أحكام القرآن - ج ٣

أبي بكر محمّد بن عبدالله [ ابن العربي ]

أحكام القرآن - ج ٣

المؤلف:

أبي بكر محمّد بن عبدالله [ ابن العربي ]


المحقق: علي محمّد البجاوي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الجيل
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٤٨

الرابع ـ أنها حرّمت لأنها أفنيت قبل القسم ، فمنع النبي صلى الله عليه وسلم من أكلها ، حتى تقسم.

وأما البغال ، وهي :

المسألة الرابعة ـ فإنها تحلق الحمير على كل قول.

فأما إن قلنا إنّ الخيل لا تؤكل فهي متولّدة بين عينين لا يؤكلان ، وإن قلنا : تؤكل الخيل فإنها عين متولدة بين مأكول وبين ما لا يؤكل ، فغلب التحريم على ما يلزم في الأصول.

المسألة الخامسة ـ في تحقيق المقصود :

قد بينا فيما تقدم أنّ المحرمات مقصورة على ما في سورة الأنعام ، وحققنا ما يتعلق به وينضاف إليه في آيات الأحكام منها ، وقد حررنا في كتب الخلاف أن مدار التحليل والتحريم في المطعومات يدور على ثلاث آيات ، وخبر واحد.

الآية الأولى ـ قوله (١) : (وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ).

الآية الثانية ـ قوله (٢) : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ).

الآية الثالثة ـ آية الأنعام ـ قوله (٣) : (قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً).

الرابع الخبر ـ قوله صلى الله عليه وسلم : أكل كلّ ذي ناب من السباع حرام. وفي لفظ آخر : نهى النبىّ صلى الله عليه وسلم عن أكل كل ذي ناب من السباع وحرّم لحوم الحمر الأهلية. وقوله : (قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً) آخر آية نزلت ، كما سبق بيانه ، فإن عوّلنا عليها فالكلّ سواها مباح ، وإن رأينا إلحاق غيرها بها حسبما يترتب في الأدلة ، كما قال النبىّ صلى الله عليه وسلم : لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث ، ثم جاءت الزيادة عليها حتى انتهت أسباب إباحة الدم عند المالكية إلى عشرة أسباب ، فالحال في ذلك مترددة ، ولأجله اختار المتوسّطون من علمائنا الكراهية في هذه الحرمات ، توسّطا بين الحلّ والحرمة ، لتعارض الأدلة ، وإشكال مأخذ الفتوى فيها.

__________________

(١) سورة الأعراف ، آية ١٥٦.

(٢) سورة المائدة ، آية ٤.

(٣) سورة الأنعام ، آية ١٤٥.

١٠١

وقد قال الشافعى : الثعلب والضبع حلال ، وهو قد عوّل على قوله : أكل كلّ ذي ناب من السباع حرام ، ولكنه زعم أنّ الضبع يخرج عنه بحديث يرويه جابر أنّ النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن الضبع أحلال هي؟ قال : نعم ، وفيها إذا أتلفها المحرم كبش.

وفي رواية : هي صيد ، وفيها كبش.

وهذا نصّ في الاستثناء كما زعم لو صحّ ، ولكنه لم يثبت سنده ، ولو عوّلنا عليه لما خصصنا التحليل من جملة السباع بالضبع ، ولكنا نقول : إنه ينبنى على قاعدة التحليل ، وإنّ الكلّ قد خرج عن التحريم ، وانحصرت المحرّمات في آية الأنعام ، وهذه المعارضات هي التي أوجبت اختلاف العلماء ، فانظروها واسبروها ، وما ظهر هو الذي يتقرر (١). والله أعلم.

المسألة السادسة ـ ذكر الله الأنعام والخيل والبغال والحمير في مساق النعم ذكرا واحدا ، وذكر لكل جنس منها منفعة حسبما سردناه لكم ، ثم اختلف العلماء في الخيل منها ، هل تؤخذ الزكاة من مالكها أم لا؟

فقال جمهور العلماء : لا زكاة فيها. وقال أبو حنيفة : فيها الزكاة منتزعا من قول (٢) النبي صلى الله عليه وسلم : الخيل ثلاثة ، لرجل أجر ، ولرجل ستر ، وعلى رجل وزر ... الحديث. قال فيه : ولم ينس حقّ الله في رقابها ولا ظهورها.

واحتجوا بأثر يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : في الخيل السائمة في كل فرس دينار.

وعوّل أصحابه من طريق المعنى على أنّ الخيل جنس يسام ، ويبتغى نسله في غالب البلدان ، فوجبت الزكاة فيه كالأنعام.

وتعلّق علماؤنا بقول النبي صلى الله عليه وسلم : ليس على المسلم في عبده ولا في فرسه صدقة ، فنفى الصدقة عن العبد والفرس نفيا واحدا ، وساقهما مساقا واحدا ، وهو صحيح. وروى الترمذي وغيره من المصنفين ، عن علىّ أنّ النبىّ صلى الله عليه وسلم قال : عفوت لكم عن صدقة الخيل والرقيق ، إلا أنّ في الرقيق صدقة الفطر.

__________________

(١) في م : يتقدر.

(٢) في ا : بقول.

١٠٢

وقد كتب معاوية إلى عمر : إنى وجدت أموال أهل الشام ـ الرقيق والخيل. فكتب إليه [عمر] (١) أن دعهما ، ثم استشار عثمان ، فقال مثل ما قال عمر.

وروى أنّ أهل الشام قد جمعوا صدقة خيولهم وأموالهم ، وأتوا بها عمر ، فاستشار عليّا فقال : لا أرى به بأسا إلا أن تكون سنّة باقية بعدك.

فأما قوله صلى الله عليه وسلم : ولم ينس حق الله في [رقابها ولا] (٢) ظهورها فيعنى به الحملان في سبيل الله على معنى (٣) الندب والخلاص من الحساب.

وأما حديثهم في الخيل السائمة في كل فرس دينار فيرويه غورك السعدي ، وهو مجهول.

جواب آخر ـ قد ناقضوا فقالوا : إنّ الصدقة في إناثها لا في ذكورها. وليس في الحديث فضل بينهما ، ونقيس الإناث على الذكور في نفى الصدقة ، فإنه حيوان يقتنى لنسله لا لدرّه ، لا تجب الزكاة في ذكوره ، فلم تجب في إناثه ، كالبغال والحمير. والله أعلم.

