أحكام القرآن - ج ١

أبي بكر محمّد بن عبدالله [ ابن العربي ]

أحكام القرآن - ج ١

المؤلف:

أبي بكر محمّد بن عبدالله [ ابن العربي ]


المحقق: علي محمّد البجاوي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الجيل
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٢٣

وروى عن الشافعى أنه قال : يباح التيمم للمريض إذا خاف التلف ؛ ونظر إلى أنّ زيادة المرض غير متحققة ، لأنها قد تكون وقد لا تكون ، ولا يجوز ترك الفرض المتيقّن للخوف المشكوك فيه.

قلنا : ظاهر الآية يجوّز له التيمم ؛ فليس لك في هذا القول أصل تردّ إليه كلامك ؛ بل قد ناقضت ؛ فإنك قلت : إذا خاف التلف من البرد تيمّم ، فكما يبيح التيمم خوف التلف كذلك يبيحه له خوف المرض ؛ فإن المرض محذور ، كما أنّ التلف محذور ، وكذلك يقول : إذا خاف المرض من البرد يتيمّم فكيف بزيادة المرض؟

وقد روى جابر بن عبد الله قال : خرجنا في سفر فأصاب رجلا منا حجر في رأسه فشجّه ثم احتلم ، فقال لأصحابه : هل تجدون لي رخصة في التيمم؟ فقالوا : ما نجد لك رخصة وأنت تقدر على الماء ؛ فاغتسل ، فمات ؛ فلما قدمنا على النبي صلّى الله عليه وسلّم أخبر بذلك ، فقال : قتلوه ، قتلهم الله. ألا سألوا إذا لم يعلموا! فإنما شفاء العىّ السؤال ؛ إنما كان يكفيه أن يتيمّم ، أو يعصب على جرحه خرقة ثم يمسح عليها ويغسل سائر جسده. خرّجه أبو داود وغيره.

وعجبا للشافعي يقول : لو زاد الماء على قيمته حبّة لم يلزم شراؤه صيانة للمال ؛ ويلزمه التيمم ، وهو يخاف على بدنه المرض ، وليس لهم عليه كلام يساوى سماعه.

المسألة التاسعة عشرة ـ قوله تعالى : (أَوْ عَلى سَفَرٍ) :

روى أنّ أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أصابتهم جراحة ففشت فيهم ، ثم ابتلوا بالجنابة فشكوا ذلك ، فنزلت هذه الآية.

وقالت عائشة : كنت في مسير مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتى إذا كنت بذات الجيش ضلّ عقد لي ... الحديث (١) إلى آخره. قال : فنزلت آية التيمم ، وهي معضلة ما وجدت لدائها من دواء عند أحد ، هما آيتان فيهما ذكر التيمم : إحداهما في النساء ، والأخرى في المائدة (٢) ، فلا نعلم أية آية عنت عائشة.

وآية التيمم المذكورة في حديث عائشة النازلة عند فقد العقد كانت في غزوة

__________________

(١) الحديث بتمامه في أسباب النزول ٨٧

(٢) أى هذه الآية في النساء ، وآية المائدة : ٦

٤٤١

المريسيع (١) قال خليفة بن خيّاط : سنة ست من الهجرة. وقال غيره : سنة خمس ، وليس بصحيح.

وحديثها يدلّ على أنّ التيمم قبل ذلك لم يكن معلوما ولا مفعولا لهم. فالله أعلم كيف كانت حال من عدم الماء ، وحانت عليه الصلاة. فإحدى الآيتين مبينة والأخرى زائدة عليها ، وإحداهما سفرية والأخرى حضرية ، ولما كان أمرا لا يتعلق به حكم خبأه الله ولم يتيسّر بيانه على يدي أحد ، ولقد عجبت من البخاري بوّب في كتاب التفسير في سورة النساء على الآية التي ذكر فيها التيمم ، وأدخل حديث عائشة فقال : وإن كنتم مرضى أو على سفر. وبوّب في سورة المائدة فقال : باب (فَلَمْ تَجِدُوا ماءً) ، وأدخل حديث عائشة بعينه ، وإنما أراد أن يدلّ على أنّ الآيتين تحتمل كلّ واحدة منهما قصة عائشة ، وأراد فائدة أشار إليها هي أنّ قوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ وَلا جُنُباً إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا) إلى هذا الحد نزل في قصة علىّ ، وأنّ ما وراءها قصة أخرى وحكم آخر لم يتعلّق بها شيء منه ، فلما نزلت في وقت آخر قرنت بها.

والذي يقتضيه هذا الظاهر عندي أنّ آية الوضوء يذكر التيمم فيها في المائدة ، وهي النازلة في قصة عائشة ، وكان الوضوء مفعولا غير متلوّ ، فكمل ذكره ، وعقب بذكر بدله واستوفيت النواقض فيه ، ثم أعيدت من قوله : (وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى ...) إلى آخر الآية في سورة النساء مركبة على قوله تعالى : (وَلا جُنُباً إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا) ، حتى تكمل تلك الآية في سورة النساء جاء بأعيان مسائلها كمال هذه ، ويتكرّر البيان ، وليس لها نظير في القرآن. والذي يدلّ على أنّ آية عائشة هي آية المائدة أنّ المفسرين بالمدينة اتفقوا على أنّ المراد بقوله تعالى : (إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ) يعنى من النوم ، وكان ذلك في قصة عائشة ؛ والله أعلم.

المسألة الموفية عشرين ـ قوله تعالى : (أَوْ عَلى سَفَرٍ) ها هنا خلاف قوله (٢) : (أَوْ عَلى سَفَرٍ)

__________________

(١) المريسيع : بئر أو ماء لخزاعة ، وإليه تضاف غزوة بنى المصطلق.

(٢) سورة البقرة ، آية ١٨٤ ، ١٨٥

٤٤٢

في الصيام ؛ لأنّ السفر هناك شرط في الإفطار ، فاعتبرناه وتكلّمنا عليه ، وحدّدناه ، فأما هاهنا فإنّ التيمم في حالة الحضر جائز ، وإنما نصّ الله سبحانه على السفر ، لأنه الغالب من عدم الماء ؛ فأما عدم الماء في الحضر فنادر ؛ فإن وقع فالتيمم جائز عند علمائنا والشافعية. وفي المدوّنة : يعيد إذا وجد الماء ، وإنما ذلك حيث وقع اتهام له بالتقصير كما استقصر (١) فيما إذا نسى الماء في رحله وتيمّم ، والناس لا خطاب عليهم إجماعا.

