أحكام القرآن - ج ٢

أبي بكر محمّد بن عبدالله [ ابن العربي ]

أحكام القرآن - ج ٢

المؤلف:

أبي بكر محمّد بن عبدالله [ ابن العربي ]


المحقق: علي محمّد البجاوي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الجيل
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٢٢

أحدهما ـ أنهم المحلّون ؛ قاله مالك.

الثاني ـ أنهم المحرمون ؛ قاله ابن عباس وغيره ، وتعلّق من عمّم بأن قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) مطلق في الجميع.

وتعلق من خصّ بأن قوله : (لَيَبْلُوَنَّكُمُ) يقتضى أنهم المحرمون ؛ فإن تكليف الامتناع الذي يتحقق به الابتلاء هو مع الإحرام.

وهذا لا يلزم ؛ لأنّ قوله : ليبلونّكم ، الذي يقتضى التكليف يتحقق في المحلّ بما شرط له من أمور الصيد ، وما شرع له من وظيفة (١) في كيفية الاصطياد ، والتكليف كلّه ابتلاء وإن تفاضل في الكثرة والقلة ، وتباين في الضعف والشدة.

المسألة الرابعة ـ قال قوم : الأصل في الصّيد التحريم ، والإباحة فرعه المرتّب عليه ، وهذا ينعكس فيقال : الأصل في الصيد الإباحة والتحريم فرعه المرتّب عليه ، ولا دليل يرجّح أحد القولين به.

ونحن نقول : لا أصل في شيء إلا ما أصله الشرع بتبيان حكمه وإيضاح الدليل عليه من حلّ أو تحريم ، ووجوب أو ندب أو كراهية ، وقد بينّا هذا في مسألة الأكل لما أكله الكلب من الصيد ، حتى قيل الأصل في الصيد التحريم. وإذا أكل الكلب من الصيد فهو مشكوك فيه. وقلنا : إنّ الأصل في الصيد الإباحة فلا يحرّمه أكل الكلب منه إلا بدليل. ثم ذكرنا التعارض فيه والانفصال عنه ، فلينظر في موضعه.

المسألة الخامسة ـ قوله تعالى : (تَنالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِماحُكُمْ) بيان لحكم صغار الصيد وكباره.

قال ابن وهب : قال مالك : قال الله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِماحُكُمْ) ؛ فكل شيء يناله الإنسان بيده ، أو برمحه ـ أو بشيء من سلاحه فقتله ، فهو صيد ، كما قال الله تعالى (٢) : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ) ، وهذا بيان شاف.

__________________

(١) في القرطبي : من وصفه.

(٢) سورة المائدة ، آية ٩٥

١٤١

المسألة السادسة ـ قال مالك : لا يحلّ صيد الذمّىّ بناء على أنّ الله خاطب المؤمنين المحلّين في أول الآية ، فخرج عنهم أهل الذمة ، لاختصاص المخاطبين بالإيمان ، فيقتضى ذلك اقتصاره عليهم إلا بدليل يقتضى التعميم.

وليس هذا من باب دليل الخطاب الذي هو تعليق الحكم بأحد وصفي الشيء ، ليدلّ على أنّ الآخر بخلافه ، ولكنه من باب أنّ أحد الوصفين منطوق به ، مبيّن حكمه ، والثاني مسكوت عنه ، وليس في معنى ما نطق به.

فإن قيل : إن كان مسكونا عنه فحمله عليه بدليل قوله تعالى (١) : (وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ ، وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ).

قلنا : هذا يدلّ على جواز أكل طعامهم. والصيد باب آخر ؛ فلا يدخل في عموم ذكر الطعام ، ولا يتناوله مطلق لفظه.

فإن قيل : نقيسه عليه ؛ فإنه نوع ذكاة ، فجاز من الذمي كذبح الإنسى.

قلنا : للمقدور عليه مما يذكّى شروط ، ولما لا يقدر عليه شروط أخر ؛ ولكل واحد منهما موضوع وضع عليه ، ومنصب جعل عليه ، ولا يجوز الإلحاق فيما اختلف موضوعه في الأصل ؛ وهذا فنّ من أصول الفقه بيناه في موضعه.

المسألة السابعة ـ أمّا صيد المجوسىّ فإنه لا يؤكل إجماعا ؛ لأنّ الصّيد الواقع منه داخل تحت قوله تعالى (٢) : (وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ) ؛ والمجوسىّ إنما يزعم أنه يأكل ويشرب ، ويتحرّك ويسكن ، ويفعل جميع أفعاله لغير الله سبحانه. وقال النبي صلى الله عليه وسلم (٣) : إذا ذكرت اسم الله على كلبك المعلّم فكل.

فإن قيل : فالذمىّ لا يذكر اسم الله ويؤكل صيده.

قلنا : لا يؤكل صيد الذمي في أحد القولين فيسقط عنا (٤) هذا الالتزام. وإن قلنا : إنه يؤكل فلمطلق قوله تعالى (٥) : (وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ) على أحد الأدلة(٦) ، وعلى الدليل الثاني نأكله لأنهم لم يخاطبوا بفروع الشريعة. وعلى الدليل الثالث يكون

__________________

(١) سورة المائدة ، آية ٥.

(٢) سورة الأنعام ، آية ١٢١.

(٣) صحيح مسلم : ١٥٣٢

(٤) في ل : عندنا.

(٥) سورة المائدة ، آية ٥.

(٦) في ل : أحد القولين.

١٤٢

كمتروك التسمية عمدا على أحد القولين. وهذا كلّه متردّد على الآيات بحكم التعارض فيها.

والصحيح عندي جواز أكل صيده ، وأنّ الخطاب في الآية لجميع الناس محلّهم ومحرمهم ؛ ولأجل هذا قال قاضى القضاة ابن حبيب : إن معنى قوله : ليبلونّكم ، ليكلفنكم. ثم بيّن التكليف بعده فقال ؛ وهي :

الآية السادسة والعشرون ـ قوله تعالى (١) : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعامُ مَساكِينَ أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِياماً لِيَذُوقَ وَبالَ أَمْرِهِ عَفَا اللهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللهُ مِنْهُ وَاللهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ).

فيها ثمان وثلاثون مسألة :

المسألة الأولى ـ في سبب نزولها ، وقد تقدم (٢).

المسألة الثانية ـ في قوله : (لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ) :

والقتل : كلّ فعل يفيت الروح ، وهو أنواع : منها الذّبح والنّحر ، والخنق والرضخ وشبهه ؛ فحرّم الله تعالى على المحرم في الصيد كلّ فعل يكون مفيتا للروح ، وحرّم في الآية الأخرى نفس الاصطياد ؛ فقال (٣) : (وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُماً) ؛ فاقتضى ذلك تحريم كل فعل يتعلق بعين الصيد ؛ لأنّ التحريم ليس بصفة للأعيان والذوات ، وإنما هو عبارة عن تعلّق خطاب الشارع (٤) بالأعيان ، فالمحرم (٥) هو المقول فيه : لا تقربوه ، والواجب هو المقول فيه : لا تتركوه ، كما بيّناه في أصول الفقه.

