أحكام القرآن - ج ١

أبي بكر محمّد بن عبدالله [ ابن العربي ]

أحكام القرآن - ج ١

المؤلف:

أبي بكر محمّد بن عبدالله [ ابن العربي ]


المحقق: علي محمّد البجاوي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الجيل
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٢٣

المسألة الثالثة ـ قال علماؤنا : الربا في اللغة هو الزيادة ، ولا بدّ في الزيادة من مزيد عليه تظهر الزيادة به ؛ فلأجل ذلك اختلفوا هل هي عامّة في تحريم كلّ ربا ، أو مجملة لا بيان لها إلا من غيرها؟

والصحيح أنها عامّة ؛ لأنهم كانوا يتبايعون ويربون ، وكان الربا عندهم معروفا ، يبايع الرجل الرجل إلى أجل ، فإذا حلّ الأجل قال : أتقضى أم تربى؟ يعنى أم تزيدني على مالي عليك وأصبر أجلا آخر. فحرّم الله تعالى الربا ، وهو الزيادة ؛ ولكن لما كان كما قلنا لا تظهر الزيادة إلا على مزيد عليه ، ومتى قابل الشيء غير جنسه في المعاملة لم تظهر الزيادة ، وإذا قابل جنسه لم تظهر الزيادة أيضا إلا بإظهار الشرع ، ولأجل هذا صارت الآية مشكلة على الأكثر ، معلومة لمن أيّده الله تعالى بالنّور الأظهر.

وقد فاوضت فيها علماء ، وباحثت رفعاء ، فكلّ منهم أعطى ما عنده حتى انتظم فيها سلك المعرفة بدرره وجوهرته العليا.

إنّ من زعم أنّ هذه الآية مجملة فلم يفهم مقاطع الشريعة ؛ فإنّ الله تعالى أرسل رسوله صلّى الله عليه وسلّم إلى قوم هو منهم بلغتهم ، وأنزل عليهم كتابه ـ تيسيرا منه ـ بلسانه ولسانهم ؛ وقد كانت التجارة والبيع عندهم من المعاني المعلومة ، فأنزل عليهم مبيّنا لهم ما يلزمهم فيهما ويعقدونهما عليه ، فقال تعالى (١) : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ).

والباطل ، كما بيناه في كتب الأصول ، هو الذي لا يفيد وقع التعبير به عن تناول المال بغير عوض في صورة (٢) العوض.

والتجارة هي مقابلة الأموال بعضها ببعض. وهو البيع ؛ وأنواعه في متعلقاته بالمال كالأعيان المملوكة ، أو ما في معنى المال كالمنافع ، وهي ثلاثة أنواع : عين بعين ، وهو بيع النقد ؛ أو بدين مؤجّل وهو السّلم ، أو حالّ وهو يكون في التمر (٣) أو على رسم الاستصناع. أو بيع عين بمنفعة وهو الإجارة.

__________________

(١) سورة النساء ، آية ٢٩

(٢) في ل : في صفة العوض.

(٣) في ا : الثمن.

٢٤١

والربا في اللغة هو الزيادة ، والمراد به في الآية كلّ زيادة لم يقابلها عوض ؛ فإنّ الزيادة ليست بحرام لعينها ، بدليل جواز العقد عليها على وجهه ؛ ولو كانت حراما ما صحّ أن يقابلها عوض ، ولا يرد عليها عقد كالخمر والميتة وغيرها.

وتبيّن أنّ معنى الآية : وأحلّ الله البيع المطلق الذي يقع فيه العوض على صحّة القصد والعمل ، وحرّم منه ما وقع على وجه الباطل.

وقد كانت الجاهلية تفعله كما تقدم ، فتزيد زيادة لم يقابلها عوض ، وكانت تقول : إنما البيع مثل الرّبا ؛ أى إنما الزيادة عند حلول الأجل آخرا مثل أصل الثمن في أول العقد ؛ فردّ الله تعالى عليهم قولهم ، وحرّم ما اعتقدوه حلالا عليهم ، وأوضح أنّ الأجل إذا حلّ ولم يكن عنده ما يؤدى أنظر إلى الميسرة تخفيفا ، يحققه أنّ الزيادة إنما تظهر بعد تقدير العوضين فيه ، وذلك على قسمين :

أحدهما ـ تولّى الشرع تقدير العوض فيه ، وهو الأموال الرّبوية ، فلا تحلّ الزيادة فيه.

وأما الذي وكله إلى المتعاقدين فالزيادة فيه على قدر مالية العوضين عند التقابل على قسمين : أحدهما ـ ما يتغابن الناس بمثله فهو حلال بإجماع. ومنه ما يخرج عن العادة ؛ واختلف علماؤنا فيه ، فأمضاه المتقدّمون وعدّوه من فنّ التجارة ، وردّه المتأخرون ببغداد ونظرائها وحدّوا المردود بالثلث.

والذي أراه أنه إذا وقع عن علم المتعاقدين فإنه حلال ماض ؛ لأنهما يفتقران إلى ذلك في الأوقات ، وهو داخل تحت قوله تعالى : (إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ). وإن وقع عن جهل من أحدهما فإنّ الآخر بالخيار.

وفي مثله ورد الحديث أنّ رجلا كان يخدع في البيوع فذكر لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم : فقال له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم : إذا بايعت فقل (١) : لا خلابة. زاد الدارقطني وغيره : ولك الخيار ثلاثا ، وقد مهّدناه في شرح الحديث ومسائل الخلاف ؛ فهذا أصل علم هذا الباب.

__________________

(١) صحيح مسلم : ١١٦٥ ، والخلابة : الخديعة ؛ أى لا تحل لك خديعتى ، أو لا يلزمني خديعتك.

٢٤٢

فإن قيل : أنكرتم الإجمال في الآية ، وما أوردتموه من البيان والشروط هو بيان ما لم يكن في الآية مبيّنا ، ولا يوجد عنها من القول ظاهرا.