الآية الخامسة ـ قوله تعالى (٤) : (وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها وَتَرَى الْفُلْكَ مَواخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ).

فيها ثلاث مسائل :

المسألة الأولى ـ قوله : (لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيًّا).

فسمّى الحوت لحما ، وأنواع اللحم أربعة : لحوم الأنعام ، ولحوم الوحش ، ولحوم الطير ، ولحوم الحوت. ويعمّها اسم اللحم ، ويخصّها أنواعه ، وفي كل نوع من هذه الأنواع تتشابه ، ولذلك اختلف علماؤنا فيمن حلف ألّا يأكل لحما ، فقال ابن القاسم : يحنث بكلّ نوع من هذه الأنواع الأربعة. وقال أشهب في المجموعة : لا يحنث إلا يأكل لحوم الأنعام دون الوحش وغيره ، مراعاة للعرف والعادة ، وتقديما لها على إطلاق اللفظ اللغوي ، وهذا يختلف في البلاد ، فإنه من كان بتنّيس (٥) أو بالفرما (٦) لا يرى لحما إلا الحوت ، والأنعام قليلة فيها ، فعرفها عكس

__________________

(١) من م.

(٢) من م.

(٣) في م : على وجه.

(٤) آية ١٤.

(٥) تنيس : جزيرة في بحر مصر قريبة من البر ، ما بين الفرما ودمياط ، والفرما في شرقيها (ياقوت).

(٦) الفرما : مدينة على الساحل من ناحية مصر.

١٠٣

عرف بغداد ، فإنه لا أثر للحوت (١) فيها ، وإنما المعوّل على لحوم الأنعام ، وإذا أجرينا اليمين على الأسباب فسبب (٢) اليمين يدخل فيها ما لا يجرى على العرف ، ويخرجه منها ، والنية تقضى على ذلك كله.

وقد يقول الرجل : أشترى لحما وحيتانا فلا يعدّ تكرارا ، والذي أختاره وإن (٣) لم يكن للحالف نية ولا سبب ما قاله أشهب.

المسألة الثانية ـ قوله : (وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها).

يعنى به اللؤلؤ والمرجان ، لقوله سبحانه (٤) : (يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ). وهذا امتنان عامّ للرجال والنساء ، فلا يحرم عليهم شيء منه ، وإنما حرّم الله على الرجال الذهب والحرير.

المسألة الثالثة ـ قال الشافعى ، وأبو يوسف ، ومحمد : من حلف ألا يلبس حليا فلبس لؤلؤا أنه يحنث ، لقول الله سبحانه : (وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها). والذي يخرج منه اللؤلؤ.

وقال أبو حنيفة : لا يحنث. ولم أر لعلمائنا فيها نصّا ، فإن لم يكن له نية فإنه (٥) حانث.

الآية السادسة ـ قوله تعالى (٦) : (وَعَلاماتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ).

فيها ثلاث مسائل :

المسألة الأولى ـ قال مجاهد : من النجوم ما يكون علامات ، ومنها ما يهتدون به.

وقال قتادة : خلق الله هذه النجوم لثلاث خصال : جعلها الله زينة للسماء ، وجعلها يهتدون بها ، وجعلها رجوما للشياطين. فمن تعاطى منها غير ذلك سفه رأيه ، وأخطأ حظّه ، وأضاع نفسه ، وتكلّف ما لا علم له به.

وقد بينا في كتب الأصول وشرح الحديث تحقيق ذلك وتبيانه.

__________________

(١) في م : فإنه لا يرى الحوت فيها.

(٢) في ا : بسبب اليمين.

(٣) في م : إن لم يكن.

(٤) سورة الرحمن ، آية ٢٢.

(٥) في م : فهو.

(٦) آية ١٦.

١٠٤

المسألة الثانية ـ قوله : (وَبِالنَّجْمِ) فيه ثلاثة أقوال :

الأول ـ أنّ الألف واللام للجنس ، والمراد به جمع النجوم ، [ولا يهتدى بها إلا العارف] (١).

الثاني ـ أنّ المراد به الثريا.

الثالث ـ أن المراد به الجدى والفرقدان.

فأما جميع النجوم فلا يهتدى بها إلا العارف بمطالعها ومغاربها ، والمفرّق بين الجنوبي والشمالي منها ، وذلك قليل في الآخرين.

وأما الثريا فلا يهتدى بها إلا من يهتدى بجميع النجوم ، وإنما الهدى لكل أحد بالجدى والفرقدين ، لأنهما من النجوم المنحصرة المطلع ، الظاهرة السمت ، الثابتة في المكان ، فإنها تدور على القطب الثابت دورانا محصلا ، فهي أبدا هدى الخلق في البر إذا عميت الطرق ، وفي البحر عند مجرى السفن ، وعلى القبلة إذا جهل السّمت ، وذلك على الجملة بأن تجعل القطب على ظهر منكبك الأيسر ، فما استقبلت فهو سمت الجهة ، وتحديدها في الإبصار أنك إذا نظرت الشمس في اليوم الرابع والعشرين من كانون الأول طالعة فاجعل بين وجهك وبينها في التقدير ذراعا ، وتكون مستقبلا للكعبة على التقريب ، سالكا إلى التحقيق. وقد بينا ذلك في كتب الفقه وشرح الحديث.

المسألة الثالثة ـ ومن الناس من قال : إنها يهتدى بها في الأنواء ، فإنّ الله قدّر المنازل ، ونزّل فيها الكواكب ، ورتّب لها مطالع ومغارب ، وربط بها عادة نزول الغيث ، وبهذا عرفت العرب أنواءها ، وتنظرت سقياها ، وإضافة كثرة السقيا إلى بعض ، وقلتها إلى آخر. ويروى في الأثر أنّ عمر قال للعباس : كم بقي لنوء الثريا؟ فقال له : إنّ العرب تقول : إنها تدور في الأفق سبعا ، ثم يدرّ الله الغيث ، فما جاءت السبع حتى غيث الناس.

