أحكام القرآن - ج ٢

أبي بكر محمّد بن عبدالله [ ابن العربي ]

أحكام القرآن - ج ٢

المؤلف:

أبي بكر محمّد بن عبدالله [ ابن العربي ]


المحقق: علي محمّد البجاوي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الجيل
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٢٢

ودار لكان لهم حكم الكفّ عنهم والعدل فيهم ، فلا حجة لرواية عيسى في هذا ، وعنهم أخبر الله سبحانه وتعالى بقوله (١) : (سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ ...) ؛ قال سفيان بن عيينة ـ وهي :

المسألة الخامسة ـ إنّ الله ذكر الجاسوس بقوله (٢) : (سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ)؛ فهؤلاء هم الجواسيس ، ولم يعرض النبىّ صلى الله عليه وسلم لهم مع علمه بهم ؛ لأنه لم يكن حينئذ تقررت الأحكام ، ولا تمكّن الإسلام ؛ وسنبينه بعد هذا إن شاء الله تعالى.

المسألة السادسة ـ لما حكّموا النبىّ صلى الله عليه وسلم أنفذ عليهم الحكم ، ولم يكن لهم الرجوع ، وكل من حكّم رجلا في الدين فأصله هذه الآية.

قال مالك : إذا حكّم رجل رجلا فحكمه ماض ، وإن رفع إلى قاض أمضاه إلا أن يكون جورا بيّنا.

وقال سحنون : يمضيه إن رآه.

قال ابن العربي (٣) : وذلك في الأموال والحقوق التي تختصّ بالطالب ، فأما الحدود فلا يحكم فيها إلا السلطان.

والضابط أنّ كلّ حق اختص به الخصمان جاز التحكيم فيه ونفذ تحكيم المحكّم به.

وقال الشافعى : التحكيم جائز ، وهو غير لازم ؛ وإنما هو فتوى ـ قال : لأنه لا يقدم آحاد الناس الولاة والحكام ، ولا يأخذ آحاد الناس الولاية من أيديهم ، وسنعقد في تعليم التحكيم مقالا يشفى إن شاء الله تعالى ، إشارته إلى أن كل محكّم فإنه هو مفعل من حكم ؛ فإذا قال : حكمت ، فلا يخلو أن يقع لغوا أو مفيدا ، ولا بد أن يقع مفيدا ، فإذا أفاد فلا يخلو أن يفيد التكثير كقولك : كلمته وقللته ، أو يكون بمعنى جعلت له ، كقولك : ركبته وحسنته ، أى جعلت له مركوبا وحسنا ؛ وهذا يفيد جعلته حكما.

وتحقيقه أنّ الحكم بين الناس إنما هو حقّهم لا حقّ الحاكم ، بيد (٤) أنّ الاسترسال على التحكيم خرم لقاعدة الولاية ومؤدّ إلى تهارج (٥) الناس تهارج الحمر ، فلا بدّ من نصب فاصل ؛

__________________

(١ ـ ٢) سورة المائدة ، آية ٤١.

(٣) في ل : قال القاضي رضى الله عنه ، وهو المؤلف ، وانظر القرطبي (٦ ـ ١٨٠).

(٤) بيد : غير.

(٥) التهارج : التخليط والإكثار.

١٠١

فأمر الشرع بنصب الوالي ليحسم قاعدة الهرج ، وأذن في التحكيم تخفيفا عنه وعنهم في مشقّة الترافع ، لتمّ المصلحتان ، وتحصل الفائدتان.

والشافعى ومن سواه لا يلحظون الشريعة بعين مالك رحمه الله ، ولا يلتفتون إلى المصالح ، ولا يعتبرون المقاصد ، وإنما يلحظون الظّواهر وما يستنبطون منها ، وقد بيّنا ذلك في أصول الفقه والقبس في شرح موطّأ مالك بن أنس.

ولم أرو في التحكيم حديثا حضرني ذكره الآن إلّا ما أخبرنى به القاضي العراقي ، أخبرنا الجونى ، أخبرنا النيسابوري ، أخبرنا النسائي ، أخبرنا قتيبة بن سعيد ، حدثنا يزيد ـ يعنى ابن المقدام بن شريح ، عن أبيه شريح ، عن أبيه هانئ ، قال : لما وفد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مع قومه سمعهم وهم يكنونه أبا الحكم ، فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : إن الله هو الحكم ، وإليه الحكم ، فلم تكنى أبا الحكم؟ فقال : إنّ قومي إذا اختلفوا في شيء أتونى فحكمت بينهم ، فرضي كلا الفريقين.

فقال : ما أحسن هذا؟ فما لك من الولد؟ قال : لي شريح ، وعبد الله ، ومسلم. قال : فمن أكبرهم؟ قال : شريح. قال : فأنت أبو شريح ، ودعا له ولولده.

المسألة السابعة ـ كيف أنفذ النبىّ صلى الله عليه وسلم الحكم بينهم؟

اختلف في ذلك جواب العلماء على ثلاثة أقوال :

الأول ـ أنه حكم بينهم بحكم الإسلام ، وأن أهل الكتاب من زنى منهم وقد تزوّج عليه الرّجم ، فيحكم عليهم به الإمام ، ولا يشترط الإسلام في الإحصان ؛ قاله الشافعى.

الثاني ـ حكم النبىّ عليه السّلام عليهم بشريعة موسى عليه السّلام وشهادة اليهود ، إذ شرع من قبلنا شرع لنا ، فيلزم العمل بها حتى يقوم الدليل على تركها. وقد بيّنا ذلك في أصول الفقه ، وفيما تقدّم من قولنا ، وإنه الصحيح من المذهب الحقّ في الدليل حسبما تقدم ؛ قاله عيسى عن ابن القاسم.

الثالث ـ إنما حكم النبىّ صلى الله عليه وسلم بينهم ؛ لأنّ الحدود لم تكن نزلت ، ولا يحكم الحاكم اليوم بحكم التوراة ؛ قاله في كتاب محمد.

١٠٢

المسألة الثامنة ـ في المختار :

أما قول الشافعى فلا يصحّ ؛ فإن اليهود جاءوا إلى النبىّ صلى الله عليه وسلم باختيارهم ، وسألوه عن أمرهم ، ففي هذا يكون النظر. وقد قال الله سبحانه وتعالى ، مخبرا عن الحقيقة فيه : (١) (وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْراةُ فِيها حُكْمُ اللهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ) ، وأخبر أنهم جاءوا من قبل أنفسهم ، فقال : (فَإِنْ جاؤُكَ). ثم خيّره فقال : (فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ ، أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ) ، ثم قال له : (وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ) ، وهي :

المسألة التاسعة ـ والقسط هو العدل ، وذلك حكم الإسلام ، وحكم الإسلام شهود منّا عدول ؛ إذ ليس في الكفار عدل ، كما تقدم.