قلنا : هذا سؤال من لم يحضر ما مضى من القول ، ولا ألقى إليه السمع وهو شهيد ، وقد توضّح في مسائل الكلام أنّ جميع ما أحلّ الله لهم أو حرّم عليهم كان معلوما عندهم ؛ لأن الخطاب جاء فيه بلسانهم ، فقد أطلق لهم حلّ ما كانوا يفعلونه من بيع وتجارة ويعلمونه ، وحرّم عليهم الربا وكانوا يفعلونه ، وحرّم عليهم أكل المال بالباطل وقد كانوا يفعلونه ويعلمونه ويتسامحون فيه ؛ ثم إنّ الله سبحانه وتعالى أوحى إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يلقى إليهم زيادة فيما كان عندهم من عقد أو عوض لم يكن عندهم جائزا ، فألقى إليهم وجوه الرّبا المحرمة في كل مقتات ، وثمن الأشياء مع الجنس متفاضلا ، وألحق به بيع الرطب بالتمر ، والعنب بالزبيب ، والبيع والسلف ، وبيّن وجوه أكل المال بالباطل في بيع الغرر كله أو ما لا قيمة له شرعا فيما كانوا يعتقدونه متقوّما كالخمر والميتة والدم وبيع الغشّ ، ولم يبق في الشريعة بعد هاتين الآيتين بيان يفتقر إليه في الباب ، وبقي ما وراءهما على الجواز ؛ إلّا أنه صحّ عن النبي صلّى الله عليه وسلّم : ما لا يصحّ ستة وخمسون معنى نهى عنها.

الأول والثاني ثمن الأشياء جنسا بجنس ، والثالث والرابع والخامس والسادس والسابع بيع المقتات أو ثمن الأشياء جنسا بجنس متفاضلا ، أو جنسا بغير جنسه نسيئة ، أو بيع الرطب بالتمر ، أو العنب بالزبيب ، أو بيع المزابنة على أحد القولين ، أو عن بيع وسلف ؛ وهذا كلّه داخل في بيع الربا ، وهو مما تولّى الشرع تقدير العوض فيه ، فلا تجوز الزيادة عليه. الثامن بيعتان في بيعة. التاسع بيع الغرز (١) ، وردّ بيع الملامسة والمنابذة والحصاة (٢) ، وبيع الثّنيا ، وبيع العربان وما ليس عندك ، والمضامين ، والملاقيح ، وحبل حبلة (٣) ؛ ويتركّب عليهما من وجه بيع الثمار قبل أن يبدو صلاحها وبيع السنبل حتى يشتدّ ، والعنب حتى يسودّ ، وهو مما قبله ، وبيع المحاقلة والمعاومة والمخابرة والمحاصرة ، وبيع ما لم يقبض ، وربح

__________________

(١) في ل : بيع الغربة. وهو تحريف. وبيع الغرر : ما كان له ظاهر لغير المشترى وباطن مجهول.

(٢) بيع الحصاة : هو أن يقول أحد العاقدين : إذا نبذت لك الحصاة فقد وجب البيع.

(٣) الحبل ـ محركة : مصدر ، سمى به المحمول كما سمى بالحمل ، وإنما دخلت التاء للإشعار بمعنى الأنوثة فالحبل يراد به ما في بطون النوق من الحمل. والثاني حبل الذي في بطون النوق. (النهاية).

٢٤٣

ما لم يضمن ، وبيع الطعام قبل أن يستوفى من بعض ما تقدم ، والخمر والميتة وشحومها ، وثمن الدم ، وبيع الأصنام ، وعسب الفحل ، والكلب والسّنّور ، وكسب الحجّام ، ومهر البغىّ ، وحلوان الكاهن ، وبيع المضطر ، وبيع الولاء ، وبيع الولد أو الأم فردين ، أو الأخ والأخ فردين ، وكراء الأرض والماء والكلأ والنّجش ، وبيع الرجل على بيع أخيه ، وخطبته على خطبة أخيه ، وحاضر لباد ، وتلقى السلع والقينات.

فهذه (١) ستة وخمسون معنى حضرت الخاطر ممّا نهى عنه أوردناها حسب نسقها في الذكر. وهي ترجع في التقسيم الصحيح الذي أوردناه في المسائل إلى سبعة أقسام :

ما يرجع إلى صفة العقد ، وما يرجع إلى صفة المتعاقدين ، وما يرجع إلى العوضين ، وإلى حال العقد ، والسابع (٢) وقت العقد كالبيع وقت نداء يوم الجمعة ، أو في آخر جزء من الوقت المعيّن للصلاة.

ولا تخرج عن ثلاثة أقسام ؛ وهي الربا ، والباطل ، والغرر.

ويرجع الغرر بالتحقيق إلى الباطل فيكون قسمين على الآيتين ، وهذه المناهي تتداخل ويفصلها المعنى.

ومنها أيضا ما يدخل في الربا والتجارة ظاهرا ، ومنها ما يخرج عنها ظاهرا ؛ ومنها ما يدخل فيها باحتمال ، ومنها ما ينهى عنها مصلحة للخلق وتألّفا بينهم لما في التدابر من المفسدة.

المسألة الرابعة ـ قد بينّا أنّ الربا على قسمين : زيادة في الأموال المقتاتة والأثمان (٣) ، والزيادة في سائرها ؛ وذكرنا حدودها ؛ وبينّا أن الرّبا فيما جعل التقدير فيه للمتعاقدين جائز بعلمهما ؛ ولا خلاف فيه ، وكذلك (٤) يجوز الربا في هبة الثواب.

وقد قال عمر بن الخطاب رضى الله عنه : أيما رجل وهب هبة يرى أنها للثواب فهو على هبته ، حتى يرضى منها ؛ فهو مستثنى من الممنوع الداخل في عموم التحريم ، وقد انتهى القول في هذا الغرض ها هنا وشرحه في تفسير الحديث ومسائل الخلاف ، ومنه ما تيسّر على آيات القرآن في هذا القسم من الأحكام.

__________________

(١) ارجع إلى أول الجزء الثاني من ابن ماجة ، وأول الجزء الثالث من صحيح مسلم.

(٢) هكذا في الأصول.

(٣) في ل : والأثمار وزيادة.

(٤) في ل : ولذلك.

٢٤٤

المسألة الخامسة ـ من معنى هذه الآية ، وهي في التي بعدها قوله تعالى (١) : (وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ).

ذهب بعض الغلاة من أرباب الورع إلى أنّ المال الحلال إذا خالطه حرام حتى لم يتميز ، ثم أخرج منه مقدار الحرام المختلط به لم يحلّ ، ولم يطب ؛ لأنه يمكن أن يكون الذي أخرج هو الحلال ، والذي بقي هو الحرام ، وهو غلوّ في الدين ؛ فإن كلّ ما لم يتميز فالمقصود منه ماليّته لا عينه ، ولو تلف لقام المثل مقامه ، والاختلاط إتلاف لتميزه ، كما أنّ الإهلاك إتلاف لعينه ، والمثل قائم مقام الذاهب ، وهذا بيّن حسّا بيّن معنى ، والله أعلم.

الآية الثامنة والثمانون ـ قوله تعالى (٢) : (وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ).

فيها خمس مسائل :

المسألة الأولى ـ في سبب نزولها (٣) :

قد تقدم أنها نزلت في الرّبا عند ذكر الآية قبلها.

