أحكام القرآن - ج ١

أبي بكر محمّد بن عبدالله [ ابن العربي ]

أحكام القرآن - ج ١

المؤلف:

أبي بكر محمّد بن عبدالله [ ابن العربي ]


المحقق: علي محمّد البجاوي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الجيل
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٢٣

البضع على التحليل في الوجهين جميعا ، وهو مقدم على الإباحة فيه إذا عارضته.

الآية الموفية سبعين ـ قوله تعالى (١) : (وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْواجَهُنَّ إِذا تَراضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ).

فيها ثلاث مسائل :

المسألة الأولى ـ قوله تعالى : (فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَ) ، والبلوغ هاهنا حقيقة لا مجاز فيها ؛ لأنه لو كان معناه قاربن البلوغ كما في الآية قبلها لما خرجت به الزوجة عن حكم الزوج في الرجعة ، فلما قال تعالى : (فَلا تَعْضُلُوهُنَ) تبيّن أنّ البلوغ قد وقع في انقضاء العدة ، وأنّ الزوج قد سقط حقّه من الرجعة.

المسألة الثانية ـ قوله تعالى : (فَلا تَعْضُلُوهُنَ) ؛ العضل يتصرف على وجوه مرجعها إلى المنع ، وهو المراد هاهنا ؛ فنهى الله تعالى أولياء المرأة من منعها عن نكاح من ترضاه. وهذا دليل قاطع على أنّ المرأة لا حقّ لها في مباشرة النكاح ، وإنما هو حقّ الولىّ ، خلافا لأبى حنيفة ، ولو لا ذلك لما نهاه الله عن منعها.

وقد صحّ أنّ معقل بن يسار كانت له أخت فطلقها زوجها ، فلما انقضت عدّتها خطبها ، فأبى معقل ، فأنزل الله تعالى هذه الآية ، ولو لم يكن له حقّ لقال الله تعالى لنبيه عليه السلام : لا كلام لمعقل في ذلك.

وفي الآية أسئلة كثيرة يقطعها هذا الحديث الصحيح ، خرّجه البخاري.

فإن قيل : السبب الذي رويتم يبطل نظم الآية ؛ لأن الولىّ إذا كان هو المنكح فكيف يقال له : لا تمتنع من فعل نفسك ، وهذا محال.

قلنا : ليس كما ذكرتم ، للمرأة حقّ الطلب للنكاح ، وللولىّ حقّ المباشرة للعقد ؛ فإذا أرادت من يرضى حاله ، وأبى الولىّ من العقد فقد منعها مرادها ، وهذا بيّن.

المسألة الثالثة ـ قوله تعالى : (إِذا تَراضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ) : يعنى إذا كان لها كفؤا ، لأن الصداق في الثيب المالكة أمر نفسها لا حقّ للولىّ فيه ، والآية نزلت في ثيّب مالكة أمر نفسها ، فدلّ على أنّ المعروف المراد بالآية هو الكفاءة ، وفيها حقّ عظيم للأولياء ،

__________________

(١) الآية الثانية والثلاثون بعد المائتين.

٢٠١

لما في تركها من إدخال العار عليهم ؛ وذلك إجماع من الأمة.

الآية الحادية والسبعون ـ قوله تعالى (١) : (وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَها لا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ ، وَعَلَى الْوارِثِ مِثْلُ ذلِكَ ، فَإِنْ أَرادا فِصالاً عَنْ تَراضٍ مِنْهُما وَتَشاوُرٍ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِذا سَلَّمْتُمْ ما آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ).

هذه الآية عضلة ولا يتخلص منها إلا بجريعة الذّقن (٢) مع الغصص بها برهة من الدهر ؛ وفيها خمس عشرة مسألة :

المسألة الأولى ـ قال علىّ بن أبى طالب رضى الله عنه : أقلّ الحمل ستة أشهر ؛ لأن الله تعالى قال (٣) : (وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً). ثم قال تعالى : (وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ) ، فإذا أسقطت حولين من ثلاثين شهرا بقيت منه ستة أشهر ؛ وهي مدّة الحمل ؛ وهذا من بديع الاستنباط.

المسألة الثانية ـ قال الله تعالى : (وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ).

واختلف الناس في فائدة هذا التقدير على قولين ؛ فمنهم من قال : معناه إذا ولدت لستة أشهر أرضعت حولين ، وإن ولدت لتسعة أشهر أرضعت واحدا وعشرين شهرا ، وهكذا تتداخل مدّة الحمل ومدّة الرضاع ، ويأخذ الواحد من الآخر.

ومنهم من قال : إذا اختلف الأبوان في مدة الرضاع فالفصل في فصاله من الحاكم حولان.

والصحيح أنه لا حدّ لأقلّه ، وأكثره محدود بحولين مع التراضي بنصّ القرآن.

المسألة الثالثة ـ إذا زادت المرأة في رضاعها على مدة الحولين ؛ وقع الرضاع موقعه إلى أن يستقلّ الولد.

وقال الشافعىّ وغيره : لو زادت لحظة ما اعتبر ذلك في حكم ، ولو كان هذا حدّا

__________________

(١) الآية الثالثة والثلاثون بعد المائتين.

(٢) جريعة الذقن : يقال : أفلت بجريعة الذقن : أى أفلت بعد ما أشرف على الهلاك.

(٣) سورة الأحقاف ، آية ١٥

٢٠٢

مؤقتا لا تجوز الزيادة عليه ، ولا تعتبر إن وجدت لما أوقفه الله تعالى على الإرادة كسائر الأعداد (١) المؤقتة في الشريعة.

وقال أبو حنيفة : يريد ستة أشهر. وقال زفر : ثلاث سنين ؛ وهذا كلّه تحكّم.