وإنما أراد النبىّ صلى الله عليه وسلم إقامة الحجة عليهم وفضيحة اليهود حسبما شرحنا ؛ وذلك بيّن من سياق الآية والحديث.

ولو نظر إلى الحكم بدين الإسلام لما أرسل إلى ابن صوريا ، ولكنه اجتمعت للنبىّ صلى الله عليه وسلم الوجوه فيه من قبول التحكيم وإنفاذه عليهم بحكم التوراة ، وهي الحق حتى ينسخ ، وبشهادة اليهود ، وذلك دين قبل أن يرفع بالعدول منا.

المسألة العاشرة ـ قوله تعالى (٢) : (يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ) :

قال أبو هريرة وغيره : ومحمد (٣) منهم ؛ يحكمون بما فيها من الحقّ ، وكذلك قال الحسن ، وهو الذي يقتضيه ظاهر اللفظ ومطلقه في قوله : (النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ) ، آخرهم عبد الله بن سلام.

المسألة الحادية عشرة ـ قوله تعالى : (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ).

اختلف فيه المفسرون ؛ فمنهم من قال : الكافرون والظالمون والفاسفون كلّه لليهود ، ومنهم من قال : الكافرون (٤) للمشركين ، والظالمون لليهود ، والفاسقون للنصارى ، وبه أقول ؛

__________________

(١) سورة المائدة ، آية ٤٣

(٢) سورة المائدة ، آية ٤٤.

(٣) في القرطبي (٦ ـ ١٨٨) : قيل المراد بالنبيين محمد صلى الله عليه وسلم ، وعبر عنه بلفظ الجمع. وقيل : كل من بعث من بعد موسى بإقامة التوراة.

(٤) في القرطبي (٥ ـ ١٩) : وقيل «الكافرون» للمسلمين ... نقلا عن ابن العربي. وفي أحكام الجصاص (٤ ـ ٩٣) : الأولى للمسلمين ، والثانية لليهود ، والثالثة للنصارى.

١٠٣

لأنه ظاهر الآيات ، وهو اختيار ابن عباس ، وجابر بن زيد ، وابن أبى زائدة ، وابن شبرمة(١).

قال طاوس وغيره : ليس بكفر ينقل عن الملّة ، ولكنه كفر دون كفر. وهذا يختلف إن حكم بما عنده على أنه من عند الله ، فهو تبديل له يوجب الكفر ، وإن حكم به هوى ومعصية فهو ذنب تدركه المغفرة على أصل أهل السنة في الغفران للمذنبين.

الآية الخامسة عشرة ـ قوله تعالى (٢) : (وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ).

فيها اثنتان وعشرون مسألة :

المسألة الأولى ـ قال ابن جريج : لما رأت قريظة النبىّ صلى الله عليه وسلم قد حكم بالرجم وكانوا يخفونه في كتابهم ، قالوا : يا محمد ، اقض بيننا وبين إخواننا بنى النّضير ، وكان بينهم دم ، وكانت النّضير تتعزّز على قريظة في دمائها ودياتها (٣) كما تقدم. وقالوا لا نطيعك في الرّجم ، ولكنا نأخذ بحدودنا التي كنّا عليها ، فنزلت : (وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ) ، ونزلت (٤) : (أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ).

قال ابن عباس : المعنى : فيما بالهم يخالفون فيقتلون النفسين بالنفس ويفقئون العينين بالعين ؛ وكانت بنو إسرائيل عندهم القصاص خاصّة ، فشرّف الله هذه الأمّة بالدّية.

المسألة الثانية ـ تعلّق أبو حنيفة وغيره بهذه الآية ، فقال : يقتل المسلم بالذمىّ ؛ لأنه نفس بنفس.

قالت له الشافعية : هذا خبر عن شرع من قبلنا وشرع من قبلنا ليس شرعا لنا.

وقلنا نحن له : هذه الآية ، إنما جاءت للرد على اليهود في المفاضلة بين القبائل وأخذهم من قبيلة رجلا برجل ، ونفسا بنفس ، وأخذهم من قبيلة أخرى نفسين بنفس ، فأما اعتبار

__________________

(١) في القرطبي : والشعبي أيضا.

(٢) الآية الخامسة والأربعون.

(٣) أحكام الجصاص : ٤ ـ ٨٨.

(٤) سورة المائدة ، آية ٥٠

١٠٤

أحوال النفس الواحدة بالنفس الواحدة فليس له تعرّض في ذلك ، ولا سيقت الآية له ، وإنما تحمل الألفاظ على المقاصد.

جواب آخر ـ وذلك أنّ هذا عموم يدخله التخصيص بما روى أبو داود والترمذي والنسائي ، وبعضهم أوعب من بعض ؛ عن علىّ ، وقد سئل : هل خصّه رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء؟ قال : لا ، إلّا ما في هذا ، وأخرج كتابا من قراب سيفه ، وإذا فيه : المؤمنون تتكافأ دماؤهم ، وهم يد على من سواهم ، ألا لا يقتل مسلم بكافر ولا ذو عهد في عهده.

جواب ثالث ـ وذلك أنّ الله سبحانه قال في سورة البقرة (١) : (وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ). وقال (٢) : (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى) ؛ فاقتضى لفظ القصاص المساواة ، ولا مساواة بين مسلم وكافر (٣) ؛ لأنّ نقص الكفر المبيح للدم موجود به (٤) ، فلا تستوي نفس مبيحها معها مع نفس قد تطهّرت عن المبيحات ، واعتصمت بالإيمان الذي هو أعلى العصم.

وقد ذكر بعض علمائنا في ذلك نكتة حسنة ، قال : إنّ الله تعالى قال : (وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ) ، فأخبر أنه فرض عليهم في ملّتهم أنّ كلّ نفس منهم تعادل (٥) نفسا ؛ فإذا التزمنا نحن ذلك في ملّتنا على أحد القولين ـ وهو الصحيح ـ كان معناه أنّ في ملّتنا نحن أيضا أن كلّ نفس منا تقابل نفسا ، فأما مقابلة كلّ نفس منّا بنفس منهم فليس من مقتضى الآية ، ولا من مواردها.

المسألة الثالثة ـ قال أبو حنيفة وغيره : قوله تعالى : (وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ) يوجب قتل الحرّ بالعبد خاصة.