وقال أبو حنيفة : يتيمم في الحضر إلا مريض أو محبوس ، يقال له ، أو طليق طلب الماء فلم يجده حتى خاف خروج الوقت فإنه يتيمم ؛ لأنّ معنى المرض والحبس عنده هو عدم المقدرة ، على ما يأتى بيانه شريفا بديعا إن شاء الله تعالى.

وفي الصحيح أنّ النبىّ صلّى الله عليه وسلم سلّم عليه رجل فلم يردّ عليه السلام حتى تيمّم في الحائط. وهذا نصّ في التيمم في الحضر.

المسألة الحادية والعشرون ـ قوله تعالى : (أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ).

وهو المطمئنّ من الأرض ، كانوا إذا أرادوا قضاء الحاجة أتوه رغبة في التستّر ، فكنى به عما يخرج من السّبيلين ، وشرط الوضوء به شرعا ؛ وكأنّ معنى ذلك : أو كنتم جنبا أو محدثين حتى تغتسلوا ؛ ولكل شيء بيان صفة غسله (٢) ، ولذلك قال علماؤنا : إن الخارج إذا كان على غير المعتاد لم يتعلّق به نقض الوضوء وصار داء ، والدليل عليه سقوط اعتبار دم المستحاضة لأجل أنه دم علّة ، وقد مهدنا ذلك بتفصيله في كتب المسائل.

المسألة الثانية والعشرون ـ قوله تعالى : (أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ) :

فيها خلاف كثير ، وأقوال متعددة للعلماء ، ومتعلقات مختلفات ، وهي من مسائل الخلاف الطيولية ؛ وقد استوفينا ما فيه بطرقه البديعة ، وخذوا الآن معنى قرآنيا بديعا ؛ وذلك أنّا نقول : حقيقة اللمس إلصاق الجارحة بالشيء ، وهو عرف في اليد ؛ لأنها آلته الغالبة ؛ وقد يستعمل كناية عن الجماع.

__________________

(١) في ا : استقصره.

(٢) في ل : ولكل شيء بيان صفة عنه له.

٤٤٣

وقد قالت طائفة : اللّمس هنا الجماع.

وقالت أخرى : هو اللمس المطلق لغة أو شرعا ؛ فأما اللغة فقد قال المبرد : لمستم : وطئتم ، ولامستم : قبّلتم ؛ لأنها لا تكون إلا من اثنين ، والذي يكون بقصد وفعل من المرأة هو التقبيل ، فأما الوطء فلا عمل لها فيه.

قال أبو عمرو : الملامسة الجماع ، واللمس لسائر الجسد ، وهذا كلّه استقراء لا نقل فيه عن العرب.

وحقيقة النّقل أنه كله سواء ؛ «وإن لمستم» محتمل للمعنيين جميعا ، كقوله : لامستم ، ولذلك لا يشترط لفعل الرجل شيء من المرأة.

وقد قال ابن عباس : إنّ الله تعالى حيي كريم يعفّ (١) ؛ كنى باللمس عن الجماع.

وقال ابن عمر : قبلة الرجل امرأته وجسّها بيده من الملامسة ، وكذلك قال ابن مسعود ، وهو كوفى ، فما بال أبى حنيفة خالفه؟ ولو كان معنى القراءتين مختلفين لجعلنا لكلّ قراءة حكمها ، وجعلناهما بمنزلة الآيتين ، ولم يتناقض ذلك ولا تعارض ؛ وهذا تمهيد المسألة.

ويكمله ويؤكده ويوضحه أنّ قوله : (وَلا جُنُباً) أفاد الجماع ، وأن قوله تعالى : (أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ) أفاد الحدث ، وأنّ قوله : (أَوْ لامَسْتُمُ) أفاد اللمس والقبل ؛ فصارت ثلاث جمل لثلاثة أحكام ، وهذا غاية في العلم والإعلام ، ولو كان المراد باللمس الجماع لكان تكرارا ، وكلام الحكيم يتنزّه عنه ، والله أعلم.

فإن قيل : ذكر الله سبحانه الجنابة ولم يذكر سببها ، فلما ذكر سبب الحدث ـ وهو المجيء من الغائط ـ ذكر سبب الجنابة ، وهو الملامسة للجماع ؛ ليفيد أيضا بيان حكم الحدث والجنابة عند عدم الماء ، كما أفاد بيان حكمها عند وجود الماء.

قلنا : لا يمنع حمل اللفظ على الجماع واللمس ، ويفيد الحكمين ، وقد حقّقنا ذلك في أصول الفقه.

المسألة الثالثة والعشرون ـ راعى مالك في اللمس القصد ، وجعله الشافعى ناقضا للطهارة

__________________

(١) في ا : يعفو.

٤٤٤

بصورته كسائر النواقض ، وهو الأصل ؛ والذي يدّعى انضمام القصد إلى اللمس في اعتبار الحكم هو الذي يلزمه الدليل ؛ فإنّ الله تعالى أنزل اللمس المفضى إلى خروج الذي منزلة التقاء الختانين المفضى إلى خروج المنىّ. فأما اللمس المطلق فلا معنى له ، وذلك مقرّر في مسائل الخلاف.

المسألة الرابعة والعشرون ـ قوله تعالى : (النِّساءَ) :

وهذا عامّ في كل امرأة بحلال أو حرام كالجنابة ، حتى قال الشافعىّ : إنه لو لمس صغيرة ينتقض طهره في أحد قوليه.

وهذا ضعيف ؛ فإنّ لمس الصغيرة كلمس الحائط. واختلف قوله في ذوات المحارم لأجل أنه لا يعتبر اللذة ، وإن أخرج ذوات المحارم عنها فقد انتقض عليه جميع مذهبه في ذلك. ونحن اعتبرنا اللذة ، فحيث وجدت وجد حكمها ، وهو وجوب الوضوء.

المسألة الخامسة والعشرون ـ يدخل في حكم اللمس الرجال والنساء كما دخلوا في قوله : (وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً) سواء ، لأنه لا اعتبار عندنا بالاسم ، وإنما الاعتبار بالمعنى ؛ وذلك بيّن.

المسألة السادسة والعشرون ـ قوله تعالى : (فَلَمْ تَجِدُوا ماءً) :

لما ذكر الله سبحانه اغتسلوا واطّهروا اقتضى ذلك الماء اقتضاء قطعيّا ، إذ هو الغاسول والطّهور ؛ فلذلك قال : لم تجدوا ماء ، فصرّح بالمقتضى ، وكان عنده سواء التصريح والاقتضاء ؛ وهذا في اللغة كثير.