والصحيح أنّ ما قرب من أمد الفطام عرفا لحق به وما بعد منه خرج عنه من غير تقدير ؛ وفي مسائل الفروع تتمّة ذلك.

المسألة الرابعة ـ قوله تعالى : (وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ) : دليل على وجوب نفقة الولد على الوالد لعجزه وضعفه ؛ فجعل الله تعالى ذلك على يدي أبيه لقرابته منه وشفقته عليه ؛ وسمّى الله تعالى الأمّ لأنّ الغذاء يصل إليه بوساطتها في الرضاعة ، كما قال تعالى (٢) : (وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَ) ؛ لأنّ الغذاء لا يصل إلى الحمل إلّا بوساطتهن في الرضاعة ؛ وهذا باب من أصول الفقه ، وهو أنّ ما لا يتمّ الواجب إلّا به واجب مثله.

المسألة الخامسة ـ قوله تعالى : (بِالْمَعْرُوفِ).

يعنى على قدر حال الأب من السّعة والضيق ، كما قال تعالى في سورة الطلاق (٣) : (لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ ؛ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللهُ). ومن هذه النكتة أخذ علماؤنا جواز إجارة الظئر بالنفقة والكسوة ، وبه قال أبو حنيفة ، وأنكره صاحباه ، لأنها إجارة مجهولة فلم تجز ، كما لو كانت الإجارة به على عمل الآخر ، وذلك عند أبى حنيفة استحسان ، وهو عند مالك والشافعى أصل في الارتضاع ، وفي كل عمل ، وحمل على العرف والعادة في مثل ذلك العمل. ولو لا أنه معروف ما أدخله الله تعالى في المعروف.

فإن قيل : الذي يدلّ على أنه مخصوص أنه قدّر بحال الأب من عسر ويسر ، ولو كان على رسم الأجرة لم يختلف كبدل سائر الأعواض.

قلنا : قدّروه بالمعروف أصلا في الإجارات (٤) ، ونوعه باليسار والإقتار رفقا ؛ فانتظم الحكمان ، واطّردت الحكمتان.

__________________

(١) في ا : إذا الموقتة ، وهو تحريف.

(٢) سورة الطلاق ، آية ٦

(٣) الآية السابعة.

(٤) في ا : الإجازات.

٢٠٣

وفي مسائل الخلاف ترى تمام ذلك إن شاء الله تعالى.

المسألة السادسة ـ في قوله تعالى : (وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَ).

اختلف الناس هل هو حقّ لها أم هو حقّ عليها؟

واللفظ محتمل ؛ لأنه لو أراد التصريح بقوله «عليها» لقال : وعلى الوالدات إرضاع أولادهنّ حولين كاملين. كما قال تعالى (١) : (وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَ) ، لكن هو عليها في حال الزوجيّة ، وهو عليها إن لم يقبل غيرها ، وهو عليها إذا عدم الأب لاختصاصها به.

وقد قدّمنا (٢) أنّ في صحيح البخاري عن النبي صلى الله عليه وسلم : تقول لك المرأة : أنفق علىّ وإلّا طلّقنى ، ويقول لك العبد : أطعمنى واستعملني ، ويقول لك ابنك : أنفق علىّ ؛ إلى من تكلني.

ولمالك في الشريفة رأى خصص به الآية فقال : إنها لا ترضع إذا كانت شريفة. وهذا من باب المصلحة التي مهّدناها في أصول الفقه.

المسألة السابعة ـ قال علماؤنا : الحضانة ـ بدليل هذه الآية ـ للأمّ والنصرة للأب ، لأنّ الحضانة مع الرضاع ، ومسائل الباب تأتى في سورة الطلاق إن شاء الله تعالى.

المسألة الثامنة ـ قوله تعالى : (لا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ).

المعنى لا تأبى الأمّ أن ترضعه إضرارا بأبيه ، ولا يحلّ للأب أن يمنع الأمّ من ذلك ؛ وذلك كلّه عند الطلاق ؛ لوجهين :

أحدهما ـ أن ذكر ذلك جاء عند ذكر الطلاق ، فكان بيانا لبعض أحكامه المتعلقة به.

الثاني ـ أنّ النكاح إذا كان باقيا ثابتا فالنفقة واجبة لأجله ، ولا تستوجب الأمّ زيادة عليها لأجل رضاعه.

المسألة التاسعة ـ إذا أراد الأب أن يرضع الابن غير الأمّ وهي في العصمة لتتفرّغ له جاز ذلك ، ولم يجز لها أن تختصّ به إذا كان يقبل غيرها ، لما في ذلك من الإضرار بالأب ؛ بل لما في ذلك من غيال (٣) الابن ، فاجتماع الفائدتين يوجب على الأمّ إسلام الولد إلى غيرها ، ولما في الآية من الاحتمال في أنه حقّ لها أو عليها.

__________________

(١) سورة البقرة ، آية ٢٣٣

(٢) صفحة ٢٠٠ من هذا الجزء.

(٣) الغيل : أن ترضع المرأة ولدها على حبل.

٢٠٤

المسألة العاشرة ـ قوله : (وَعَلَى الْوارِثِ مِثْلُ ذلِكَ) :

قال ابن القاسم ـ عن مالك : هي منسوخة ، وهذا كلام تشمئزّ منه قلوب الغافلين ، وتحار فيه ألباب الشادين ، والأمر فيه قريب ؛ لأنا نقول : لو ثبتت ما نسخها إلّا ما كان في مرتبتها ، ولكن وجهه أنّ علماء المتقدمين من الفقهاء والمفسرين كانوا يسمّون التخصيص نسخا ؛ لأنه رفع لبعض ما يتناوله العموم ومسامحة ، وجرى ذلك في ألسنتهم حتى أشكل ذلك على من بعدهم ؛ وهذا يظهر عند من ارتاض بكلام المتقدمين كثيرا.