وفي الموطأ : إذا نشأت بحرية ، ثم تشاءمت فتلك عين غديقة (٢).

__________________

(١) من م.

(٢) غديقة : أى كثيرة الماء (اللسان ـ غدق). وفي ا : أنشأت ، وهو تحريف.

١٠٥

ومن البلاد ما يكون مطرها بالصّبا ، ومنها ما يكون مطرها بالجنوب ، ويزعم أهلها أنّ ذلك إنما يدور على البحر ، فإذا جرّت الريح ذيلها على البحر ألقحت السحاب منه ، وإذا جرّت ذيلها على البيداء جاءت سحابا عقيما ، وهذا فاسد من وجهين :

أحدهما ـ أنا لا نمنع ذلك في قدرة الله ، فإن ربّنا قادر على أن ينشئ الماء في السحاب إنشاء ، وهو قادر على أن يسيب له ماء البحر الملح ويصعّده بعد أن كان مستفلا ، ويحلولى بتدبيره ، وقد كان ملحا (١) ، وينزله إلينا فراتا عذبا ، ولكن تعيين أحد الوجهين لا يكون بنظر ، لأنه ليس في العقل لذلك أثر ، وإنما طريقه الخبر ، فنحن نقول : هو جائز ، ولو أخبر به الصادق لكان واجبا.

الثاني ـ أنّ الشمال تسمّيها العرب المجرة ، لأنها تمخر السحاب ، ولا تمطر معها ، وقد تأتى بحرية وبرية ، فدلّ هذا على أنّ الأمر موقوف على المشيئة ، وأنه لا يخبر عن الآثار العلوية إلّا السنّة النبوية ، لا العقول الأرسطاطاليسية.

فإن قيل : فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح الذي أجمعت عليه الأئمة (٢) : قال الله تعالى : أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر بالكوكب ، فأما من قال : مطرنا بفضل الله ورحمته فذلك مؤمن بي كافر بالكواكب. وأما من قال : مطرنا بنوء كذا وكذا فذلك كافر بي مؤمن بالكواكب.

قلنا : إنما خرج هذا على قول العرب التي كانت تعتقد أنّ ذلك من تأثير الكواكب لجاهليتها. وأما من اعتقدها وقتا ومحلّا وعلامة ينشئه الله فيها ويدبّره عليها فليس من الذي نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم في معنى. وقد بينا ذلك في مسائل الخلاف ، وسيأتى إن شاء الله.

الآية السابعة ـ قوله تعالى (٣) : (وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَناً خالِصاً سائِغاً لِلشَّارِبِينَ).

فيها ثلاث مسائل :

__________________

(١) في م : بعد أن كان ملحا.

(٢) صحيح مسلم : ٨٤.

(٣) آية ٦٦.

١٠٦

المسألة الأولى ـ قوله : (وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ).

فجاء الضمير بلفظ التذكير عائدا على جمع مؤنث.

وأجاب العلماء عن ذلك بستة أجوبة :

الأول ـ قال سيبويه : العرب تخبر عن الأنعام بخبر الواحد ، وما أراه عوّل عليه إلا في هذه الآية. وهذا لا يشبه منصبه ، ولا يليق بإدراكه.

الثاني ـ قال الكسائي : معناه نسقيكم مما في بطون ما ذكرنا ، وهذا تقدير بعيد لا يحتاج إليه.

الثالث ـ قال الفراء : الأنعام والنعم واحد ، والنعم مذكّر (١) ، ولهذا تقول العرب : هذا نعم وارد ، فرجع إلى لفظ النعم الذي هو معنى الأنعام ، وهذا تركيب طويل مستغنى عنه.

الرابع ـ قال الكسائي أيضا : إنما يريد نسقيكم مما في بطون بعضه ، وهو (٢) الذي عوّل عليه أبو عبيدة ، فإنه قال : معناه نسقيكم مما في بطون أيها (٣) كان له لبن منها.

الخامس ـ أن التذكير إنما جيء به ، لأنه راجع على ذكر النعم ، لأنّ اللبن للذكر منسوب ، ولذلك قضى النبي صلى الله عليه وسلم بأنّ اللبن للفحل حين أنكرته عائشة رضى الله عنها في حديث أفلح أخى أبى القعيس ، فقالت : إنما أرضعتنى المرأة ولم يرضعنى الرجل. فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم : إنه عمّك فليلج عليك. بيان منه صلى الله عليه وسلم ، لأن اللبن للمرأة سقى ، وللرجل إلقاح ، فجرى الاشتراك بينهما فيه. وقد بينا في كتب الخلاف وشرح الحديث ، فلينظر هنالك إن شاء الله.

السادس ـ قال القاضي الإمام أبو بكر : إنما يرجع التذكير إلى معنى الجمع ، والتأنيث إلى معنى الجماعة ، فذكر في آية النحل باعتبار لفظ الجمع المذكر ، وأنّث في آية المؤمن (٤) باعتبار تأنيث لفظ الجماعة ، وينتظم المعنى بهذا التأويل انتظاما حسنا.

__________________

(١) في م : تذكر.

(٢) في م : وهذا.

(٣) في م : ما كان.

(٤) في ا : المؤمنين. وسورة المؤمن هي سورة غافر. والآية رقم ٧٩ (اللهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعامَ لِتَرْكَبُوا مِنْها وَمِنْها تَأْكُلُونَ). وقد يكون أراد الآية : نسقيكم مما في بطونها ، وهي في سورة المؤمنون ، آية ٢١.

١٠٧

والتأنيث باعتبار الجماعة والتذكير باعتبار الجمع أكثر في القرآن واللغة من رمل يبرين ومها (١) فلسطين.

المسألة الثانية ـ نبّه الله على عظيم القدرة بخروج اللبن خالصا من بين الفرث والدم بين حمرة الدم وقذارة الفرث ، وقد جمعهما وعاء واحد ، وجرى الكل في سبيل متحدة ، فإذا نظرت إلى لونه وجدته أبيض ناصعا خالصا من شائبة الجار ، وإذا شربته وجدته سائغا عن بشاعة الفرث ، يريد لذيذا ، وبعضهم قال سائغا ، أى لا يغصّ به ، وإنه لصفته ، ولكن التنبيه إنما وقع على اللذة وطيب المطعم ، مع كراهية الجار الذي انفصل عنه في الكرش ، وهو الفرث القذر.