المسألة السابعة والعشرون ـ قوله تعالى : (فَلَمْ تَجِدُوا ماءً) :

قال علماؤنا رحمة الله عليهم : فائدة الوجود الاستعمال والانتفاع بالقدرة عليهما ، فمعنى قوله : فلم تجدوا ماء : فلم تقدروا ؛ ليتضمّن ذلك الوجوه المتقدمة المذكورة فيها ، وهي المرض والسفر ؛ فإنّ المريض واجد للماء صورة ، ولكنه لمّا لم يتمكن من استعماله لضرورة صار معدوما حكما ؛ فالمعنى الذي يجمع نشر الكلام : فلم تقدروا على استعمال الماء. وهذا يعمّ المرض والصحة إذا خاف من أخذ الماء لصّا أو سبعا ، ويجمع الحضر والسفر ؛ وهذا

٤٤٥

هو العلم الصريح ، والفقه الصحيح ، والأصوب بالتصحيح ؛ ألا ترى أنه لو وجده بزائد على قيمته جعله معدوما حكما ، وقيل له تيمّم.

ويتبين أنّ المراد الوجود الحكمي ، ليس الوجود الحسّى ؛ وعلى هذا قلنا : إنّ من وجد الماء في أثناء الصلاة ، إنه يتمادى ولا يقطع الصلاة ، خلافا لأبى حنيفة حيث يقول : يبطل تيمّمه ؛ لأنّ الوجود لعينه لا (١) يبطل التيمم ، كما لو رأى الماء وعليه لصّ أو سبع ، أو رآه بأكثر من قيمته لم يبطل تيمّمه ، وإنما يبطل التيمم بوجود مقرون بالقدرة ، وإذا كان في الصلاة فلا قدرة له إلا بعد إبطالها ، ولا تبطل إلّا بعد اقتران القدرة بالماء ، فلا بطلان لها ؛ وهي مسألة دورية ، وقد حققناها في كتاب التلخيص فلتنظر فيه ؛ وعلى هذا تنبنى مسألة ؛ هي إذا نسى الماء في رحله ، وقد اجتهد في طلبه ، فإنّ الناسي لا يعدّ واجدا ولا يخاطب في حال نسيانه ؛ فلذلك قلنا في أصح الأقوال : إنه يجزئه.

المسألة الثامنة والعشرون ـ قوله تعالى : (ماءً) :

قال أبو حنيفة : هذا نفى في نكرة ، وهو يعم لغة ؛ فيكون مفيدا جواز الوضوء بالماء المتغيّر وغير المتغير ؛ لانطلاق اسم الماء عليه.

قلنا : استنوق (٢) الجمل! الآن يستدلّ أصحاب أبى حنيفة باللغات ، ويقولون على ألسنة العرب ، وهم ينبذونها في أكثر المسائل بالعراء!

واعلموا أنّ النفي في النكرة يعمّ كما قلتم ، ولكن في الجنس ؛ فهو عامّ في كل ما كان من سماء أو بئر أو عين أو نهر أو بحر عذب أو ملح ؛ فأما غير الجنس فهو المتغير ، فلا يدخل فيه ، كما لم يدخل فيه ماء الباقلّاء.

وقد مهّدنا ذلك في الكلام على منع الوضوء بالماء المتغيّر بالزعفران في كتاب التلخيص.

ومن ها هنا وهم الشافعى في قوله : إنه إذا وجد من الماء ما لا يكفيه لأعضاء الوضوء كلّها أنه يستعمله فيما كفاه ويتيمم لباقيه ؛ فخالف مقتضى اللغة وأصول الشريعة.

__________________

(١) في ا : ولا.

(٢) استنوق الجمل : صار كالناقة في ذلها. وهو مثل يضرب للرجل يكون في حديث أو صفة شيء ثم يخلطه بغيره وينتقل إليه. (اللسان ـ نوق).

٤٤٦

أمّا مقتضى اللغة فإن الله سبحانه قال (١) : (إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا) ، وأراد في جميع البدن ، ثم قال : (فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا) ، فافتضى ذلك الماء الذي يقوم له بحق ما تقدّم الأمر فيه والتكليف له ؛ فإنّ آخر الكلام مرتبط بأوله.

وأما مخالفته لأصول فليس في الشريعة موضع يجمع فيه بين الأصل والبدل ، وقد مهّدنا ذلك في مسائل الخلاف ، وبهذا تعلّق الأئمة في الوضوء بماء البحر ، وهي :

المسألة التاسعة والعشرون ـ قال ابن عمر رضى الله عنه : إنه لا يجوز الوضوء به ، لأنه ماء النار أو لأنه طين جهنم ، وكأنهم يشيرون إلى أنه ماء عذاب فلا يكون ماء قربة.

وقد منع النبىّ صلّى الله عليه وسلّم حين نزلوا بديار ثمود ألّا يشرب ولا يتوضأ من آبارهم إلّا من بئر الناقة ، وأوقفهم عليه ؛ وهي إحدى معجزاته صلّى الله عليه وسلّم.

قلنا : قد قال النبىّ صلّى الله عليه وسلّم في ماء البحر : هو الطّهور ماؤه الحلّ ميتته.

وقد روى عن ابن عباس أنّ ماء البحر هو طهور الملائكة ، إذا نزلوا توضّئوا ، وإذا صعدوا توضئوا ، فيقابل حديث ابن عمر بحديث ابن عباس ويبقى لنا مطلق الآية ، وحديث النبي صلّى الله عليه وسلّم.

المسألة الموفية ثلاثين ـ قوله تعالى : (فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً) ، معناه فاقصدوا (٢).

وقد روى عن عبد الله أنه قرأها فائتمّوا (٣) ، والأول أفصح وأملح ؛ فإن «اقصدوا» أملح من اتخذوه إماما ، ومن هاهنا قال أبو حنيفة : تلزم النية في التيمم ؛ لأنه القصد لفظا ومعنى.

قلنا : ليس القصد إليه للاستعمال بدل الماء هو النية ، إنما معناه اجعلوه بدلا ، فأما قصد التقرب فهو غيره.

جواب آخر ـ وذلك أنّ قوله : (فَتَيَمَّمُوا) إن كان يقتضى بلفظه النية فقوله : تطهّروا واغتسلوا (٤) يقتضى بلفظه النية ، كما تقدم.

__________________

(١) سورة المائدة ، آية ٦

(٢) تفسير لتيمموا.

(٣) في ا : فاهتموا.

(٤) في ا : ويغسلوا.

٤٤٧

فإن قيل : الماء مطهّر بنفسه ، فلم يفتقر إلى قصد إذا وجدت النظافة به على أى وجه كانت.

قلنا : وكذلك التراب ملوّث بنفسه ، فلم يفتقر إلى قصد إذا وجد التلوّث به.