المسألة الثانية ـ في المعنى المقصود بها :

فيها ثلاثة أقوال :

الأول ـ أنّ المقصود بها ربا الدّين خاصة ، وفيه يكون الإنظار ؛ قاله ابن عباس وشريح القاضي والنخعي.

الثاني ـ أنه عامّ في كل دين ، وهو قول العامة.

الثالث ـ قال متأخّر وعلمائنا : هو نصّ في دين الرّبا ، وغيره من الديون مقيس عليه.

المسألة الثالثة ـ في التنقيح :

أما من قال إنه في دين الربا فضعيف ، ولا يصحّ ذلك عن ابن عباس ؛ فإنّ الآية وإن كان أولها خاصا ، فإنّ آخرها عام ، وخصوص أولها لا يمنع من عموم آخرها ، لا سيما إذا كان العامّ مستقلّا بنفسه.

ومن قال : إنه نصّ في الربا ، وغيره مقيس عليه فهو ضعيف ؛ لأنّ العموم قد يتناول الكل فلا مدخل للقياس فيه.

__________________

(١) من الآية التاسعة والسبعين بعد المائتين.

(٢) الآية الثمانون بعد المائتين.

(٣) أسباب النزول : ٥١

٢٤٥

فإن قيل : فقد قال في غيره من الديون (١) : (لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا ما دُمْتَ عَلَيْهِ قائِماً).

قلنا : سنتكلم على الآية في موضعها إن شاء الله تعالى.

فإن قيل : وبم تعلم العسرة؟

قلنا : بأن لا نجد له مالا ؛ فإن قال الطالب : خبأ مالا. قلنا للمطلوب : أثبت عدمك ظاهرا ويحلف باطنا ، والله يتولى السرائر.

المسألة الرابعة ـ ما الميسرة التي يؤدّى بها (٢) الدين؟

وقد اختلف الناس فيها اختلافا متباينا بيناه في مسائل الفقه. تحرير قول علمائنا : أنه يترك له ما يعيش به الأيام وكسوة لباسه ورقاده ، ولا تباع ثياب جمعته ، ويباع خاتمه. وتفصيل الفروع في المسائل.

المسألة الخامسة ـ قوله تعالى : (وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ).

قال علماؤنا : الصدقة على المعسر قربة ؛ وذلك أفضل عند الله من إنظاره إلى الميسرة ، بدليل ما روى حذيفة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال : تلقّت الملائكة روح رجل ممن كان قبلكم ، قالوا : عملت من الخير شيئا؟ قال : كنت آمر فتيانى أن ينظروا الموسر ويتجاوزوا عن المعسر. قال الله عزّ وجلّ : تجاوزوا عنه.

وقد روى عن أبى اليسر كعب بن عمرو أنه قال : من أنظر معسرا أو وضع عنه ، أظلّه الله في ظلّه ؛ وهذا مما لا خلاف فيه.

الآية التاسعة والثمانون ـ قوله تعالى (٣) : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كاتِبٌ بِالْعَدْلِ ، وَلا يَأْبَ كاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَما عَلَّمَهُ اللهُ ، فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ ، وَلْيَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً ، فَإِنْ كانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً ، أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى

__________________

(١) سورة آل عمران ، آية ٧٥

(٢) في ل : إليها.

(٣) الآية الثانية والثمانون بعد المائتين.

٢٤٦

وَلا يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا ما دُعُوا ، وَلا تَسْئَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَوْ كَبِيراً إِلى أَجَلِهِ ، ذلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهادَةِ وَأَدْنى أَلَّا تَرْتابُوا إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً حاضِرَةً تُدِيرُونَها بَيْنَكُمْ ، فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَلَّا تَكْتُبُوها ، وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ ، وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ).

هي آية عظمى في الأحكام ، مبيّنة جملا من الحلال والحرام ، وهي أصل في مسائل البيوع ، وكثير من الفروع ، جماعها على اختصار مع استيفاء الغرض دون الإكثار في اثنتين وخمسين مسألة :

المسألة الأولى ـ في حقيقة الدّين :

هو عبارة عن كل معاملة كان أحد العوضين فيها نقدا والآخر في الذمّة نسيئة ، فإنّ العين عند العرب ما كان حاضرا ، والدّين ما كان غائبا ، قال الشاعر :

وعدتنا بدرهمينا طلاء

وشواء معجّلا غير دين

والمداينة مفاعلة منه ، لأنّ أحدهما يرضاه والآخر يلتزمه ، وقد بيّنه الله تعالى بقوله : (إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى).

المسألة الثانية ـ قال أصحاب أبى حنيفة : عموم قوله تعالى : (إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) يدخل تحته المهر إلى أجل ، والصّلح عن دم العمد ، ويجوز فيه شهادة النساء ؛ وهذا وهم ، فإن هذه الشهادة إنما هي على النكاح المشتمل على المهر وعلى الدم المفضى إلى الصّلح ، والمهر في النكاح والمال في الدم بيع ؛ وإنما جاءت الآية لبيان حكم حال دين مجرد ومال مفرد ؛ فعليه يحمل عموم الشهادة وإليه يرجع.

المسألة الثالثة ـ قوله تعالى : (فَاكْتُبُوهُ).

يريد يكون صكّا ليستذكر به عند أجله ، لما يتوقع من الغفلة في المدة التي بين المعاملة وبين حلول الأجل ، والنسيان (١) موكل بالإنسان ، والشيطان ربما حمل على الإنكار ، والعوارض من موت وغيره تطرأ ؛ فشرع الكتاب والإشهاد ، وكان ذلك في الزمان الأول.

__________________

(١) في ل : فالنسيان.

٢٤٧

وروى أحمد بن حنبل وغيره عن ابن عباس أنّ النبي صلّى الله عليه وسلّم قال : أول من جحد آدم ـ قالها ثلاث مرات : إن الله تعالى لما خلقه مسح ظهره ، فأخرج ذريّته فعرضهم عليه ، فرأى فيهم رجلا يزهر (١) ، فقال : أى رب من هذا؟ قال : هذا ابنك داود. قال : كم عمره؟ قال : ستون سنة. قال : ربّ زد في عمره. قال : لا ، إلّا أن تزيده أنت من عمرك ، فزاده أربعين من عمره ، فكتب الله تعالى عليه كتابا وأشهد عليه الملائكة ، فلما أراد أن يقبض روحه قال : بقي من أجلى أربعون سنة. فقيل له : إنك قد جعلتها لابنك داود. قال : فجحد آدم. قال : فأخرج إليه الكتاب ، فأقام عليه البينة ، وأتمّ لداود مائة سنة ولآدم عمره ألف سنة.

