيَها وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً).

قد قدمنا أن الأعمال بالنية ، ولكلّ امرئ ما نوى ، وبينا أن من أراد غير الله فهو متوعّد ، وأوضحنا أن آية الشورى (٢) مطلقة في أنّ من أراد الدنيا يؤتيه الله منها ، وليس له في الآخرة نصيب ، وهذه مقيدة في أنه إنما يؤتى حظّه في الدنيا من يشاء الله أن يؤتيه ذلك.

وليس الوعد بذلك عاما لكل أحد ، ولا يعطى لكل مريد ، لقوله : عجلنا له فيها .. الآية.

الآية الرابعة ـ قوله تعالى (٣) : (وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُما وَقُلْ لَهُما قَوْلاً كَرِيماً. وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيراً).

فيها خمس مسائل :

المسألة الأولى ـ قوله : (وَقَضى).

قد بيّنا تفسير هذه اللفظة في كتاب المشكلين بجميع وجوهها ، وأوضحنا أنّ من معانيها خلق ، ومنها أمر ، ولا يجوز أن يكون معناها هاهنا إلا أمر ، لأن الأمر يتصور وجود مخالفته ، ولا يتصور وجود خلاف ما خلق الله ، لأنه الخالق ، هل من خالق غير الله! فأمر الله سبحانه بعبادته ، وببرّ الوالدين مقرونا بعبادته ، كما قرن شكرهما بشكره ، ولهذا قرأها ابن مسعود : ووصى ربك.

وفي الصحيح ، عن أبى بكرة ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ألا أخبركم بأكبر الكبائر؟ قلّنا : بلى يا رسول الله. قال : الإشراك بالله ، وعقوق الوالدين.

__________________

(١) آية ١٨ ، ١٩.

(٢) هي قوله تعالى : (مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ .. ،) وهي آية ٢٠ منها.

(٣) آية ٢٣ ، ٢٤.

١٥٣

وعن أنس في الصحيح أيضا : الإشراك بالله ، وقتل النفس ، وعقوق الوالدين. ومن البر إليهما ، والإحسان إليهما ألا نتعرّض لسبّهما ، وهي :

المسألة الثانية ـ ففي الصحيح ، عن عبد الله بن عمرو ، أنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن من أكبر الكبائر أن يلعن الرجل والديه. قيل : يا رسول الله ، وكيف يلعن الرجل والديه؟ قال : يسبّ أبا الرجل فيسبّ أباه ، ويسبّ أمه فيسب أمه. حتى إنه يبره وإن كان مشركا إذا كان له عهد ، قال الله (١) : (لا يَنْهاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ). وهي :

المسألة الثالثة ـ قوله تعالى : (إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما) :

خصّ حالة الكبر ، لأنها بطول المدى توجب الاستثقال عادة ، ويحصل الملل ، ويكثر الضّجر ، فيظهر غضبه على أبويه ، وتنتفخ لهما أوداجه ، ويستطيل عليهما بدالّة البنوة ، وقلّة الديانة.

وأقلّ المكروه أن يؤفّف لهما ، وهو ما يظهره بتنفّسه المردّد من الضجر. وأمر بأن يقابلهما بالقول الموصوف بالكرامة ، وهو السالم عن كل عيب من عيوب القول المتجرد عن كل مكروه من مكروه الأحاديث. ثم قال ، وهي :

المسألة الرابعة ـ (وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ) :

المعنى تذلّل لهما تذليل الرعية للأمير ، والعبيد للسادة ، وضرب خفض الجناح ونصبه مثلا لجناح الطائر حين ينتصب بجناحه لولده أو لغيرهم من شدّة الإقبال. والذلّ هو اللين والهون في الشيء ، ثم قال ، وهي :

المسألة الخامسة ـ (وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيراً).

معناه ادع لهما في حياتهما وبعد مماتهما بأن يكون البارئ يرحمهما كما رحماك ، وترفّق بهما كما رفقا بك ، فإن الله هو الذي يجزى الوالد عن الولد ، إذ لا يستطيع الولد كفاء على نعمة والده أبدا.

__________________

(١) آية ٨ من سورة الممتحنة.