المسألة الثالثة ـ لما نهى الله سبحانه المحرم عن قتل الصيد على كل وجه وقع عاما. قال علماؤنا : لا يجوز ذبح المحرم للصيد على وجه التذكية ؛ وبه قال أبو حنيفة.

وقال الشافعى : ذبح المحرم للصيد ذكاة ؛ وتعلّق بأنه ذبح صدر من أهله ، وهو المسلم ، مضافا إلى محله وهو الأنعام ، فأفاد مقصوده من حلّ الأكل من أصله ذبح الحلال.

__________________

(١) الآية الخامسة والتسعون.

(٢) في صفحة ٦٥٦

(٣) الآية السادسة والتسعون من المائدة ، وستأتى صفحة ٦٧٧

(٤) في ل : الشرع.

(٥) في ل : فالتحريم.

١٤٣

والجواب أن هذا بناء على دعوى ؛ فإنّ المحرم ليس بأهل لذبح الصيد ؛ إذ الأهلية لا تستفاد عقلا ، وإنما يفيدها الشرع ، وذلك بإذنه في الذبح ؛ أو ينفيها الشرع أيضا ؛ وذلك بنهيه عن الذبح. والمحرم منهىّ عن ذبح الصيد بقوله تعالى : (لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ) ؛ فقد انتفت الأهلية بالنهى.

وأما قولهم : فأفاد مقصوده ، فقد اتفقنا على أن المحرم إذا ذبح الصيد لا يحلّ له أكله (١) ؛ وإنما يأكل منه عندهم غيره ، فإذا كان الذبح لا يفيد الحلّ للذابح فأولى وأحرى ألّا يفيده لغيره ؛ لأنّ الفرع تبع للأصل في أحكامه ، فلا يصحّ أن يثبت له ما لا يثبت لأصله.

وإذا بطل منزع الشافعىّ ومأخذه فقد اعتمد علماؤنا سوى ما تقدّم ذكره على أنه ذبح محرّم لحقّ الله تعالى لمعنى في الذابح ، فلا يجوز كذبح المجوسي ، وهذا صحيح. فإن الذي قال (٢) : (وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ) هو القائل : (لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ). والأوّل نهى عن المقصود بالسبب ؛ فدلّ على عدم السبب. والثاني نهى عن السبب ، فدلّ على عدمه شرعا ، فلا يفيد مقصوده حكما ، وهذا من نفيس الأصول فتأمّلوه.

وقول علمائنا : لمعنى في الذابح فيه احتراز من السكين المغصوبة (٣) والكالّة وملك الغير ، فإن كلّ ذلك من التذكية منهىّ عنه ، ولكنه لما لم يكن لمعنى في الذابح ولا في المذبوح لم يحرّم.

المسألة الرابعة ـ لما قال الله تعالى : (لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ) ؛ فجعل القتل منافيا للتذكية خارجا عن حكم الذبح للأكل ـ قال علماؤنا : إذا قال : لله علىّ أن أقتل ولدي فهو عاص ، ولا شيء عليه. وإذا قال : لله علىّ أن أذبح ولدي فإنه يفتديه بشاة على تفصيل بيانه في مسائل الخلاف ، وسيأتى إن شاء الله تعالى في سورة الصافات بيانه.

__________________

(١) في ل : لا يحل له أن يأكل منه عندهم.

(٢) سورة الأنعام ، آية ١٢١.

(٣) في ل : المعضوبة.

١٤٤

والمقدار المتعلق منه هاهنا بهذا الموضع أنّ القتل ليس من أنواع التذكية بمطلقه ولا الخنق ، ولا يعدّ من باب الذبح أو النحر اللذين شرعا في الحيوان المأكول لتطييبه.

المسألة الخامسة ـ لما قال الله تعالى : (لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ) جرى عمومه على كلّ صيد برّى وبحرى ، حتى جاء قوله تعالى : (وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُماً) ؛ فأباح صيد البحر إباحة مطلقة ، وحرّم صيد البرّ على المحرمين ؛ فصار هذا التقسيم والتنويع دليلا على خروج صيد البحر من النهى.

المسألة السادسة ـ قوله تعالى : (وَأَنْتُمْ حُرُمٌ) عامّ في التحريم بالزمان ، وفي التحريم بالمكان ، وفي التحريم بحالة الإحرام ، إلا أن تحريم الزمان خرج بالإجماع عن أن يكون معتبرا ، وبقي تحريم المكان وحالة الإحرام على أصل التكليف.

المسألة السابعة ـ قوله تعالى : (لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ) عامّ في كل صيد كان ، مأكولا أو غير مأكول ، سبعا أو غير سبع ، ضاريا أو غير ضار ، صائلا أو ساكنا ؛ بيد أن العلماء اختلفوا في خروج السباع عنه وتخصيصه منها (١) ؛ فقال علماؤنا : يجوز للمحرم قتل السباع العادية المبتدئة بالمضرّة كالأسد والنمر والذئب والفهد والكلب العقور وما في معناها ، ومن الطير كالغراب والحدأة ؛ ولا جزاء عليه فيه.

وقال أبو حنيفة بقولنا في الكلب العقور والذئب والغراب والحدأة ، وخالفنا في السبع والفهد والنمر وغيرها من السباع ، فأوجب على المحرم الجزاء بقتلها.

وقال الشافعى : كلّ ما لا يؤكل لحمه فلا جزاء فيه إلا السّمع وهو المتولّد بين الذئب والضبع.

ودليلنا قوله صلى الله عليه وسلم : خمس ليس على المحرم في قتلهنّ جناح. وفي رواية: يقتلن في الحلّ والحرم : الحدأة والغراب والعقرب والفأرة والكلب العقور. وفي رواية : الحية والكلب العقور ، خرّجه الأئمة بأجمعهم. وفيه الغراب الأبقع ؛ خرّجه مسلم (٢) ، وفيه السبع العادي ، خرّجه أبو داود والترمذي ، وهذا تنبيه على العلّة وعلى الأجناس.

__________________

(١) في ل : فيها.

(٢) صحيح مسلم : ٨٥٨

١٤٥

أما العلّة فهي الفسق (١) بالإذاية ، وأما الأجناس فنبّه بكل مذكور على نوع من الجنس وذكر الكلب العقور ، وذلك مما يدخل تحته بعلة العقر الفهد والنمر والسبع ، ولا سيما بالنص عليه من طريق السجزى والترمذي.

والعجب من أبى حنيفة في أن يحمل التراب على البرّ بعلّة الكيل ، ولا يحمل السباع العادية على الكلب العقور بعلّة الفسق والعقر.

