أحكام القرآن - ج ٢

أبي بكر محمّد بن عبدالله [ ابن العربي ]

أحكام القرآن - ج ٢

المؤلف:

أبي بكر محمّد بن عبدالله [ ابن العربي ]


المحقق: علي محمّد البجاوي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الجيل
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٢٢

الرابعة ـ روى ابن عباس أنّ رجالا من أصحاب النبىّ صلى الله عليه وسلم قالوا له : يا رسول الله ؛ إنّ من آبائنا من كان يحسن الجوار ، ويصل الأرحام ، أفلا نستغفر لهم؟ فأنزل الله : (ما كانَ لِلنَّبِيِّ ....) الآية.

الخامسة ـ روى عن عليّ قال : سمعت رجلا يستغفر لأبويه ، فقلت : تستغفر لهما ، وهما مشركان؟ فقال : أو لم يستغفر إبراهيم لأبيه! فذكرته لرسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت : (ما كانَ لِلنَّبِيِّ ...) الآية. وهذه أضعف الروايات.

المسألة الثانية ـ قوله تعالى : (ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا) :

دليل على أحد أمرين : إما أن تكون الرواية الثانية صحيحة ، فنهى الله النبي والمؤمنين. إما أن تكون الرواية الأولى هي الصحيحة ويخبر به عما فعل النبىّ ، وينهى المؤمنون أن يفعلوا مثله ، تأكيدا للخبر ؛ وسائر الروايات محتملات.

المسألة الثالثة ـ منع الله رسوله والمؤمنين من طلب المغفرة للمشركين ؛ لأنه قد قدّر ألّا تكون ؛ وأخبر عن ذلك ، وسؤال ما قدّر أنه لا يفعله ، وأخبر عنه هنا.

فإن قيل : فقد قال النبىّ صلى الله عليه وسلم ـ حين كسروا رباعيته ، وشجّوا وجهه: اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون.

فسأل المغفرة لهم.

قلنا : عنه أربعة أجوبة :

الأول ـ يحتمل ، أن يكون ذلك قبل النهى ، وجاء النهى بعده.

الثاني ـ أنه يحتمل أن يكون ذلك سؤالا في إسقاط حقّه عندهم ، لا لسؤال إسقاط حقوق الله ، وللمرء أن يسقط حقّه عند المسلم والكافر.

الثالث ـ أنه يحتمل أن يطلب المغفرة لهم ؛ لأنهم أحياء ، مرجوّا إيمانهم ، يمكن نألّفهم بالقول الجميل ، وترغيبهم في الدين بالعفو عنهم. فأما من مات فقد انقطع منه الرجاء.

الرابع ـ أنه يحتمل أن يطلب لهم المغفرة في الدنيا برفع العقوبة عنهم حتى إلى الآخرة ، كما قال الله (١) : (وَما كانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ ، وَما كانَ اللهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ).

__________________

(١) سورة الأنفال ، آية ٣٣

٥٠١

المسألة الرابعة ـ قوله : (وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى) :

بيان أن القرابة الموجبة للشفقة جبلّة ، وللصلة مروءة تمنع من سؤال المغفرة بعد ما تبيّن لهم أنهم من أهل النار.

قال القاضي الإمام : هذا إن صحّ الخبر ، وإلّا فالصحيح فيه أنّ النبىّ صلى الله عليه وسلم ذكر نبيّا قبله شجّه قومه ، فجعل النبىّ صلى الله عليه وسلم يخبر عنه بأنه قال : اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون. خرجه البخاري وغيره.

المسألة الخامسة ـ قال الله تعالى مخبرا عن إبراهيم (١) : (سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا) ، فتعلّق بذلك النبىّ في الاستغفار لأبى طالب ، إما اعتقادا ، وإما نطقا بذلك ، كما ورد في الرواية الثانية ؛ فأخبره الله أنّ استغفار إبراهيم لأبيه كان عن وعد قبل تبيّن الكفر منه ؛ فلما تبيّن الكفر منه تبرأ منه ، فكيف تستغفر أنت يا محمد لعمّك ، وقد شاهدت موته كافرا؟ وهي :

المسألة السادسة ـ وظاهر حال المرء عند الموت يحكم عليه به (٢) في الباطن ، فإن مات على الإيمان حكم له بالإيمان ، وإن مات على الكفر حكم له بالكفر ، وربّك أعلم بباطن حاله ، بيد أنّ النبىّ صلى الله عليه وسلم قال له العباس : يا رسول الله ؛ هل نفعت عمّك بشيء ، فإنه كان يحوطك ويحميك؟ قال : سألت ربي له ، فجعله في ضحضاح (٣) من النار تغلى منه دماغه ، ولو لا أنا لكان في الدّرك الأسفل. وهذه شفاعة في تخفيف العذاب ، وهي الشفاعة الثانية ، وهذا هو أحد القولين في قوله : فلما تبيّن له أنه عدوّ لله ـ يعنى بموته كافرا ـ تبرّأ منه.

وقيل : تبيّن له في الآخرة. والأول أظهر.

وقد قال عطاء : ما كنت لامتنع من الصلاة على أمة حبلى حبشيّة من الزنا ، فإنى رأيت الله لم يحجب الصلاة إلّا عن المشركين ، فقال : (ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ).

وصدق عطاء ؛ لأنه تبيّن من ذلك أنّ المغفرة جائزة لكلّ مذنب ؛ فالصلاة عليهم ،

__________________

(١) سورة مريم ، آية ٤٧.

(٢) في القرطبي : بها.

(٣) الضحضاح في الأصل : ما رق من الماء على وجه الأرض ما يبلغ الكعبين ، فاستعاره للنار (النهاية).

٥٠٢

والاستغفار لهم حسنة ؛ وفي هذا ردّ على القدرية ؛ لأنهم لا يرون الصلاة على العصاة ، ولا يجوز عندهم أن يغفر الله لهم ؛ فلم يصلّ عليهم ، وهذا ما لا جواب لهم عنه.

الآية الثالثة والأربعون ـ قوله تعالى (١) : (لَقَدْ تابَ اللهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ ما كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ، ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُفٌ رَحِيمٌ).