وتحقيق القول فيه أنّ قوله تعالى : (وَعَلَى الْوارِثِ مِثْلُ ذلِكَ) إشارة إلى ما تقدم ؛ فمن الناس من ردّه إلى جميعه من إيجاب النفقة وتحريم الإضرار ، منهم أبو حنيفة من الفقهاء ، ومن السلف قتادة والحسن ، ويسند إلى عمر رضى الله عنه ، فأوجبوا على قرابة المولود الذين يرثونه نفقته إذا عدم أبوه في تفصيل طويل لا معنى له.

وقالت طائفة من العلماء : إن قوله تعالى : (وَعَلَى الْوارِثِ مِثْلُ ذلِكَ) لا يرجع إلى جميع ما تقدّم كلّه ؛ وإنما يرجع إلى تحريم الإضرار. المعنى : وعلى الوارث من تحريم الإضرار بالأمّ ما على الأب.

وهذا هو الأصل ؛ فمن ادّعى أنه يرجع العطف فيه إلى جميع ما تقدم فعليه الدليل ؛ وهو يدّعى على اللغة العربية ما ليس منها ، ولا يوجد له نظير فيها.

المسألة الحادية عشرة ـ قوله تعالى : (فَإِنْ أَرادا فِصالاً عَنْ تَراضٍ مِنْهُما).

المعنى أنّ الله تعالى لمّا جعل مدّة الرضاع حولين بيّن أنّ فطامها هو الفطام ، وفصالها هو الفصال ، ليس لأحد عنه منزع ، إلا أن يتفق الأبوان على أقل من ذلك العدد من غير مضارّة بالولد ؛ فذلك جائز بهذا البيان.

المسألة الثانية عشرة ـ هذا يدلّ على جواز الاجتهاد في أحكام الشريعة ؛ لأنّ الله تعالى جعل للوالدين التشاور والتراضي في الفطام فيعملان على موجب اجتهادهما فيه ، وتترتّب الأحكام عليه.

المسألة الثالثة عشرة ـ قوله تعالى : (وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ).

هذا عند خيفة الضّيعة على الولد عند الأم والتقصير أو الإضرار بالولد في اشتغال الأمّ

٢٠٥

عن حقه بولدها ، أو الإضرار بالولد في الاغتيال (١) ونحوه ؛ فإن اختلفوا نظر للصبي ، فإن أوجب النظر أن يسترضع له استرضع ، إذا أعطى المرضع حقّه من أم أو ظئر.

المسألة الرابعة عشرة ـ قال علماؤنا : إذا كانت الحضانة للأمّ في الولد تمادت إلى البلوغ في الغلام وإلى النكاح في الجارية ؛ وذلك حقّ لها ، وبه قال أبو حنيفة.

وقال الشافعى : إذا عقل ميّز وخيّر بين أبويه ، لما روى النسائي وغيره عن أبى هريرة أنّ امرأة جاءت إلى النبىّ صلى الله عليه وسلم فقالت له : زوجي يريد أن يذهب بابني ، وقد نفعني وسقاني من بئر أبى عنبة. فجاء زوجها فقال : من يحاقّنى في ابني؟ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : يا غلام ؛ هذا أبوك ، وهذه أمك ؛ فخذ بيد أيهما شئت. فأخذ بيد أمه.

وعند أبى داود أنّ النبىّ صلى الله عليه وسلم قال : استهما عليه. فلما قال زوجها : من يحاقّنى عليه؟ خيّره النبىّ صلى الله عليه وسلم ؛ فاختار أمّه.

وروى أبو داود أنّ النبىّ صلى الله عليه وسلم قالت له المرأة : إنّ ابني كان ثديى له سقاء ، وحجري له حواء ؛ وإنّ أباه طلّقنى ، وأراد أن ينتزعه منى. فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم : أنت أحقّ به ما لم تنكحى.

وقد ثبت أنّ النبىّ صلى الله عليه وسلم قضى في ابنة حمزة للخالة من غير تخيير ، والأمّ أحقّ به منها. والمعنى يعضده ؛ فإن الابن قد أنس بها فنقله عنها إضرار به. والله أعلم.

المسألة الخامسة عشرة ـ معضلة ، قال مالك : كلّ أمّ يلزمها رضاع ولدها بما أخبر الله تعالى من حكم الشريعة فيها ، إلا أنّ مالكا ـ دون فقهاء الأمصار ـ استثنى الحسيبة (٢) ، فقال : لا يلزمها إرضاعه ، فأخرجها من الآية ، وخصّها فيها بأصل من أصول الفقه ، وهو العمل بالمصلحة ، وهذا فنّ لم يتفطّن له مالكى.

وقد حققناه (٣) في أصول الفقه. والأصل البديع فيه هو أنّ هذا أمر كان في الجاهلية في ذوى الحسب ، وجاء الإسلام عليه فلم يغيّره ؛ وتمادى ذوو الثروة والأحساب على تفريغ الأمهات للمتعة بدفع الرضعاء إلى المراضع إلى زمانه ، فقال به ، وإلى زماننا ؛ فحقّقناه شرعا.

__________________

(١) الاغتيال : الغيل : أن ترضع المرأة ولدها على حبل.

(٢) في ا : الحسبية.

(٣) في ا : وقد حققنا.

٢٠٦

الآية الثانية والسبعون ـ قوله تعالى (١) : (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ ، وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ).