المسألة الرابعة ـ في قوله تعالى : (فَاكْتُبُوهُ) إشارة ظاهرة إلى أنه يكتبه بجميع صفاته المبيّنة له المعربة عنه المعرّفة للحاكم بما يحكم عند ارتفاعهما إليه.

المسألة الخامسة ـ قوله تعالى : (وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كاتِبٌ بِالْعَدْلِ).

فيه وجهان :

أحدهما ـ أنّ الناس لمّا كانوا يتعاملون حتى لا يشذّ أحد منهم عن المعاملة ، وكان منهم من يكتب ومن لا يكتب ، أمر سبحانه أن يكتب بينهم كاتب بالعدل.

الثاني ـ أنه لما كان الذي له الدّين يتّهم في الكتابة للذي عليه ، وكذلك بالعكس ، شرع الله سبحانه كاتبا يكتب بالعدل ، لا يكون في قلبه ولا في قلمه هوادة لأحدهما على الآخر.

المسألة السادسة ـ قوله تعالى : (وَلا يَأْبَ كاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَما عَلَّمَهُ اللهُ) :

فيها أربعة أقوال :

الأول ـ أنه فرض على الكفاية كالجهاد والصلاة على الجنائز ؛ قاله الشعبي.

الثاني ـ أنه فرض على الكاتب في حال فراغه ؛ قاله بعض أهل الكوفة.

الثالث ـ أنه ندب ؛ قاله مجاهد وعطاء.

الرابع ـ أنه منسوخ ؛ قاله الضحاك.

والصحيح أنه أمر إرشاد ؛ فلا يكتب حتى يأخذ حقّه.

__________________

(١) زهر السراج والقمر والوجه كمنع : تلألأ. وأزهر النبات : نور.

٢٤٨

المسألة السابعة ـ قوله تعالى : (وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً).

قال علماؤنا : إنما أملى الذي عليه الحقّ ؛ لأنه المقرّ به الملتزم له ، فلو قال الذي له الحق : لي كذا وكذا لم ينفع حتى يقرّ له الذي عليه الحق ، فلأجل ذلك كانت البداءة به ؛ لأنّ القول قوله ، وإلى هذه النكتة وقعت الإشارة بقوله صلّى الله عليه وسلّم : البينة على من ادّعى (١) واليمين على من أنكر ، على نحو ما تقدم في قوله تعالى (٢) : (وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اللهُ فِي أَرْحامِهِنَ). وفي هذه الآية أيضا نحو منه ، وهو قوله تعالى : (وَلا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ) لما كان القول قولهنّ في الذي تشتمل عليه أرحامهنّ ، وقول الشاهد أيضا فيما وعاه قلبه من علم ما عنده مما بينهما من التنازع.

المسألة الثامنة ـ قوله تعالى : (فَإِنْ كانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً) :

أما السفيه ففيه أربعة أقوال :

الأول ـ أنه الجاهل ؛ قاله مجاهد. الثاني ـ أنه الصبى. الثالث ـ أنه المرأة والصبىّ ؛ قاله الحسن. الرابع ـ المبذّر لماله المفسد لدينه ؛ قاله الشافعى.

وأما الضعيف فقيل : هو الأحمق. وقيل : هو الأخرس أو الغبىّ ، واختاره الطبري.

وأما الذي لا يستطيع أن يملّ ، ففيه ثلاثة أقوال :

أحدها ـ أنه الغبىّ ؛ قاله ابن عباس. الثاني ـ أنه الممنوع بحبسة أو عىّ. الثالث ـ أنه المجنون.

وهذا فيه نظر طويل نخبته أنّ الله سبحانه جعل الذي عليه الحق أربعة أصناف : مستقل بنفسه يملّ ، وثلاثة أصناف لا يملّون ، ولا يصح أن تكون هذه الأصناف الثلاثة صنفا واحدا أو صنفين ؛ لأن تعديد الباري سبحانه كأنه يخلو عن الفائدة ، ويكون من فن المثبّج (٣) من القول الركيك من الكلام ، ولا ينبغي هذا في كلام حكيم ، فكيف في كلام أحكم الحاكمين.

__________________

(١) في ا : على المدعى. والمثبت من ل.

(٢) سورة البقرة ، آية ٢٢٨

(٣) التثبيج : التخليط ، وكتاب مثبج. وثبج الكتاب تثبيجا : لم يبينه. والثبج : اضطراب الكلام وتفننه.

٢٤٩

فتعيّن والحالة هذه أن يكون لكل صنف من هذه الأصناف الثلاثة معنى ليس لصاحبه حتى تتمّ البلاغه ، وتكمل الفائدة ، ويرتفع التداخل الموجب للتقصير ؛ وذلك بأن يكون السفيه والضعيف والذي لا يستطيع ، قريبا بعضه من بعض في المعنى ؛ فإن العرب تطلق السفيه على ضعيف العقل تارة وعلى ضعيف البدن أخرى ، وأنشدوا :

مشين كما اهتزّت رماح تسفّهت (١)

أعاليها مرّ الرياح النواسم

أى استضعفتها واستلانتها فحركتها.

وكذلك يطلق الضعيف على ضعيف العقل ، وعلى ضعيف البدن.

وقد قالوا : الضعف ـ بضم الضاد في البدن ، وفتحها في الرأى ، وقيل هما لغتان ، وكلّ ضعيف لا يستطيع ما يستطيعه القوىّ ؛ فثبت التداخل في معنى هذه الألفاظ.

وتحريرها الذي يستقيم به الكلام ويصحّ معه النظام أنّ السفيه هو المتناهي في ضعف العقل وفساده كالمجنون والمحجور عليه ، نظيره الشاهد له قوله تعالى (٢) : (وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللهُ لَكُمْ قِياماً) على ما سيأتى في سورة النساء إن شاء الله تعالى.

وأما الضعيف فهو الذي يغلبه قلّة النظر لنفسه كالطفل نظيره ، ويشهد له قوله تعالى(٣) : (وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافاً خافُوا عَلَيْهِمْ).

وأما الذي لا يستطيع أن يملّ فهو الغبىّ الذي يفهم منفعته لكن لا يلفق العبارة عنها.

والأخرس الذي لا يتبين منطقه عن غرضه ؛ ويشهد لذلك أنه لم ينف عنه أنه لا يستطيع أن يملّ خاصة.

المسألة التاسعة ـ قوله تعالى : (فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ).

اختلف الناس على ما يعود ضمير وليّه على قولين :

الأول ـ قيل يعود على الحق ؛ التقدير فليملل ولىّ الحق.

الثاني ـ أنه يعود على الذي عليه الحق ؛ التقدير فليملل ولىّ الذي عليه الحق الممنوع من الإملاء بالسفه والضعف والعجز.