وقال غيره : يوجب ذلك أخذ نفسه بنفسه ، وأخذ أطرافه بأطرافه ، لقوله تعالى : (وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ). وقد تقدم الجواب عن ذلك في المسألة قبلها. ونخص هذا مع أبي حنيفة أنهما شخصان لا يجرى بينهما القصاص في الأطراف مع السلامة في الخلقة فلا يجرى بينهما في الأنفس ، ويقال للآخرين : إنّ نقص الرقّ الباقي في العبد من آثار الكفر يمنع

__________________

(١) سورة البقرة ، آية ١٧٩.

(٢) سورة البقرة آية ١٧٨.

(٣) في ل : بين المسلم والكافر.

(٤) في ل : فيه.

(٥) في ل : تقابل.

١٠٥

المساواة بينه وبين الحر ؛ فلا يصحّ أن يؤخذ أحدهما بالآخر ؛ فإن العبد سلعة من السلع يصرّفه الحرّ كما يصرف الأموال.

المسألة الرابعة ـ قوله تعالى : (وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ) يوجب قتل الرجل [الحر] (١) بالمرأة [الحرّة] (٢) مطلقا ؛ وبه قال كافّة العلماء.

وقال عطاء : يحكم بينهم بالتراجع ، فإذا قتل الرجل المرأة خيّر وليّها ، فإن شاء أخذ ديتها ، وإن شاء أعطى (٣) نصف العقل. وقتل الرجل. وعموم الآية يرد عليه. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : من قتل قتيلا فأهله بين خيرتين ، فإن أحبّوا أن يقتلوا أو يأخذوا العقل.

والمعنى يعضّده ؛ فإنّ الرجل إذا قتل المرأة فقد قتل مكافئا له في الدم ، فلا يجب فيه زيادة كالرجلين.

المسألة الخامسة ـ قال أحمد بن حنبل : لا تقتل الجماعة بالواحد ؛ لأنّ الله تعالى قال : (النَّفْسَ بِالنَّفْسِ).

قلنا : هذا عموم تخصه حكمته ؛ فإن الله سبحانه إنما قتل من قتل صيانة للأنفس عن القتل ، فلو علم الأعداء أنهم بالاجتماع يسقط القصاص عنهم لقتلوا عدوّهم في جماعتهم ، فحكمنا بإيجاب القصاص عليهم ردعا للأعداء ، وحسما لهذا الداء ، ولا كلام لهم على هذا.

المسألة السادسة ـ قال أصحاب الشافعى وأبى (٤) حنيفة : إذا جرح أو قطع اليد أو الأذن ثم قتل فعل به كذلك ؛ لأنّ الله تعالى قال : (وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ ...) الآية ؛ فيؤخذ منه ما أخذ ، ويفعل به كما فعل.

وقال علماؤنا : إن قصد بذلك (٥) المثلة فعل به مثله ، وإن كان ذلك في أثناء مضاربته (٦) لم يمثّل به ؛ لأنّ المقصود بالقصاص إما أن يكون التشفّى ، وإما إبطال العضو. وأيّ ذلك كان فالقتل يأتى عليه. وهذا ليس بقصاص [ولا انتصاف] ؛ لأنّ المقتول تألم بقطع الأعضاء [كلها] وبالقتل ، فلا بدّ في تحقيق (٧) القصاص من أن يألم كما آلم ، وبه أقول.

__________________

(١) من ل.

(٢) في ا : أعطاها. والعقل : الدية.

(٣) في ل : وأبو حنيفة.

(٤) في ا : به.

(٥) في ل : مضاربة.

(٦) في ل : تخصيص.

١٠٦

المسألة السابعة ـ قوله تبارك وتعالى : (وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ) ، وذكر العين والأنف والأذن والسنّ وترك اليد ، فقيل في ذلك ثلاثة معان :

الأول ـ أنّ ذلك لأنّ اليد آلة بها يفعل [كلّ] ذلك.

الثاني ـ أنّ ذلك لاختلاف حال اليدين ، بخلاف العينين والأذنين ؛ فإنّ اليسرى لا تساوى اليمنى ؛ فترك القول فيها لتدخل تحت قوله تعالى : (وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ). ثم يقع النظر فيها بدليل آخر.

الثالث ـ أن اليد باليد لا تفتقر إلى نظر ؛ والعين بالعين ، والأنف بالأنف ، والسن بالسن يفتقر إلى نظر ، وفيه إشكال يأتى بيانه إن شاء الله.

المسألة الثامنة ـ قوله تعالى : (وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ) :

قرئ بالرفع والنصب ، فالنصب إتباع للفظه ومعناه ؛ والرفع ، وفيه وجهان :

أحدهما ـ أن يكون عطفا على حال النفس قبل دخول أن.

والثاني ـ أن يكون استئناف كلام. ولم يكن هذا مما كتب في التوراة ، والأول أصحّ.

المسألة التاسعة ـ قوله تعالى : (وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ) :

لا يخلو أن يكون فقأها ، أو أذهب بصرها وبقيت صورتها ، أو أذهب بعض البصر.

وقد أفادنا كيفية القصاص منها علىّ بن أبى طالب كرم الله وجهه ، وذلك أنه أمر بمرآة فحميت ، ثم وضع على العين الأخرى قطنا ، ثم أخذت المرآة بكلبتين فأدنيت من عينه حتى سال إنسان عينه.

فلو أذهب رجل بعض بصره فإنه تعصب عينه وتكشف الأخرى ، ثم يذهب رجل بالبيضة ويذهب ويذهب حتى ينتهى بصر المضروب فيعلم ، ثم تغطّى عينه وتكشف الأخرى ، ثم يذهب رجل (١) بالبيضة ويذهب ويذهب ، فحيث انتهى البصر علم ، ثم يقاس كلّ واحد منهما بالمساحة ، فكيف كان الفضل نسب ، ويجب (٢) من الدية بحساب ذلك مع الأدب الوجيع والسجن الطويل ؛ إذ القصاص في مثل هذا غير ممكن ، ولا يزال هذا يختبر في مواضع مختلفة لئلا يتداهى المضروب فينقص من بصره ، ليكثر حظّه من مال الضارب ؛ ولا خلاف في هذا.

__________________

(١) في ل : الرجل.

(٢) في ل. ويحتمل.

١٠٧

المسألة العاشرة ـ لو فقأ أعور عين صحيح ، قيل : لا قود عليه ، وعليه الدية ، روى ذلك عن عمر وعثمان.

وقيل : عليه القصاص ؛ وهو قول على والشافعى.

وقال مالك : إن شاء فقأ عينه ، وإن شاء أخذ دية كاملة.

ومتعلق عثمان [أنه] (١) في القصاص منه أخذ جميع البصر ببعضه ، وذلك ليس بمساواة.