وأما الشافعىّ فإذا قلنا بأن لحمها لا يؤكل فهي معقورة لا جزاء فيها ؛ لأن ما لا يؤكل لحمه لا جزاء فيه كالخنزير.

وأما إن قلنا : إنها تؤكل ففيها الجزاء لأنها صيد مأكول.

وسيأتى القول في أكلها في سورة الأنعام إن شاء الله تعالى.

وتعلّق أبو حنيفة بأنه صيد تتناوله الآية بالنّهى والجزاء بعد ارتكاب النهى ؛ والدليل على أنه صيد أنه يقصد لأجل جلده ، والجلد مقصود في المالية ، كما أن اللحم مقصود في الأكل.

قلنا : لا تسمّى العرب صيدا إلّا ما يؤكل لحمه.

فإن قيل : بل كانت الحيوانات كلها عند العرب صيدا.

فإنها كانت تأكل كلّ ما دبّ ودرج ، ثم جاء الشرع بالتحريم ، فغيّر الشرع الأحكام دون الأسماء.

قلنا : هذا جهل عظيم ، إن الصيد لا يعرف إلا فيما يؤكل. وقولهم : إن الشرع غيّر الأحكام دون الأسماء ـ باطل ؛ لأنّ الأحكام تابعة للأسماء ، وقد روى ابن أبى عمار (٢) أنه قال لجابر بن عبد الله : الضبع أصيد هي؟ قال : نعم. قال : فيها جزاء؟ قال : نعم ، كبش.

وهذا يدلّ على أنه سأله عن جواز أكلها ، وبعد ذلك سأله عن جزائها.

المسألة الثامنة ـ قوله تعالى : (وَأَنْتُمْ حُرُمٌ) عامّ في الرجال والنساء ، لقوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا). ولقوله : (وَأَنْتُمْ حُرُمٌ). وقوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) : علم في النوعين.

__________________

(١) في ا : الفسيق! والفسوق : الخروج عن الاستقامة والجور. وإنما سميت هذه الحيوانات فواسق على الاستعارة لخبثهن. وقيل لخروجهن من الحرمة في الحل والحرم ؛ أى لا حرمة لهن بحال (النهاية).

(٢) في ل : ابن أبى عامر.

١٤٦

وقوله : (وَأَنْتُمْ حُرُمٌ) ، يقال : رجل حرام وامرأة حرام ، وجمع ذلك حرم ، كقولنا : قذال وقذل (١). وكذلك يدخل في عمومه الأحرار والعبيد ، وهي :

المسألة التاسعة ـ وقد بينا هذه المعاني في كتب الأصول.

المسألة العاشرة ـ قوله تعالى : (وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً) فذكر الله سبحانه وتعالى المتعمّد في وجوب الجزاء خاصة ، وفي ذلك ثلاثة أقسام : متعمّد ، ومخطئ ، وناس ؛ فالمتعمّد هو القاصد للصيد مع العلم بالإحرام ، والمخطئ هو الذي يقصد شيئا فيصيب صيدا. والناسي هو الذي يتعمّد الصيد ولا يذكر إحرامه.

واختلف الناس في ذلك على ثلاثة أقوال (٢) :

الأول ـ أنه يحكم عليه في العمد والخطأ والنسيان ؛ قاله ابن عباس ، ويروى عن عمر وعطاء والحسن وإبراهيم النخعي والزهري.

الثاني ـ إذا قتله متعمّدا لقتله ، ناسيا لإحرامه ؛ فأما إذا كان ذاكرا لإحرامه فقد حلّ ولا حجّ له ، ومن أخطأ فذلك الذي يجزى.

الثالث ـ لا شيء على المخطئ والناسي ، وبه قال الطبري وأحمد بن حنبل في إحدى روايتيه.

واختلف الذين قالوا بعموم الكفّارة في توجيه ذلك على أربعة أقوال :

الأول ـ أنه ورد القرآن بالعمد ، وجعل الخطأ تغليظا ، قاله سعيد بن جبير.

والثاني ـ أنّ قوله : (مُتَعَمِّداً) خرج على الغالب ، فالحق به النادر ، كسائر أصول الشريعة.

الثالث ـ قال الزهرىّ : إنه وجب الجزاء في العمد بالقرآن ، وفي الخطأ والنسيان بالسّنة.

الرابع ـ أنه وجب بالقياس على قاتل الخطأ بعلّة أنها كفّارة إتلاف نفس ؛ فتعلّقت بالخطإ ، ككفّارة القتل ؛ وتعلق مجاهد بأنه أراد متعّمدا للقتل ناسيا لإحرامه ، لقوله بعد ذلك : (وَمَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللهُ مِنْهُ) ، ولو كان ذاكرا لإحرامه لوجبت عليه العقوبة لأول مرة.

__________________

(١) القذال ـ كسحاب : جماع مؤخر الرأس ، ومعقد العذار من الفرس خلف الناصية ، جمعه قذل وأقذلة (القاموس).

(٢) في القرطبي : على خمسة أقوال.

١٤٧

وتعلق أحمد في إحدى روايتيه ومن تابعه عليها بأنه خصّ المتعمد بالذكر ، فدلّ على أنّ غيره بخلافه ، وزاد بأن قال : الأصل براءة الذمة ، فمن ادّعى شغلها فعليه الدليل.

وأما متعلق من قال : وجب في النسيان تغليظا فدعوى تحتاج إلى دليل.

وأما من قال : إنه خرج على الغالب فحكمة الآية وفائدة التخصيص ما قالوه ، فأين دليله؟

وأما من قال : إنه وجب في النسيان بالسنة فإن كان يريد به الآثار التي وردت عن ابن عباس وابن عمر فنعمّا هي ، وما أحسنها أسوة (١)!

وأما من تعلق بالقياس على كفارة القتل فيصحّ ذلك للشافعي الذي يرى الكفارة في قتل الآدمي عمدا وخطأ ، فأما نحن ـ وقد عقدنا أصلنا على أن قتل العمد في الآدمي لا كفارة فيه ، وفي قتل الصيد عمدا الكفارة ـ فلا يصحّ ذلك منا لوجود المناقضة منا بالمخالفة فيه بينه وبينه عندنا.

والذي يتحقق من الآية أنّ معناها أنّ من قتل الصيد منكم متعمّدا لقتله ناسيا لإحرامه ، أو جاهلا بتحريمه ، فعليه الجزاء ؛ لأن ذلك يكفى لوصف التعمد (٢) ، فتعلق الحكم به ، لاكتفاء المعنى معه. وهذا دقيق فتأمّلوه.

فأما إذا قتله متعمّدا للقتل والإحرام فذلك أبلغ في وصف العمدية ؛ لكن من الناس من قال : لا حجّ له.

وهذه دعوى لا يدلّك عليها دليل من ظاهر القرآن ولا من السنة ولا من المعنى ، وسنستوفى (٣) بقية القول في آخر الآية إن شاء الله.