فيها خمس مسائل :

المسألة الأولى ـ توبة الله على النبىّ ردّه من حالة الغفلة إلى حالة الذّكر ، وتوبة المهاجرين والأنصار رجوعهم من حالة المعصية إلى حالة الطاعة ، وانتقالهم من حالة الكسل إلى حالة النشاط ، وخروجهم عن صفة الإقامة والقعود إلى حالة السفر والجهاد.

المسألة الثانية ـ وتوبة الله تكون على ثلاثة أقسام :

دعاؤه إلى التوبة ، يقال : تاب الله على فلان ، أى دعاه ، ويقال : تاب الله عليه : يسّره للتوبة ، وقد يكون خبرا ، وقد يكون دعاء ، ويقال : تاب عليه : ثبّته عليها ، ويقال : تاب عليه : قبل توبته ؛ وذلك كلّه صحيح ، وقد جمع لهؤلاء ذلك كله ، ويفترق في سائر الناس ؛ فمنهم من يدعوه إلى التوبة لإقامة الحجة عليه ولا ييسّرها له ، ومنهم من يدعوه إليها وييسّرها ولا يديمها ، فإن دامت إلى الموت فهي مقبولة قطعا.

المسألة الثالثة ـ قوله : (فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ) :

يعنى جيش تبوك ؛ خرج الناس إليها في جهد وحرّ ورجلة (٢) وعرى وحفاء ، حتى لقد روى في قوله (٣) : (ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ) (٤). (وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذا ما أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ ما أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ) : أنهم طلبوا نعالا.

وفي الحديث : لا يزال الرجل راكبا ما انتعل.

المسألة الرابعة ـ قوله : (مِنْ بَعْدِ ما كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ ، فَرِيقٍ مِنْهُمْ) :

أما هذا فليس للنبىّ فيه مدخل باتفاق من الموحدين ، أما أنه قد قيل : إنه يدخل في التوبة

__________________

(١) آية ١١٧.

(٢) رجل ـ كفرح : إذا لم يكن له ظهر يركبه ، وجمعه رجلة.

(٣) آية ٩١

(٤) آية ٩٢

٥٠٣

من إذنه للمنافقين في التخلف فعذره الله في إذنه لهم ، وتاب عليه وعذره ، وبيّن للمؤمنين صواب فعله بقوله (١) : (لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ ما زادُوكُمْ إِلَّا خَبالاً ....) إلى : (الْفِتْنَةَ).

وأما غير النبي فكاد تزيغ قلوب فريق منهم ببقائهم بعده ، كأبى حثمة وغيره ، بإرادتهم الرجوع من الطريق حين أصابهم الجهد ، واشتدّ عليهم العطش ، حتى نحروا إبلهم ، وعصروا كروشها ، فاستسقى رسول الله ، فنزل المطر ؛ ولهذا جاز للإمام ـ وهي :

المسألة الخامسة ـ أن يأذن لمن اعتذر إليه أخذا بظاهر الحال ، ورفقا بالخلق ، اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم.

الآية الرابعة والأربعون ـ قوله تعالى (٢) : (وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ وَضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ).

فيها أربع مسائل :

المسألة الأولى ـ قال ابن وهب : قال مالك : إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج في غزوة تبوك حين طابت الثمار ، وبرد الظّلال ، وخرج في حرّ شديد ، وهي العسرة التي افتضح فيها الناس ، وكان كعب بن مالك قد تخلّف ، ورجل من عمرو بن عوف ، وآخر من بنى واقد. وخرج رجل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يسقى وديّا له (٣) ، فقيل له : كيف لك بسقى وديّك هذا! فقال : الغزو خير من الودىّ ، فرجع ، وقد أصلح الله وديّة ، فلما رجع رسول الله وأصحابه هجروا كعبا وصاحبيه ، ولم يعتذروا للنبىّ صلى الله عليه وسلم ، واعتذر غيرهم. قال : فأقام كعب وصاحباه لم يكلّمهم أحد ، وكان كعب يدخل على الرجل في الحائط ، فيقول له : أنشدك الله ، أتعلم أتى أحبّ الله ورسوله؟ فيقول : الله ورسوله أعلم.

المسألة الثانية ـ هؤلاء الثلاثة هم : كعب بن مالك ، ومرارة بن الربيع (٤) ، وهلال ابن أمية. كما تقدم.

__________________

(١) آية ٤٧ ـ ٤٩.

(٢) آية ١١٨.

(٣) الودي ـ كغنى : صغار الفسيل : الواحدة ودية كغنية (القاموسى).

(٤) في القرطبي : بن ربيعة.

٥٠٤

لما رجع رسول الله مقفله من تبوك ، ودخل المسجد جاء من تخلّف عنه يستذرون إليه ، وهم ثمانون رجلا ، فقيل النبىّ ظاهر حالهم ، ووكل سرائرهم إلى الله ، إلّا هؤلاء الثلاثة ، فإنهم صدقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم.

قال كعب في حديثه : حتى جئت فسلّمت عليه ، فتبسّم تبسّم المغضب ، ثم قال لي: تعالى ، فجئت أمشى حتى جلست بين يديه ، فقلت له : والله ما كان لي عذر. فقال : أما هذا فقد صدق ، فقم ، حتى يقضى الله فيك.

قال كعب : ونهى النبىّ صلى الله عليه وسلم عن كلامنا أيّها الثلاثة ، [من بين من تخلّف عنه ، قال : فاجتنبنا الناس ، أو قال : تغيّروا لنا] (١) حتى تنكّرت لي نفسي والأرض حتى ما هي بالأرض التي كنت أعرف ، كما قال الشاعر :

فما الناس بالناس الذين عهدتهم

ولا الأرض بالأرض التي كنت أعرف

وساق الحديث إلى قوله : وصليت الصبح صبيحة خمسين ليلة ، وأنا كما قال الله(٢): (حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ وَضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ) إذا صارخ يصرخ أوفى على ظهر جبل سلع (٣) يقول بأعلى صوته : أبشر يا كعب بن مالك ، أبشر ، فخررت ساجدا ... وساق الحديث.