ومتعلّق الشافعى قوله تعالى : (الْعَيْنَ بِالْعَيْنِ).

ومتعلق مالك أنّ الأدلة لما تعارضت خيّر المجنى عليه ، والأخذ بعموم القرآن أولى ؛ فإنه أسلم عند الله تعالى.

المسألة الحادية عشرة ـ إذا فقأ صحيح عين أعور فعليه الدية كاملة عند علمائنا.

وقال الشافعى وأبو حنيفة : فيه نصف الدية ، وهو القياس الظاهر. ولكن علماؤنا قالوا : إن منفعة الأعور ببصره كمنفعة السالم أو قريب من ذلك ، فوجب عليه مثل ديته.

المسألة الثانية عشرة ـ قالوا : إذا ضرب سنّه فاسودّت ففيها ديتها كاملة (٢) ، وبه قال أبو حنيفة.

وقال الشافعى : فيها حكومة ، وهذا عندي خلاف يؤول إلى وفاق ؛ فإنه إن كان سوادها أذهب منفعتها ، وإنما بقيت صورتها كاليد الشلّاء والعين العمياء ، فلا خلاف في وجوب الدية. وإن كان بقي من منفعتها شيء أو جميعها لم يجب إلّا بمقدار ما نقص من المنفعة حكومة.

وروى عن عمر أنه قال : إذا ضرب سنّه فاسودّت ففيها ثلث ديتها ، وهذا مما لا يصحّ عنه سندا ولا فقها.

المسألة الثالثة عشرة ـ قال مالك : إذا أخذ الكبير دية ضرسه ، ثم ثبتت. فلا يردّها.

وقال الكوفيون : يردّها ؛ لأنّ عوضها قد ثبت ، أصله سنّ الصغير ؛ ودليلنا أنّ هذا ثبات لم تجر به عادة ، ولا يثبت الحكم بالنادر كسائر أصول الشريعة ، فلو قلع رجل سنّ رجل فردّها صاحبها فالتحمت فلا شيء عليه عندنا.

وقال ابن المسيّب وجماعة منهم عطاء : ليس له أن يردّها ثانية ، وإن ردّها أعاد كل صلاة

__________________

(١) من ل.

(٢) والقرطبي : ٦ ـ ١٩٤

١٠٨

صلّاها لأنها ميتة ، وكذلك لو قطعت أذنه فألصقها بحرارة الدم فالتزقت (١) مثله ، وهي :

المسألة الرابعة عشرة ـ قال ذلك علماؤنا. وقال عطاء : يجبره السلطان على قلعها ؛ لأنها ميتة ألصقها ؛ وهذا غلط بيّن (٢) ، وقد جهل من خفى عليه أن ردّها وعودها لصورتها موجب عودها لحكمها ؛ لأنّ النجاسة كانت فيها للانفصال ، وقد عادت متصلة ، وأحكام الشريعة ليست صفات للأعيان ، وإنما هي أحكام تعود إلى قول الله سبحانه فيها وإخباره عنها.

وقال الشافعىّ : لا تسقط عن قالع السن ديتها ، وإن رجعت ؛ لأن الدية إنما وجبت لقلعها ، وذلك لا ينجبر.

قلنا : إنما وجبت لفقدها وذهاب منفعتها ؛ فإذا عادت لم يكن عليه شيء ، كما لو ضرب عينه ففقد بصره ، فلما قضى عليه عاد بصره لم يجب له شيء.

المسألة الخامسة عشرة ـ فلو كانت له سنّ زائدة فقلعت ففيها حكومة ، وبه قال فقهاء الأمصار.

وقال زيد بن ثابت : فيها ثلث الدية ، وليس في التقدير دليل ، فالحكومة أعدل.

المسألة السادسة عشرة ـ قال علماؤنا في الذي يقطع أذنى رجل : عليه حكومة ؛ وإنما تكون عليه الدية في السمع ، ويقاس كما يقاس البصر ، فإن أجاب جواب من يسمع لم يقبل قوله ، وإن لم يجب أحلف ، لقد صمت من ضرب هذا ، وأغرم ديته ، ومثله في اليمين في البصر.

المسألة السابعة عشرة ـ اللسان اختلف قول مالك في القود فيه ، وكذلك اختلف العلماء ، والعلة في التوقف عن القود فيه عدم الإحاطة باستيفاء القود ، فإن أمكن فالقود هو الأصل ، ويختبر بالكلام فما نقص من الحروف فبحسابه من الدية تجب على الضارب ، فإن قلع لسان أخرس ، وهي :

المسألة الثامنة عشرة ـ ففيه حكومة.

وقال النخعي : فيه الدّية ، يقال له : إذا أسقطت القود فلا يبقى إلا الحكومة ؛ لأنّ الدية قرينة القود.

__________________

(١) في ل : فالتصقت.

(٢) في ا : فيه.

١٠٩

المسألة التاسعة عشرة ـ إذا قطع يمين رجل أو يساره لم يؤخذ اليمين إلا باليمين واليسار إلّا باليسار عند كافة الفقهاء.

وقال ابن شبرمة : تؤخذ اليمين باليسار واليسار باليمين نظرا إلى استوائهما في الصورة والاسم ، ولم ينظر إلى المنفعة ، وهما فيها متفاوتتان أشدّ تفاوتا مما بين اليد والرجل ، فإذا لم تؤخذ اليد بالرجل فلا تؤخذ يمنى بيسرى.

المسألة الموفية عشرين ـ نصّ الله سبحانه على أمهات الأعضاء وترك باقيها للقياس عليها ، وكل عضو فيه القصاص إذا أمكن ولم يخش عليه الموت ، وكذلك كلّ عضو بطلت منفعته وبقيت صورته فلا قود فيه ، وفيه الدية لعدم إمكان القود فيه ، وفيه تفصيل في الأعضاء والصّور بيناها في أصول الفقه.

المسألة الحادية والعشرون ـ لما بينا أنّ الله سبحانه ذكر ما ذكر وخصّ ما خصّ قال بعد ذلك : (وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ) ؛ فعمّ بما نبّه فيه من ذلك وبيّنه النبىّ صلى الله عليه وسلم ، ففي الصحيح عن أنس قال (١) : كسرت الرّبيع ـ وهي عمّة أنس بن مالك ـ ثنيّة (٢) جارية من الأنصار ، فطلب (٣) القوم القصاص ، فأتوا النبىّ صلى الله عليه وسلم ، فأمر النبىّ صلى الله عليه وسلم بالقصاص. فقال أنس بن النضر ، عم أنس بن مالك : [لا] (٤) والله ، لا تكسر ثنيّتها يا رسول الله. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا أنس ، كتاب الله القصاص ، فرضي القوم وقبلوا الأرش (٥). فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إنّ من عباد الله من لو أقسم على الله لأبرّه (٦).