وهذه قدرة لا تنبغي إلا للقائم على كل شيء بالمصلحة.

المسألة الثالثة ـ قال بعض المتصورين بصورة المصنفين المتسورين في علوم الدين : إنّ هذه الآية تدلّ على بطلان قول من يقول : إن المنىّ نجس ، لأنه خارج من (٢) المخرج الذي يخرج منه البول ، وهذا الله يقول في اللبن : يخرج (مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَناً خالِصاً سائِغاً لِلشَّارِبِينَ) ، فكما يخرج اللبن من بين الفرث والدم سائغا خالصا طاهرا ، فكذلك يجوز أن يخرج المنىّ على مخرج البول طاهرا.

قال القاضي : قد بيّنا في كتاب أصول الفقه صفة المجتهد المفتي في الأحكام المستنبط لها من الوحى المنزّل ، ولو كانت تلك الصفات موجودة في هذا القائل ما نطق بمثل هذا ، فإنّ اللبن جاء الخبر عنه مجيء النعمة والمنّة الصادرة عن القدرة ، ليكون عبرة ، فاقتضى ذلك كلّه له وصف الخلوص واللذة والطهرة ، وأين المنىّ من هذه الحالة حتى يكون ملحقا به أو مقيسا عليه ، إن هذا لجهل عظيم.

الآية الثامنة ـ قوله تعالى (٣) : (وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ).

فيها ست مسائل :

__________________

(١) في القرطبي : وتيهاء.

(٢) في ا : على.

(٣) آية ٦٧.

١٠٨

المسألة الأولى ـ قال قوم : المعنى : ومن ثمرات النّخيل والأعناب ما تتخذون منه سكرا.

وقال آخرون : معناه شيء تتخذون منه سكرا ، ودلّ على حذفه قوله : «منه» ، فلذلك ساغ حذفه ، والأمر في ذلك قريب.

المسألة الثانية ـ قوله : (سَكَراً).

فيه خمسة أقوال :

الأول ـ تتخذون منه ما حرّم الله ، قاله ابن عباس ، والحسن ، وغيرهما.

الثاني ـ أنه خمور الأعاجم ، قاله قتادة ، ويرجع إلى الأول.

الثالث ـ أنه الخل ، قاله الحسن أيضا.

الرابع ـ أنه الطعم الذي يعرف من ذلك كلّه ، قاله أبو عبيدة.

الخامس ـ أنه ما يسدّ الجوع ، مأخوذ من سكرت النهر ، إذا سددته.

المسألة الثالثة ـ الرزق الحسن :

فيه ثلاثة أقوال :

الأول ـ أنه ما أحلّ الله ، قاله ابن عباس والحسن وغيرهما.

الثاني ـ أنه النبيذ والخلّ ، قاله قتادة.

الثالث ـ أنه الأول ، يقول : تتخذون منه سكرا ورزقا حسنا ، فجعل له اسمين ، وهو واحد.

المسألة الرابعة ـ أما هذه الأقاويل فأسدّها قول ابن عباس : إنّ السّكر الخمر ، والرزق الحسن ما أحلّه الله بعدها من هذه الثمرات. ويخرج ذلك على أحد معنيين : إما أن يكون ذلك قبل تحريم الخمر ، وإما أن يكون المعنى : أنعم الله عليكم بثمرات النخيل والأعناب تتّخذون منه ما حرّم الله عليكم اعتداء منكم ، وما أحل الله لكم اتفاقا أو قصدا إلى منفعة أنفسكم.

والصحيح أنّ ذلك كان قبل تحريم الخمر ، فإنّ هذه الآية مكّية باتفاق من العلماء ، وتحريم الخمر مدنىّ.

فإن قيل ، وهي :

١٠٩

المسألة الخامسة ـ إن المراد بقوله : (تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً) ما يسكر من الأنبذة ، وخلّا ، وهو الرزق الحسن.

والدليل على هذا أن الله امتنّ على عباده بما خلق لهم من ذلك ، ولا يقع الامتنان إلا بمحلّل لا بمحرّم ، فيكون ذلك دليلا على جواز ما دون المسكر (١) من النبيذ ، فإذا انتهى إلى السكر لم يجز ، قاله أصحاب أبى حنيفة. وعضدوا رأيهم هذا من السنّة بما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : حرّم الله الخمر لعينها (٢) والسكر من غيرها. وبما روى أيضا عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان ينبذ له فيشربه ذلك اليوم ، فإذا كان في اليوم الثاني أو الثالث سقاه الخدم (٣) إذا تغيّر ، ولو كان حراما ما سقاه إياهم.

فالجواب أنا نقول : قد عارض علماؤنا هذه الأحاديث بمثلها ، فروى عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : ما أسكر كثيره فقليله حرام. خرّجه الدارقطني وجوّده ، وثبت في الصحاح عن الأئمة أنه قال : كلّ مسكر حرام. وروى الترمذي وغيره ، عن عائشة أنّها قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : كلّ مسكر حرام ، ما أسكر الفرق (٤) فملء الكفّ منه حرام ، وروى : فالحسوة منه حرام.

وقد ثبت تحريم الخمر باتفاق من الأئمة ، وقد روى عن النعمان بن بشير ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إنّ من الحنطة خمرا ، وإنّ من الشعير خمرا ، وإن من التمر خمرا ، وإن من الزبيب خمرا ، وإن من العسل خمرا. خرجه الترمذىّ وغيره.

وفي الصحيح عن عمر بن الخطاب أنه قال ذلك على المنبر ، فإن كان قاله عن النبي صلى الله عليه وسلم فهو شرع متبع ، وإن كان أخبر به عن اللغة فهو حجّة فيها ، لا سيما وهو نطق به على المنبر ما بين أظهر الصحابة ، فلم يقم من ينكر عليه.

جواب آخر ـ أما قولهم : إنّ الله امتنّ ، ولا يكون امتنانه وتعديده إلا بما أحلّ فصحيح ، بيد أنه يحتمل أن يكون ذلك قبل تحريم الخمر ، ثم حرّمت بعد.