وفيه دليل على أنّ للإمام أن يعاقب المذنب بتحريم كلامه على الناس أدبا له ، وهكذا في الإنجيل ، وهي :

المسألة الثالثة ـ وعلى تحريم أهله عليه ، وهي :

المسألة الرابعة ـ والحديث (٤) مطوّل ، وفيه فقه كثير قد أوردناه في شرح الحديث عليكم ، والله ينفعنا وإياكم.

الآية الخامسة والأربعون ـ قوله تعالى (٥) : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ).

فيها أربع مسائل :

__________________

(١) من القرطبي.

(٢) آية ١١٩.

(٣) أو في : أشرف. وسلع : جبل.

(٤) الحديث بتمامه جزء ٨ صفحة ٢٨٨ من القرطبي ، وابن كثير : ٢ ـ ٣٩٦

(٥) آية ١١٩

٥٠٥

المسألة الأولى ـ في تفسير الصادقين :

وفيه ثمانية أقوال :

الأول ـ إنهم الذين استوت ظواهرهم وبواطنهم.

الثاني ـ أنهم الذين قال الله فيهم (١) : (لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ ...) إلى قوله تعالى : (الْمُتَّقُونَ).

الثالث ـ أنهم المهاجرون ؛ وقد روى ـ كما قدمنا ـ أنّ أبا بكر قال للأنصار يوم سقيفة بنى ساعدة : إنّ الله سمّانا الصادقين ؛ فقال (٢) : (لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ ...) إلى قوله تعالى : (هُمُ الصَّادِقُونَ). ثم سماكم المفلحين ، فقال (٣) : (وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ ...) الآية. وقد أمركم الله أن تكونوا معنا حيث كنا ، فقال : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ).

الرابع ـ إنّ الصادقين هم المسلمون ، والمخاطبون هم المؤمنون من أهل الكتاب.

الخامس ـ الصادقون هم الموفون بما عاهدوا ، وذلك بقوله تعالى (٤) : (رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ).

السادس ـ هم النبىّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه ـ يعنى أبا بكر ، وعمر ؛ أو السابقون الأولون ، وهو السابع.

الثامن ـ هم الثلاثة الذين خلّفوا.

المسألة الثانية ـ في تحقيق هذه الأقوال :

أما الأول فهو الحقيقة والغاية التي إليها المنتهى في هذه الصفة ، وبها يرتفع النفاق في العقيدة ، والمخالفة في الفعل ، وصاحبها يقال له صدّيق ، وهي في أبى بكر وعمر ، ومن دونهما على منازلهم وأزمانهم.

وأما من قال بالثاني فهو معظم الصدق ، ومن أتى المعظم فيوشك أن يتبعه الأقلّ ، وهو معنى الخامس لأنه بعضه ، وقد دخل فيه ذكره.

__________________

(١) سورة البقرة ، آية ١٧٧.

(٢) سورة الحشر ، آية ٨.

(٣) سورة الحشر ، آية ٩.

(٤) سورة الأحزاب ، آية ٢٣

٥٠٦

وأما تفسير أبى بكر الصديق فهو الذي يعمّ الأقوال كلّها ؛ لأنّ جميع الصفات موجودة فيهم.

وأما القول الرابع فصحيح وهو بعضه أيضا ، ويكون المخاطب أهل الكتاب والمنافقين.

والسادس ـ تقدّم معناه.

والسابع ـ يكون المخاطب الثمانين رجلا الذين تخلّفوا واعتذروا وكذبوا ، أمروا أن يكونوا مع الثلاثة الصادقين ؛ ويدخل هذا في جملة الصدق.

المسألة الثالثة ـ قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ) :

قد تقدمت حقيقة التقوى ، وذكر المفسرون هاهنا فيها قولين :

أحدهما ـ اختلقوا الكذب.

والثاني ـ في ترك الجهاد ، وهما بعض التقوى ، والصحيح عمومها.

المسألة الرابعة ـ في هذا دليل على أنه لا يقبل خبر الكاذب ولا شهادته.

قال مالك : لا يقبل خبر الكاذب في حديث الناس وإن صدق في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وقال غيره : يقبل حديثه ، والقبول فيه مرتبة عظيمة ، وولاية لا تكون إلّا لمن كرمت خصاله ، ولا خصلة هي أشرّ من الكذب ، فهي تعزل الولايات ، وتبطل الشهادات.

الآية السادسة والأربعون ـ قوله تعالى (١) : (ما كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللهِ وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلا يَطَؤُنَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صالِحٌ إِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ. وَلا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً وَلا يَقْطَعُونَ وادِياً إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللهُ أَحْسَنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ).

فيها ثلاث مسائل :

__________________

(١) آية ١٢٠ ، ١٢١

٥٠٧

المسألة الأولى ـ قوله تعالى : (ما كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ) : أى ما كان لهؤلاء المذكورين أن يتخلّفوا ـ دليل على أنّ غيرهم لم يستنفروا ، وإنما كان النفير منهم في قول بعضهم ، ويحتمل أن يكون الاستنفار في كلّ مسلم ، وخصّ هؤلاء بالعتاب لقربهم وجوارهم ، وأنهم أحقّ بذلك من غيرهم.

المسألة الثانية ـ قوله تعالى : (وَلا يَطَؤُنَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ) دليل عند علمائنا على أنّ الغنيمة تستحقّ بالإدراب (١) والكون في بلاد العدوّ ؛ فإن مات بعد ذلك فله سهمه ؛ وهو قول أشهب ، وعبد الملك ، وأحد قولي الشافعى.

وقال مالك ، وابن القاسم : لا شيء له ؛ لأنّ الله إنما كتب له بالآخرة ، ولم يذكر السهم. وهو الصحيح ، وقد بيناها في مسائل الخلاف.

المسألة الثالثة ـ قوله : (وَلا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً ، وَلا يَقْطَعُونَ وادِياً إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ) : يعنى كتب لهم ثوابه.

وكذلك قال في المجاهد : إنّ أرواث دوابّه وأبوالها حسنات ، ورعيها حسنات ، وقد زادنا الله تعالى من فضله.