المسألة الحادية عشرة ـ قوله تعالى : (فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ) :

الجزاء في اللغة هو المقابل للشيء ، وتقدير الكلام : فعليه جزاء في مقابل ما أتلف (٤) وبدل منه ؛ وقد حققنا ذلك في كتاب ملجئة المتفقهين إلى معرفة غوامض النحويين ، وقد تقدم أمثاله قبل هذا ، وعليه يحمل جزاء الأعمال ؛ لأنه في مقابلتها ثوابا بثواب وعقابا بعقاب ، ودرجات ؛ ودركات ، وذلك محقّق في كتاب المشكلين.

__________________

(١) أسوة : قدوة.

(٢) في ا : المتعمد.

(٣) في ل : وسنستاق.

(٤) في ا : فعليه جزاء أى مقابل لما أتلف.

١٤٨

المسألة الثانية عشرة ـ «مثل» :

قرئ بخفض مثل على الإضافة إلى «فجزاء». وبرفعه وتنوينه صفة للجزاء ؛ وكلاهما صحيح رواية ، صواب معنى ، فإذا كان (١) على الإضافة اقتضى ذلك أن يكون الجزاء غير المثل ؛ إذ الشيء لا يضاف إلى نفسه ، وإذا كان على الصفة برفعه وتنوينه اقتضى ذلك أن يكون المثل هو الجزاء بعينه ، لوجوب كون الصفة عين الموصوف ؛ وسترى ذلك فيما بعد مشروحا إن شاء الله.

المسألة الثالثة عشرة ـ قوله تعالى : (مِنَ النَّعَمِ) :

قد بينا في ملجئة المتفقهين درجات حرف من ، وأنّ من جملتها بيان الجنس ، كقولك: خاتم من حديد ، وقدمنا قول أبى بكر السراج في شرح كتاب سيبويه الذي أوقفنا عليه شيخ السنة في وقته أبو على الحضرمي رحمه الله : إنها لا تكون للتبعيض بحال ، ولا في موضع ، وإنما يقع التبعيض فيها بالقرينة ، فجاءت مقترنة بقوله : (مِنَ النَّعَمِ) ؛ لبيان جنس مثل المقتول المفدى (٢) ، وأنه من الإبل والبقر والغنم. والله أعلم.

المسألة الرابعة عشرة ـ قوله تعالى : (فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ) :

قد تقدم تحقيقه ، ومثل الشيء حقيقته (٣) وهو شبهه في الخلقة الظاهرة ، ويكون مثله في معنى ، وهو مجازه ؛ فإذا أطلق المثل اقتضى بظاهره حمله على الشبه الصّورى دون المعنى (٤) ، لوجوب الابتداء بالحقيقة في مطلق الألفاظ قبل المجاز حتى يقتضى الدليل ما يقضى فيه من صرفه عن حقيقته إلى مجازه ؛ فالواجب هو المثل الخلقي ؛ وبه قال الشافعى.

وقال أبو حنيفة : إنما يعتبر بالمثل في القيمة دون الخلقة.

والدليل على صحة ما ذهبنا إليه الآية المتقدمة ، وذلك من أربعة أوجه :

الأول ـ ما قدّمناه من أنّ المثل حقيقة هو المثل من طريق الخلقة.

الثاني ـ أنه قال : (مِنَ النَّعَمِ) ؛ فبيّن جنس المثل ، ولا اعتبار عند المخالف بالنعم بحال.

__________________

(١) في ل : فأما إذا كان.

(٢) في ل : المعمول المعدى.

(٣) في ا : حقيقة.

(٤) في ل : المعنوي.

١٤٩

الثالث ـ أنه قال : (يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ) ؛ وهذا ضمير راجع إلى مثل من النعم ؛ لأنه لم يتقدم ذكر سواه يرجع الضمير إليه. والقيمة التي يزعم المخالف أنه يرجع الضمير إليها لم يتقدم لها ذكر.

الرابع ـ أنه قال : (هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ) ؛ والذي يتصوّر فيه الهدى مثل المفتول من النّعم ؛ فأما القيمة فلا يتصوّر أن تكون هديا.

فإن قيل : القيمة مثل شرعي من طريق المعنى في الحيوان وغيره ، حتى يقال القيمة مثل للعبد ، ولا يجعل في الإتلاف مثله عبدا يغرم فيه ، وأوجبنا في ذوات الأمثال في المتلفات المثل خلقة ؛ لأن الطعام كالطعام والدهن كالدهن ؛ ولم يوجب في العبد عبد مثله ؛ لأنّ الخلقة لم تقم بالمثلية ، فكيف أن يجعل البدنة مثلا للنعامة.

قلنا : هذا مزلق ينبغي أن يتثبّت فيه قدم الناظر قليلا ، ولا يطيش حلمه ، فاسمع ما نقول ، فلا خفاء بواضح الدليل الذي قدمناه من كتاب الله ، وليس يعارضه الآن ما موّهوا به من أن النعامة لا تماثلها البدنة ؛ فإن الصحابة قضوا بها فيها ، وهم بكتاب الله أفهم ، وبالمثل من طريق الخلقة والمعنى أعلم ، فلا يتوهم متوهّم ، سواه إلا وهم ، ولا يتّهمهم في قصور النظر ، إلا من ليس بمسلم.

والدقيقة فيه أنّ مراعاة ظاهر القرآن مع شبه واحد من طريق الخلقة أولى من إسقاط ظاهر القرآن مع التوفّر على مراعاة الشبه المعنوي ؛ وهذا ما لا يستقل بدركه في مطرح النظر إلا نافذ البصيرة والبصر.

فإن قيل : يحتمل أنهم قوّموا النعامة بدراهم ، ثم قوّموا البدنة بدراهم.

قلنا. هذا جهل من وجهين :

أحدهما ـ أن سرد الروايات على ما سنورده يبطل هذا ؛ فإنه ليس فيه شيء منه.

الثاني ـ أن قيمة النعامة لم تساو قطّ قيمة البدنة في عصر من الأعصار ، لا متقدم ولا متأخر ، علم ذلك ضرورة وعادة ، فلا ينطق بمثل هذا إلا متساخف بالنظر. وإنما سقطت المثلية في الاعتداء على الحيوان من باب المزابنة (١) ، وقد بينّاه في كتب الفقه.

__________________

(١) المزابنة : بيع الرطب في رءوس النخل بالتمر ، ونهى عن ذلك لأنه بيع مجازفة من غير كيل ولا وزن (المختار).

١٥٠

فإن قيل (١) : لو كان الشبه من طريق الخلقة معتبرا ، في النعامة بدنة ، وفي الحمار بقرة ، وفي الظبى شاة لما أوقفه على عدلين يحكمان به ؛ لأنّ ذلك قد علم ، فلا يحتاج إلى الارتياء والنظر ، وإنما يفتقر إلى العدول والحكم (٢) ما يشكل الحال فيه ويضطرب وجه النظر عليه.