١٥٤

وفي الحديث الصحيح (١) : «لن يجزى ولد والده إلا أن يجده مملوكا فيشتريه فيعتقه»، معناه يخلصه من أسر الرقّ كما خلصه من أسر الصّغر.

وينبغي له أن يعلم أنهما ولياه صغيرا جاهلا محتاجا ، فآثراه على أنفسهما ، وسهرا ليلهما وأناماه ، وجاعا وأشبعاه ، وتعرّيا وكسواه ، فلا يجزيهما إلا أن يبلغا من الكبر إلى الحدّ الذي كان هو فيه من الصّغر ، فيلي منهما ما وليا منه ، ويكون لهما حينئذ عليه فضل التقدم بالنعمة على المكافئ عليها.

وقد أخبرنى الشريف الأجل الخطيب نسيب الدولة أبو القاسم علىّ بن القاضي ذو الشرفين أبو الحسين إبراهيم بن العباس الحسيني بدمشق ، أنبأنا أبو نصر أحمد بن الحسن بن الحسين بن الشيرازي بمكة في المسجد الحرام ، سمعته داخل الكعبة من هذا الرجل ، وكان حافظا ، حدثنا أبو بكر محمد بن عبد الله بن أحمد بن ريدة الضبي الأصبهانى بأصبهان قراءة ، أنبأنا أبو القاسم سليمان ابن أحمد بن أيوب الحافظ الطبري ، حدثنا محمد بن خالد بن يزيد البردعي بمصر ، حدثني أبو سلمة عبيد (٢) بن خلصة بمعرّة النعمان ، حدثنا عبد الله بن نافع المدني ، عن المنكدر بن محمد ابن المنكدر ، عن أبيه ، عن جابر بن عبد الله ، قال : جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال ، يا رسول الله ، إنّ أبى أخذ مالي. فقال النبي صلى الله عليه وسلم للرجل : فأتنى بأبيك. فنزل جبريل عليه السلام على النبي صلى الله عليه وسلم فقال : إن الله عز وجل يقرئك السلام ، ويقول لك : إذا جاءك الشيخ فاسأله عن شيء قاله في نفسه ، ما سمعته أذناه ، فلما جاء الشيخ قال له النبي صلى الله عليه وسلم : ما بال ابنك يشكوك؟ أتريد أن تأخذ ماله؟ فقال : سله يا رسول الله ، هل أنفقه إلا على إحدى عمّاته أو خالاته أو على نفسي؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم : إيه (٣) ـ دعنا من هذا ، أخبرنى عن شيء قلته في نفسك ما سمعته أذناك. فقال الشيخ : والله يا رسول الله ما يزال الله تعالى يزيدنا بك يقينا ، لقد قلت في نفسي شيئا ما سمعته أذناى: فقال : قل وأنا أسمع. قال : قلت (٤) :

__________________

(١) ابن ماجة : ١٢٠٧.

(٢) في القرطبي : عبيد الله.

(٣) إيه : بكسر الهمزة والهاء كلمة استزادة.

وبإسكان الهاء بمعنى حسبك.

(٤) نسبت هذه الأبيات في أشعار الحماسة لأمية بن أبى الصلت ، قال التبريزي : وتروى لابن عبد الأعلى. وقيل لأبى العباس الأعمى ، وانظر شرح ديوان الحماسة : ٢ ـ ٢٦١. والأبيات في ديوان أمية : ٤٥.

١٥٥

غذوتك مولودا ومنتك (١) يافعا* تعلّ بما أجنى (٢) عليك وتنهل إذا ليلة ضافتك (٣) بالسقم لم أبت* لسقمك إلّا ساهرا أتململ كأنى أنا المطروق دونك بالذي* طرقت به دوني فعيني تهمل تخاف الرّدى نفسي عليك ، وإنها* لتعلم أن الموت وقت (٤) مؤجّل فلما بلغت السنّ والغاية التي* إليها مدى ما كنت فيك أؤمّل جعلت جزائي غلظة وفظاظة* كأنك أنت المنعم المتفضّل فليتك إذ لم ترع حقّ أبوتى* فعلت كما الجار المجاور (٥) يفعل [فأوليتنى حقّ الجوار ولم تكن* علىّ بحال دون مالك تبخل] (٦) قال : فحينئذ أخذ النبىّ صلى الله عليه وسلم بتلابيب ابنه ، وقال : أنت ومالك لأبيك. قال سليمان : لا يروى هذا الحديث عن محمد بن المنكدر بهذا التمام والشعر إلا بهذا الإسناد ، تفرد به عبيد (٧) بن خلصة.