ففي الصحيح أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال في هذه الغزوة بعينها : إنّ بالمدينة قوما ما سلكتم واديا ، ولا قطعتم شعبا إلا وهم معكم ، حبسهم العذر ، فأعطى للمعذور من الأجر ما أعطى للقوىّ العامل بفضله.

وقد قال بعض الناس : إنما يكون له الأجر غير مضاعف ، ويضاعف للعامل المباشر.

وهذا تحكّم على الله ، وتضييق لسعة رحمته ؛ وقد بيناه في شرح الصحيحين.

ولذلك قد راب بعض الناس فيه ، فقال : أنتم تعطون الثواب مضاعفا قطعا ، ونحن لا نقطع بالتضعيف في موضع ؛ فإنه مبنيّ على مقدار النيات ، وهو أمر مغيب ، والذي يقطع به أنّ هنالك تضعيفا ، وربّك أعلم بمن يستحقّه ، وهذا كلّه وصف العاملين المجاهدين ، وحال القاعدين التائبين ، ولما ذكر المتخلّفين المعتذرين بالباطل قال كعب بن مالك : ذكروا في بشر ما ذكر به أحد ، فقال (٢) : (يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذا رَجَعْتُمْ ...) الآية.

__________________

(١) أدرب القوم : إذا دخلوا أرض العدو.

(٢) آية ٩٤ من السورة.

٥٠٨

الآية السابعة والأربعون ـ قوله تعالى (١) : (وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ).

فيها ثلاث مسائل :

المسألة الأولى ـ في سبب نزولها (٢) :

وفيها أقوال كثيرة جماعها أربعة :

الأول ـ أنها نزلت في قوم أرسلهم النبىّ صلى الله عليه وسلم ليعلّموا الناس القرآن والإسلام ، فلما نزل ما كان لأهل المدينة رجع أولئك فأنزل الله عذرهم ؛ قاله مجاهد. وقال : هلّا جاء بعضهم وبقي على التعليم البعض.

الثاني ـ قال ابن عباس : معناه ما كان المؤمنون لينفروا جميعا ، ويتركوا نبيّهم ، ولكن يخرج بعضهم ، ويبقى البعض فيما ينزل من القرآن ، ويجرى من العلم والأحكام ، يعلّمه المتخلّف للسارى عند رجوعه ، وقاله قتادة.

الثالث ـ قال ابن عباس أيضا : إنها نزلت في الجهاد ، ولكن لما دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم على مضر بالسنين أجدبت بلادهم ، فكانت القبيلة منهم تقبل بأسرها حتى يحلّوا بالمدينة من الجهد ، ويعتلّوا بالإسلام وهم كاذبون ، فضيّقوا على أصحاب النبىّ صلى الله عليه وسلم وأجهدوهم ، فأنزل الله يخبر رسوله أنهم ليسوا بمؤمنين ، فردهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عشائرهم ، وحذّر قومهم أن يفعلوا فعلهم ، فذلك قوله : (وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ ...) الآية.

الرابع ـ روى عن ابن عباس أنه قال : نسختها (٣) : (انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالاً).

المسألة الثانية ـ في تحرير الأقوال :

أما نسخ بعض هذه لبعض فيفتقر إلى معرفة التاريخ فيها.

وأما الظاهر فنسخ الاستنفار العام ؛ لأنه الطارئ ؛ فإنّ النبىّ صلى الله عليه وسلم كان يغزو في فئام (٤) من الناس ، ولم يستوف قط جميع الناس ، إلا في غزوة العسرة.

__________________

(١) آية ١٢٢.

(٢) أسباب النزول ١٥٢ ، وابن كثير : ٢ ـ ٤٠١.

(٣) آية ٤١

(٤) فئام : جماعة.

٥٠٩

وقد قيل : إنه يخرج من القول الأول أنّ الخروج في طلب العلم لا يلزم الأعيان ، وإنما هو على الكفاية.

قال القاضي : إنما يقتضى ظاهر هذه الآية الحثّ على طلب العلم والندب إليه دون الإلزام والوجوب ، واستحباب الرحلة فيه وفضلها.

فأما الوجوب فليس في قوة الكلام ؛ وإنما لزم طلب العلم بأدلّته ؛ فأما معرفة الله فبأوامر القرآن وإجماع الأمة.

وأما معرفة الرسول فلوجوب الأمر بالتصديق به ، ولا يصحّ التصديق إلا بعد العلم.

وأما معرفة الوظائف فلانّ ما ثبت وجوبه ثبت وجوب العلم به لاستحالة أدائها إلا بعلم ، ثم ينشأ على هذا أنّ المزيد على الوظائف مما فيه القيام بوظائف الشريعة كتحصين الحقوق وإقامة الحدود ، والفصل بين الخصوم ونحوه من فروض الكفاية ؛ إذ لا يصحّ أن يعلمه جميع الناس ؛ فتضيع أحوالهم ، وأحوال سواهم ، وينقص أو يبطل معاشهم ؛ فتعيّن بين الحالين أن يقوم به البعض من غير تعيين ، وذلك بحسب ما ييسّر الله العباد له ، ويقسمه بينهم من رحمته وحكمته بسابق قدرته وكلمته ، ويأتى تحقيقه في موضعه إن شاء الله.

المسألة الثالثة ـ الطائفة في اللغة : الجماعة. قيل : وينطلق على الواحد على معنى نفس طائفة. والأول أصح وأشهر ؛ فإنّ الهاء في مثل هذا إنما هي للكثرة ، كما يقال راوية ، وإن كان يأتى بغيره.

ولا شك أنّ المراد هاهنا جماعة لوجهين :

أحدهما ـ عقلا ، والآخر لغة :

أما العقل فلأنّ تحصيل العلم لا يتحصّل بواحد في الغالب.

وأما اللغة فلقوله : ليتفقّهوا ولينذروا ؛ فجاء بضمير الجماعة.

والقاضي أبو بكر ، والشيخ أبو الحسن قبله ، يرون أنّ الطائفة هاهنا واحد.

ويعتضدون فيه بالدليل على وجوب العمل بخبر الواحد. وهو صحيح ؛ لا من جهة أنّ الطائفة تنطلق على الواحد ، ولكن من جهة أنّ خبر الشخص الواحد أو الأشخاص خبر واحد ،

٥١٠

وأنّ مقابله وهو التواتر لا ينحصر بعدد ، وقد بيناه في موضعه ، وهذه إشارته.