المسألة الحادية والثلاثون ـ قوله تعالى : (صَعِيداً) :

فيه أربعة أقوال :

الأوّل ـ وجه الأرض ؛ قاله مالك.

الثاني ـ الأرض المستوية ؛ قاله ابن زيد.

الثالث ـ الأرض الملساء.

الرابع ـ التراب ؛ قاله ابن عباس ، واختاره الشافعى.

والذي يعضده الاشتقاق ـ وهو صريح اللغة ـ أنه وجه الأرض على أى وجه كان من رمل أو حجر أو مدر أو تراب.

المسألة الثانية والثلاثون ـ قوله : (طَيِّباً) :

قيل : إنه منبت ، وعزى إلى ابن عباس ، واختاره الشافعى ؛ وعضده بالمعنى فقال : إنه ينتقل من الماء الذي هو أصل الإحياء إلى التراب الذي هو أصل الإنبات.

وقيل : إنه النظيف. وقيل : إنه الحلال. وقيل : هو الطاهر ؛ فهذه خمسة أقوال أصحّها الطاهر.

فإن قيل : فقد قال مالك : إذا تيمّم على بقعة نجسة جاهلا أعاد في الوقت ، ولو توضّأ بماء نجس أعاد أبدا.

قلنا : هما عندنا سواء في أحد القولين الذي ننصره الآن ، وكلام القول الثاني في كتب المسائل.

فأمّا قول الشافعىّ : إنه نقل من أصل الإحياء إلى أصل الإنبات فهو دعوى لا برهان عليها ؛ على أنّا نقول : نقلنا من الماء إلى الأرض ، ومنها خلقنا.

المسألة الثالثة والثلاثون ـ قوله تعالى : (فَامْسَحُوا) : والمسح في اللغة عبارة عن جرّ اليد على الممسوح خاصة ، فإن كان بآلة فهو عبارة عن نقل الآلة إلى اليد وجرّها على الممسوح بخلاف الغسل ، وسيأتى تحقيق ذلك كله في موضعه إن شاء الله.

٤٤٨

المسألة الرابعة والثلاثون ، والخامسة والثلاثون ـ شرح الوجه واليد.

والسادسة والثلاثون ـ دخول الباء على الوجه.

والسابعة والثلاثون ـ سقوط قوله «منه» ، هاهنا وثبوتها في سورة المائدة (١) ، وسيأتى بيان ذلك كله في سورة المائدة إن شاء الله تعالى.

المسألة الثامنة والثلاثون ـ دخول العفو والغفران على ما تقدّم من الأحكام وانتظامها بهما. ووجه ذلك أنّ عفو الله تبارك وتعالى إسقاطه لحقوقه أو بذله لفضله ، ومغفرته ستره على عباده ؛ فوجه الإسقاط ها هنا تخفيف التكليف ، ولو رد بأكثر للزم ، ووجه بدله إعطاؤه الأجر الكثير على الفعل اليسير ، ورفعه عن هذه الأمّة في العبادات الإصر الذي كان وضعه (٢) على سائر الأمم قبلها ، ومغفرته ستره على المقصّرين في الطاعات ؛ وذلك مستقصى في آيات الذكر ، ومنه نبذة في شرح المشكلين ، فلتنظر هنالك إن شاء الله تعالى.

الآية الثانية والثلاثون ـ قوله تعالى (٣) : (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ ، إِنَّ اللهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللهَ كانَ سَمِيعاً بَصِيراً):

فيها أربع مسائل :

المسألة الأولى ـ اختلف الناس في الأمانات ؛ فقال قوم : هي كلّ ما أخذته بإذن صاحبه.

وقال آخرون : هي ما أخذته بإذن صاحبه لمنفعته.

والصحيح أنّ كليهما أمانة ؛ ومعنى الأمانة في الاشتقاق أنها أمنت من الإفساد.

المسألة الثانية ـ أمر الله تعالى : بأدائها إلى أربابها ، وكان سبب نزولها أمر السرايا ؛ قاله علىّ ومكحول.

وقيل : نزلت في عثمان بن أبى طلحة أخذ (٤) النبىّ صلّى الله عليه وسلّم منه المفتاح يوم الفتح ودخل الكعبة ، فنزل عليه جبريل بهذه الآية ، وخرج النبىّ صلّى الله عليه وسلّم يتلوها ،

__________________

(١) في الآية السادسة من المائدة : فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه ...

(٢) في ا : وظفه.

(٣) الآية الثامنة والخمسون.

(٤) أسباب النزول : ٩٠ ، وابن كثير : ٥١٥ ، والقرطبي : ٥ ـ ٢٥٦

٤٤٩

فدعا عثمان ، فدفع إليه المفتاح ، فكانت ولاية من الله تعالى بغير واسطة إلى يوم القيامة ، وناهيك بهذا فخرا.

وروى (١) أنّ العباس عمّ النبي صلّى الله عليه وسلّم سأل النبىّ عليه السلام أن تجمع له السّدانة والسقاية ، ونازعه في ذلك شيبة ؛ فأنزل الله تبارك وتعالى على النبي الله صلّى الله عليه وسلّم هذه الآية.

المسألة الثالثة ـ لو فرضناها نزلت في سبب فهي عامّة بقولها ، شاملة بنظمها لكل أمانة ؛ وهي أعداد كثيرة ، أمهاتها في الأحكام : الوديعة ، واللقطة ، والرّهن ، [والإجارة] (٢) والعارية.

أما الوديعة فلا يلزم أداؤها حتى تطلب ، وأما اللقطة فحكمها التعريف سنة في مظانّ الاجتماعات ، وحيث ترجى الإجابة لها ، وبعد ذلك يأكلها حافظها ، فإن جاء صاحبها غرمها ، والأفضل أن يتصدّق بها.

وأما الرهن فلا يلزم فيه أداء حتى يؤدى إليه دينه.

وأما الإجارة والعارية إذا انقضى عمله فيها يلزمه ردّها إلى صاحبها قبل أن يطلبها ، ولا يحوجه إلى تكليف للطلب ومؤنة الردّ.

وقال بعض علمائنا في الإجارة : يردّها أين أخذها إن كان موضع ذلك فيها.

المسألة الرابعة ـ قوله تعالى : (وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ) :

قال ابن زيد : قال أبىّ : هم السلاطين ، بدأ الله سبحانه بهم ؛ فأمرهم بأداء الأمانة فيما لديهم من الفيء ، وكلّ ما يدخل إلى بيت المال حتى يوصّلوه إلى أربابه ، وأمرهم بالحكم بين الناس بالعدل ، وأمرنا بعد ذلك بطاعتهم ، فقال (٣) : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ).