والجواب أنّ اعتبار الحكمين إنما وجب في حال المصيد من صغر وكبر ، وماله جنس مما لا جنس له ، وليعتبر ما وقع التنصيص عليه من الصحابة ، فيلحق به ما لم يقع بينهم (٣) نصّ عليه.

فإن قيل : فقد قال : (أَوْ كَفَّارَةٌ طَعامُ مَساكِينَ أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِياماً) ، فشرك بينهما ب «أو» ، فصار تقدير الكلام : فجزاء مثل ما قتل من النّعم ، أو من الطعام ، أو من الصيام ، وتقدير المثلية في الطعام والصيام بالمعنى ، وكذلك في المثل الأول.

قلنا : هذا جهل أو تجاهل ؛ فإن قوله تعالى : (فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ) ظاهر كما قدمنا في مثل الخلقة ، وما عداه يمتنع فيه مثلية الخلقة حسّا ؛ فرجع إلى مثلية المعنى حكما (٤) ، وليس إذا عدم المعنى المطلوب في موضع ويرجع إلى بدله يلزم أن يرجع إلى بدله مع وجوده.

(تكملة) ومن يعجب فعجب من قراءة المكي والمدني والبصري والشامي : فجزاء مثل ـ بالإضافة ؛ وهذا يقتضى الغيرية بين المضاف والمضاف إليه ، وأن يكون الجزاء لمثل المقتول (٥) لا المقتول ، ومن قراءة الكوفيين : فجزاء مثل ـ على الوصف (٦) ، وذلك يقتضى أن يكون الجزاء هو المثل.

ويقول أهل الكوفة من الفقهاء : إنّ الجزاء غير المثل. ويقول المدنيون والمكيون والشاميون من الفقهاء : إن الجزاء هو المثل ؛ فيبنى كلّ واحد منهم مذهبه على خلاف مقتضى ظاهر قراءة قراء بلده.

وقد قال لنا القاضي أبو الحسن القرافي الزاهد : إنّ ابن معقل الكاتب أخبره عن أبى على النحوي أنه قال : إنما يجب عليه جزاء المقتول لا جزاء مثل المقتول. والإضافة توجب جزاء المثل لا جزاء المقتول. قال : ومن أضاف الجزاء إلى المثل فإنه يخرج على تقدير إقحام المثل ؛ وذلك كقولهم : أنا أكرم مثلك ؛ أى أكرمك.

__________________

(١) هذا قول أبى حنيفة كما في القرطبي (٦ ـ ٣١٠).

(٢) في القرطبي : والنظر.

(٣) في ل : منهم.

(٤) في ل : حقا.

(٥) في ا : القتل.

(٦) في الكشاف : وقرئ : فجزاء مثل ما قتل بنصبهما ، بمعنى فليجز جزاء مثل ما قتل (١ ـ ٢٧٤) ، وعبارته أوضح.

١٥١

قال القاضي أبو بكر بن العربي : وذلك سائغ في اللغة ، وعليه يخرج أحد التأويلات في قوله تعالى : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ). وقد حققناه في كتاب المشكلين.

المسألة الخامسة عشرة ـ في سرد الآثار (١) عن السلف في الباب ، وفي ذلك آثار كثيرة ، لبابها سبعة أقوال :

الأول ـ قال السدى : في النعامة والحمار بدنة ، وفي بقرة الوحش أو الإبل أو الأروى بقرة ، وفي الغزال والأرنب شاة ، وفي الضبّ واليربوع سخلة (٢) قد أكلت العشب ، وشربت الماء ، ففرّق بين صغير الصيد وكبيره.

الثاني ـ قال عطاء : صغير الصيد وكبيره سواء ؛ لقوله تعالى : (فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ) ، مطلقا ، ولا يفصل بين صغير وكبير.

الثالث ـ قال ابن عباس : تطلب صفة الصيد ، فإن لم توجد قوّم بالدراهم ، ثم قوّمت الدراهم بالحنطة ، ثم صام مكان [كل] (٣) نصف صاع يوما.

الرابع ـ قال ابن عباس : تذبح عن الظبى شاة ؛ فإن لم يجد أطعم ستة مساكين. فإن لم يجد صام ستة أيام.

الخامس ـ قال الضحاك : المثل ما كان له قرن كوعل وأيّل فداه ببقرة ، وما لم يكن له قرن كالنعامة والحمار ففيه بدنة ، وما كان من ظبى فمن النعم مثله ، وفي الأرنب ثنيّة ، وما كان من يربوع ففيه جمل صغير. فإن أصاب فرخ صيد أو بيضه تصدّق بثمنه ، أو صام مكان كل نصف صاع يوما.

السادس ـ قال النخعي : يقوّم الصيد المقتول بقيمته من الدراهم ، ثم يشترى القاتل بقيمته فداء من النعم ، ثم يهديه إلى الكعبة.

السابع ـ قال ابن وهب : قال مالك : أحسن ما سمعت في الذي يقتل الصيد فيحكم عليه فيه أنه يقوّم الصيد الذي أصاب ، فينظر كم ثمنه من الطعام ؛ فيطعم لكلّ مسكين مدّا ، أو يصوم مكان كل مدّ يوما.

__________________

(١) في ل : سرد الآيات.

(٢) السخلة : ولد الشاة ما كان (القاموس).

(٣) من ل.

١٥٢

وقال ابن القاسم عنه : إن قوّم الصيد دراهم ثم قوّمها طعاما أجزأه.

والصواب الأول.

وقال عبد الله بن عبد الحكم مثله ، قال عنه : وهو في هذه الثلاثة بالخيار ؛ أىّ ذلك فعل أجزأه موسرا كان أو معسرا ، وبه قال عطاء ، وجمهور الفقهاء.

فأما الفرق بين صغير الصيد وكبيره ـ وهي :

المسألة السادسة عشرة ـ فصحيح ، فإنّ الله تعالى حكم بالمثلية في الخلقة ، والصغير والكبير متفاوتان فيها ، فوجب اعتبار التفاوت ؛ فإنه أمر يعود إلى التقويم ، فوجب اعتبار الصغير فيه والكبير كسائر المتلفات ؛ وهو اختيار علمائنا ، ولذلك قالوا : لو كان الصيد أعور أو أعرج أو كسيرا لكان المثل على صفته لتحقّق المثلية ، ولا يلزم المتلف فوق ما أتلف ـ وهي :

المسألة السابعة عشرة ـ وأما ترتيب الثلاثة الواجبات في هذه المثلية ـ وهي :

المسألة الثامنة عشرة ـ فالذي اختاره علماؤنا كما تقدم أن يكون بالخيار فيها ، واحتجوا بأنه ظاهر القرآن ، وقالوا : كلّ شيء يكون فيه «أو» ، فهو فيه بالخيار.