__________________

(١) في ا : فسفهت. والمثبت من اللسان (سفه) ، ل.

(٢) سورة النساء ، آية ٥

(٣) سورة النساء ، آية ٩

٢٥٠

والظاهر أنه يعود على الذي عليه الحق ؛ لأنه صاحب الولىّ في الإطلاق ، يقال : ولىّ السفيه وولىّ الضعيف ، ولا يقال ولىّ الحق ، إنما يقال صاحب الحق.

وهذا يدلّ على أن إقرار الوصىّ جائز على يتيمه ؛ لأنه إذا أملى فقد نفذ قوله فيما أملاه.

المسألة العاشرة ـ إذا ثبت هذا فإن تصرّف السفيه المحجور دون ولىّ فإنّ التصرف فاسد إجماعا مفسوخ أبدا ، لا يوجب حكما ولا يؤثر شيئا. وإن تصرّف سفيه لا حجر عليه فاختلف علماؤنا فيه ؛ فابن القاسم يجوّز فعله ، وعامة أصحابنا يسقطونه.

والذي أراه من ذلك أنه إن تصرّف بسداد نفذ ، وإن تصرّف بغير سداد بطل.

وأما الضعيف فربما بخس في البيع وخدع ، ولكنه تحت النظر كائن ، وعلى الاعتبار موقوف.

وأما الذي لا يستطيع أن يملّ فلا خلاف في جواز تصرفه.

وظاهر الآية يقتضى أنّ من احتاج منهم إلى المعاملة عامل ، فمن كان من أهل الإملاء أملى عن نفسه ، ومن لم يكن أملى عنه وليّه ؛ وذلك كله بيّن في مسائل الفروع.

المسألة الحادية عشرة ـ قوله تعالى : (وَاسْتَشْهِدُوا) :

اختلف الناس هل هو فرض أو ندب؟ والصحيح أنه ندب كما يأتى إن شاء الله تعالى.

المسألة الثانية عشرة ـ قوله تعالى : (شَهِيدَيْنِ).

رتّب الله تعالى الشهادات بحكمته في الحقوق المالية والبدنية والحدود ، فجعلها في كل فنّ شهيدين ، إلا في الزّنا فإنه قرن ثبوتها بأربعة شهداء ؛ تأكيدا في الستر ، على ما يأتى بيانه في سورة النور إن شاء الله.

المسألة الثالثة عشرة ـ قوله تعالى : (مِنْ رِجالِكُمْ).

قال مجاهد : أراد من الأحرار. واختاره القاضي أبو إسحاق وأطنب فيه.

وقيل : المراد به من المسلمين ؛ لأنّ قوله تعالى : (مِنَ الرِّجالِ) كان يغنى عنه ، فلا بدّ لهذه الإضافة من خصيصة ، وهي إما أحراركم وإما مؤمنوكم ؛ والمؤمنون به أخصّ من الأحرار ؛ لأنّ هذه الإضافة هي إضافة الجماعة ، وإلا فمن هو الذي يجمع الشتات وينظم الشمل النظم الذي يصحّ منه الإضافة.

٢٥١

والصحيح عندي أنّ المراد به البالغون من ذكوركم المسلمون ؛ لأنّ الطفل لا يقال له رجل ، وكذا المرأة لا يقال لها رجل أيضا. وقد بيّن الله تعالى بعد ذلك شهادة المرأة ، وعيّن بالإضافة في قوله تعالى : (مِنْ رِجالِكُمْ) المسلم ؛ ولأن الكافر لا قول له ؛ وعنى الكبير أيضا ، لأنّ الصغير لا محصول له.

وإنما أمر الله تعالى بإشهاد البالغ ؛ لأنه الذي يصحّ أن يؤدّى الآن الشهادة ؛ فأما الصغير فيحفظ الشهادة ؛ فإذا أدّاها وهو رجل جازت ؛ ولا خلاف فيه.

وليس للآية أثر في شهادة العبد يرد ، وسيأتى القول فيها في تفسير قوله تعالى (١) : (كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ) إن شاء الله.

المسألة الرابعة عشرة ـ عموم قوله تعالى : (مِنْ رِجالِكُمْ) يقتضى جواز شهادة الأعمى على ما يتحققه ويعلمه ؛ فإنّ السمع في الأصوات طريق للعلم كالبصر للألوان ، فما علمه أداه ، كما يطأ زوجته باللمس والشم ، ويأكل بالذّوق ؛ فلم لا يشهد على طعام اختلف فيه قد ذاقه.

المسألة الخامسة عشرة ـ قال علماؤنا : أخذ بعض الناس من عموم هذه الآية في قوله تعالى : (مِنْ رِجالِكُمْ) جواز شهادة البدوىّ على القروىّ. وقد منعها أحمد بن حنبل ومالك في مشهور قوله.

وقد بيّنا الوجوه التي منعها أشياخنا من أجلها في كتب الخلاف ؛ والصحيح جوازها مع العدالة كشهادة القروىّ على القروىّ. وقد ثبت أنّ النبي صلّى الله عليه وسلّم شهد عنده أعرابىّ على هلال رمضان ؛ فأمر بالصيام.

المسألة السادسة عشرة ـ قال علمانا قوله تعالى : (فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ) من ألفاظ الإبدال ، فكان ظاهره يقتضى ألّا تجوز شهادة النساء إلّا عند عدم شهادة الرجال ، كحكم سائر إبدال الشريعة مع مبدلاتها ؛ وهذا ليس كما زعمه ، ولو أراد ربنا ذلك لقال : فإن لم يوجد رجلان فرجل : فأما وقد قال : فإن لم يكونا فهذا قول يتناول حالة الوجود والعدم. والله أعلم.

__________________

(١) سورة النساء ، آية ١٣٥

٢٥٢

المسألة السابعة عشرة ـ قال أصحابنا : لما جعل الله تعالى شهادة امرأتين بدل شهادة الرجل وجب أن يكون حكمها حكمه ، فكما يحلف مع الشاهد واليمين عندنا وعند الشافعى ، كذلك يجب أن يحلف مع شهادة امرأتين بمطلق هذه العوضية ، وقد بيناه في مسائل الخلاف.

المسألة الثامنة عشرة ـ قال أصحاب أبى حنيفة : لما قال الله تعالى : (وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ) فقسم الله تعالى أنواع الشهادة وعددها ، ولم يذكر الشاهد واليمين فلا يجوز القضاء به ، لأنه يكون قسما ثالثا فيما قد قسمه الله تعالى قسمين.

وسلك علماؤنا في الردّ عليهم مسلكين :

أحدهما ـ أنّ هذا ليس من قسم الشهادة ، وإنما الحكم هنالك باليمين ، وحطّ الشاهد ترجيح جنبة المدعى ، وهو الذي اختاره أهل خراسان.