الآية الثامنة والأربعون ـ قوله تعالى (١) : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ).

قد قدّمنا الإشارة إلى أنّ الله أمر بأوامر متعددة مختلفة المتعلقات ، فقال (٢) : (قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ). وقال (٣) : (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ). وقال (٤) : (وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً). وقال (٥) : (قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ).

وهذا كلّه صحيح مناسب ، والمقصود قتال جميع المؤمنين لجميع الكفار ، وقتال الكفار أينما وجدوا ، وقتال أهل الكتاب من جملتهم ، وهم الروم ، وبعض الحبشان ، وذلك إنما يتكيّف لوجهين :

أحدهما ـ بالابتداء ممّن يلي ؛ فيقاتل كلّ واحد من يليه ، ويتفق أن يبدأ المسلمون كلّهم بالأهم ممن يليهم ، أو الذين يتيقّن الظفر بهم.

وقد سئل ابن عمر بمن نبدأ بالروم أو بالدّيلم؟ فقال : بالروم.

وقد روى في الأثر : اتركوا الرابضين ما تركوكم ؛ يعنى الروم والحبش. وقول ابن عمر أصحّ ، وبداءته بالروم قبل الدّيلم لثلاثة أوجه :

أحدها ـ أنهم أهل الكتاب ، فالحجة عليهم أكثر وآكد.

والثاني ـ أنهم إلينا أقرب ، أعنى أهل المدينة.

الثالث ـ أن بلاد الأنبياء في بلادهم أكثر ، فاستنقاذها منهم أوجب.

الآية التاسعة والأربعون ـ قوله تعالى (٦) : (وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ).

قد قدّمنا القول في زيادة الإيمان ونقصانه بما يغنى عن إعادته ، واستيفاؤه في كتب الأصول.

__________________

(١) آية ١٢٣.

(٢) آية ٢٩.

(٣) آية ٥.

(٤) آية ٣٦.

(٥) آية ١٢٣

(٦) آية ١٢٤

٥١١

الآية الموفية خمسين ـ قوله تعالى (١) : (وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ هَلْ يَراكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ).

فيها ثلاث مسائل :

المسألة الأولى ـ قوله : (نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ) : فيه قولان :

أحدهما ـ إذا أنزلت سورة فيها فضيحتهم ، أو فضيحة أحد منهم جعل ينظر بعضهم إلى بعض ، يقول : هل يراكم من أحد إذا تكلّمتم بهذا فينقله إلى محمد؟ وذلك جهل منهم بنبوّته ، وأنّ الله يطلعه على ما شاء من غيبه.

الثاني ـ إذا أنزلت سورة فيها الأمر بالقتال نظر بعضهم إلى بعض نظر الرّعب ، وأرادوا القيام عنه ، لئلا يسمعوا ذلك ، يقولون : هل يراكم إذا انصرفتم من أحد؟ ثم يقومون وينصرفون ، صرف الله قلوبهم.

المسألة الثانية ـ قال ابن عباس : يكره أن يقال انصرفنا من الصلاة ؛ لأنّ قوما انصرفوا فصرف الله قلوبهم ولكن قولوا قضينا الصلاة.

وهذا كلام فيه نظر ، وما أظنّه يصحّ عنه ؛ فإن نظام الكلام أن يقال : لا يقل أحد انصرفنا من الصلاة ، فإنّ قوما قيل فيهم : ثم انصرفوا صرف الله قلوبهم ، فإنّ ذلك كان مقولا فيهم ، ولم يكن منهم.

وقد أخبرنى محمد بن عبد الحكم البستي الواعظ ؛ قال : أخبرنا أبو الفضل الجوهري سماعا عليه ، يقول : كنّا في جنازة ، فقال المنذر بها : انصرفوا رحمكم الله فقال : لا يقل أحدكم انصرفوا ؛ فإن الله تعالى قال في قوم ذمّهم : (ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللهُ قُلُوبَهُمْ) ، ولكن قولوا : انقلبوا رحمكم الله ؛ فإن الله تعالى قال في قوم مدحهم (٢) : (فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ).

المسألة الثالثة ـ قوله : (صَرَفَ اللهُ قُلُوبَهُمْ) إخبار عن أنه صارف القلوب ومصرّفها وقالبها ومقلّبها ردّا على القدرية في اعتقادهم أن قلوب الخلق بأيديهم وجوارحهم بحكمهم ،

__________________

(١) آية ١٢٧.

(٢) سورة آل عمران ، آية ١٧٤

٥١٢

يتصرّفون بمشيئتهم ، ويحكمون بإرادتهم ، واختيارهم ؛ ولهذا قال مالك ـ فيما رواه عنه أشهب : ما أبين هذا في الرد على أهل القدر (١) : (لا يَزالُ بُنْيانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ) (٢). وقوله تعالى لنوح (٣) : (أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ) ؛ فهذا لا يكون أبدا ولا يرجع ولا يزال.

الآية الحادية والخمسون ـ قوله تعالى (٤) : (لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ).

فيها تسع مسائل :

المسألة الأولى ـ في ثبوتها :

اعلموا ـ وفّقكم الله ـ أن هذه مسألة عظيمة القدر ، وذلك أنّ الرافضة كادت الإسلام بآيات وحروف نسبتها إلى القرآن لا يخفى على ذي بصيرة أنها من البهتان الذي نزغ به الشيطان ، وادّعوا أنهم نقلوها وأظهروها حين كتمناها حن ، وقالوا : إن الواحد يكفى في نقل الآية والحروف كما فعلتم ، فإنكم أثبتم آية بقول رجل واحد ، وهو خزيمة بن ثابت ، وهي قوله (لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ) ؛ وقوله (٥) (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ).