__________________

(١) في م : السكر.

(٢) في القرطبي : بعينها.

(٣) في م : الخادم.

(٤) الفرق ـ بكسر الفاء ، وتفتح : مكيال يكال به اللبن.

١١٠

فإن قيل : كيف يحرم ما أحل الله هاهنا ، وينسخ هذا الحكم ، وهو خبر ، والأخبار لا يدخلها النسخ.

قلنا : هذا كلام من لم يتحقق الشريعة ، وقد بينا حقيقته قبل ، وأوضحنا أن الخير إذا كان عن (١) الوجود الحقيقي فذلك الذي لا يدخله نسخ ، أو كان عن الفضل المعطى ثوابا فهو أيضا لا يدخله نسخ (٢) ، فأما إن كان خبرا عن حكم الشرع فالأحكام تتبدّل وتنسخ جاءت بخبر أو بأمر ، ولا يرجع ذلك إلى تكذيب في الخبر أو الشرع الذي كان مخبرا عنه قد زال بغيره.

وإذا فهمتم هذا خرجتم عن الصنف الغبىّ الذي أخبر الله عن الكفار فيه بقوله تعالى(٣) : (وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ وَاللهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ قالُوا إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ). يعنى أنهم جهلوا أنّ الربّ يأمر بما يشاء ، ويكلّف ما يشاء ، ويرفع من ذلك بعدله ما يشاء ، ويثبت ما يشاء ، وعنده أمّ الكتاب.

جواب ثالث (٤) ـ وأما ما عضدوه به من الأحاديث فالأول ضعيف ، والثاني في سقى النبىّ صلى الله عليه وسلم ما بقي للخدم صحيح ، لكنه ما كان يسقيه للخدم لأنه مسكر ، وإنما كان يسقيه لأنه متغيّر الرائحة ، وكان صلى الله عليه وسلم أكره الخلق في خبيث الرائحة ، ولذلك تحيّل عليه أزواجه في عسل زينب ، فإنهن (٥) قلن له : إنا نجد منك ريح مغافير ـ يعنى ريحا ننكره (٦). وقد استوفينا الكلام في هذه المسألة مع أصحاب أبى حنيفة في كتب الخلاف أثرا ونظرا ، فلينظر هنالك إن شاء الله تعالى.

المسألة السادسة ـ قوله تعالى : (وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً).

وإذا قيل : إنّ ثمرات الحبوب وغيرها تتخذ منه رزق حسن وسكر.

__________________

(١) في ا : على.

(٢) في القرطبي : ولا يرجع النسخ إلى نفس اللفظ ، وإنما يرجع إلى ما تضمنه ـ وهنا في هامش م : «مسألة في تحقيق النسخ ، وهل يدخل على الأخبار».

(٣) آية ١٠١ من هذه السورة.

(٤) في م : جواب آخر.

(٥) في م ، والقرطبي : بأن قلن له.

(٦) في م : منكرة.

١١١

قلنا : هذه الحبوب وسائر الثمرات وإن وقع الامتنان بها ، وكانت لها وجوه ينتفع منها ، فلا يقوم مقام النخل ، والعنب شيء ، لأنّ فيه الخل ، وهو أجل منفعة في العالم ، فإنه دواء وغذاء ، فلما لم يحل محل هاتين الثمرتين شيء خصّا بالتنبيه عليهما.

الآية التاسعة ـ قوله تعالى (١) : (وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ).

فيها ست مسائل :

المسألة الأولى ـ قد بينا في شرح الحديث وكتب الأصول أنّ الوحى ينقسم على ثمانية أقسام : منها الإلهام ، وهو ما يخلقه الله في القلب ابتداء من غير سبب ظاهر ، وهو من قوله تعالى (٢) : (وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها). ومن ذلك البهائم وما يخلق الله فيها من درك منافعها ، واجتناب مضارّها ، وتدبير معاشها.

ومن عجيب ما خلق الله في النحل أن ألهمها لاتّخاذ بيوتها مسدّسة ، فبذلك اتصلت حتى صارت كالقطعة الواحدة ، وذلك أنّ الأشكال من المثلث إلى المعشر إذا جمع كل واحد منها إلى أمثاله لم يتّصل ، وجاءت بينهما فرج إلا الشكل المسدس ، فإنه إذا جمع إلى أمثاله التسديس ، يحمى بعضها بعضا عند الاتصال. وجعلت كل بيت على قدرها ، فإذا تشكل عند حركة النحلة بقدرة الله وعلمه ، وملأته عسلا انتقلت إلى غيره بتسخير الله وتقديره وتذليله ، إن تركت عسلت ، وإن حملت اتبعت ، وهي ذات جناح ، ولكن القابض الباسط هو الذي سخّرها ودبّرها.

المسألة الثانية ـ قوله : (يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ) ، يعنى العسل ، عددها الله في نعمه ، وذكر شرابه ممتّنا به ، وسماه شرابا وإن كان مطعوما ، لأنه يصرف في الأشربة أكثر من تصريفه في الأطعمة ، ولأنه مائع ، وذلك بالشرابية أخصّ كما أن الجامد أخص بالطعامية.

__________________

(١) آية ٦٨.

(٢) سورة الشمس ، آية ٧.

١١٢

المسألة الثالثة ـ قوله : (مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ).

يريد أنواعه من الأحمر والأبيض والأصفر ، والجامد والسائل ، والأمّ واحدة ، والأولاد مختلفون ، دليل على أنّ القدرة نوّعته بحسب تنويع الغذاء ، وإن كان لا يخرج على صفته ، ولا يجيء إلا من جنسه ، ولكن يؤثّر بعض التأثير فيه ليدل عليه ، ويغيّره الله ، لتتبين قدرته في التصريف بين الأمرين ، كما قال تعالى (١) : (يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ).

المسألة الرابعة ـ قوله : (فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ).

وقد روى الأئمة ، واللفظ للبخاري ، قال عروة عن عائشة : كان النبي صلى الله عليه وسلم يعجبه الحلواء والعسل. وروى أيضا عن جابر بن عبد الله أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال : إن كان في شيء من أدويتكم خير ففي شرطة محجم ، أو شربة عسل ، أو لذعة نار.