قال القاضي : هذه الآية في أداء الأمانة والحكم عامة في الولاية والخلق ، لأنّ كلّ مسلم عالم ، بل كل مسلم حاكم ووال.

وقال النبىّ صلّى الله عليه وسلّم : المقسطون يوم القيامة على منابر من نور عن يمين الرحمن ،

__________________

(١) والقرطبي : ٥ ـ ٢٥٦

(٢) ليس في القرطبي.

(٣) سورة النساء ، آية ٥٩

٤٥٠

وكلتا يديه يمين ، [وهم] (١) الذين يعدلون في أنفسهم وأهليهم وما ولوا.

وقال صلّى الله عليه وسلّم (٢) : كلّكم راع ، وكلّكم مسئول عن رعيته ، فالإمام راع [على الناس] (٣) وهو مسئول عنهم ، والرجل راع في أهل بيته وهو مسئول عنهم ، فالعبد راع في مال سيده وهو مسئول عنه ، ألا كلّكم راع ومسئول عن رعيته.

فجعل صلّى الله عليه وسلّم في هذه الأحاديث الصحيحة كلّ هؤلاء رعاة وحكاما على مراتبهم ، وكذلك العالم الحاكم فإنه (٤) إذا أفتى يكون قضى ، وفصل بين الحلال والحرام ، والفرض والندب ، والصحة والفساد ؛ فجميع ذلك فيمن ذكرنا أمانة تؤدّى وحكم يقضى ، والله عزّ وجلّ أعلم.

الآية الثالثة والثلاثون ـ قوله تعالى (٥) : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ، ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً).

فيها ثلاث مسائل :

المسألة الأولى ـ في حقيقة الطاعة ، وهي (٦) امتثال الأمر ، كما أنّ المعصية ضدها ، وهي مخالفة الأمر.

والطاعة مأخوذة من طاع إذا انقاد ، والمعصية مأخوذة من عصى وهو اشتد ، فمعنى ذلك امتثلوا أمر الله تعالى وأمر رسوله صلّى الله عليه وسلّم.

وقد قال النبي صلّى الله عليه وسلّم (٧) : من أطاع أميرى فقد أطاعنى ، ومن أطاعنى فقد أطاع الله تعالى ، ومن عصى أميرى فقد عصاني ، ومن عصاني فقد عصى الله تعالى.

المسألة الثانية ـ قوله تعالى : (وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) :

فيها قولان :

الأول ـ قال ميمون بن مهران : هم أصحاب السرايا ، وروى في ذلك حديثا ، وهو اختيار

__________________

(١) ليس في القرطبي.

(٢) صحيح مسلم : ١٤٥٩

(٣) في القرطبي : لأنه.

(٤) الآية التاسعة والخمسون.

(٥) في كل الأصول : وهو.

(٦) ابن كثير : ١ ـ ٥١٨ ، والقرطبي : ٥ ـ ٢٦٠

٤٥١

البخاري ، وروى عن ابن عباس أنها نزلت (١) في عبد الله بن حذافة ، إذ بعثه النبىّ صلّى الله عليه وسلّم في سريّة.

الثاني ـ قال جابر : هم العلماء ، وبه قال أكثر التابعين ، واختاره مالك ؛ قال مطرّف وابن مسلمة : سمعنا مالكا يقول : هم العلماء. وقال خالد بن نزار ، وقفت على مالك فقلت : يا أبا عبد الله ؛ ما ترى في قوله تعالى : (وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ)؟ قال : وكان محتبيا فحلّ حبوته ، وكان عنده أصحاب الحديث ففتح عينيه في وجهى ، وعلمت ما أراد ، وإنما عنى أهل العلم ؛ واختاره الطبرىّ واحتجّ له بقوله صلّى الله عليه وسلّم : من أطاع أميرى فقد أطاعنى ... الحديث. والصحيح عندي أنهم الأمراء والعلماء جميعا ، أما الأمراء فلأنّ (٢) أصل الأمر منهم والحكم إليهم. وأما العلماء فلأنّ سؤالهم واجب متعيّن على الخلق ، وجوابهم لازم ، وامتثال فتواهم واجب ، يدخل فيه الزوج للزوجة (٣) ، لا سيما وقد قدمنا أنّ كلّ هؤلاء حاكم ، وقد سمّاهم الله تعالى بذلك فقال (٤) : (يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ). فأخبر تعالى أنّ النبىّ صلّى الله عليه وسلّم حاكم ، [والربانىّ حاكم] (٥) ، والحبر حاكم ، والأمر كله يرجع إلى العلماء (٦) ؛ لأنّ الأمر قد أفضى إلى الجهال ، وتعيّن عليهم سؤال العلماء ؛ ولذلك (٧) نظر مالك إلى خالد بن نزار نظرة منكرة ، كأنه يشير بها إلى أنّ الأمر قد وقف في ذلك على العلماء ، وزال عن الأمراء لجهلهم واعتدائهم ، والعادل منهم مفتقر إلى العالم كافتقار الجاهل.

المسألة الثالثة ـ قوله تعالى : (فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ) :

قال علماؤنا : ردّوه إلى كتاب الله ، فإذا لم تجدوه فإلى سنّة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ، فإن لم تجدوه فكما قال علىّ : ما عندنا إلا [ما في] (٨) كتاب الله تعالى أو ما في هذه الصحيفة ، أو فهم أوتيه رجل [مسلم] (٩) ، وكما قال النبىّ صلّى الله عليه وسلّم لمعاذ: بم

__________________

(١) ابن كثير : ١ : ٥١٦ ، وأسباب النزول : ٩١

(٢) في ل : فإن أصل الأمر.

(٣) في ل : ويدخل فيه الزوج على الزوجة.

(٤) سورة المائدة ، آية ٤٤

(٥) ليس في ل.

(٦) في ل : إلى الأمراء.

(٧) في ا : ولذا قال نظر ... وهو تحريف.

(٨) من القرطبي.

(٩) من القرطبي.

٤٥٢

تحكم؟ قال : بكتاب الله. قال : فإن لم تجد. قال : بسنّة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. قال : فإن لم تجد؟ قال : أجتهد رأيى ، ولا آلو. قال : الحمد لله الذي وفّق رسول رسول الله.

فإن قيل : هذا لا يصحّ.

قلنا : قد بينا في كتاب شرح الحديث الصحيح وكتاب نواهى الدواهي صحّته ، وأخذ الخلفاء كلهم بذلك ؛ ولذلك قال أبو بكر الصديق للأنصار : إنّ الله جعلكم المفلحين ، وسمّانا الصادقين ؛ فقال (١) : (لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ) ... إلى قوله تعالى : (أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ). ثم قال (٢) : (وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ) ... إلى قوله : (فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ).