المسألة الثانية والعشرون ـ قوله تعالى : (فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ) :

اختلف العلماء فيه على قولين :

أحدهما ـ [فهو كفّارة له هو] (٧) المجروح.

__________________

(١) ابن ماجة : ٨٨٤ ، وأخرجه النسائي (القرطبي : ٦ ـ ٢٠١).

(٢) الثنية من الأضراس : الأربع التي في مقدم الفم ، ثنتان من فوق وثنتان من أسفل.

(٣) في ابن ماجة : فطلبوا العفو.

(٤) من ل.

(٥) الأرش : الدية.

(٦) لأبره : بر الله قسمه وأبره : أى صدقه.

(٧) ليس في ل.

١١٠

والثاني ـ أنه الجارح.

وحقيقة الكلام هل هو في الضميرين واحد أو كلّ ضمير يعود إلى مضمر ثان؟

وظاهر الكلام أنه يعود إلى واحد الضميران جميعا ؛ وذلك يقتضى أنه من وجب له القصاص فأسقطه كفّر من ذنوبه بقدره ، وعليه أكثر الصحابة.

وعن أبى الدّرداء عن النبىّ صلى الله عليه وسلم (١) : ما من مسلم يصاب بشيء من جسده فيهبه إلّا رفعه الله به درجة ، وحطّ عنه به خطيئة.

والذي يقول : إنه إذا عفا عنه المجروح عفا الله عنه لم يقم عليه دليل ، فلا معنى له.

الآية السادسة عشرة ـ قوله تعالى (٢) : (وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ ما أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّما يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفاسِقُونَ).

فيها ثلاث مسائل :

المسألة الأولى ـ في سبب نزولها (٣) :

قيل : نزلت فيما تقدم. وقيل : جاء ابن صوريا ، وشأس بن قيس ، وكعب بن أسيد إلى النبىّ صلى الله عليه وسلم يريدون أن يفتنوه عن دينه ، فقالوا له : نحن أحبار يهود ، إن آمنّا لك آمن الناس جميعهم بك ، وبيننا وبين قوم خصومة فنحاكمهم إليك لتقضى لنا عليهم ، ونؤمن بك ونصدّقك ؛ فأبى النبىّ صلى الله عليه وسلم ، فأنزل الله سبحانه الآية ، وهي وقوله تعالى (٤) : (وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ) ـ بمعنى واحد.

المسألة الثانية ـ قال قوم : هذا ناسخ للتخيير ، وهذه دعوى عريضة ؛ فإنّ شروط النسخ أربعة منها : معرفة التاريخ بتحصيل المتقدم والمتأخر. وهذا مجهول من هاتين الآيتين ، فامتنع أن يدعى أنّ واحدة منهما ناسخة للأخرى ، وقى الأمر على حاله.

المسألة الثالثة ـ قوله تعالى : (وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ ما أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكَ) :

__________________

(١) القرطبي : ٦ ـ ٢٠٨.

(٢) الآية التاسعة والأربعون.

(٣) أسباب النزول : ١١٣.

(٤) الآية الثانية والأربعون من سورة المائدة.

١١١

قال قوم : معناه عن كل ما أنزل الله إليك ، والبعض يستعمل بمعنى الكل ، قال الشاعر(١) :

أو يغتبط بعض النفوس حمامها

ويروى : أو يرتبط. أراد كلّ النفوس ، وعليه حملوا قوله تعالى (٢) : (وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ).

والصحيح أنّ «بعض» على حالها (٣) في هذه الآية ، وأنّ المراد به الرّجم أو الحكم الذي كانوا أرادوه ولم يقصدوا أن يفتنوه عن الكل.

الآية السابعة عشرة ـ قوله تعالى (٤) : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ).

فيها ثلاث مسائل :

المسألة الأولى ـ قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ) : اختلف في سبب نزولها على ثلاثة أقوال :

الأول ـ أنها (٥) نزلت في عبادة ، وابن أبىّ ؛ وذلك أن عبادة تبرّأ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من حلف قوم من اليهود كان له من حلفهم مثل ما لعبد الله بن أبىّ ، وتمسك ابن أبىّ بهم ، وقال : إنى رجل أخاف الدوائر.

الثاني ـ كان المنافقون يوازرون يهود قريظة ونصارى نجران ؛ لأنهم كانوا أهل ريف ، وكانوا يميرونهم (٦) ويقرضونهم ، فقالوا : كيف نقطع مودّة قوم إذا أصابتنا سنة (٧) فاحتجنا إليهم وسّعوا علينا المنازل وعرضوا (٨) علينا الثمار إلى أجل ، فنزلت ، وذلك قوله

__________________

(١) هو لبيد. وفي اللسان ـ بعض ، والديوان ١٣ / ٣ أو يتعلق. وصدره :

تراك أمكنة إذا لم أرضها ....

(٢) سورة الزخرف ، آية ٦٣.

(٣) في ل : على بابها.

وفي اللسان : وإنما أراد لبيد ببعض النفوس نفسه.

(٤) الآية الواحدة والخمسون.

(٥) أسباب النزول : ١١٣ ، والقرطبي : ٦ ـ ٢١٦

(٦) ماره : أعطاه الميرة. والميرة : الطعام (النهاية).

(٧) السنة : الجدب.

(٨) في ل : وعوضوا.

١١٢

تعالى (١) : (فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشى أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ)(٢).

الثالث ـ أنها نزلت في أبى لبابة بن عبد المنذر والزّبير وطلحة ؛ فأما نزولها في أبى لبابة فممكن ؛ لأنه أشار إلى يهود إلى (٣) حلقه بأنهم إن نزلوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذبح فخانه ، ثم تاب الله عليه.

وأما الزبير وطلحة فلم يلتفتوا إلى ذلك فيهما.

وهذه الآية عامة في كلّ من ذكر أنها نزلت فيه لا تخصّ به أحدا دون أحد.

المسألة الثانية ـ بلغ عمر بن الخطاب أنّ أبا موسى الأشعرى اتخذ باليمن كاتبا ، ذميّا ، فكتب إليه هذه الآية ، وأمره أن يعزله ؛ وذلك أنه لا ينبغي لأحد من المسلمين ولّى ولاية أن يتخذ من أهل الذمة وليا فيها لنهى الله عن ذلك ؛ وذلك أنهم لا يخلصون النصيحة ، ولا يؤدّون الأمانة ، بعضهم أولياء بعض.