وقال آخرون ـ وهو الذي عوّل عليه مالك ـ إن القوم قد قالوا يقضى بالنكول ، وهو قسم ثالث ليس له في القرآن ذكر ، كذلك يحكم بالشهادة واليمين وإن لم يجر له ذكر لقيام الدليل.

والمسلك الأول أسلوب الشرع. والمسلك الثاني يتعلق بمناقضة الخصم ، والمسلك الأول أقوى وأولى.

المسألة التاسعة عشرة ـ فضّل الله تعالى الذّكر على الأنثى من ستة أوجه :

الأول ـ أنها جعل أصلها وجعلت فرعه ، لأنها خلقت منه ، كما ذكر الله تعالى في كتابه.

الثاني ـ أنها خلقت من ضلعه العوجاء ؛ قال النبي صلّى الله عليه وسلّم : إنّ المرأة خلقت من ضلع أعوج ، فإن ذهبت تقيمها كسرتها ، وإن استمتعت بها استمتعت بها على عوج ، وقال : وكسرها طلاقها.

الثالث ـ أنه نقص دينها.

الرابع ـ أنه نقص عقلها. وفي الحديث : ما رأيت من ناقصات عقل ودين أذهب للبّ الرجل الحازم منكنّ. قلن : يا رسول الله ؛ وما نقصان ديننا وعقلنا؟ قال : أليس تمكث إحداكنّ الليالى لا تصوم ولا تصلّى ، وشهادة إحداكنّ على نصف شهادة الرجل؟

٢٥٣

الخامس ـ أنه نقص حظّها في الميراث. قال الله تعالى (١) : (لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ).

السادس ـ أنها نقصت قوّتها ؛ فلا تقاتل ولا يسهم لها ، وهذه كلها معان حكمية.

فإن قيل : كيف نسب النقص إليهنّ وليس من فعلهنّ؟

قلنا : هذا من عدل الله يحطّ ما شاء ويرفع ما شاء ، ويقضى ما أراد ، ويمدح ويلوم ولا يسأل عما يفعل وهم يسألون ؛ وهذا لأنه خلق المخلوقات منازل ، ورتّبها مراتب ؛ فبين ذلك لنا فعلمنا وآمنّا به وسلّمناه.

المسألة الموفية عشرين ـ قوله تعالى : (تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ).

هذا تقييد من الله سبحانه على الاسترسال على كل شاهد ، وقصر الشهادة على الرضا خاصة ؛ لأنها ولاية عظيمة ؛ إذ هي تنفيذ قول الغير على الغير ؛ فمن حكمه أن يكون له شمائل ينفرد بها ، وفضائل يتحلّى بها حتى يكون له مزيّة على غيره توجب له تلك المزية رتبة (٢) الاختصاص بقبول قوله على غيره ، ويقضى له بحسن الظن ، ويحكم بشغل ذمة المطلوب بالحق بشهادته عليه ، ويغلب قول الطالب على قوله بتصديقه له في دعواه.

المسألة الحادية والعشرون ـ قوله : (مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ) : دليل على تفويض القبول في الشهادة إلى الحاكم ؛ لأنّ الرضا معنى يكون في النفس بما يظهر إليها من الأمارات عليه ، ويقوم من الدلائل المبينة له ، ولا يكون غير هذا ؛ فإنّا لو جعلناه لغيره لما وصل إليه إلا بالاجتهاد ؛ واجتهاده أولى من اجتهاد غيره.

المسألة الثانية والعشرون ـ قال علماؤنا : هذا دليل على جواز الاجتهاد والاستدلال بالأمارات والعلامات على ما خفى من المعاني والأحكام.

المسألة الثالثة والعشرون ـ هذا دليل على أنه لا يكتفى بظاهر الإسلام في الشهادة حتى يقع البحث عن العدالة ؛ وبه قال الشافعى.

وقال أبو حنيفة : يكتفى بظاهر الإسلام في الأموال دون الحدود ؛ وهذه مناقضة تسقط كلامه وتفسد عليه مرامه ، فيقول : حق من الحقوق ، فلا يكتفى في الشهادة عليه بظاهر الدين كالحدود ، وقد مهّدت المسألة في مسائل الخلاف.

__________________

(١) سورة النساء ، آية ١٠

(٢) في ا : توجب له تلك المرتبة الاختصاص. والمثبت من ل.

٢٥٤

المسألة الرابعة والعشرون ـ هذا القول يقتضى ألّا تقبل شهادة ولد لأبيه ، ولا أب لولده. قال مالك : ولا كل ذي نسب أو سبب يفضى إلى وصلة تقع بها التهمة ، كالصداقة والملاطفة والقرابة الثابتة.

وفي كلّ ذلك بين العلماء تفصيل واختلاف ، بيانه في إيضاح دلائل مسائل الخلاف ، بيانه في إلزام وصف الرضا المشاهد في هذه الآية الذي أكّده بالعدالة في الآية الأخرى ، فقال تعالى (١) : (وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ) ، ولا يجتمع الوصفان حتى تنتفى التهمة. والله أعلم.

المسألة الخامسة والعشرون ـ إذا شرط الرضا والعدالة في المداينة فاشتراطها في النكاح أولى ، خلافا لأبى حنيفة حيث قال : إنّ النكاح ينعقد بشهادة فاسقين ، فنفى الاحتياط المأمور به في الأموال عن النكاح ، وهو أولى لما يتعلّق به من الحلّ والحرم والحدّ والنّسب.

المسألة السادسة والعشرون ـ قوله تعالى : (فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى).

فيه تأويلان وقراءتان : إحداهما ـ أن تجعلها ذكرا ، وهذه قراءة التخفيف.

الثاني ـ أن تنبهها إذا غفلت وهي قراءة التثقيل ؛ وهو التأويل الصحيح ، لأنه يعضده قوله تعالى : (أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما). والذي يصحّ أن يعقب الضلال والغفلة الذكر ، ويدخل التأويل الثاني في معناه.

فإن قيل : فهلّا كانت امرأة واحدة مع رجل فيذكّرها الرجل الذي معها إذا نسيت ؛ فما الحكمة فيه؟

فالجواب فيه أن الله سبحانه شرع ما أراد ، وهو أعلم بالحكمة وأوفى بالمصلحة ، وليس يلزم أن يعلم الخلق وجوه الحكمة وأنواع المصالح في الأحكام ، وقد أشار علماؤنا أنه لو ذكّرها إذا نسيت لكانت شهادة واحدة ، فإذا كانت امرأتين وذكّرت إحداهما الأخرى كانت شهادتهما شهادة رجل واحد ، كالرجل يستذكر في نفسه فيتذكّر.