وقد أمركم الله سبحانه وتعالى أن تكونوا معنا حيث كنّا ، فقال (٣) : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ). وقال النبي صلّى الله عليه وسلّم : أوصيكم بالأنصار خيرا. ولو كان لكم من الأمر شيء ما أوصى بكم. وقال له عمر حين ارتدّ مانعو الزكاة : خذ منهم الصلاة ودع الزكاة. فقال : لا أفعل ؛ فإنّ الزكاة حقّ المال والصلاة حقّ البدن.

وقال عمر بن الخطاب : نرضى لدنيانا من رضيه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لديننا.

وجاءت الجدة الأخرى إليه فقال لها : لا أجد لك في كتاب الله شيئا ولا في سنة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ، هو السدس ؛ فأيتكما خلت به فهو لها ، فإن اجتمعتما فهو بينكما.

وذلك أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قضى بالسدس للجدّة غير معينة ؛ فوجب أن يشتركا فيه عند الاجتماع.

وكذلك لما جمع الصحابة في أمر الوباء بالشام فتكلّموا معه بأجمعهم وهم متوافرون ، ما ذكروا في طلبهم الحق في مسألتهم لله كلمة ولا لرسوله صلّى الله عليه وسلّم حرفا ؛ لأنه لم يكن عندهم ، وأفتوا وحكم عمر (٤) ، ونازعه أبو عبيدة ، فقال له : أرأيت لو كان لك إبل فهبطت بها واديا له عدوتان : إحداهما خصبة والأخرى جدبة ؛ أليس إن رعيت الخصبة رعيتها بقدر الله ، وإن رعيت الجدبة رعيتها بقدر الله ، فضرب المثل لنفسه بالرعي والناس

__________________

(١) سورة الحشر ، آية ٨

(٢) سورة الحشر ، آية ٩

(٣) سورة التوبة ، آية ١١٩

(٤) في ا : وحكموا بحكم عمر. والمثبت من ل.

٤٥٣

بالإبل ، والأرض الوبئة بالعدوة الجدبة ، والأرض السليمة بالعدوة الخصبة ، ولاختيار السلامة باختيار الخصب ؛ فأين كتاب الله تعالى وسنّة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من هذا كله؟

أيقال : قال الله تعالى ، وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فيما لم يقولا ، فذلك كفر ، أم يقال : دع هذا فليس لله فيه حكم ، فذلك كفر ، ولكن تضرب الأمثال ويطلب المثال حتى يخرج الصواب.

قال أبو العالية : وذلك قوله تعالى (١) : (وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ).

وقال عثمان بن عفان وأصحابه حين جمعوا القرآن : إنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم توفى ولم يبيّن لنا موضع براءة ، وإن قصتها لتشبه قصة الأنفال ، فنرى أن نكتبها معها ولا نكتب بينهما سطر (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ). فأثبتوا موضع القرآن بقياس الشبه.

وقال علىّ : نرى أن مدّة الحمل ستة أشهر ، لأنّ الله تعالى يقول (٢) : (وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً).

وقال (٣) : (وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ). فإذا فصلتهما (٤) من ثلاثين شهرا بقيت ستة أشهر.

ولذلك قال ابن عباس : صوم الجنب صحيح ؛ لأنّ الله سبحانه وتعالى قال (٥) : (فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا ما كَتَبَ اللهُ لَكُمْ ، وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ) ؛ فيقع الاغتسال بعد الفجر ، وقد انعقد جزء من الصوم وهو فاتحته مع الجنابة ، ولو سردنا نبط (٦) الصحابة لتبيّن خطأ الجهالة ، وفي هذا كفاية للعلماء ؛ فإن عارضكم السفهاء فالعجلة العجلة إلى كتاب نواهى الدواهي ، ففيه الشفاء إن شاء الله تعالى.

الآية الرابعة والثلاثون ـ قوله تعالى (٧) : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا

__________________

(١) سورة النساء ، آية ٨٣.

(٢) سورة الأحقاف ، آية ١٥

(٣) سورة البقرة ، آية ٢٣٣

(٤) في القرطبي : فإذا فصلنا الحولين من ثلاثين شهرا.

(٥) سورة البقرة ، آية ١٨٧

(٦) هكذا في الأصول ، وكل ما أظهر بعد خفاء فقد نمط.

(٧) الآية الستون.

٤٥٤

بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً).

فيها ثلاث مسائل :

المسألة الأولى ـ في سبب نزولها :

يروى أنها نزلت في رجل من المنافقين (١) نازع رجلا من اليهود ، فقال اليهودي : بيني وبينك أبو القاسم (٢) ، وقال المنافق : بيني وبينك الكاهن.

وقيل : قال المنافق : بيني وبينك كعب بن الأشرف ، يفرّ اليهودي ممن يقبل الرشوة ويريد المنافق من يقبلها.

ويروى أن اليهودي قال له : بيني وبينك أبو القاسم. وقال المنافق : بيني وبينك الكاهن ، حتى ترافعا إلى النبىّ صلّى الله عليه وسلّم ، فحكم لليهودي على المنافق ، فقال المنافق : لا أرضى ، بيني وبينك أبو بكر ؛ فأتيا أبا بكر فحكم أبو بكر لليهودي. فقال المنافق : لا أرضى ، بيني وبينك عمر. فأتيا عمر فأخبره اليهودي بما جرى ؛ فقال : أمهلا حتى أدخل بيتي في حاجة ، فدخل فأخرج سيفه ثم خرج ، فقتل المنافق ؛ فشكا أهله ذلك إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم : أنت الفاروق ، فقال عمر : يا رسول الله ؛ إنه ردّ حكمك. فقال له النبي صلّى الله عليه وسلّم : أنت الفاروق ، وفي ذلك نزلت الآية كلّها إلى قوله (٣) : (... وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً).

ويروى في الصحيح أنّ رجلا من الأنصار خاصم الزبير في شراج الحرّة (٤) ؛ فقال النبىّ صلّى الله عليه وسلّم : اسق يا زبير ، وأرسل الماء إلى جارك الأنصارى. فقال الأنصارى: آن (٥) كان ابن عمتك! فتلوّن وجه النبي صلّى الله عليه وسلّم ، ثم قال للزبير : أمسك الماء حتى يبلغ الجدر ، ثم أرسله.

قال ابن الزبير عن أبيه : وأحسب أنّ الآية نزلت في ذلك (٦) : (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ

__________________

(١) ابن كثير : ١ ـ ٥١٩ ، وأسباب النزول : ٩٢.