المسألة الثالثة ـ سئل ابن عباس عن ذبائح نصارى العرب ، فقرأ : (وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ) ، وقد بيناه فيما تقدم موضّحا ، وعلى هذا جاء بيان تمام الآية ، ثم جاءت الآية الأخرى عامة في نفى اتخاذ الأولياء من الكفار أجمعين.

الآية الثامنة عشرة ـ قوله تعالى (٤) : (وَإِذا نادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوها هُزُواً وَلَعِباً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ).

فيها أربع مسائل :

المسألة الأولى ـ كان المشركون واليهود والمنافقون إذا سمعوا النداء إلى الصلاة وقعوا في ذلك وسخروا منه ؛ فأخبر الله سبحانه بذلك عنهم ، وليس في كتاب الله تعالى ذكر الأذان إلا في هذه الآية ، أما إنه ذكرت الجمعة على الاختصاص.

__________________

(١) الآية الثانية والخمسون.

(٢) تصيبنا دائرة : يدور الدهر علينا إما بقحط فلا يميروننا ولا يفضلوا علينا ، وإما أن يظفر اليهود بالمسلمين فلا يدوم الأمر لمحمد صلى الله عليه وسلم (القرطبي : ٦ ـ ٢١٧).

(٣) هكذا في الأصول ، والعبارة غير واضحة المعنى. وفي ابن كثير (٢ ـ ٦٨) : بعثه رسول الله إلى بنى قريضة فسألوه ما ذا هو صانع بنا ، فأشار بيده إلى حلقه ـ أى أنه الذبح.

(٤) الآية الثامنة والخمسون.

١١٣

المسألة الثانية ـ روى أن رجلا من النصارى ، وكان بالمدينة ، إذا سمع المؤذّن يقول : أشهد أنّ محمدا رسول الله ، قال : حرق الكاذب ، فسقطت في بيته شرارة من نار وهو نائم ، فتعلقت النار بالبيت فأحرقته ، وأحرقت ذلك الكافر معه ؛ فكانت عبرة للخلق. والبلاء موكّل بالمنطق.

وقد كانوا يمهلون مع النبي صلى الله عليه وسلم حتى يستفتحوا فلا يؤخّروا بعد ذلك.

المسألة الثالثة ـ كان النبىّ صلى الله عليه وسلم إذا غزا قوما لم يغز حتى يصبح وينظر ، فإن سمع أذانا أمسك ، وإلا أغار ؛ رواه البخاري وغيره عن أنس بن مالك.

المسألة الرابعة ـ روى الأئمة بأجمعهم عن ابن عمر أنه قال : كان المسلمون إذا قدموا المدينة يتجنّبون الصلاة فيجتمعون ، وليس ينادى بها أحد ، فتكلّموا يوما في ذلك فقال بعضهم [لبعض] : اتخذوا ناقوسا مثل النصارى. وقال بعضهم لبعض : اتخذوا قرنا مثل قرن اليهود ؛ فقال عمر : ألا تبعثون رجلا ينادى بالصلاة؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا بلال ؛ قم فناد بالصلاة.

وفي الموطّأ وأبى داود عن عبد الله بن زيد قال (١) : لما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناقوس ليعمل حتى يضرب به فيجتمع الناس للصلاة طاف بي وأنا نائم رجل يحمل ناقوسا ، فقلت له : يا عبد الله ، تبيع هذا الناقوس؟ فقال لي : ما تصنع به؟ فقلت : ندعو به للصلاة. قال : أفلا أدلّك على ما هو خير من ذلك؟ فقلت : بلى. فقال تقول : الله أكبر ، الله أكبر ... فذكر الأذان والإقامة.

فلما أصبحنا أتيت النبىّ صلى الله عليه وسلم فأخبرته بما رأيت ، فقال : إنها لرؤيا حقّ إن شاء الله تعالى ، قم مع بلال فألق عليه ما رأيت فليؤذن به. ففعلت.

فلما سمع عمر الأذان خرج مسرعا ، فسأل عن ذلك ، فأخبر الخبر ، فقال : يا رسول الله ؛ والذي بعثك بالحق ، لقد رأيت مثل الذي رأى. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : الحمد لله.

وفي ذلك أحاديث كثيرة ، وقد استوفينا الكلام على أخبار الأذان في شرح الحديث ومسائله في كتب الفروع.

__________________

(١) ابن ماجة : ٢٣٢.

١١٤

الآية التاسعة عشرة ـ قوله تعالى (١) : (قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ ، وَلا تَتَّبِعُوا أَهْواءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ).

فيها مسألتان :

المسألة الأولى ـ نهى الله سبحانه أهل الكتاب عن الغلوّ (٢) في الدّين من طريقيه : في التوحيد ، وفي العمل ؛ فغلوّهم في التوحيد نسبتهم له الولد سبحانه ، وغلوّهم في العمل ما ابتدعوه من الرّهبانية في التحليل والتحريم والعبادة والتكليف.

وقال صلى الله عليه وسلم (٣) : لتركبنّ سنن (٤) من كان قبلكم شبرا بشبر وذراعا بذراع ، حتى لو دخلوا جحر ضبّ خرب لدخلتموه.

وهذا صحيح لا كلام فيه ، وقد ثبت في الصحاح أنّ النبىّ صلى الله عليه وسلم سمع امرأة من الليل تصلى ، فقال : من هذه؟ قيل (٥) : الحولاء بنت تويت لا تنام الليل كلّه. فكره ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى عرفت الكراهية في وجهه ، وقال : إنّ الله لا يملّ حتى تملّوا ، اكلفوا من العمل ما تطيقون.

وروى فيه أيضا أنه قال : إن هذا الدين متين فأوغل (٦) فيه برفق فإنّ المنبت لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى (٧).

المسألة الثانية ـ لما أخبر النبىّ صلى الله عليه وسلم بأنا نتبع من قبلنا في سننه ، وكانت الكفرة قد شبّهت الله سبحانه بالخلق في الولد ، وشبّهت هذه الأمة الباري تعالى بالخلق في مصائب قد بيّناها في الأصول لا نقصر في الباطل عن الولد ، وغلت طائفة في العمل حتى ترهّبت وتركت النكاح ، وواظبت على الصوم ، وتركت الطيبات ، وقد قال صلى الله عليه وسلم : من رغب عن سنّتى فليس منّى. وسنكشف ذلك في موضعه هاهنا بالاختصار ؛

__________________

(١) الآية السابعة والسبعون.

(٢) الغلو : مجاوزة الحد ، والإفراط.

(٣) صحيح مسلم ٢٠٥٤ ، وفيه لتتبعن.

(٤) السنن : الطريقة كالسنة.