فيها اثنتا عشرة مسألة :

المسألة الأولى ـ في نسخها قولان :

أحدهما ـ أنها ناسخة لقوله تعالى (٢) : (مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْراجٍ) ، وكانت عدّة الوفاة في صدر الإسلام حولا ، كما كانت في الجاهلية ، ثم نسخ الله تعالى ذلك بأربعة أشهر وعشر ؛ قاله الأكثر.

الثاني ـ أنها منسوخة بقوله تعالى (٣) : (مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْراجٍ ؛ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِي ما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ) ، تعتدّ حيث شاءت ؛ روى عن ابن عباس وعطاء.

والأصحّ هو القول الأول كما حققناه في القسم الثاني من الناسخ والمنسوخ على وجه نكتته على ما روى الأئمة في الصحيح أنّ ابن الزبير قال لعثمان رضى الله عنه : قوله تعالى(٤) : (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ) نسختها الآية الأخرى فلم تكتبها؟ قال : يا ابن أخى ؛ لا أغيّر منه شيئا عن مكانه ، وقد قال الأئمة إنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال للفريعة بنت مالك بن سنان حين قتل زوجها : امكثى في بيتك حتى يبلغ الكتاب أجله.

فتقرّر من هذا أنّ المتوفّى عنها زوجها كانت بالخيار بين أن تخرج من بيتها وبين أن تبقى بآية الإخراج ، ثم نسخها الله تعالى بالآية التي فيها التربّص ، ثم أكّد ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم بأمره للفريعة بالمكث في بيتها ؛ فكان ذلك بيانا للسكنى (٥) للمتوفّى عنها زوجها قرآنا وسنة.

المسألة الثانية ـ هذا لفظه لفظ الخبر ، ومعناه أيضا معنى الخبر كما تقدم. المعنى :

__________________

(١) الآية الرابعة والثلاثون بعد المائتين.

(٢) سورة البقرة ، آية ٢٤٠

(٣) في ا : السكنى. وفي ل : فكان ذلك بيان للسكنى.

٢٠٧

والذين يتوفّون منكم ويذرون أزواجا يتربّصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا ، يعنى شرعا ؛ فما وجد من متوفّى عنها زوجها لم تتربّص فليس ذلك من الشرع ، فجرى الخبر على لفظه ، وثبت كلام الله سبحانه على صدقه ، كما تقدم في التربّص بالقرء. والله أعلم.

المسألة الثالثة ـ التربّص : هو الانتظار ، ومتعلّقه ثلاثة أشياء : النكاح ، والطيب والتنظّف (١) ، والتصرف والخروج.

أما النكاح ، فإذا وضعت المتوفّى عنها زوجها ولو بعد وفاته بلحظة اختلف الناس فيها على ثلاثة أقوال : الأول أنها قد حلّت. الثاني : أنها لا تحل إلّا بانقضاء الأشهر ؛ قاله ابن عباس. الثالث : أنها لا تحلّ إلّا بعد الطّهر من النفاس ؛ قاله الحسن وحماد بن أبى سليمان والأوزاعى.

وقد كان قول ابن عباس ظاهرا لو لا حديث سبيعة الأسلمية أنها وضعت بعد وفاة زوجها بليال ، فقال لها النبىّ صلى الله عليه وسلم : قد حللت ، فانكحى من شئت.

صحّت رواية الأئمة له.

والذي عندي أنّ هذا الحديث لو لم يكن لما صحّ رأى ابن عباس في آخر الأجلين ؛ لأنّ الحمل إذا وضع فقد سقط الأجل بقوله تعالى (٢) : (أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَ) ، وسقط المعنى الموضوع لأجله الأجل ، وهو مخافة شغل الرّحم ؛ فأيّ فائدة في الأشهر؟ وإذا تمت الأشهر وبقي الحمل فليس يقول أحد : إنها تحلّ ؛ وهذا يدلك على أنّ حديث سبيعة جلاء لكلّ غمة ، وعلا على كل رأى وهمة.

وأما قول الأوزاعى فيردّه قوله تعالى (٣) : (وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَ) ولم يشترط الطهارة.

فإن قيل : المراد بقوله تعالى (٤) : (وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَ) المطلقات ؛ لأنه فيهنّ ورد ، وعلى ذكرهنّ انعطف.

قلنا : عطفه على المطلّقة لا يسقط عمومه ، ويشهد له ما بينّاه من الحكمة في إيجاب العدّة من براءة الرحم ، وأنها قد وجدت قطعا.

المسألة الرابعة ـ قد يزدحم على الرّحم وطئان فتكون العدّة فيهما أقصى الأجلين في مسائل :

__________________

(١) في ا : والشظف ، وهو تحريف.

(٢) سورة الطلاق ، آية ٤

٢٠٨

منها المنعىّ لها يقدم (١) ثم يموت وهي حامل من الثاني ؛ فلا بدّ من أقصى الأجلين ، وكذلك لو قدم وهي حامل فطلّقها الأول فلا يبرئها الوضع ، ولتأتنف ثلاث حيض بعده ، وهو أمر بيّن.

المسألة الخامسة ـ أما الطّيب والزينة فقد روى عن الحسن أنه جوّز ذلك لها احتجاجا بما روى أنّ النبىّ صلى الله عليه وسلم قال لأسماء بنت عميس حين مات جعفر : أمسكى ثلاثا ، ثم افعلي ما بدا لك. وهذا حديث باطل. روى (٢) الأئمة بأجمعهم عن زينب بنت أبى سلمة عن أمّ سلمة عن النبي صلى الله عليه وسلم ـ أنّ امرأة جاءت إليه فقالت له : إن ابنتي توفّى عنها زوجها ، وقد اشتكت عينيها أفتكحلهما؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا ، مرتين أو ثلاثا ، ثم قال : إنما هي أربعة أشهر وعشر. وقد كانت إحداكنّ ترمى بالبعرة على رأس الحول. قالت زينب : وكانت المرأة إذا توفّى عنها زوجها لبست شرّ ثيابها ، ودخلت حفشا (٣) فلم تمسّ طيبا حتى تمرّ بها سنة ، ثم تؤتى بدابّة ، حمار أو شاة أو طير فتفتضّ به ، فقلّ ما تفتضّ بشيء إلّا مات ، ثم تخرج فتعطى بعرة فترمى بها ، ثم تراجع بعد ما شاءت من طيب وغيره.