(٢) كنية النبي. وفي القرطبي : انطلق بنا إلى محمد.

(٣) آخر آية ٦٥ من السورة نفسها : النساء.

(٤) الشراج : مسايل الماء. والحرة : أرض ذات حجارة سود. والحديث في صحيح مسلم : ١٨٣٠

(٥) بمد همزة أن المفتوحة على جهة الإنكار (القرطبي). وفي مسلم : أن كان ابن عمتك ـ بفتح الهمزة ، أى فعلت ذلك لكونه ابن عمتك.

(٦) سورة النساء ، آية ٦٥

٤٥٥

حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ) ... إلى آخره.

قال مالك : الطاغوت كلّ ما عبد من دون الله من صنم أو كاهن أو ساحر أو كيفما تصرّف الشرك فيه.

وقوله : (آمَنُوا بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ) : يعنى المنافقين ، أظهروا الإيمان.

وبقوله : (وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ) : يعنى اليهود ؛ آمنوا بموسى ، وذلك قوله (١) : (رَأَيْتَ الْمُنافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً) ، ويذهبون إلى الطاغوت.

المسألة الثانية ـ اختار الطبري أن يكون نزول الآية في المنافق واليهودي ثم تتناول بعمومها قصّة الزبير ، وهو الصحيح. وكلّ من اتهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في الحكم فهو كافر ، لكن الأنصارى زلّ زلّة فأعرض عنه النبي صلّى الله عليه وسلّم ، وأقال عثرته لعلمه بصحة يقينه وأنها كانت فلتة ، وليس ذلك لأحد بعد النبي صلّى الله عليه وسلّم. وكلّ من لم يرض بحكم الحاكم بعده فهو عاص آثم.

المسألة الثالثة ـ فيها أن يتحاكم اليهودىّ مع المسلم عند حاكم الإسلام ، وسيأتى في سورة المائدة إن شاء الله تعالى.

الآية الخامسة والثلاثون ـ قوله تعالى (٢) : (وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيارِكُمْ ما فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا ما يُوعَظُونَ بِهِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً).

فيها مسألتان :

المسألة الأولى ـ روى أنه (٣) تفاخر ثابت بن قيس بن شمّاس ويهودي ، فقال اليهودىّ : والله ، لقد كتب الله علينا أن نقتل أنفسنا.

فقال ثابت : والله لو كتب الله سبحانه علينا لفعلنا.

قال أبو إسحاق السبيعي : قال رجل من الصحابة لو أمرنا لفعلنا ، والحمد لله الذي عافانا.

فبلغ ذلك النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال : إنّ من أمّتى لرجالا الإيمان أثبت في قلوبهم من الجبال الرواسي.

__________________

(١) سورة النساء ، آية ٦١

(٢) الآية السادسة والستون.

(٣) ابن كثير ، ١ ـ ٥٢٢

٤٥٦

قال ابن وهب : قال مالك : القائل ذلك أبو بكر الصديق.

المسألة الثانية ـ حرف «لو» تدلّ على امتناع الشيء لامتناع غيره ، فأخبر الله سبحانه أنه لم يكتب ذلك علينا لعلمه بأنّ الأكثر (١) ما كان يمتثل ذلك فتركه رفقا بنا ؛ لئلا تظهر معصيتنا ، فكم من أمر قصرنا عنه مع خفّته ، فكيف بهذا الأمر مع ثقله؟ أما والله لقد ترك المهاجرون مساكنهم خاوية وخرجوا يطلبون بها عيشة راضية ، والحمد لله.

الآية السادسة والثلاثون ـ قوله تعالى (٢) : (وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً).

الآية فيها مسألتان :

المسألة الأولى ـ في سبب نزولها (٣) ؛ وفي ذلك روايات أشبهها ما روى سعيد بن جبير أنّ رجلا من الأنصار جاء إلى النبىّ صلّى الله عليه وسلّم وهو محزون ، فقال له النبي صلّى الله عليه وسلّم : ما لي أراك محزونا؟ فقال : يا نبىّ الله ، نحن نعدو عليك ونروح ننظر في وجهك ونجالسك ، وغدا ترفع مع النبيين ، فلا نصل إليك ؛ فلم يردّ عليه النبىّ صلّى الله عليه وسلّم شيئا ، فأتاه جبريل بهذه الآية ؛ فبعث إليه النبىّ صلّى الله عليه وسلّم يبشره.

المسألة الثانية ـ قال ابن وهب : سمعت مالكا يقول : قال ذلك الرجل ، وهو يصف المدينة وفضلها ، يبعث منها أشراف هذه الأمة يوم القيامة ، وحولها الشهداء أهل بدر وأحد والخندق ، ثم تلا مالك هذه الآية : (فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً ذلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللهِ وَكَفى بِاللهِ عَلِيماً) ؛ يريد مالك في قوله : (وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ) هم هؤلاء الذين بالمدينة ومن حولها ، فبيّن بذلك فضلهم ، وفضل المدينة على غيرها من البقاع : مكّة وسواها ، وهذا فضل مختصّ بها ، ولها فضائل سواها بيّناها في قبس الموطأ ، وفي الإنصاف على الاستيفاء ؛ فلينظر في الكتابين.

الآية السابعة والثلاثون ـ قوله تعالى (٤) : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا

__________________

(١) في ل : لعلمه لأن أكثر ما كان يمتثل.

(٢) الآية التاسعة والستون.

(٣) أسباب النزول : ٩٥ ، وابن كثير : ١ ـ ٥٢٢

(٤) الآية الواحدة والسبعون

٤٥٧

ثُباتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعاً).

فيها ثلاث مسائل :

المسألة الأولى ـ الثبة : الجماعة ، والجمع فيها ثبون أو ثبين أو ثبات ، كما تقول : عضة وعضون وعضاه ، واللغتان في القرآن ، وتصغير الثبة ثبيّة ، ويقال في وسط الحوض ثبة ، لأن الماء يثوب إليه ، أى يرجع ؛ وتصغير هذه ثويبة ، لأنّ هذا محذوف الواو ، وثبة الجماعة إنما اشتقت من ثبّيت على الرجل (١) إذا أثنيت عليه في حياته وجمعت محاسن ذكره ، فيعود إلى الاجتماع.

المسألة الثانية ـ قوله تعالى : (خُذُوا حِذْرَكُمْ) :

أمر الله سبحانه المؤمنين ألّا يقتحموا على عدوهم على جهالة حتى يتحسّسوا إلى ما عندهم ، ويعلموا كيف يردون عليهم ؛ فذلك أثبت للنفوس ، وهذا معلوم بالتجربة.