(٥) الإصابة : ٤ ـ ٢٧٠

(٦) الإيغال : السير الشديد. يريد سر فيه برفق وابلغ الغاية القصوى منه بالرفق لا على سبيل التهافت والخرق ، ولا تحمل على نفسك وتكلفها ، ما لا تطيق فتعجز وتترك الدين والعمل.

(٧) المنبت : يقال للرجل إذا انقطع به سفره وعطبت راحلته : قد أنبت. والظهر : الإبل التي يحمل عليها وتركب (النهاية).

١١٥

إذ قد بيناه بالطول في كتب الحديث ، وخصوصا في قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ) ، وهي :

الآية الموفية عشرين (١) ـ قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ).

فيها أربع مسائل :

المسألة الأولى ـ في سبب نزولها :

فيه ثلاثة أقوال :

الأول ـ أن جماعة من أصحاب النبىّ صلى الله عليه وسلم منهم علىّ ، والمقداد ، وعبد الله ابن عمر ، وعثمان بن مظعون ، وابن مسعود ، وسالم مولى أبى حذيفة ، جلسوا في البيوت ، وأرادوا أن يفعلوا كفعل النصارى من تحريم طيبات الطعام واللباس واعتزال النساء ، وهمّ بعضهم أن يجبّ (٢) نفسه ، وإنّ عثمان بن مظعون كان ممن حرّم النساء والزينة على نفسه ، وأرادوا أن يترهّبوا ، ولا يأكلوا لحما ولا ودكا (٣) ؛ وقالوا : نقطع مذاكيرنا ، ونسيح في الأرض ، كما فعل الرّهبان.

فلما بلغ ذلك النبىّ صلى الله عليه وسلم نهاهم عنه ، وأعلمهم أنه ينكح النساء ، ويأكل من الأطعمة ، وينام ويقوم ، ويفطر ويصوم ، وأنه من رغب عن سنّتى فليس منى ، وقال لهم : إنما هلك من كان قبلكم بالتشديد ، فشدّدوا على أنفسهم ، فشدّد الله عليهم. أولئك بقاياهم في الدّيار والصوامع ، اعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا ، وأقيموا الصلاة ، وآتوا الزكاة ، وصوموا رمضان ، وحجّوا واعتمروا ، واستقيموا يستقم لكم.

وإن هذه الآية نزلت فيهم (٤) ، روى ذلك عن ابن عباس وغيره.

الثاني ـ روى أنّ عبد الله بن رواحة ضافه ضيف ، فانقلب ابن رواحة ولم يتعش. فقال لزوجته : ما عشيّتيه؟ فقالت : كان الطعام قليلا ، فانتظرتك أن تأتى. قال :؟؟؟؟ ضيفي

__________________

(١) الآية السابعة والثمانون.

(٢) يجب نفسه : يقطع ذكره.

(٣) الودك : دسم اللحم ودهنه الذي يستخرج منه.

(٤) أسباب النزول : ١١٧ ، والقرطبي : ٦ ـ ٢٦٠

١١٦

من أجلى ، فطعامك علىّ حرام إن ذقته. فقالت هي : وهو علىّ حرام إن لم تذقه. وقال الضيف : هو علىّ حرام إن ذقته إن لم تذوقوه. فلما رأى ذلك ابن رواحة قال : قرّبى طعامك ، كلوا بسم الله ، وغدا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأخبره. فقال صلى الله عليه وسلم : أحسنت. ونزلت الآية : فكلوا مما رزقكم الله.

قال ابن عباس في حديثه : فقالوا : يا رسول الله ، كيف نصنع بأيماننا ، فنزلت (١) : (لا يُؤاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ ...) الآية.

الثالث ـ روى التّرمذى عن ابن عباس أنّ رجلا جاء إلى النبىّ صلى الله عليه وسلم ، فقال له : يا رسول الله ؛ إنى إذا أصبت اللحم انتشرت للنساء وأخذتنى شهوة ، فحرمت علىّ اللحم ، فنزلت : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ ...) إلى (مُؤْمِنُونَ).

قال الترمذي : صحيحة الإرسال.

المسألة الثانية ـ ظنّ أصحاب النبىّ صلى الله عليه وسلم أنّ المطلوب منهم طريق من قبلهم من رفض الطعام والشراب والنساء ، وقد قال الله سبحانه (٢) : (لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً) (٣) ؛ فكانت شريعة من قبلنا بالرهبانية وشريعتنا بالمسحة الحنيفية.

وفي الصحيح أنّ عثمان بن مظعون نهاه النبىّ صلى الله عليه وسلم عن التبتل (٤) ، ولو أذن له لاختصينا.

والذي يوجب في ذلك العلم ، ويقطع العذر ، ويوضّح الأمر ـ أنّ الله سبحانه قال لنبيه (٥) : (وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً) ؛ فبيّن النبىّ صلى الله عليه وسلم التبتل بفعله ؛ وشرح أنه امتثال الأمر ، واجتناب النّهى ، وليس بترك المباحات ، وكان النبىّ صلى الله عليه وسلم يأكل اللّحم إذا وجده ، ويلبس الثياب تبتاع بعشرين جملا ، ويكثر من الوطء ، ويصبر إذا عدم ذلك ، ومن رغب عن سنّته لسنة عيسى فليس منه.

__________________

(١) سورة البقرة ، آية ٢٢٥ ، وسورة المائدة ، آية ٨٩.

(٢) سورة المائدة ، آية ٤٨.

(٣) الشرعة ، والشريعة : الطريقة الظاهرة التي يتوصل بها إلى النجاة والمنهاج : الطريق المستمر. وقيل : شرعة ومنهاجا : سنة وسبيلا. ومعنى الآية أنه جعل التوراة لأهلها ، والإنجيل لأهله ، والقرآن لأهله (القرطبي : ٦ ـ ٢١١).

(٤) التبتل : الانقطاع عن النساء ، وترك النكاح.

(٥) سورة المزمل ، آية ٨

١١٧

المسألة الثالثة ـ قال علماؤنا : هذا إذا كان الدّين قواما ، ولم يكن المال حراما ؛ فأما إذا فسد الدين عند الناس ، وعمّ الحرام فالتبتّل وترك اللذات أولى ، وإذا وجد الحلال فحال النبىّ صلى الله عليه وسلم أفضل ، وكان ذاتشمند (١) رحمه الله يقول : إذا عمّ الحرام ، وطبّق (٢) البلاد ، ولم يوجد حلال استؤنف الحكم ، وصار الكلّ معفوّا عنه ، وكان كل واحد أحقّ بما في يده ما لم يعلم صاحبه.