ولو صحّ حديث أسماء (٤) فقد قال علماؤنا : إنّ التسلّب هو لباس الحزن ، وهو معنى غير الإحداد.

وأما الخروج فعلى ثلاثة أوجه :

الأول ـ خروج انتقال ، ولا سبيل إليه عند عامّة العلماء إلّا ما روى عن ابن عباس وعطاء وسفيان الثورىّ ؛ لاعتقادهم أنّ آية الإخراج لم تنسخ ، وقد تقدّم بيان ذلك.

الثاني ـ خروج العبادة ، كالحجّ والعمرة ، قال ابن عباس وعطاء : يحججن لأداء

__________________

(١) في ا : بعدم ، وهو تحريف.

(٢) ابن ماجة : ٦٧٣

(٣) الحفش : البيت الصغير الذليل القريب السمك.

(٤) وهو أنه قال لأسماء بنت عميس بعد مقتل جعفر : تسلبى ثلاثا ، ثم اصنعي ما شئت. أى البسى ثوب الحداد ، وهو السلاب. وتسلبته المرأة : إذا لبسته. وقيل : هو ثوب أسود تغطى به المحد رأسها. ومنه حديث بنت أم سلمة أنها بكت على حمزة ثلاثة أيام وتسلبت.

٢٠٩

الفرض عليهن ، وقد قال عمر وابن عمر : لا يحججن ؛ وقد كان عمر رضى الله عنه يردّ المعتدّات من البيداء يمنعهنّ الحجّ ؛ فرأى عمر في الخلفاء ورأى مالك في العلماء وغيرهم أنّ عموم فرض التربّص في زمن العدّة مقدّم على عموم زمان فرض الحج ، لا سيما إن قلنا إنّه على التراخي. وإن قلنا على الفور فحقّ التربّص آكد من حق الحج ؛ لأنّ حقّ العدة لله تعالى ثم للآدمي في صيانة مائه وتحرير نسبه ؛ وحقّ الحج خاصّ لله سبحانه.

الثالث ـ خروجها بالنهار للتصرف ورجوعها بالليل ؛ قاله ابن عمر وغيره ، ويكون خروجها في السحر ورجوعها عند النوم ، فراعوا المبيت الذي هو عمدة السكنى ومقصوده ، وإليه ترجع حقيقة المأوى.

فإن قيل ، وهي :

المسألة السادسة ـ لم ير أحد مبيت ليلة أو ثلاث (١) سكنى للبائت حيث بات ، ولا خروجا عن السكنى ، فما بالهم في العدّة قالوا : خروج ليله خروج؟

قلنا : المعنى فيه ـ والله أعلم ـ أنّ حقّ الخروج متعلّق المبيت فاحتيط له* والحي يحمى* شوله (٢) معقولا* فلم يعتبر ذلك فيه.

المسألة السابعة ـ الآية عامة في كل متزوّجة ، مدخول بها أو غير مدخول بها ، صغيرة أو كبيرة ، أمة أو حرّة ، حامل أو غير حامل كما تقدم. وهي خاصّة في المدة ؛ فإن كانت أمة فتعتدّ نصف عدّة الحرة إجماعا ، إلا ما يحكى عن الأصم ، فإنه سوّى فيه بين الحرّة والأمة ، وقد سبقه الإجماع ، لكن لصممه لم يسمع به ، وإذا انتصف فمن العلماء من قال : إنها شهران وخمس ليال ، وهو مالك ، ورأيت لغيره ما لم أرض أن أحكيه.

المسألة الثامنة ـ إذا مات الزوج ولم تعلم المرأة بذلك إلّا بعد مضىّ مدة العدة فمذهب الجماعة أنّ العدّة قد انقضت ، ويروى عن علىّ أنّ العدّة من يوم علمت ، وبه قال الحسن. وقال نحوا منه عمر بن عبد العزيز والشعبي إن ثبت الموت ببيّنة.

ووجهه أن العدّة عبادة بترك الزينة ، وذلك لا يصح إلا بقصد ، والقصد لا يكون إلّا

__________________

(١) في ل : وثلاثا.

(٢) الشائلة من الإبل : التي أتى عليها من حملها أو وضعها سبعة أشهر ، فجف لبنها ، والجمع شول.

٢١٠

بعد العلم ، يؤكّده أنها لو علمت بموته فتركت الإحداد لانقضت العدّة ؛ فإذا تركت الإحداد مع عدم العلم فهو أهون ؛ ألا ترى أنّ الصغيرة تنقضي عدّتها ولا إحداد عليها.

المسألة التاسعة ـ إن لم تحض في الأربعة الأشهر فلا عدّة لها عندنا في أشهر الأقوال.

وقال أبو حنيفة والشافعى وغيرهما : لا تفتقر إلى الحيض.

ودليلنا أنّ تأخير الحيض ريبة توجب أن تستظهر له ، إلا أنّ علماءنا قالوا : إذا لم يكن لها عادة بتأخير الحيض ولم تخش ريبة بقيت تسعة أشهر من يوم وفاته.

وكيفية الاستظهار عندنا تكون بحيضة واحدة على ما بيناه في مسائل الفروع.