المسألة السابعة والعشرون ـ قوله تعالى : (أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى) فكرّر قوله : إحداهما ، وكانت الحكمة فيه أنه لو قال : أن تضلّ إحداهما

__________________

(١) سورة الطلاق ، آية ٢

٢٥٥

فتذكّر الأخرى ، لكانت شهادة واحدة ، وكذلك لو قال : فتذكّرها الأخرى لكان البيان من جهة واحدة لتذكرة الذاكرة الناسية ، فلما كرّر إحداهما أفاد تذكرة الذاكرة للغافلة وتذكرة الغافلة للذاكرة أيضا لو انقلبت الحال فيهما بأن تذكر الغافلة وتغفل الذاكرة ؛ وذلك غاية في البيان.

المسألة الثامنة والعشرون ـ قوله تعالى : (وَلا يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا ما دُعُوا).

اختلف الناس فيه على ثلاثة أقوال :

أحدها ـ لا يأب الشهداء عن تحمّل الشهادة إذا تحملوا.

الثاني ـ لا يأب الشهداء عن الأداء.

الثالث ـ لا يأب الشهداء عنهما جميعا ، لا يأب الشهداء عن التحمل إذا حمّلوا ولا يأبوا عن الأداء إذا تحمّلوا. وكذلك اختلفوا في حكم هذا النهى على ثلاثة أقوال : أحدها ـ أنّ فعل ذلك ندب. الثاني ـ أنّ ذلك فرض على الكفاية. الثالث ـ أنها فرض على الأعيان مطلقا ؛ قاله الشافعى.

والصحيح عندي أنّ المراد ها هنا حالة التحمل للشهادة ؛ لأن حالة الأداء مبيّنة بقوله تعالى (١) : (وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ). وإذا كانت حالة التحمّل فهي فرض على الكفاية إذا قال به البعض سقط عن البعض ، لأن إباية الناس كلّهم عنها إضاعة للحقوق ، وإجابة جميعهم إليها تضييع للأشغال ؛ فصارت كذلك فرضا على الكفاية ؛ ولهذا المعنى جعلها أهل تلك الديار ولاية فيقيمون للناس شهودا يعيّنهم الخليفة ونائبه ، ويقيمهم للناس ويبرزهم لهم ، ويجعل لهم من بيت المال كفايتهم. فلا يكون لهم شغر إلا تحمّل حقوق الناس حفظا ، وإحياؤها لهم أداء.

فإن قيل : فهذه شهادة بالأجرة.

قلنا : إنما هي شهادة خالصة من قوم استوفوا حقوقهم من بيت المال ، وقد بيّناه في شرح الحديث ومسائل الخلاف.

المسألة التاسعة والعشرون ـ قال علماؤنا : قوله تعالى : (وَلا يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا ما دُعُوا) دليل على أنّ الشاهد هو الذي يمشى إلى الحاكم ، وهذا أمر انبنى عليه الشرع ، وعمل

__________________

(١) سورة البقرة ، آية ٢٨٣

٢٥٦

به في كل زمن ، وفهمته كلّ أمة. ومن أمثال العرب : في بيته يؤتى الحكم.

المسألة الموفية ثلاثين ـ كيفما ترددت الحال بالأقوال فهذا دليل على خروج العبد من جملة الشهداء ؛ لأنه لا يمكنه أن يجيب ، ولا يصحّ له أن يأبى ؛ لأنه لا استقلال له بنفسه ؛ وإنما يتصرّف بإذن غيره ، فانحطّ عن منصب الشهادة كما انحطّ عن منصب الولاية ، نعم وكما انحط عنه فرض الجمعة ، وقد بيّناه في مسائل الخلاف.

المسألة الحادية والثلاثون ـ قال علماؤنا : هذا في حالة الدعاء إلى الشهادة ، فأما من كانت عنده شهادة لرجل لم يعلم بها مستحقّها الذي ينتفع بها فقال قوم : أداؤها ندب ؛ لقوله تعالى : (وَلا يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا ما دُعُوا) ، ففرض الله تعالى عليه الأداء عند الدعاء ، وإذا لم يدع كان ندبا ؛ لقوله صلّى الله عليه وسلّم (١) : خير الشهود الذي يأتى بشهادته قبل أن يسألها.

والصحيح عندي أنّ أداءها فرض ، لما ثبت عنه صلّى الله عليه وسلّم أنه قال : انصر أخاك ظالما أو مظلوما. فقد تعيّن نصره بأداء الشهادة التي هي عنده ؛ إحياء لحقّه الذي أماته الإنكار.

المسألة الثانية والثلاثون ـ قوله تعالى : (وَلا تَسْئَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَوْ كَبِيراً إِلى أَجَلِهِ).

هذا تأكيد من الله تعالى في الإشهاد بالدّين ، تنبيها لمن كسل ، فقال : هذا قليل لا أحتاج إلى كتبه والإشهاد عليه ، لأنّ أمر الله تعالى فيه والتخصيص عليه واحد ، والقليل والكثير في ذلك سواء.

قال علماؤنا : إلّا ما كان من قيراط ونحوه لنزارته وعدم تشوّف النفوس إليه إقرارا أو إنكارا.

المسألة الثالثة والثلاثون ـ قوله تعالى : (ذلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ).

يريد أعدل ، يعنى أن يكتب القليل والكثير ويشهد عليه بالعدل عموم ذلك فيه.

المسألة الرابعة والثلاثون ـ قوله تعالى : (أَقْوَمُ لِلشَّهادَةِ).

__________________

(١) مسلم : ١٣٤٤ ، وابن ماجة : ٧٩٢

٢٥٧

يعنى أدعى إلى ثبوتها ؛ لأنه إذا أشهد ولم يكتب ربما نسى الشاهد.

المسألة الخامسة والثلاثون ـ قوله تعالى : (وَأَدْنى أَلَّا تَرْتابُوا) بالشاهد إذا نسى أو قال خلاف ما عند المتداينين.

المسألة السادسة والثلاثون ـ قوله تعالى : (أَقْوَمُ لِلشَّهادَةِ) دليل على أنّ الشاهد إذا رأى الكتاب فلم يذكر الشهادة لا يؤدّيها ؛ لما دخل عليه من الريبة فيها ولا يؤدّى إلّا ما يعلم ، لكنه يقول هذا خطّى ، ولا أذكر الآن ما كتبت فيه.

وقد اختلف فيه علماؤنا على ثلاثة أقوال.

الأول ـ قال في المدوّنة : يؤديها ولا ينفع ذلك (١) في الدين والطلاق.