وروى أيضا ، عن أبى سعيد الخدري ، أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن أخى يشتكى بطنه. فقال : اسقه عسلا. ثم أتاه الثانية ، فقال : اسقه عسلا. ثم أتاه الثالثة ، فقال : اسقه عسلا ، ثم أتاه ، فقال : فعلت. فما زاده ذلك إلا استطلاقا. فقال : صدق الله ، وكذب بطن أخيك ، اسقه عسلا ، فسقاه فبرئ.

وكان ابن عمر لا يشكو قرحة ولا شيئا إلا جعل عليه عسلا حتى الدمل إذا خرج عليه طلاه بعسل ، فقيل له في ذلك ، فقال : أليس الله يقول : (فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ).

وروى أن عوف بن مالك الأشجعى مرض فقيل له : ألا نعالجك! قال : ائتوني بماء سماء ، فإن الله يقول (٢) : (وَنَزَّلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً مُبارَكاً) ، وائتوني بعسل ، فإن الله يقول : (فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ). وائتوني بزيت ، فإن الله يقول (٣) : (مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ) ، فجاءوه بذلك كله ، فخلطه جميعا ثم شربه فبرئ.

وقال مجاهد ، والحسن ، والضحاك : إن الهاء في قوله : «فيه» يعود على القرآن ، أى القرآن شفاء للناس.

__________________

(١) سورة الرعد ، آية ٤.

(٢) سورة في ، آية ٩.

(٣) سورة النور ، آية ٣٥. (٨ ـ أحكام ـ ٣)

١١٣

وهذا قول بعيد ، ما أراه يصحّ عنهم ، ولو صح نقلا لم يصح عقلا ، فإنّ مساق الكلام كله للعسل ، ليس للقرآن فيه ذكر. وكيف يرجع ضمير في كلام إلى ما لم يجر له ذكر فيه ، وإن كان كله منه؟ ولكنه إنما يراعى مساق الكلام ومنحى القول ، وقد حسم النبىّ في ذلك ذا الإشكال ، وأزاح وجه الاحتمال حين أمر الذي يشتكى بطنه بشرب العسل ، فلما أخبره بأن العسل لما سقاه إياه ما زاده إلا استطلاقا أمره النبىّ صلى الله عليه وسلم بعود الشرب له ، وقال له : صدق الله ، وكذب بطن أخيك.

المسألة الخامسة ـ قوله تعالى : (فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ).

اختلف في محمله ، فقالت طائفة : هو على العموم في كل حال ، ولكل أحد ، كما سقناه من رواية ابن عمر وعوف ، ومنهم من قال : إنه على العموم بالتدبير ، إذ يخلط الخل بالعسل ويطبخ ، فيأتى شرابا ينفع في كل حالة من كل داء.

وقد اتّفق الأطباء عن بكرة أبيهم على مدح عموم منفعة السّكنجبين (١) في كل مرض.

ومنهم من قال : إنّ ذلك على الخصوص ، وليس هذا بأول لفظ عامّ حمل على مقصد خاص ، فالقرآن مملوء منه ، ولغة العرب يأتى فيها العامّ كثيرا بمعنى الخاص ، والخاصّ بمعنى العام. ألا ترى إلى قول الشاعر (٢) :

أو يرتبط بعض النفوس حمامها

والمراد كلّ النفوس ، إذ لا تخلو نفس من ارتباط الحمام لها.

والصحيح عندي أنه يجرى على نية كلّ أحد ، فمن قويت نيّته ، وصحّ يقينه ففعل فعل عوف ، وابن عمر وجده كذلك ، ومن ضعفت نيته وغلبته على الدين عادته أخذه مفهوما على قول الأطباء ، والكلّ من حكم الفعّال لما يشاء.

__________________

(١) شراب ـ معرب ، أى : خل وعسل.

(٢) هو لبيد كما في اللسان. وقال في اللسان : أجمع أهل النحو على أن البعض شيء من أشياء أو شيء من شيء إلا هشاما فإنه زعم أن قول لبيد : أو يعتلق بعض النفوس حمامها. فادعى وأخطأ أن البعض هنا جمع ولم يكن هذا من عمله. وإنما أراد لبيد ببعض النفوس نفسه. وصدر البيت كما في الجمهرة (٣١٩) ، وديوان لبيد ٣١٣ :

وتراك أمكنة إذا لم أرضها

١١٤

المسألة السادسة ـ اتفق العلماء على أنّ العسل لا زكاة (١) فيه ، وإن كان مطعوما مقتاتا ، ولكنه كما روى في ذكر النحل ذباب غيث ، وكما جاء في العنبر أنه شيء دسره (٢) البحر ، فأحدهما يطير في الهواء ، والآخر يطفو على الماء ، وكلاهما في هذا الحكم سواء ، وقد خص الله الزكاة بما خصّها من الأموال المقاتة ، والأعيان النامية ، حسبما بينّاه منها في مواضعها فليقف عندها.

وقد روى مالك ، عن عبد الله بن أبى بكر بن حزم ، أنه قال : جاء كتاب من عمر ابن عبد العزيز إلى أبى ، وهو بمنى ، ألّا يأخذ من العسل ولا من الخيل صدقة.

وقد قال علماؤنا : إنّ العسل طعام يخرج من حيوان فلم تجب فيه الزكاة كاللبن ، وليس هذا بشيء ، فإن الأصل الذي يخرج منه اللبن عين زكاتية ، وقد (٣) قضى حق النعمة فيه وحاز الاستيفاء لمنافعها ، بخلاف العسل ، فإنه لا زكاة في أصله ، فلا يصح اعتباره باللبن.

وقد قال أبو حنيفة : تجب الزكاة في العسل ، محتجّا بما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ من العسل العشر.

والحديث لا أصل له ، اللهم إلا أن سعد بن أبى ذباب روى عنه أنه قال : قدمت على النبىّ صلى الله عليه وسلم فقلت : يا رسول الله ، اجعل لقومي ما أسلموا عليه من أموالهم ، ففعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، واستعملني عليهم ، ثم استعملني أبو بكر وعمر ، قال : فكلمت قومي في العسل ، فقلت لهم : زكوه ، فإنه لا خير في ثمرة لا تزكّى. قالوا : كم؟ فقلت : العشر. فأخذت منهم العشر ، فأتيت عمر فأخبرته ، فقبضه ، وباعه ، وجعله في صدقات المسلمين ، فإن صحّ هذا كان بطواعيتهم صدقة نافلة ، وليس كلامنا في ذلك ، وإنما نحن في فرض أصل الصدقة عليه ، ولم يثبت ذلك فيه ، وفيما ذكرناه كفاية. والله أعلم.