المسألة العاشرة ـ إن كانت الزوجة كتابيّة فلمالك فيها قولان :

أحدهما ـ أنها كالمسلمة. الثاني ـ أنها تعتدّ بثلاث حيض ؛ إذ بها يبرأ الرحم ؛ وهذا منه فاسد جدا ؛ لأنه أخرجها من عموم آية الوفاة ؛ وهي منها ، وأدخلها في عموم آية الطلاق ، وليست منها.

المسألة الحادية عشرة ـ في تنزيل هذه الأحكام :

اعلموا وفّقكم الله أنّ المقصود بهذه العدّة براءة الرحم من ماء الزوج ؛ فامتناع النكاح إنما هو لأجل الماء الواجب صيانته أولا.

وامتناع عقد النكاح إنما هو لاستحالة وجوده شرعا على محلّ لا يفيد مقصوده فيه وهو الحلّ.

وامتناع الطيب والزينة لأنه من دواعيه ، فقطعت الذريعة إليه بمنع ما يحرص عليه. وامتناع الخطبة لأنّ القول في ذلك والتصريح به أقوى ذريعة وأشدّ داعية من الطيب والزينة ، فحرّم من طريق الأولى.

وامتناع الخروج لبقاء الرقبة الموجب غاية (١) الحفيظة والعصمة. وحقّ أمر السكنى لكونه في الدرجة الخامسة من الحرمة ، فأسقط وجوبه أحبار من الأمّة ، ثم رخّص الله تعالى في التعريض على ما يأتى بيانه إن شاء الله.

المسألة الثانية عشرة ـ قوله تعالى : (فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَ).

__________________

(١) في ل : عامة.

٢١١

يعنى انقضت العدّة فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن.

هذا خطاب للأولياء ، وبيان أنّ الحقّ في التزويج لهنّ فيما فعلن في أنفسهن بالمعروف ؛ أى من جائز شرعا ، يريد من اختيار أعيان الأزواج ، وتقدير الصداق دون مباشرة العقد ، لأنّه حقّ للأولياء ، كما تقدم دون وضع نفسها في غير كفء ، لأنه ليس من المعروف ، وفيه الضرر وإدخال العار.

الآية الثالثة والسبعون ـ قوله تعالى (١) : (وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّساءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ ، وَلكِنْ لا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلاً مَعْرُوفاً وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتابُ أَجَلَهُ).

فيها عشر مسائل :

المسألة الأولى ـ حرّم الله تعالى النكاح في العدّة ، وأوجب التربّص على الزوجة ، وقد علم سبحانه أنّ الخلق لا يستطيعون الصّبر عن ذكر النكاح والتكلم فيه ، فاذن في التصريح بذلك مع جميع الخلق ، وأذن في ذكر ذلك بالتعريض مع العاقد له ، وهو المرأة أو الولىّ ؛ وهو في المرأة آكد.

والتعريض هو القول المفهم لمقصود الشيء ، وليس بنصّ فيه. والتصريح هو التنصيص عليه والإفصاح بذكره ، مأخوذ من عرض الشيء وهو ناحيته ، كأنه يحوم على النكاح ولا يسف (٢) عليه ويمشى حوله ولا ينزل به.

المسألة الثانية ـ في تفسير التعريض :

وقد روى عن السلف فيه كثير ، جماعه عندي يرجع إلى قسمين :

الأول ـ أن يذكرها للولىّ ؛ يقول لا تسبقني بها.

الثاني ـ أن يشير بذلك إليها دون واسطة. فإن ذكر ذلك لها بنفسه ففيه سبعة ألفاظ: الأول ـ أن يقول لها : إنى أريد التزويج.

الثاني ـ أن يقول لها : لا تسبقيني بنفسك ؛ قاله ابن عباس.

__________________

(١) الآية الخامسة والثلاثون بعد المائتين.

(٢) في ا : ولا يشف. والمثبت من ل.

٢١٢

الثالث ـ أن يقول لها : إنك لجميلة ، وإنّ حاجتي في النساء ، وإن الله لسائق إليك خيرا.

الرابع ـ أن يقول لها : إنك لنافقة (١) ؛ قاله ابن القاسم.

الخامس ـ إنّ لي حاجة ، وأبشرى فإنّك نافقة ، وتقول هي : قد اسمع ما تقول ؛ ولا تزيد شيئا ؛ قاله عطاء.

السادس ـ أن يهدى لها. قال إبراهيم : إذا كان من شأنه. وقال الشعبي مثله في :

السابع ـ ولا يأخذ ميثاقها.

قالت سكينة بنت حنظلة بن عبد الله بن حنظلة : دخل علىّ أبو جعفر وأنا في عدّتى فقال : يا بنت حنظلة ، قد علمت قرابتي من رسول الله صلى الله عليه وسلم وحقّ جدّى علىّ. فقلت : غفر الله لك أبا جعفر ، تخطبنى في عدّتى وأنت يؤخذ عنك؟

فقال : أوقد فعلت! إنما أخبرتك بقرابتي رسول الله صلى الله عليه وسلم وموضعي.

وقد دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على أمّ سلمة ـ وكانت عند ابن عمها أبى سلمة فتوفّى عنها ، فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر لها منزلته من الله ، وهو متحامل على يده حتى أثّر الحصير في يده من شدة تحامله ، فما كانت تلك خطبة.

فانتخل من هذا فصلان : أحدهما أن يذكرها لنفسها. الثاني أن يذكرها لوليّها أو يفعل فعلا يقوم مقام الذكر كأن يهدى لها.

والذي مال إليه مالك أن يقول : إنى بك لمعجب ، ولك محبّ ، وفيك راغب. وهذا عندي أقوى التعريض ، وأقرب إلى التصريح.