وتحقيق المسألة عندي أنّ الأمر مصروف إلى الحكمين ، فما رأياه من ذلك لزمه ، والله أعلم. وأما تقدير الطعام والصيام ـ وهي :

المسألة التاسعة عشرة ـ فذلك ظاهر في كتاب الله تعالى ، حيث قدّره في كفّارة الظّهار مسكينا بيوم ، ولا يعدل عن تقديره تعالى وتقدّس ، وغير ذلك من التقديرات تتعارض فيه الأقوال ، ولا يشهد له أصل ؛ فالاقتصار على الشاهد الجلىّ أولى.

المسألة الموفية عشرين ـ قوله تعالى : (يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ) :

قال علماؤنا : أيقيم المتلف رجلين عدلين فقيهين بما يحتاج إليه في ذلك ، فينظران فيما أصاب ، ويحكمان عليه بما رأياه في ذلك ، فما حكما عليه لزمه.

والذي عندي أنه إن كان الإمام حاضرا أو نائبه أنه يكون الحكم إليه ، وإن لم يكن حاضرا أقام حينئذ المتلف من يحكم عليه. وهذا دليل على التحكيم ، وهي :

المسألة الحادية والعشرون ـ وقد تقدّم الذكر فيه ، ولأجله قال علماؤنا : إنه يجوز حكمهما بغير إذن الإمام ؛ وذلك عندي صحيح ؛ إذ يتعذّر أمره.

١٥٣

وقد روى جرير بن عبد الله البجلي قال : أصبت صيدا ، وأنا محرم ، فأتيت عمر ابن الخطاب ، فأخبرته ، فقال : ائت رجلين من أصحابك فليحكما عليك ، فأتيت عبد الرحمن ابن عوف وسعدا ، فحكما عليّ بتيس أعفر.

وهو أيضا دليل على أنه يجوز أن يتولّى فصل القضاء رجلان ، وقد منعته الجهلة ؛ لأنّ اختلاف اجتهادهما يوجب توقّف الأحكام بينهما وقد بعث صلى الله عليه وسلم معاذا وأبا موسى إلى اليمن ، كلّ واحد على مخلاف ، وبعث أنيسا إلى المرأة المرجومة ، ولم يأت الاشتراك في الحكم إلا في هذه النازلة ؛ لأجل أنها عبادة لا خصومة فيها ، فإن اتفقا لزم الحكم كما تقدم. وإن اختلفا نظر في غيرهما.

وقال محمد بن الموّاز : ولا يأخذ بأرفع قولهما ؛ يريد لأنه عمل بغير تحكيم ، وكذلك لا ينتقل عن المثل الخلقي ، إذا حكما به ، إلى الطعام ؛ لأنه أمر قد لزم ـ قاله ابن شعبان ؛ وقال ابن القاسم : إن أمرهما أن يحكما بالجزاء من المثل ففعلا ، فأراد (١) أن ينتقل إلى الطعام جاز.

وفي هذه الرواية تجاوز من وجهين : أحدهما ـ قوله : إن أمرهما أن يحكما بالمثل ؛ وليس الأمر إليه ، وإنما يحكّمهما ، ثم ينظران في القضية ، فما أدّى إليه اجتهادهما لزمه ، ولا يجوز له أن ينتقل عنه. وهو الثاني لأنه نقض لحكمهما (٢) ؛ وذلك لا يجوز لالتزامه لحكمهما.

المسألة الثانية والعشرون ـ قوله تعالى : (هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ) :

المعنى إذا حكما بالمثل يفعل به ما يفعل بالهدى ، يقلّده ويشعره ، ويرسله إلى مكة وينحره بها ، ويتصدق به فيها ؛ لقوله تعالى : (هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ) ، وهي :

المسألة الثالثة والعشرون ـ ولا خلاف في أنّ الهدى لا بدّ له من الحرم. واختلف هل يفتقر إلى حلّ معه؟ فقال مالك : لا بدّ له من ذلك يبتاع بالحل ، ويقلد ويشعر ، ويدفع إلى الحرم.

وقال الشافعى : لا يحتاج إلى الحل. وحقيقة قوله تعالى : (بالِغَ الْكَعْبَةِ) يقتضى أن يهدى من مكان يبلغ منه إلى الكعبة ، ولم يرد الكعبة بعينها ؛ فإنّ الهدى لا يبلغها ، إذ هي

__________________

(١) في ل : وإن أراد.

(٢) في ل : لأنه نقض تحكيمهما.

١٥٤

في المسجد وإنما أراد الحرم ، ولهذا قال الشافعى : إن الصغير من الهدى يجب في الصغير من الصيد ، لأنه يبتاعه في الحرم ويهديه فيه.

وقال مالك : لا يكون الجزاء في الصغير إلا بالقيمة ؛ لأنّ الهدى الصغير لا يمكن حمله إلى الحرم ، وهذا لا يغنى ؛ فإنّ الصحابة قضت في الصغير صغيرا ، وفي الكبير كبيرا ، وإذا تعذر حمله إلى الحرم حملت قيمته ، كما لو قال بالمغرب : بعيري هذا هدى ، فإنه يباع ويحمل ثمنه إلى مكة ، وكذلك يجب أن يكون في صغير الهدى مثله.

وروى عن مالك : أنّ صغير الهدى مثل كبيره في القيمة ، كما أن صغير الآدمي مثل كبيره في الدية.

وهذا غير صحيح ؛ فإنّ الدية مقدرة جبرا ، وهذا مقدر نظرا ، يحكم به ذوا عدل منكم ، فافترقا.

المسألة الرابعة والعشرون ـ قوله تعالى : (أَوْ كَفَّارَةٌ) :

سمّاه بها ليبين أنّ الطعام عن الصيد لا عن الهدى ، وليلحقها بأمثالها ونظائرها على ما يأتى بيانه إن شاء الله.

المسألة الخامسة والعشرون ـ قوله تعالى : (طَعامُ مَساكِينَ) :

قال ابن عباس : إذا قتل المحرم ظبيا ونحوه فعليه شاة تذبح بمكة ، فإن لم يجد فإطعام ستة مساكين ، فإن لم يجد فعليه صيام ثلاثة أيام ، فإن قتل أيلا (١) أو نحوه فعليه بقرة ، فإن لم يجد أطعم عشرين مسكينا ، فإن لم يجد صام عشرين يوما. وإن قتل نعامة أو حمارا فعليه بدنة من الإبل ، فإن لم يجد فإطعام ثلاثين مسكينا ، فإن لم يجد فصيام ثلاثين يوما ، والطعام [مدّ مدّ] (٢) لشبعهم.

وروى عنه أيضا : إن لم يجد جزاء قوّم الجزاء دراهم ، ثم قوّمت الدراهم حنطة ، ثم صام مكان كل نصف صاع يوما.

وقال : إنما أريد بالطعام الصوم ، فإذا وجد طعاما وجب جزاء.

__________________

(١) الأيل : الذكر من الأوعال ؛ كقنب ، وخلب ، وسيد ، كما في القاموس.