__________________

(١) في هامش م : «مسألة لا زكاة في العسل».

(٢) دسره البحر : دفعه وألقاه إلى الشط (النهاية).

(٣) في ا : فقد.

١١٥

الآية العاشرة ـ قوله تعالى (١) : (وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللهِ هُمْ يَكْفُرُونَ).

فيها ثلاث مسائل :

المسألة الأولى ـ قوله : (جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً) ، يعنى من جنسكم ، يعنى من الآدميين ، ردّا على العرب التي كانت تعتقد أنها تزوج الجنّ وتباضعها ، حتى روت أن عمرو ابن هند تزوّج منهم غولا ، وكان يخبؤها عن البرق ، لئلا تراه فتنفر ، فلما كان في بعض الليالى لمح البرق وعاينته السّعلاة (٢) ، فقالت : عمرو! ونفرت فلم يرها أبدا ، وهذا من أكاذيبها ، وإن كان جائزا في حكم الله وحكمته ، ردا (٣) على الفلاسفة الذين ينكرون وجود الجنّ ، ويحيلون طعامهم ونكاحهم.

وقيل : أراد به قوله (٤) : (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها) حسبما تقدم (٥) بيانه في سورة الأعراف.

المسألة الثانية ـ قوله : (أَزْواجاً) زوج المرأة هي ثانيته ، فإنه فرد ، فإذا انضافت إليه كانا زوجين ، وإنما جعلت الإضافة إليه دونها لأنه أصلها في الوجود ، وقوامها في المعاش ، وأميرها في التصرف ، وعاقلها في النكاح ، ومطلقها من قيده ، وعاقل الصداق والنفقة عنها فيه ، وواحد من هذا كله يكفى للأصالة (٦) ، فكيف بجميعها؟

المسألة الثانية قوله : (وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً).

وجود البنين يكون منهما معا ، ولكنه لما كان تخلّق المولود فيها ، ووجوده ذا روح وصورة بها ، وانفصاله كذلك عنها ، أضيف إليها ، ولأجله تبعها في الرق والحرية ، وصار مثلها في المالية.

__________________

(١) آية ٧٢.

(٢) السعلاة : أخبث الغيلان.

(٣) في القرطبي : فهو رد على الفلاسفة.

(٤) سورة الأعراف ، آية ١٨٩.

(٥) صفحة ٨٠٨.

(٦) في م : للإضافة.

١١٦

سمعت إمام الحنابلة بمدينة السلام أبا الوفاء على بن عقيل يقول : إنما تبع الولد الأم في المالية ، وصار بحكمها في الرّق والحرية ، لأنه انفصل عن الأب نطفة لا قيمة له ، ولا مالية فيه ، ولا منفعة مثبوتة عليه ، وإنما اكتسب ما اكتسب بها ومنها ، فلأجل ذلك تبعها ، كما لو أكل رجل تمرا في أرض رجل ، فسقطت منه نواة في الأرض من يد الآكل ، فصارت نخلة ، فإنها ملك صاحب الأرض دون الآكل بإجماع من الأمة ، لأنها انفصلت من الآكل ولا قيمة لها ، وهذه من البدائع.

المسألة الرابعة ـ في تفسير قوله : (وَحَفَدَةً).

وفيها ثمانية أقوال :

الأول ـ أنهم الأختان ، قاله ابن مسعود.

الثاني ـ أنهم الأصهار ، قاله ابن عباس.

الثالث ـ قال محمد بن الحسن : الختن الزوج ، ومن كان من ذوى رحمه. والصهر من كان من قبل المرأة من الرجال.

الرابع ـ أنها ضد ذلك ، قاله ابن الأعرابى.

الخامس ـ قال الأصمعى : الختن من كان من الرجال من قبل المرأة ، والأصهار منهما جميعا.

السادس ـ الحفدة : أعوان الرجل وخدمه ، روى عن ابن عباس أنه قال : من أعانك فقد حفدك ، وبه قال عكرمة.

السابع ـ حفدة الرجل أعوانه من ولده.

الثامن ـ أنه ولد الرجل وولد ولده.

المسألة الخامسة ـ هذه الأقوال كما سردناها إما أخذت عن لغة ، وإما عن تنظير ، وإما عن اشتقاق ، وقد قال الله تعالى (١) : (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْماءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً) ، فالنّسب ما دار بين الزوجين. والصّهر ما تعلق بهما ، ويقال أختان المرأة وأصهار الرجل عرفا

__________________

(١) سورة الفرقان ، آية ٥٤.

١١٧

ولغة ، ويقال لولد الولد الحفيد ، ويقال حفده يحفده بفتح العين في الماضي وكسرها في المستقبل إذا خدمه ، ومنه قولهم في الدعاء : وإليك نسعى ونحفد. فالظاهر عندي من قوله : «بنين» أولاد الرجل من صلبه ، ومن قوله : «حفدة» أولاد ولده. وليس في قوة اللفظ أكثر من هذا. ونقول : تقدير الآية على هذا : «والله جعل لكم من أنفسكم أزواجا ، ومن أزواجكم بنين ، ومن البنين حفدة».