قلنا : إن القرآن لا يثبت إلّا بنقل التواتر ، بخلاف السنة فإنّها تثبت بنقل الآحاد. والمعنى فيه أنّ القرآن معجزة النبىّ صلى الله عليه وسلم ، الشاهدة بصدقه ، الدالة على نبوته ، فأبقاها الله على أمته ، وتولّى حفظها بفضله ، حتى لا يزاد فيها ولا ينقض منها. والمعجزات إما أن تكون معاينة إن كانت فعلا ، وإما أن تثبت تواترا إن كانت قولا ؛ ليقع العلم بها ، أو تنقل صورة الفعل فيها أيضا نقلا متواترا حتى يقع العلم بها ، كأنّ السامع لها قد شاهدها ، حتى تنبنى الرسالة على أمر مقطوع به ، بخلاف السنة ؛ فإنّ الأحكام يعمل فيها على خبر الواحد ؛ إذ ليس فيها معنى أكثر من التعبّد.

__________________

(١) في القرطبي : على القدرية.

(٢) آية ١١٠.

(٣) سورة هود ، آية ٣٦.

(٤) آية ١٢٨.

(٥) سورة الأحزاب ، آية ٢٣

٥١٣

وقد كان النبىّ صلى الله عليه وسلم يرسل كتبه مع الواحد ، ويأمر الواحد أيضا بتبليغ كلامه ، ويبعث الأمراء إلى البلاد وعلى السرايا ؛ وذلك لأنّ الأمر لو وقف فيها على التواتر لما حصل علم ، ولا تمّ حكم ، وقد بينا ذلك في أصول الفقه والدين.

المسألة الثانية ـ فيما روى فيها :

ثبت أن زيد بن ثابت قال : أرسل إلىّ أبو بكر الصديق مقتل أهل اليمامة ، فإذا عمر بن الخطاب عنده ، فقال : إنّ القتال قد استحرّ (١) بقرّاء القرآن يوم اليمامة ، وإنى أخشى أن يستحرّ القتل بالقرّاء في المواطن كلها ، فيذهب قرآن كثير ، وإنى أرى أن تجمع القرآن.

قال أبو بكر لعمر : كيف أفعل شيئا لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال عمر : هو والله خير ، فلم يزل يراجعني في ذلك حتى شرح الله صدري للذي شرح له صدر عمر ، ورأيت فيه الذي رأى.

قال زيد : قال أبو بكر : إنك شابّ عاقل لا نتّهمك ، قد كنت تكتب الوحى لرسول الله ؛ فتتبّع القرآن. قال : فو الله لو كلّفونى نقل جبل من الجبال ما كان أثقل علىّ من ذلك.

قلت : كيف تفعلون شيئا لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال أبو بكر : هو والله خير. فلم يزل يراجعني في ذلك أبو بكر حتى شرح الله صدري للذي شرح له صدر أبى بكر وعمر. فتتبّعت القرآن أجمعه من الرقاع والعسب ، وذكر كلمة مشكلة تركناها.

قال زيد : فوجدت آخر براءة مع خزيمة بن ثابت : (لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ ...) إلى : (الْعَظِيمِ). انتهى الحديث.

فبقيت الصحف عند أبي بكر ، ثم تناوما بعده عمر ، ثم صارت عند حفصة رضى الله عنهم ، فلما كان زمن عثمان حسبما ثبت في الصحيح قدم حذيفة بن اليمان على عثمان ، وكان يغازى أهل الشام في فتح أرمينية وأذربيجان مع أهل العراق ، فرأى حذيفة اختلافهم في القرآن ، فقال لعثمان بن عفان : يا أمير المؤمنين ، أدرك هذه الأمة قبل أن يختلفوا في الكتاب ، كما اختلف اليهود والنصارى.

__________________

(١) استحر القتل : اشتد.

٥١٤

فأرسل إلى حفصة أن أرسلى إلينا بالصحف فننسخها في المصاحف ، ثم نردّها إليك.

فأرسلت حفصة إلى عثمان بالصحف ، فأرسل عثمان إلى زيد بن ثابت ، وسعيد بن العاصي ، وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام ، وعبد الله بن الزبير ـ أن انسخوا الصحف في المصاحف. وقال للرهط القرشيين الثلاثة : إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت فاكتبوه بلسان قريش ؛ فإنما نزل بلسانهم ، حتى إذا نسخوا الصحف في المصاحف بعث عثمان إلى كل أفق بمصحف من تلك المصاحف التي نسخوا.

قال الزهري : وحدثني خارجة بن زيد بن ثابت أن زيد بن ثابت قال : فقدت آية من سورة كنت أسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرؤها (١) : (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ) ، فالتمستها فوجدتها مع خزيمة بن ثابت أو أبى خزيمة ، فألحقتها في سورتها.

قال الزهري : فاختلفوا يومئذ في التابوت والتابوه ، فقال القرشيون : التابوت. وقال زيد التابوه. فرفع اختلافهم إلى عثمان فقال : اكتبوه التابوت. فإنه نزل بلسان قريش.

قال الزهري : فأخبرنى عبد الله بن عبد الله بن عتبة أنّ عبد الله بن مسعود كره لزيد ابن ثابت نسخ المصاحف ، وقال : يا معشر المسلمين ؛ أعزل عن نسخ كتابة المصاحف ، ويتولّاها رجل ؛ والله لقد أسلمت وإنه لفي صلب رجل كافر ـ يريد زيد بن ثابت. ولذلك قال عبد الله بن مسعود : يأهل القرآن ، اكتموا المصاحف التي عندكم وغلوها ؛ فإنّ الله يقول (٢) : (وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ) ، فالقوا الله بالمصاحف.

قال الزهري : فبلغني أن ذلك كرهه من مقالة ابن مسعود رجال من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهذا حديث صحيح لا يعرف إلا من حديث الزهري.

المسألة الثالثة ـ إذا ثبت هذا فقد تبيّن في أثناء الحديث أنّ هاتين الآيتين في براءة وآية (٣) الأحزاب لم تثبت بواحد ، وإنما كانت منسيّة ، فلما ذكرها من ذكرها أو تذكّرها من

__________________

(١) سورة الأحزاب ، آية ٢٣.

(٢) آل عمران ، آية ١٦١

(٣) هي التي ذكرت سابقا : رجال صدقوا ...

٥١٥

تذكرها عرفها الخلق ، كالرجل تنساه فإذا رأيت وجهه عرفته ، أو تنسى اسمه وتراه ، ولا يجتمع لك العين والاسم ، فإذا انتسب عرفته.