(٢) من القرطبي : ٦ ـ ٣١٥

١٥٥

وروى نحوه عن النخعي ، ومجاهد ، والسدى ، وحماد ، وغيرهم.

فأما قوله : فإن لم يجد هديا فإطعام ستة مساكين ، فقد قدمنا أنه على التخيير لا على الترتيب بما يقتضيه حرف «أو» في لسان العرب.

وأما تقدير الطعام في الظّبى بستة مساكين ، وفي البدنة بثلاثين مسكينا فليس بتقدير نافذ ؛ وإنما هو تحكم باختيار قيمة الطعام بالدراهم أصلا أو بدلا كما تقدم ، ثم يعطى عن كل مدّ يوما لا نصف صاع.

وقد روى بكر بن عبد الله المزني : كان رجلان من الأعراب محرمين ، فحاش أحدهما صيدا فقتله الآخر ، فأتيا عمر ، وعنده عبد الرحمن بن عوف ، فقال له عمر : ما ترى؟ قال : شاة. قال : وأنا أرى ذلك. اذهبا فأهديا شاه. فلما مضيا قال أحدهما لصاحبه : ما درى أمير المؤمنين ما يقول ، حتى سأل صاحبه. فسمعه (١) عمر ، فردّهما ، فقال : هل تقرآن سورة المائدة؟ فقالا : لا. فقرأ عليهما : (يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْياً) ، ثم قال: استعنت بصاحبي هذا.

وعن قبيصة وصاحب له أنهما أصابا ـ وذكر الحديث ، فقال لصاحبه (٢) : إن أمير المؤمنين لم يدر ما يقول. فسمعهما عمر. فأقبل عليه ضربا بالدّرّة ، وقال : تقتل الصيد وأنت محرم ، وتغمص الفتيا ، إن الله سبحانه قال في كتابه : (يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ). وهذا عبد الرحمن بن عوف وأنا عمر.

وهذا يدلّ على أنّ الاشتراك في قتل الصيد المحرم يوجب على المشتركين كفّارة واحدة لقضاء عمر وعبد الرحمن بن عوف بشاة واحدة على رجلين ، وبه قال الشافعى.

وقال مالك وأبو حنيفة : على كل واحد منهم جزاء كامل ، وهي :

المسألة السادسة والعشرون ـ وهي تنبنى على أصلين :

أحدهما ـ لغوى قرآنى ، والآخر معنوي ؛ أما اللغوي القرآنى فإنّ كلّ واحد من القاتلين للصيد قاتل نفسا على الكمال والتمام ، بدليل قتل الجماعة بالواحد ؛ لأنّ كلّ واحد

__________________

(١) في ل : فسمعهما.

(٢) والقرطبي : ٦ ـ ٣١١.

١٥٦

متلف نفسا على الكمال ومذهب روحا على التمام. ولو لا ذلك ما وجب عليهم القصاص ، وقد قلنا بوجوبه إجماعا منها ومنهم فثبت ما قلنا.

وأما المعنوي فإنّ عندنا أنّ الجزاء كفارة ، وعند الشافعى أنه قيمة.

وتحقيق القول في ذلك أنّ هذا الجزاء كفارة ومقابل للجناية ، وكلّ واحد جنى على إحرامه جناية كاملة ، وكلّ واحد منهم يسمّى قاتلا ؛ والدليل على صحة ذلك كلّه أنّ الله سبحانه سمّى الجزاء كفّارة في كتابه.

وأما كمال الجناية لكل واحد منهم على الإحرام فصحيح ؛ لأن كلّ واحد منهم ارتكب محظور إحرامه في قتل الصيد ، وسمّى قاتلا حقيقة فوجب على كلّ واحد منهم جزاء.

فإن قيل : إنه يقوّم بقيمة الصيد ، ويلحظ فيه شبهه. ولو كان كفارة لاعتبر مطلقا من اعتبار ذلك كلّه ، كما في كفارة القتل ، فلما كان كذلك صار كالدية.

قلنا : هذا باطل. والدليل عليه دخول الصوم عليه. ولو كان بدل متلف ما دخل الصيام عليه ، فإنّ الصيام إنما موضعه وموضوعه الكفارات ، لا أبدال المتلفات.

جواب آخر ـ وذلك أنه إنما تقدّر بقدر المحل ؛ لأنّ الجناية لها محلّ ، فيزيد بزيادته ، وينقص بنقصانه ، بخلاف كفارة الآدمي ؛ فإنه حدّ لا يتقدّر حقيقة (١) فيقدر كفارة.

جواب ثالث ـ وذلك أنّ الجزاء لا يجوز إسقاطه ، والدية يجوز إسقاطها ، فدلّ على اختلافهما بالصفة والموضوع.

جواب رابع ـ وذلك أن الذكر والأنثى يستوي في الجزاء ، ويختلف في الدية ، وقيمه الإتلاف ؛ فدلّ ذلك كله على الفرق بينهما ، وظهر أن ذلك من قول الشافعى ضعيف جدّا. والله عز وجل أعلم.

المسألة السابعة والعشرون ـ خالف أبو حنيفة مالكا في فرع ؛ وهو إذا قتل جماعة صيدا في حرم وهم محلّون ـ فعليهم جزاء واحد ، بخلاف ما لو قتله المحرمون في الحلّ ، وهو ضعيف ؛ لأنّ كل واحد منهم قتل نفسا محرّمة ، فسواء كانت في الحل أو في الحرم فإن ذلك لا يختلف.

__________________

(١) في ل : حقيقته.

١٥٧

وأما القاضي أبو زيد فبناه في (١) أسرار الله على أصل ، وهو أنه قال : السرّ فيه أنّ الجناية في الإحرام على العباد ، فقد ارتكب كلّ واحد منهم محظورا في إحرامه. وإذا قتل صيدا في الحرم فإنما أتلف نفسا محترمة ؛ فكان بمنزلة ما لو أتلف جماعة دابة ، فإن كلّ واحد منهم قاتل دابة ، ويشتركون في القيمة ، وهذا مما يستهين به علماؤنا ، وهو عسير الانفصال.

وقد عوّل علماؤنا على أنّ الرجل يكون محرما بدخوله في الحرم ، كما يكون محرما بقلبيته (٢) بالإحرام ، وكلّ واحد من الفعلين قد أكسبه صفة تعلّق بها نهى ، فهو هاتك لها في الحالين. وأبو حنيفة أقوى منا ، على (٣) أن علماءنا قالوا : إذا قتل الصيد في الحلّ وهو محرم فعليه الجزاء ، وإن قتله في الحرم (٤) فعليه حكومة ، وهي :

المسألة الثامنة والعشرون ـ وقال بعضهم : لا جزاء في صيد الحرم أصلا.