ويحتمل أن يريد به : (وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً) ، فيكون «البنين» من الأزواج ، والحفدة من الكلّ ، من زوج وابن ، يريد به خداما ، يعنى أنّ الأزواج والبنين يخدمون الرجل بحقّ قواميته وأبوّته. وقد قال علماؤنا : يخدم الرجل زوجه فيما خفّ من الخدمة ويعينها ، وقد قالوا في موضع آخر : يخدمها. وقالوا في موضع آخر : ينفق على خادم واحدة. وفي رواية على أكثر من واحدة على قدر الثروة والمنزلة ، وهذا أمر دائر على العرف والعادة الذي هو أصل من أصول الشريعة ، فإن نساء الأعراب وسكان البادية يخدمن أزواجهن حتى في استعذاب الماء وسياسة الدواب. ونساء الحواضر يخدم المقلّ منهم زوجه فيما خفّ ويعينها. وأما أهل الثروة فيخدمون أزواجهم ويترفهن معهم إذا كان لهم منصب في ذلك ، وإن كان أمرا مشكلا شرطت عليه الزوجة ذلك ، فتشهد عليه أنه قد عرف أنها ممن لا تخدم نفسها ، فالتزم إخدامها ، فينفذ ذلك عليه ، وتنقطع الدعوى فيه. وهذا هو القول الصحيح في الآية لما قدمناه.

وقد روى ابن القاسم عن مالك قال : وسألته عن قول الله : (بَنِينَ وَحَفَدَةً) ما الحفدة؟ قال : الخدم والأعوان في رأى.

ويروى أنّ الحفدة البنات يخدمن الأبوين في المنازل.

ويروى أن نافع بن الأزرق سأل ابن عباس عن قوله : «وحفدة» قال : هم الأعوان ، من أعانك فقد حفدك. قال : فهل تعرف العرب ذلك؟ قال : نعم ، وتقوله. أما سمعت قول الشاعر :

١١٨

حفد الولائد حولهنّ وألقيت (١)

بأكفهنّ أزمّة الإجمال

وتصريف الفعل حفد يحفد كما قدمنا حفدا وحفودا وحفدانا.

وقال الخليل بن أحمد : إنّ الحفدة عند العرب الخدم ، وكفى بمالك فصاحة ، وهو محض العرب (٢) في قوله : إنهم الخدم. وبقول الخليل ، وهو ثقة في نقله عن العرب ، فخرجت خدمة الولد والزوجة من القرآن بأبدع بيان.

وقد روى البخاري وغيره ـ واللفظ له ـ عن سهل بن سعد أن أبا أسيّد الساعدي دعا النبىّ صلى الله عليه وسلم لعرسه ، فكانت امرأته خادمهم يومئذ ، وهي العروس ، فقال: أو تدرون ما أنقعت لرسول الله؟ أنقعت له تمرات من الليل في تور (٣).

وكذلك روى عن عائشة أنّ النبىّ صلى الله عليه وسلم كان يكون في مهنة أهله ، فإذا سمع الأذان خرج. وهذا هو قول مالك : ويعينها.

وفي أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يخصف النعل ، ويقم البيت ، ويخيط الثوب.

وقد روى الترمذي أنه صلى الله عليه وسلم كان يعود المريض ، ويشهد الجنازة ، ويركب الحمار ، ويجيب دعوة العبد ، وكان يوم بنى قريظة على حمار مخطوم بحبل من ليف عليه إكاف من ليف. وقال عن عائشة ـ وقد قيل لها : ما كان رسول الله يعمل في البيت؟ قالت : كان بشرا من البشر ، يفلى ثوبه ، ويحلب شاته ، ويخدم نفسه.

قال القاضي أبو بكر : حتى في وضوئه ، فروى (٤) من طريق عن ابن عباس أنه بات عند النبي صلى الله عليه وسلم في بيت خالته ميمونة في ليلة كانت لا تصلى فيها ، فأوى رسول الله إلى فراشه ، فلما كان في جوف الليل قام فخرج إلى الحجرة فقلب في أفق السماء وجهه ، ثم قال : نامت العيون ، وغارت النجوم ، والله (٥) حىّ قيّوم ، ثم عمد إلى قربة في جانب

__________________

(١) في اللسان : وأسلمت. والبيت لكثير.

(٢) في م : العرف.

(٣) التور : إناء يشرب فيه.

(٤) صحيح مسلم صفحة ٢١٠.

(٥) في م : وأنت.

١١٩

الحجرة فحلّ شناقها (١) ثم توضأ فأسبغ الوضوء. خرجه ابن حماد الحافظ ، وقد بيناه في كتاب التقصي وغيره.

ومن أفضل ما يخدم المرء فيه نفسه العبادات التي يتقرب بها إلى الله سبحانه حتى يكون عملها كلّها لوجه الله ، وعمل شروطها وأسبابها كلّها منه ، فذلك أعظم للأجر إذا أمكن.

وقد خرج البخارىّ في كتاب الصلاة عن الأسود بن يزيد : سألت عائشة ما كان النبىّ صلى الله عليه وسلم يصنع في بيته؟ قالت : كان يكون في مهنة أهله ، فإذا حضرت الصلاة خرج. ومن الرواة من قال : إذا سمع الأذان خرج ، قال الإمام يعنى الإقامة.

الآية الحادية عشرة ـ قوله تعالى (٢) : (ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْناهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْراً هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ).

فيها مسألتان :

المسألة الأولى ـ هذا مثل ضربه الله للكافر والمؤمن في قول ، وللمخلوق والخالق في [قول] (٣) آخر ، معناه أنّ العبد المملوك الذي لا يقدر على شيء هو الكافر ، ومن رزقناه منا رزقا حسنا هو المؤمن ، آتاهما الله مالا كثيرا ورزقا واسعا ، فأما الكافر فبخل به وأمسك عليه ، وأما المؤمن فقلّب به في ذات الله يمينا وشمالا هكذا وهكذا سرّا وجهارا.

وأما المعنى على ضرب المثل للمخلوق والخالق فهو عندهم أنّ العبد المملوك هو الصبىّ لا يقدر على شيء لغرارته وجهالته ، كما قال بعد ذلك (٤) : (وَاللهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً). وضرب المثل بقوله : (وَمَنْ رَزَقْناهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً) لله.

وقد ضرب الله الأمثال لنفسه على وجه بديع بينّاه في قانون التأويل ، ولم يأذن لأحد من الخلق فيه ، وقال (٥) : (فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثالَ) ، يعنى [لا تضربوا] (٦) أنتم الأمثال الله ،

__________________

(١) الشناق : الخيط أو السير الذي تعلق به القربة. والخيط الذي يشد به فمها (النهاية).

(٢) آية ٧٥.

(٣) من م.

(٤) آية ٧٨.

(٥) آية ٧٤.

(٦) من م.

١٢٠