وأخبرنا أبو المعالي ثابت بن بندار في دارنا بالمعتمدية ، أخبرنا أبو بكر أحمد بن غالب الحافظ ، أنبأنا أبو بكر الإسماعيلى ، أخبرنا أبو يعلى الموصلي ، حدثنا سويد بن سعيد بن عبد الغفار ابن عبد الله ، وأخبرنى عبد الله بن صالح ، حدثنا أبو هشام بن الوليد بن شجاع بن قيس بن هشام السكوني ، قالوا : حدثنا على بن مسهر ، عن عبد الله بن عمر ، عن نافع ، عن ابن عمر ، عن النبىّ صلى الله عليه وسلم قال : بينما ثلاثة نفر ممن كان قبلكم يمشون إذ أصابهم مطر ، فأووا إلى غار فانطبق عليهم ، فقال بعضهم لبعض : يا هؤلاء لا ينجيكم إلا الصدق فليدع كلّ رجل منكم بما يعلم الله أنه قد صدق.

فقال أحدهم : اللهم إن كنت تعلم أنه كان لي أجير ، عمل لي ، على فرق (٨) أرز ، فذهب وتركه ، فزرعته ، فصار من أمره أنى اشتريت من ذلك الفرق بقرا ، ثم أتانى يطلب أجره ، فقلت له :

__________________

(١) في الحماسة : وعلتك : أى قمت بمئونتك.

(٢) أجنى : أكسب. وفي ا والديوان : أحنى ـ بالحاء. وفي الحماسة : أدنى إليك.

(٣) في الحماسة : نابتك بالشكو لم أبت ... لشكواك.

(٤) في الديوان : حتم.

(٥) في الحماسة : الجار المصاقب.

(٦) من القرطبي. وليس في الديوان أيضا.

(٧) في القرطبي : عبيد الله.

(٨) الفرق : مكيال بالمدينة (القاموس).

١٥٦

اعمد إلى تلك البقر ، فسقها فإنها من ذلك الفرق فساقها. فإن كنت فعلت ذلك من خشيتك ففرّج عنا ، فانساحت (١) عنهم الصخرة.

فقال الآخر : اللهم إن كنت تعلم أنه كان لي أبوان شيخان كبيران ، وكانت لي غنم ، وكنت آتيهما في كل ليلة بلبن غنم لي ، فأبطأت عنهما ذات ليلة ، فأتيتهما وقد رقدا وأهلى وعيالي يتضاغون من الجوع ، وكنت لا أسقيهم حتى يشرب أبواى ، فكرهت أن أوقظهما من رقدتهما ، وكرهت أن أرجع فيستيقظا لشربهما ، فلم أزل أنتظرهما حتى طلع الفجر ، فقاما فشربا ، فإن كنت تعلم أنى فعلت ذلك من خشيتك ففرّج عنا ، فانساحت عنهم الصخرة ، حتى نظروا إلى السماء.

فقال الآخر : اللهم إن كنت تعلم أنه كانت لي ابنة عم من أحبّ الناس إلىّ ، وأنى راودتها عن نفسها فأبت على إلّا أن آتيها بمائة دينار ، فطلبتها حتى قدرت عليها ، فجئت بها فدفعتها إليها فأمكنتنى من نفسها ، فلما قعدت بين رجليها قالت لي : اتق الله ولا تفضّ الخاتم إلا بحقّه. فقمت عنها ، وتركت لها المائة دينار ، فإن كنت تعلم أنّى تركت ذلك من خشيتك فافرج عنا ، ففرج الله عنهم ، وخرجوا يمشون.

ومن تمام برّ الأبوين صلة أهل ودّهما ، لما صحّ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (٢) : إنّ أبرّ البر أن يصل الرجل أهل ودّ أبيه.

وروى عن عبد الله بن عمرو ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : رضا الرب في رضا الوالدين ، وسخط الرب في سخط الوالدين. خرجهما الترمذي.