وأنا أقول : إن هذا الكلام منقاس إذا انقطع الحرام ، فأما والغصب متماد ، والمعاملات الفاسدة مستمرة ، ولا يخرج المرء من حرام إلا إلى حرام فأشبه المعاش من كان له عقار قديم الميراث يأكل من غلّته ، وما رأيت في رحلتي أحدا يأكل مالا حلالا محضا إلا سعيدا المغربي ، كان يخرج في صائفة الخطمي ، فيجمع من زريعته (٣) قوته ويطحنها ويأكلها بزيت يجلبه الروم من بلادهم.

المسألة الرابعة ـ إذا قال : هذا علىّ حرام لشيء من الحلال ـ عدا الزوجة فإنه كذبة لا شيء عليه فيها ، ويستغفر الله ، ولا يحرم عليه شيء مما حرمه.

هذا مذهب مالك والشافعى ، وأكثر الصحابة ؛ وروى أنه قول يوجب الكفارة ، وبه قال أبو حنيفة. ويدلّ عليه حديث عبد الله بن رواحة المتقدم.

وفي حديث الجماعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مثله.

وروى أيضا عنهم أنهم حلفوا بالله فأذن لهم في الكفّارة ، فتعلّق أصحاب أبى حنيفة بمسألة اليمين ، وتأتى إن شاء الله.

وأما إذا قال لزوجته : أنت علىّ حرام فموضعها سورة التحريم ، والله يسهل في البلوغ إليها بعونه.

__________________

(١) هكذا بالأصل ، وفي هامشه : هو الإمام أبو حامد الغزالي ، وهو لقب أعجمى يفسر بعالم العلماء (هامش ١).

(٢) طبق البلاد : عمها.

(٣) الزريعة كسفينة : الشيء المزروع (القاموس).

١١٨

الآية الحادية والعشرون ـ قوله تعالى (١) : (لا يُؤاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ذلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمانِكُمْ إِذا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمانَكُمْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ).

فيها سبع وعشرون مسألة :

المسألة الأولى ـ اليمين على ضربين : لغو ومنعقدة ، وقد بينا لغو اليمين في سورة البقرة (٢).

وأما اليمين المنعقدة فهي المنفعلة من العقد ، والعقد على ضربين : حسّى كعقد الجبل ، وحكمى كعقد البيع ؛ وهو ربط القول بالقصد القائم بالقلب ، يعزم بقلبه أوّلا متواصلا (٣) منتظما ، ثم يخبر عمّا انعقد من ذلك بلسانه.

فإن قيل : صورة اليمين اللّغو والمنعقدة على هذا واحدة ، فما الفرق بينهما؟

قلنا : قد آن الآن أن نلتزم بذلك الاحتفاء ، ونكشف عنه الخلفاء ، فنقول :

إن اليمين المنعقدة ما قلناه. واللغو ضده واليمين اللغو سبع (٤) متعلقات في اختلاف الناس : المتعلق الأول ـ اليمين مع النسيان ، فلا شكّ في إلغائها ؛ لأنه إذ قصد زيدا فتلفّظ بعمرو فلا شك في أنها جاءت على خلاف قصده ، فهي لغو محض. وأما من قال : إنه اليمين المكفّرة فلا متعلّق له يحكى.

والمتعلق الثالث (٥) ـ في دعاء الإنسان على نفسه إن لم يكن كذا ، فينزل به كذا ، فهذا قول لغو في طريق الكفارة ، ولكنه منعقد في العقد مكروه ، وربما يؤاخذ به ؛ فإن النبىّ صلى الله عليه وسلم قال : لا يدعون أحدكم على نفسه ، فربما صادف ساعة لا يسأل الله فيها أحد شيئا إلا أعطاه إياها.

والمتعلق الرابع ـ في يمين المعصية باطل ؛ لأنّ الحالف على ترك المعصية تنعقد يمينه عبادة ،

__________________

(١) الآية التاسعة والثمانون.

(٢) آية ٢٢٥ صفحة ١٧٦.

(٣) في ل : متصلا.

(٤) لم يذكر إلا خمسة.

(٥) هكذا بالأصول.

١١٩

والحالف على فعل المعصية تنعقد يمينه معصية ، ويقال له : لا تفعل فكفر ، فإن أقدم على الفعل فجر في إقدامه وبر في يمينه.

وإنما قلنا : إنها تنعقد لأنه قصد بقلبه الفعل أو الكفّ في زمان مستقبل يتأتّى فيه كلّ واحد منهما. وهذا ظاهر.

والمتعلّق الخامس ـ في يمين الغضب موضع فتنة ؛ فإنّ بعض الناس يقول : يمين الغضب لا يلزم ، وينظر في ذلك إلى حديث يروى : لا يمين في إغلاق (١) ، وهذا لم يصحّ ، والإغلاق : الإكراه ، لأنه تغلق الأبواب على المكره (٢) وتردّه إلى مقصده ، وقد حلف النبىّ صلى الله عليه وسلم غاضبا ألّا يحمل الأشعريين وحملهم ، وقال : والله إن شاء الله إنى لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيرا منها إلا أتيت الذي هو خير وكفّرت عن يميني. وهذا بيّن ظاهر جدا.

وأما من قال : إنه قول الرجل : لا والله ، وبلى والله. ففي صحيح البخاري ، عن عائشة قالت : نزلت : (لا يُؤاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ) ، في قول الرجل : لا والله ، وبلى والله.

قلنا : هذا صحيح ، ومعناه إذا أكثر الرجل في يمينه من قول : لا والله ، وبلى الله ، على أشياء يظنّها كما قال ، فتخرج بخلافه.

أو على حقيقة ، فهي تنقسم قسمين : قسما يظنّ وقسما يعقد ، فلا يؤاخذ منها فيما وقع على ظنّ ، ويؤاخذ فيما عقد ، وكيف يجوز أن يظن أحد أن قوله : لا والله ، وبلى والله ، فيما يعتقده ويعقده أنه لغو ، وهو منهىّ عن الاسترسال فيه والتهافت به. قال الله سبحانه (٣) : (وَلا تَجْعَلُوا اللهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ) ؛ فنهى عنها ولا يؤاخذ إذا فعلها.

هذا لعمر الله هو القول اللغو ، وهذا يبيّن لك أن القول ما قاله مالك ، وأنه اليمين على ظنّ يخرج بخلافه.

فإن قيل وهي :

__________________

(١) إغلاق : إكراه ؛ لأن المكره مغلق عليه في أمره ومضيق عليه في تصرفه ، كما يغلق الباب على الإنسان (النهاية).

(٢) في ل : المكلف.

(٣) سورة البقرة آية ٢٢٤.

١٢٠