وقال سائر العلماء : حرمة الحرم كالإحرام ، واللفظ فيهما واحد ، يقال : أحرم الرجل إذا تلبس بالإحرام ، كما يقال : أحرم إذا دخل في الحرم حسبما تقدّم بيانه ، فلا معنى لما قاله من أسقط الجزاء فيه ، ويضعف قول علمائنا لاقتضاء اللفظ لوجوب الجزاء وعموم الحكم في ذلك كله.

المسألة التاسعة والعشرون ـ وكذلك كفّارة العبد إذا أحرم أو دخل الحرم ككفّارة الحرّ سواء ؛ لكن يكون حكمه في الكفارة المالية والبدنية مختلف الحال ، كما سيأتى في آية الظّهار إن شاء الله تعالى.

المسألة الموفية ثلاثين ـ إذا قوّم الطعام فاختلف العلماء أين يقوّم؟ فقال قوم : يقوّم في موضع الجناية ؛ قاله حماد وأبو حنيفة ومالك وسواهم. ومنهم من قال : يقوّم حيث يكفّر بمكة. وروى عن الشعبي.

وهذه مسألة مشكلة جدا ؛ فإن العلماء اختلفوا في الوقت الذي تعتبر به قيمة المتلف ؛ فقال قوم : يوم الإتلاف. وقال آخر : يوم القضاء. وقال آخرون : يلزم المتلف أكثر القيمتين من الإتلاف إلى يوم الحكم ، واختلف علماؤنا كاختلافهم.

__________________

(١) في ل : على.

(٢) في ل : بتلبسه.

(٣) في ل : كما.

(٤) في ا : الحل.

١٥٨

والصحيح أنه يلزم القيمة يوم الإتلاف ، وهذه المسألة محمولة عليها. والدليل على ذلك أنّ الوجوب كان حقّا للمتلف عليه ، فإذا أعدمه المتلف لزمه إيجاده بمثله (١) ، وذلك في وقت العدم ، فالقضاء يظهر (٢) الواجب في ذمة المتلف ، ولا يستأنف القاضي إيجابا لم يكن ، وهذا يعضد في مسألتنا الوجوب في موضع الإتلاف ، فأما في موضع فعل الكفّارة فلا وجه له.

المسألة الحادية والثلاثون ـ قال علماؤنا : فأما الهدى فلا بد له من مكة.

وأما الإطعام فاختلف فيه قول مالك ؛ هل يكون بمكة أو بموضع الإصابة.

وأما الصوم فلم يختلف قوله : إنه يصوم حيث شاء. وقال حماد وأبو حنيفة : يكفّر بموضع الإصابة. وقال عطاء : ما كان من دم أو طعام بمكة ، ويصوم حيث شاء.

وقال الطبري : يكفّر حيث شاء. فأما قول أبى حنيفة : إنه يكفّر حيث أصاب ، فلا وجه له في النظر ولا أثر فيه. وأما من قال : إنه يصوم حيث شاء فلأنّ الصوم عبادة تختص بالصائم ، فتكون في كل موضع كصيام سائر الكفارات في الحجّ وغيرها.

وأما وجه القول بأنّ الطعام يكون بمكة فلأنه بدل من الهدى أو نظير له ؛ والهدى حقّ لمساكين مكة ؛ فلذلك يكون بمكة بدله أو نظيره. وأما من قال : إنه يكون بكل موضع ، وهو المختار ، فإنه اعتبار بكل طعام وفدية ، فإنها تجوز بكل موضع. والله أعلم.

المسألة الثانية والثلاثون ـ قوله تعالى : (أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِياماً لِيَذُوقَ وَبالَ أَمْرِهِ) :

قال علماؤنا : العدل والعدل ـ بفتح العين وكسرها : هو المثل ، ويؤثر عن السكاكي أنه قال : عدل الشيء ـ بكسر العين ـ مثله من جنسه ، وبفتح العين مثله من غير جنسه ، وأراد أو يصوم صوما مماثلا للطعام ، ولا يصحّ أن يماثل الطعام الطعام في وجه أقرب من العدد. وقد تقدّم توجيهه.

ومن العلماء من قال : يصوم على عدد المساكين في الطعام لا على عدد الأمداد الأشهر ، وهو عند علماءنا ، والكافّة. ومنهم من قدّره بالأمداد ، وقد قال الشافعى : عن كلّ مدّ يوما ، وهو القول الثاني لمالك.

__________________

(١) في ل : لمثله.

(٢) في ل : مظهر.

١٥٩

وقال أبو حنيفة : يصوم عن كل مدّين يوما اعتبارا بفدية الأذى. واعتبار الكفارة بالفدية (١) لا وجه له في الشريعة كما تقدم في نظرائه (٢).

المسألة الثالثة والثلاثون ـ قال بعض علمائنا : إنما يفتقر إلى الحكمين في موضعين ؛ في الجزاء من النّعم ، والإطعام ؛ وليس كذلك ؛ بل يحتاج إليهما في الحال كلها ، وهي تنحصر في مواضع سبعة :

الأول ـ هل يحكم في العمد والخطأ أو في العمد وحده؟

الثاني ـ هل يحكم في قتل الصيد في الحرم كما يكون في الإحرام؟

الثالث ـ هل يحكم بالجزاء حيوانا أو قيمة؟

الرابع ـ إذا رأى الحيوان جزاء عن حيوان. في تعيين الحيوان خلاف كثير لا بدّ من تسليط نظره عليه حسبما تقدّم من اختلاف العلماء فيه ؛ هل يستوي صغيره وكبيره كما قال مالك في الكتاب حين جعله كالدية أم لا؟ وهل يراعى صفاته أجمع حتى الجمال الحسن ، أم تراعى الأصول ، أو يراعى العيب والسلامة ، أو هما واحد؟ وهل يكون في النعامة بدنة كما في كتاب محمد وغيره؟ أم يكون فيها القيمة ؛ لأنها لا تقارب خلق البقر (٣) ولا تبلغ خلق الإبل؟

الخامس ـ هل الحيوانات كلها تجزئ أم بعضها؟

السادس ـ هل يقوّم المثل بالطعام أو بالدراهم؟

السابع ـ هل يكون التقويم بموضع الإصابة أم بموضع الكفارة؟

وهكذا إلى آخر فصول الاختلاف ، فيرفع الأمر إلى الحكمين حتى يخلص اجتهادهما ما يجب عليه من الوجوه المختلفة ، فيلزمه ما قالا. والله عز وجل أعلم.

المسألة الرابعة والثلاثون ـ إذا قتل محرم صيدا فجزاه. ثم قتله ثانية وجب عليه الجزاء.

قال علماؤنا لقوله تعالى : (وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً) ، ولم يفصل بين المرة الأولى والثانية ، وممن تعلّق بهذا الدليل أحبار ممن لا يليق بمرتبتهم إيراد هذا الدليل على هذا

__________________

(١) في ل : بالقتل.

(٢) في ل : نظائره.

(٣) في ل : المعز.

١٦٠