ولذلك عدل عقوقهما الإشراك بالله في الإثم ، وهذا يدلّ على أن برّهما قرين الإيمان في الأجر. والله أعلم.

وقد أخبرنا الشريف الأجل أبو القاسم علىّ بن أبى الحسن الشاشي بها ، قال : حدثنا أبو محمد الجوهري في كتابه ، أنبأنا أبو القاسم عيسى بن على بن عيسى الوزير ، حدثنا عبد الله ابن محمد بن عبد العزيز البغوي ، حدثنا محمد بن عبد الوهاب ، حدثنا عبد الرحمن بن الغسيل ، عن أسيد ، عن أبيه على بن عبيد ، عن أبى أسيد ، وكان بدريّا ، قال: كنت عند النبي

__________________

(١) انساحت : اتسعت واندفعت (النهاية).

(٢) صحيح مسلم : ١٩٧٩.

١٥٧

صلى الله عليه وسلم جالسا فجاء رجل من الأنصار فقال (١) : يا رسول الله ، هل بقي من برّ والديّ من بعد موتهما شيء أبرهما به؟ قال : نعم ، الصلاة عليهما ، والاستغفار لهما ، وإنقاذ عهدهما بعدهما ، وإكرام صديقهما ، وصلة الرحم التي لا رحم لك إلّا من قبلهما ، فهذا الذي بقي عليك.

وقد كان النبىّ صلى الله عليه وسلم يهدى لصداق خديجة برّا بها ووفاء لها ، وهي زوجة ، فما ظنّك بالأبوين.

وقد أخبرنى شيخنا الفهري في المذاكرة أنّ البرامكة لما احتبسوا أجنب الأب ، فاحتاج إلى غسل ، فقام ابنه بالإناء على السراج ليلة حتى دفيء واغتسل به ، ونسأل الله التوفيق لنا ولكم برحمته.

الآية الخامسة ـ قوله تعالى (٢) : (وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً ، إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كانُوا إِخْوانَ الشَّياطِينِ ، وَكانَ الشَّيْطانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً. وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوها فَقُلْ لَهُمْ قَوْلاً مَيْسُوراً).

فيها أربع مسائل :

المسألة الأولى ـ قد قدمنا القول في حق ذوى القربى في سورة البقرة والنساء ، وأكد الله هاهنا حقّه ، لأنه وصّى ببرّ الوالدين خصوصا من القرابة ، ثم ثنّى التوصية بذي القربى عموما ، وأمر بتوصيل حقّه إليه من صلة رحم وأداء حقّ من ميراث وسواه فلا يبدّل فيه ، ولا يغيّر عن جهته بتوليج وصية ، أو سوى ذلك من الدخل. ويدخل في ذلك قرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم دخولا متقدّما ، أو من طريق الأولى ، من جهة أن الآية للقرابة الأدنين المختصين بالرجل ، فأما قرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد أبان الله على الاختصاص حقّهم ، وأخبر أنّ محبتهم هي أجر النبي صلى الله عليه وسلم على هداه لنا.

المسألة الثانية ـ قوله تعالى : (وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ).

ولهم حقّان :

__________________

(١) ابن ماجة : ١٢٠٨.

(٢) آية ٢٦ ـ ٢٨.

١٥٨

أحدهما ـ أداء الزكاة.

والثاني ـ الحق المفترض من الحاجة عند عدم الزكاة ، أو فنائها ، أو تقصيرها من عموم المحتاجين ، وأخذ السلطان دونهم ، وقد حققنا ذلك فيما مضى ، فانظروا فيه.

المسألة الثانية ـ قوله : (وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً).

قال أشهب ، عن مالك : التبذير هو منعه من حقه ، ووضعه في غير حقه ، وهو أيضا تفسير الحديث : نهى النبىّ صلى الله عليه وسلم عن إضاعة المال. وكذلك يروى عن ابن مسعود ، وهو الإسراف ، وذلك حرام بقوله : (إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كانُوا إِخْوانَ الشَّياطِينِ). وذلك نصّ في التحريم.