والذي أراه أن يقول لها : إنّ الله تعالى سائق إليك خيرا ، وأبشرى وأنت نافقة. فإن قال لها أكثر فهو إلى التصريح أقرب.

ألا ترى إلى ما قال أبو جعفر الباقر ، وإلى ما روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وأما إذا ذكرها لأجنبىّ فلا حرج عليه ولا حرج على الأجنبىّ في أن يقول : إنّ فلانا يريد أن يتزوّجك إذا لم يكن ذلك بواسطة.

وهذا التعريض ونحوه من الذرائع المباحة ؛ إذ ليس كل ذريعة محظورا ، وإنما يختص

__________________

(١) من النفاق ، وهو الرواج.

٢١٣

بالحظر الذريعة في باب الرّبا ، لقول عمر رضى الله عنه : فدعوا الرّبا والريبة وكلّ ذريعة ريبة ؛ وذلك لعظيم حرمة الرّبا وشدة الوعيد فيه من الله تعالى.

المسألة الثالثة ـ لما رفع الله تعالى الحرج في التعريض في النكاح قال علماء الشافعية : هذا دليل على أنّ التعريض بالقذف لا يوجب الحدّ ؛ لأنّ الله تعالى لم يجعل التعريض في النكاح مقام التصريح ؛ فأولى ألّا يكون هاهنا ؛ لأنّ الحدّ يسقط بالشبهة. وهذا ساقط ؛ فإنّ الله تعالى لم يأذن في التصريح في النكاح بالخطبة ، وأذن في التعريض الذي يفهم منه النكاح ؛ فهذا دليل على أن التعريض به يفهم منه القذف ، والأعراض يجب صيانتها كما تجب صيانة الأموال والدماء ، وذلك يوجب حدّ المعرّض ، لئلا يتطرّق الفسقة إلى أخذ الأعراض بالتعريض الذي يفهم منه ما يفهم بالتصريح.

المسألة الرابعة ـ قوله تعالى : (أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ).

يعنى سترتم وأخفيتم في قلوبكم من ذكرهنّ ، والعزيمة على نكاحهن ؛ فرفع الله تعالى الحرج في ذلك ؛ لعلمه بأنه لا بدّ منه تفضّلا منه حين علم أنه لا بدّ من ذكرهن ، ثم قال تعالى وهي :

المسألة الخامسة ـ (وَلكِنْ لا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا).

المعنى قد منعتم التصريح بالنكاح وعقده ، وأذن لكم في التعريض ؛ فإياكم أن يقع بينكم مواعدة في النكاح ، حين منعتم العقد فيه.

وقد اختلف العلماء في السرّ المراد هاهنا على ثلاثة أقوال :

الأول : أنه الزنا. الثاني : الجماع. الثالث : التصريح. واختار الطبري أنه الزنا ؛ لقول الأعشى (١) :

فلا تقربنّ جارة إنّ سرّها

عليك حرام فانكحن أو تأبّدا

والسرّ في اللغة يتصرّف على معان :

أحدها ـ ما تكلّم به في سرّه وأخفى منه ما أضمر.

الثاني ـ سرّ الوادي ؛ أى شطّه.

الثالث ـ سرّ الشيء : خياره.

__________________

(١) ديوانه : ١٣٧ ، والتأبد : التعزب والبعد عن النساء.

٢١٤

الرابع ـ أنه الزنا.

الخامس ـ أنه الجماع.

السادس ـ أنه فرج المرأة.

السابع ـ سرر (١) الشهر : ما استسر الهلال فيه من لياليه.

وهذه الإطلاقات يدخل بعضها على بعض ، ويرجع المعنى إلى الخفاء ، فيعمّ به تارة ويخصّ أخرى ، وترى سرّ الشيء خياره إنما هو لأنه يخفى ويضنّ به ، وترى أنّ سرّ الوادي شطّه ؛ لأنه أشرفه ؛ لأنّ حسن الوادي إنما يكون بالجلوس عليه لا فيه ، ومنه سميت السرّية لأنها تتّخذ للوطء ، إذ الخدم يتخذون للتصرف والوطء ، فسميت المتّخذة للوطء سريّة من السرور ، ومنه سمى فرج المرأة سرّا لأنه موضعه.

فالمعنى هاهنا : لا تواعدوهنّ نكاحا ولا وطئا ، فهو الذي حرّم عليكم في العدّة ، لأنه حرم عليهن النكاح في العدة إلى وقت محرّم عليهن ضرب الوعد فيه ؛ وهذا بيّن لمن تأمّله.

المسألة السادسة ـ قال علماؤنا : إذا حرّم الوعد في العدّة بالنكاح لأنه لا يجوز كان ذلك دليلا على تحريم الوعد في التقابض في الصّرف في وقت لا يجوز إلى وقت يجوز فيه التقابض.

ومنه قول عمر رضى الله عنه : وإن استنظرك إلى أن يلج بيته فلا تنظره ؛ وهذا بيّن ، فإن الربا مثل الفرج في التحريم ، وهذا بيّن عند التأمل.

المسألة السابعة ـ قوله تعالى : (إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلاً مَعْرُوفاً) ، وهو التعريض الجائز.

المسألة الثامنة ـ قوله تعالى : (وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتابُ أَجَلَهُ).

فهذه عامة (٢) للبيان ؛ أى لا تواعدوا نكاحا ، ولا تعقدوه ، حتى تنقضي العدّة.

المسألة التاسعة ـ لو واعد في العدّة ونكح بعدها استحبّ له مالك الفراق بطلقة تورّعا ، ثم يستأنف خطبتها ، وأوجب عليه أشهب الفراق ؛ وهو الأصحّ.