الثاني ـ قال في كتاب محمد : لا يؤديها. الثالث ـ قال مطرف : يؤدّيها وينفع إذا لم يشك في كتاب ، وهو الذي عليه الناس ؛ وهو اختيار ابن الماجشون والمغيرة.

وقد قرّرناه في كتب المسائل ، وبيّنا تعلّق من قال : إنه لا يجوز ؛ لأنّ خطّه فرع عن علمه ، فإذا ذهب علمه ذهب نفع خطّه ، وأجبنا بأنّ خطه بدل الذكرى ، فإن حصلت وإلّا قام مقامها.

المسألة السابعة والثلاثون ـ قوله تعالى : (إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً حاضِرَةً تُدِيرُونَها بَيْنَكُمْ).

قال الشعبي : البيوع ثلاثة : بيع بكتاب وشهود. وبيع برهان. وبيع بأمانة ؛ وقرأ هذه الآية ؛ وكان ابن عمر إذا باع بنقد أشهد ، وإذا باع بنسيئة كتب وأشهد ، وكان كأبيه وقّافا عند كتاب الله تعالى مقتديا برسول الله صلّى الله عليه وسلّم.

المسألة الثامنة والثلاثون ـ ظنّ من رأى الإشهاد في الدّين واجبا أنّ سقوطه في بيع النقد رفع للمشقّة لكثرة تردده.

والظاهر الصحيح أن الإشهاد ليس واجبا ، وإنما الأمر به أمر إرشاد للتوثق والمصلحة ، وهو في النسيئة محتاج إليه لكون العلاقة بين المتعاقدين باقية ؛ توثقا لما عسى أن يطرأ من اختلاف الأحوال وتغيّر القلوب ، فأما إذا تفاصلا في المعاملة وتقابضا ، وبانّ

__________________

(١) في ا : يؤديها ولا ينفع وذلك. والمثبت من ل.

٢٥٨

كلّ واحد منهما من صاحبه فيقلّ في العادة خوف التنازع إلّا بأسباب عارضة ، ونبه الشرع على هذه المصالح في حالتي النسيئة والنقد.

المسألة التاسعة والثلاثون ـ قوله تعالى : (فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَلَّا تَكْتُبُوها) يدلّ على سقوط الإشهاد في النقد ، وأنّ قوله تعالى : (وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ) أمر إرشاد ، ويدلّ على أن عليه جناحا في ترك الإشهاد في الدّين من دليل الخطاب.

ونحن لا نقول به في هذا النوع ، وقد بينّاه في أصول الفقه ومسائل الخلاف.

والجناح هاهنا ليس الإثم ، إنما هو الضرر الطارئ بترك الإشهاد من التنازع.

المسألة الموفية أربعين ـ اختلف الناس في لفظ أفعل في قوله تعالى : (وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ) على قولين :

أحدهما ـ أنه فرض ؛ قاله الضحاك.

الثاني ـ أنه ندب ؛ قاله الكافّة ؛ وهو الصحيح ؛ فقد باع النبىّ صلّى الله عليه وسلّم وكتب ونسخة كتابه (١) :

بسم الله الرحمن الرحيم. هذا ما اشترى العدّاء بن خالد بن هوذة من محمد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ، اشترى منه عبدا أو أمة لا داء ولا غائلة ولا خبثة (٢) ، بيع المسلم للمسلم.

وقد باع ولم يشهد ، واشترى ورهن (٣) ، درعه عند يهودي ولم يشهد ، ولو كان الإشهاد أمرا واجبا لوجب مع الرّهن لخوف المنازعة.

المسألة الحادية والأربعون ـ قوله تعالى : (وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ).

فيه ثلاثة أقوال :

الأول ـ أن يكتب الكاتب ما لم يملّ عليه ، ويشهد الشاهد بما لم يشهد عليه ؛ قاله قتادة والحسن وطاوس.

الثاني ـ يمتنع الكاتب أن يكتب ، والشاهد أن يشهد ؛ قاله ابن عباس ومجاهد وعطاء.

__________________

(١) ابن ماجة : ٧٥٦

(٢) أراد بالخبثة الحرام ، أى أنه عبد رقيق لا أنه من قوم لا يحل سبيهم (النهاية). والغائلة : سكوت البائع عما يعلم في المبيع من مكروه.

(٣) ابن ماجة : ٨١٥

٢٥٩

الثالث ـ أن يدعى الكاتب والشهيد وهما مشغولان معذوران ؛ قاله عكرمة وجماعة. وتحقيقه أنّ يضار تفاعل من الضرر. قوله تعالى : (يُضَارَّ) يحتمل أن يكون تفاعل بكسر العين ، ويحتمل أن يكون بفتحها ، فإن كان بكسر العين فالكاتب والشاهد فاعلان ، فيكون المراد نهيهما عن الضرر بما يكتبان به أو بما يشهدان عليه ، وإن كان بفتح العين فالكاتب والشاهد مفعول بهما ، فيرجع النهى إلى المتعاملين ألّا يضرّا بكاتب ولا شهيد في دعائه في وقت شغل ولا بأدائه وكتابته ما سمع ؛ فكثير من الكتّاب الشهداء يفسقون بتحويل الكتابة والشهادة أو كتمها ، وإما متعامل يطلب من الكاتب والشاهد أن يدع شغله لحاجته أو يبدّل له كتابته أو شهادته ؛ قال الله سبحانه : (وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ).

المسألة الثانية والأربعون ـ قوله تعالى : (١) : (وَإِنْ كُنْتُمْ عَلى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كاتِباً فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ).

اختلف الناس في هذه الآية على قولين :

فمنهم من حملها على ظاهرها ولم يجوّز الرهن إلّا في السفر ؛ قاله مجاهد.

وكافّة العلماء على ردّ ذلك ؛ لأن هذا الكلام ؛ وإن كان خرج مخرج الشرط ، فالمراد به غالب الأحوال. والدليل عليه أنّ النبي صلّى الله عليه وسلّم ابتاع في الحضر ورهن ولم يكتب.

وهذا الفقه صحيح ، وذلك لأنّ الكاتب إنما يعدم في السفر غالبا ، فأما في الحضر فلا يكون ذلك بحال.

المسألة الثالثة والأربعون ـ قوله تعالى : (فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ) دليل على أنّ الرهن لا يحكم (٢) له في الوثيقة إلّا بعد القبض ، فلو رهنه قولا ولم يقبضه فعلا لم يوجب ذلك له حكما. قال الشافعى : لم يجعل الله الحكم إلّا لرهن موصوف بالقبض ، فإذا عدمت الصفة وجب أن يعدم الحكم.

__________________

(١) هذه الآية هي الثالثة والثمانون بعد المائة من سورة البقرة.

(٢) في ل : لا حكم.

٢٦٠