المسألة الرابعة ـ من غريب المعاني أنّ القاضي أبا بكر بن الطيب سيف السنة ولسان الأمة تكلّم بجهالات على هذا الحديث ، لا تشبه منصبه ، فانتصبنا لها لنوقفكم على الحقيقة فيها : أولها ـ قال القاضي أبو الطيب : هذا حديث مضطرب ، وذكر اختلاف روايات فيه ، منها صحيحة ومنها باطلة ؛ فأما الروايات الباطلة فلا نشتغل بها ، وأما الصحيحة فمنها أنه قال : روى أن هذا جرى في عهد أبى بكر. وفي رواية أنه جرى في عهد عثمان ، وبين التاريخين كثير من المدة ؛ وكيف يصح أن نقول هذا كان في عهد أبى بكر ، ثم نقول : كان هذا في عهد عثمان ؛ ولو اختلف تاريخ الحديث في يوم من أوله وآخره لوجب ردّه ، فكيف أن يختلف بين هاتين المدتين الطويلتين؟

قال القاضي أبو بكر بن العربي : يقال للسيف هذه كهمة (١) من طول الضّراب ، هذا أمر لم يخف وجه الحق فيه ، إنما جمع زيد القرآن مرتين : إحداهما لأبى بكر في زمانه ، والثانية لعثمان في زمانه ، وكان هذا في مرتين لسببين ولمعنيين مختلفين ، أما الأول فكان لئلا يذهب القرآن بذهاب القراء ، كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه يذهب العلم في آخر الزمان بذهاب العلماء ، فلما تحصّل مكتوبا صار عدة لما يتوقع عليه. وأما جمعه في زمان عثمان فكان لأجل الاختلاف الواقع بين الناس في القراءة ، فجمع في المصاحف ليرسل إلى الآفاق ، حتى يرفع الاختلاف الواقع بين الناس في زمن عثمان.

ثانيها ـ قال ابن الطيب : من اضطراب هذا الحديث أنّ زيدا تارة قال : وجدت هؤلاء الآيات الساقطة ، وتارة لم يذكره ، وتارة ذكر قصة براءة ، وتارة قصة الأحزاب أيضا بعينها.

قال القاضي ابن العربي : يقال للسان هذه عثرة ، وما الذي يمنع عقلا أو عادة أن يكون عند الراوي حديث مفصّل يذكر جميعه مرة ، ويذكر أكثره أخرى ، ويذكر أقله ثالثة؟ ثالثها ـ قال ابن الطيب : يشبه أن يكون هذا الخبر موضوعا ؛ لأنه قال فيه : إن زيدا وجد

__________________

(١) سيف كهام : كليل.

٥١٦

الضائع من القرآن عند رجلين. وهذا بعيد أن يكون الله قد وكل حفظ ما سقط وذهب عن الأجلّة الأماثل من القرآن برجلين : خزيمة ، وأبى خزيمة.

قال القاضي : قد بينا أنه يجوز أن ينسى الرجل الشيء ثم يذكره له آخر ، فيعود علمه إليه. وليس في نسيان الصحابة كلّهم له إلا رجل واحد استحالة عقلا ؛ لأنّ ذلك جائز ؛ ولا شرعا ؛ لأنّ الله ضمن حفظه ، ومن حفظه البديع أن تذهب منه آية أو سورة إلا عن واحد ، فيذكرها ذلك الواحد ، فيتذكّرها الجميع ؛ فيكون ذلك من بديع حفظ الله لها.

قال القاضي ابن العربي : ويقال له أيضا : هذا حديث صحيح متّفق عليه من الأئمة ، فكيف تدّعى عليه الوضع ، وقد رواه العدل عن العدل ، وتدعى فيه الاضطراب ، وهو في سلك الصواب منتظم ، وتقول أخرى : إنه من أخبار الآحاد ، وما الذي تضمن من الاستحالة أو الجهالة حتى يعاب بأنه خبر واحد.

وأما ما ذكرته في معارضته عن بعض رواته أو عن رأى فهو المضطرب الموضوع الذي لم لم يروه أحد من الأئمة ، فكيف يعارض الأحاديث الصحاح بالضعاف والثقات بالموضوعات؟ المسألة الخامسة ـ فإن قيل : فما كانت هذه المراجعة بين الصحابة؟

قلنا : هذا مما لا سبيل إلى معرفته إلا بالرواية ، وقد عدمت ، لا همّ إلا أنّ القاضي أبا بكر قد ذكر في ذلك وجوها ، أجودها خمسة :

الأول ـ أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ترك ذلك مصلحة ، وفعله أبو بكر للحاجة الثاني ـ أنّ الله أخبر أنه في الصحف الأولى ، وأنه عند محمد في مثلها بقوله (١) : (يَتْلُوا صُحُفاً مُطَهَّرَةً. فِيها كُتُبٌ قَيِّمَةٌ) ؛ فهذا اقتداء بالله وبرسوله.

الثالث ـ أنهم قصدوا بذلك تحقيق قول الله (٢) : (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) ؛ فقد كان عنده محفوظا ، وأخبرنا أنه يحفظه بعد نزوله ، ومن حفظه تيسير الصحابة لجمعه ، واتفاقهم على تقييده وضبطه.

الرابع ـ أنّ النبىّ صلى الله عليه وسلم كان يكتبه كتبته بإملائه إياه عليهم ، وهل يخفى

__________________

(١) سورة البينة ، آية ٢ ، ٣.

(٢) سورة الحجر ، آية ٩

٥١٧

على متصوّر معنى صحيحا في قلمه أنّ ذلك كان تنبيها على كتبه وضبطه بالتقييد في الصحف ، ولو كان ما ضمنه الله من حفظه لا عمل للأمة فيه لم يكتبه رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد إخبار الله له بضمان حفظه ، ولكن علم أنّ حفظه من الله بحفظنا وتيسيره ذلك لنا وتعليمه لكتابته وضبطه في الصحف بيننا.