المسألة الثالثة ـ أمر الله سبحانه الناس بالجهاد سرايا متفرقة أو مجتمعين على الأمير ، فإن خرجت السرايا فلا تخرج إلّا بإذن الإمام ؛ ليكون متحسّسا إليهم وعضدا من ورائهم ، وربما احتاجوا إلى درئه.

الآية الثامنة والثلاثون ـ قوله تعالى (٢) : (فَلْيُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ ، وَمَنْ يُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً).

سوّى الله سبحانه في ظاهر هذه الآية بين من قتل شهيدا أو انقلب غانما ، وقد ثبت عن النبىّ صلّى الله عليه وسلّم أنه قال (٣) : تكفّل الله لمن جاهد في سبيله لا يخرجه من بيته إلّا الجهاد في سبيله ، وتصديق كلمته ، أن يدخله الجنة ، أو يردّه إلى مسكنه الذي خرج منه مع ما نال من أجر أو غنيمة. فغاير بينهما ، وجعل الأجر في محلّ والغنيمة في محل آخر.

وثبت عنه أيضا أنه قال : أيما سريّة أخفقت كمل لها الأجر ، وأيّما سريّة غنمت ذهب ثلثا أجرها.

__________________

(١) في اللسان : ثبيت الرجل : مدحته ، وأثنيت عليه في حياته إذا مدحته دفعة بعد دفعة.

(٢) الآية الرابعة والسبعون.

(٣) ابن كثير : ١ ـ ٥٢٤

٤٥٨

فأما هذا الحديث فقد تكلمنا عليه في شروحات الحديث بما فيه كفاية ، وليس يعارض الآية كلّ المعارضة ، لأنّ فيه ثلث الأجر ، وهذا عظيم ؛ وإذا لم يعارضها فليؤخذ تمامه من غير هذا الكتاب.

وأما الحديث الأول (١) فقد قيل فيه : إنّ «أو» بمعنى الواو ؛ لأنّ الله سبحانه يجمع له الأجر والغنيمة ، فما أعطى الله الغنائم لهذه الأمة محاسبا لها بها من ثوابها ، وإنما خصّها بها تشريفا وتكريما لها ؛ لحرمة نبيها. قال النبي صلّى الله عليه وسلّم : جعل رزقي تحت ظلّ رمحي. فاختار الله لنبيه ولأمّته فيما يرتزقون (٢) أفضل وجوه الكسب وأكرمها ، وهو أخذ القهر والغلبة.

وقيل : إنّ معناه الذي يغنم قد أصاب الحظّين ، والذي يخفق (٣) له الحظّ الواحد وهو الأجر ، فأراد النبىّ صلّى الله عليه وسلّم أن يقول : مع ما نال من أجر وحده أو غنيمة مع الأجر ، والله عزّ وجلّ أعلم.

الآية التاسعة والثلاثون ـ قوله تعالى (٤) : (وَما لَكُمْ لا تُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْ هذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُها وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً).

الآية فيها مسائل :

الأولى ـ قال علماؤنا : أوجب الله سبحانه في هذه الآية القتال ؛ لاستنقاذ الأسرى من يد العدوّ مع ما في القتال من تلف النفس ، فكان بذل المال في فدائهم أوجب ، لكونه دون النفس وأهون منها.

وقد روى الأئمة أنّ النبي صلّى الله عليه وسلّم قال : أطعموا الجائع وعودوا المريض وفكّوا العاني.

وقد قال مالك : على الناس أن يفدوا الأسارى بجميع أموالهم ؛ ولذلك قالوا : عليهم

__________________

(١) في ل : الآخر.

(٢) في ل : يرزقون.

(٣) في ل : قد أصاب الحظ الواحد. وفي ا : يحقق ، وهو تحريف.

(٤) الآية الخامسة والسبعون.

٤٥٩

أن يواسوهم ، فإن المواساة دون المفاداة ، فإن كان الأسير غنيا فهل يرجع عليه الفادي أم لا؟ في ذلك لعلمائنا قولان ؛ أصحّهما الرجوع.

الثانية ـ فإن امتنع من عنده مال من ذلك؟

قال علماؤنا : يقاتله إن كان قادرا على قتاله ، وهو قول مالك في كتاب محمد.

فإن قتل (١) المانع الممنوع كان عليه القصاص ، فإن لم يكن قادرا على قتاله فتركه حتى مات جوعا ؛ فإن كان المانع جاهلا بوجوب المواساة كان في الميّت الدية على عاقلة المانع ، وإن كان عالما بوجوب المواساة ففي المسألة ثلاثة أقوال :

الأول ـ عليه القصاص. الثاني ـ عليه الدّية في ماله. الثالث ـ الدية على عاقلته.

وقد روى عن النبىّ صلّى الله عليه وسلّم أنه قال (٢) : إن الأشعريّين إذا أرملوا (٣) في الغزو أو قلّ طعامهم جمعوا ما كان عندهم في ثوب واحد ، واقتسموه بينهم في إناء واحد بالسويّة فهم منّى وأنا منهم.

الثالثة ـ في تنقيح هذه المسألة :

قال بعض علماؤنا : روى طلحة بن عبد الله أنّ النبىّ صلّى الله عليه وسلّم لما علّم السائل معالم الدين وأركان الإسلام قال له : والزكاة؟ قال : هل علىّ غيرها؟ قال : لا ، إلا أن تطوّع.

وقال النبي صلّى الله عليه وسلّم : أفلح إن صدق. دخل الجنة إن صدق.

وهذا نصّ في أنه لا يتعلق بالمال حقّ سوى الزكاة.

والصحيح أنّ هذا الحديث لا يمنع من وجوب حقّ في المال غير الزكاة لثلاثة أوجه :

أحدها ـ أنّ المراد بهذا الحديث لا فرض ابتداء في المال والبدن إلا الصلاة والزكاة والصيام ، فأمّا العوارض فقد يتوجّه فيها فرض من جنس هذه الفروض بالنذر وغيره.

الثاني ـ أنّ أركان الإسلام من الصلاة والصيام عبادات لا تتعدى المتعبّد بها. وأما المال فالأغراض به متعلّقة ، والعوارض عليه مختلفة.

فإن قيل : إنما فرض الله سبحانه الزكاة ليقوم بحقّ الفقراء أو يسدّ خلّتهم ، وإلّا فتكون الحكمة قاصرة.

__________________

(١) في ا : قيل ، وهو تحريف.

(٢) صحيح مسلم : ١٩٤٥

(٣) أرملوا : نفد زادهم (النهاية).

٤٦٠