فإن قيل : فمن أنفق في الشهوات ، هل هو مبذّر أم لا؟

قلنا : من أنفق ماله في الشهوات زائدا على الحاجات ، وعرّضه بذلك للنفاد فهو مبذّر. ومن أنفق ربح ماله في شهواته ، أو غلّته ، وحفظ الأصل أو الرقبة ، فليس بمبذّر. ومن أنفق درهما في حرام فهو مبذّر يحجر عليه في نفقة درهم في الحرام ، ولا يحجر عليه ببذله في الشهوات ، إلا إذا خيف عليه النفاد.

المسألة الرابعة ـ قوله : (وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ...) الآية.

أمر الله بالإقبال على الآباء والقرابة والمساكين وأبناء السبيل عند التمكّن من العطاء ، والقدرة ، فإن كان عجز عن ذلك جاز الإعراض ، حتى يرحم الله بما يعاد عليهم به ، فاجعل بدل العطاء قولا فيه يسر.

وقيل : إنما أمر بالإعراض عنهم عند خوف نفقتهم في معاصى الله ، فينتظر رحمة الله بالتوبة عليهم.

وقد قال جماعة من المفسرين : إن هذه الآية نزلت في خبّاب ، وبلال ، وعامر بن فهيرة ، وغيرهم ، من فقراء المسلمين ، كانوا يأتون النبىّ صلى الله عليه وسلم ، فيسألونه ، فيعرض عنهم ، إذ لا يجد ما يعطيهم ، فأمر أن يحسن لهم القول إلى أن يرزقه الله ما يعطيهم ، وهو قوله : (ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوها).

١٥٩

الآية السادسة ـ قوله تعالى (١) : (وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً).

فيها ثلاث مسائل :

المسألة الأولى ـ قوله : (وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ).

هذا مجاز ، عبّر به عن البخيل الذي لا يقدر من قلبه على إخراج شيء من ماله ، فضرب له مثلا الغلّ الذي يمنع من تصرف اليدين ، وقد ضرب له النبىّ صلى الله عليه وسلم مثلا آخر ، فقال (٢) : مثل البخيل والمتصدّق كمثل رجلين عليهما جبّتان من حديد ، من لدن ثديّهما إلى تراقيهما ، فأما المنفق فلا ينفق إلا سبغت ووفرت على جلده حتى يخفى بنانه ، ويعفو أثره. وأما البخيل فلا يريد أن ينفق شيئا إلا لزمت كلّ حلقة مكانها ، فهو يوسع ولا يتسع.

المسألة الثانية ـ قوله : (وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ).

ضرب بسط اليد مثلا لذهاب المال ، فإن قبض الكف يحبس ما فيها ، وبسطها يذهب ما فيها ، ومنه المثل المضروب في سورة الرعد (٣) : (إِلَّا كَباسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْماءِ لِيَبْلُغَ فاهُ) في أحد وجهى تأويله كأنه حمله على التوسط في المنع والرفع ، كما قال (٤) : (وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً) ، فيؤول معنى الكلام إلى أوجه ثلاثة :

الأول ـ لا يمتنع عن نفقته في الخير ، ولا ينفق في الشر.

الثاني ـ لا يمنع حقّ الله ، ولا يتجاوز الواجب ، لئلا يأتى من يسأل ، فلا يجد عطاء.

الثالث ـ لا تمسك كلّ مالك ، ولا تعط جميعه ، فتبقى ملوما في جهات المنع الثلاث ، محسورا ، أى منكشفا في جهة البسط والعطاء للكل أو لسائر وجوه العطاء المذمومة.

المسألة الثالثة ـ هذا خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم ، والمراد أمّته ، وكثيرا ما جاء في القرآن ، فإنّ النبي صلى الله عليه وسلم لما كان سيدهم وواسطتهم إلى ربهم عبّر به عنهم ، على عادة العرب ، في ذلك ، فإنه صلى الله عليه وسلم كان قد خيّره الله في الغنى والفقر ، فاختار الفقر ، يجوع يوما ، ويشبع يوما ، ويشدّ على بطنه من الجوع حجرين ، وكان على ذلك

__________________

(١) آية ٢٩.

(٢) صحيح مسلم : ٧٠٨

(٣) آية ١٥ من الرعد.

(٤) سورة الفرقان ، آية ٦٧

١٦٠