الخامس ـ أنه ثبت أنّ النبىّ صلى الله عليه وسلم نهى عن السفر بالقرآن إلى أرض العدو ؛ وهذا تنبيه على أنه بين الأمة مكتوب مستصحب في الأسفار ، وهذا من أبين الوجوه عند النظار.

المسألة السادسة ـ فأمّا كتابة عثمان للمصاحف التي أرسلت إلى الكوفة والشام والحجاز فإنما كان ذلك لأجل اختلاف الناس في القراءات ، فأراد ضبط الأمر لئلا ينتشر إلى حد التفرق والاختلاف في القرآن ، كما اختلف أهل الكتاب في كتبهم ، وكان جمع أبى بكر له لئلا يذهب أصله ؛ فكانا أمرين مختلفين لسببين متباينين. وقد كان وقع مثل هذا الاختلاف في زمان النبي صلى الله عليه وسلم بين هشام بن حكيم بن حزام وبين عمر بن الخطاب ، فاختلفوا في القراءة في سورة الفرقان ، فاحتمل عمر هشاما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حملا ، حتى قرأ كلّ واحد منهما ما قرأ بخلاف قراءة صاحبه ، فصوّب النبىّ صلى الله عليه وسلم الكل ، وأنبأهم أنه ليس باختلاف ؛ إذ الكلّ من عند الله ، بأمره نزل ، وبفضله توسّع في حروفه حتى جعلها سبعة ؛ فاختار عثمان والصحابة من تلك الحروف ما رأوه ظاهرا مشهورا متّفقا عليه مذكورا ، وجمعوه في مصاحف ، وجعلت أمهات في البلدان ترجع إليها بنات الخلاف.

المسألة السابعة ـ فأما حال عبد الله بن مسعود وإنكاره على زيد أن يتولّى كتب المصاحف ، وهو أقدم قراءة. قلنا : يا معشر الطالبين للعلم ، ما نقم قطّ على عثمان شيء إلا خرج منه كالشهاب ، وأنبأ أنه أتاه بعلم ، وقد بينا ذلك في كتاب المقسط ، وعند قول ابن مسعود ما قال وبلغ عثمان :

قال عثمان : من يعذرني من ابن مسعود ، يدعو الناس إلى الخلاف والشبهة ، ويغضب

٥١٨

علىّ أن لم أوله نسخ القرآن ، وقدمت زيدا عليه ، فهلا غضب على أبى بكر وعمر حين قدما زيدا لكتابته وتركاه ، إنما اتبعت أنا أمرهما ، فما بقي أحد من الصحابة إلا حسّن قول عثمان وعاب ابن مسعود.

وهذا بيّن جدا ، وقد أبى الله أن يبقى لابن مسعود في ذلك أثرا ، على أنه قد روى عنه أنه رجع عن ذلك وراجع أصحابه في الاتباع لمصحف عثمان ، والقراءة به.

المسألة الثامنة ـ فأما سبب اختلاف القرّاء بعد ربط الأمر بالثبات وضبط القرآن بالتقييد.

قلنا : إنما كان ذلك للتوسعة التي أذن الله فيها ، ورحم بها من قراءة القرآن على سبعة أحرف ؛ فأقرأ النبىّ صلى الله عليه وسلم بها ، وأخذ كلّ صاحب من أصحابه حرفا أو جملة منها. وقد بيناه في تفسير الحديث تارة في جزء مفرد ، وتارة في شرح الصحيحين ، ولا شكّ في أنّ الاختلاف في القراءة كان أكثر مما في ألسنة الناس اليوم ، ولكن الصحابة ضبطت الأمر إلى حدّ يقيد مكتوبا ، وخرج ما بعده عن أن يكون معلوما ، حتى أنّ ما تحتمله الحروف المقيدة في القرآن قد خرج أكثره عن أن يكون معلوما ، وقد انحصر الأمر إلى ما نقله القراء السبعة بالأمصار الخمسة.

وقد روى أنّ عثمان أرسل ثلاثة مصاحف ، وروى أنه احتبس مصحفا ، وأرسل إلى الشام والعراق واليمن ثلاثة مصاحف ، وروى أنه أرسل أربعة إلى الشام والحجاز والكوفة والبصرة.

وروى أنه كانت سبعة مصاحف ، فبعث مصحفا إلى مكة ، وإلى الكوفة آخر ، ومصحفا إلى البصرة ، ومصحفا إلى الشام ، ومصحفا إلى اليمن ، ومصحفا إلى البحرين ، ومصحفا عنده. فأما مصحف اليمن والبحرين فلم يسمع لهما حبر.

قال القاضي : وهذه المصاحف إنما كانت تذكرة لئلا يضيع القرآن ، فأما القراءة فإنما أخذت بالرواية لا من المصاحف ، أما إنهم كانوا إذا اختلفوا رجعوا إليها فما كان فيها عوّلوا عليه ، ولذلك اختلفت المصاحف بالزيادة والنقصان ، فإن الصحابة أثبتت ذلك في بعض المصاحف ، وأسقطته في البعض ، ليحفظ القرآن على الأمّة ، وتجتمع أشتات الرواية ،

٥١٩

ويتبيّن وجه الرخصة والتوسعة ، فانتهت الزيادة والنقصان إلى أربعين حرفا في هذه المصاحف ، وقد زيدت عليها أحرف يسيرة لم يقرأ بها أحد من القراء المشهورين تركت ؛ فهذا منتهى الحاضر من القول الذي يحتمله الفنّ الذي تصدينا له من الأحكام.

المسألة التاسعة ـ إذا ثبتت القراءات ، وتقيّدت الحروف فليس يلزم أحدا أن يقرأ بقراءة شخص واحد ، كنافع مثلا ، أو عاصم ؛ بل يجوز له أن يقرأ الفاتحة فيتلو حروفها على ثلاث قراءات مختلفات ؛ لأنّ الكلّ قرآن ، ولا يلزم جمعه ؛ إذ لم ينظمه الباري لرسوله ، ولا قام دليل على التعبّد به ؛ وإنما لزم الخلق بالدليل ألا يتعدوا الثابت إلى ما لم يثبت ، فأما تعيين الثابت في التلاوة فمسترسل على الثابت كله. والله أعلم.

٥٢٠