المسألة العاشرة ـ إذا نكح في العدّة وبنى فسخ ولم ينكحها أبدا ، [قاله مالك وأحمد والشعبي] (٣) ، وبه قضى عمر ؛ لأنه استحلّ ما لا يحلّ له فحرمه ، كالقاتل في حرمان الميراث.

وقد استوفيناها في مسائل الخلاف دليلا ، وفي كتب الفروع تفريعا.

__________________

(١) السرر : الليلة التي يستسر فيها القمر.

(٢) في ا : علية. والمثبت من ل.

(٣) ليس في ل.

٢١٥

الآية الرابعة والسبعون ـ قوله تعالى (١) : (لا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّساءَ ما لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتاعاً بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ).

فيها مسألة واحدة :

اختلف الناس في تقديرها ؛ فمنهم من قال : معناها لا جناح عليكم إن طلقتم النساء المفروض لهنّ الصداق من قبل الدخول ما لم تمسوهنّ ، وغير المفروض لهنّ قبل الفرض ؛ قاله الطبري واختاره.

ومنهم من قال : معناها إن طلّقتم النساء ما لم تمسوهنّ ولم تفرضوا لهنّ فريضة. وتكون أو بمعنى الواو.

الثالث ـ أن يكون في الكلام حذف ، تقديره لا جناح عليكم إن طلقتم النساء فرضتم أو لم تفرضوا.

وهذه الأقوال ترجع إلى معنيين : أحدهما أن تكون أو بمعنى الواو. الثاني أن يكون في الكلام حذف تقدّر (٢) به الآية ، وتبقى أو على بابها ، وتكون بمعنى التفصيل والتقسيم والبيان ، ولا ترجع إلى معنى الواو ، كقوله تعالى (٣) : (وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً). فإنها للتفصيل.

واحتجّ من قال إنها بمعنى الواو بأنه عطف عليها بعد ذلك المفروض لهن. فقال تعالى: (وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ) ، فلو كان الأول لبيان طلاق المفروض لهنّ قبل المسيس لما كرّره ، وهذا ظاهر. وقد بينّا في كتاب ملجئة المتفقهين ذلك.

ولا فرق في قانون العربية بين تقدير حذف ، أو تكون أو بمعنى الواو ؛ لأنّ المعاني تتميّز بذلك ، والأحكام تتفصّل ؛ فإن المطلّقة التي لم تمس ولم يفرض لها لا تخلو من أربعة أقسام :

__________________

(١) الآية السادسة والثلاثون بعد المائتين.

(٢) في ا : تقرر.

(٣) سورة الإنسان ، آية ٢٤

٢١٦

الأوّل ـ مطلقة قبل المسّ وبعد الفرض.

الثاني ـ مطلّقة بعد المسيس والفرض.

الثالث ـ مطلّقة قبل المسيس وبعد الفرض.

الرابع ـ مطلقة بعد المس ، وقبل الفرض.

وقد اختلف الناس في المتعة على أربعة أقوال دائرة مع الأربعة الأقسام.

والصحيح أنّ الله تعالى لم يذكر في هذا الحكم إلّا قسمين : مطلّقة قبل المسّ وقبل الفرض ، ومطلّقة قبل المسّ وبعد الفرض ؛ فجعل للأولى المتعة ، وجعل للثانية نصف الصداق ، وآلت الحال إلى أنّ المتعة لم يبيّن الله سبحانه وتعالى وجوبها إلا لمطلّقة قبل المسيس والفرض. وأما من طلّقت وقد فرض لها فلها قبل المسيس نصف الفرض ، ولها بعد المسيس جميع الفرض أو مهر مثلها.

والحكمة في ذلك أنّ الله سبحانه وتعالى قابل المسيس بالمهر الواجب ونصفه بالطلاق قبل المسيس ، لما لحق الزوجة من رحض العقد ، ووصم الحلّ الحاصل للزوج بالعقد (١) ، فإذا طلقها قبل المسيس والفرض ألزمه الله المتعة كفؤا لهذا المعنى ؛ ولهذا اختلف العلماء في وجوب المتعة ؛ فمنهم من رآها واجبة لظاهر الأمر بها ، وللمعنى الذي أبرزناه من الحكمة فيها.

وقال علماؤنا : ليست بواجبة لوجهين : أحدهما أنّ الله تعالى لم يقدرها ، وإنما وكلها إلى اجتهاد المقدّر ، وهذا ضعيف ؛ فإن الله تعالى قد وكل التقدير في النفقة إلى الاجتهاد ، وهي واجبة ، فقال : (عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ).

الثاني ـ أنّ الله تعالى قال فيها : (حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ) : حقّا على المتقين ، ولو كانت واجبة لأطلقها على الخلق أجمعين ؛ فتعليقها بالإحسان وليس بواجب ، وبالتّقوى ـ وهو معنى خفىّ ـ دلّ على أنها استحباب ، يؤكده أنه قال تعالى في العفو عن الصداق (٢) : (وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى) ، فأضافه إلى التّقوى وليس بواجب ؛ وذلك أنّ للتقوى أقساما بيّناها في كتب الفقراء ؛ ومنها واجب ، و [منها] (٣) ما ليس بواجب ؛ فلينظر هنالك.

__________________

(١) في ا : بالعقدة.

(٢) سورة البقرة ، آية ٢٣٧

(٣) الزيادة من ل.

٢١٧

فإن قيل : فقد قال تعالى (١) : (وَلِلْمُطَلَّقاتِ مَتاعٌ بِالْمَعْرُوفِ) ، فذكرها لكلّ مطلقة؟

قلنا : عنه جوابان : أحدهما أنّ المتاع هو كلّ ما ينتفع به ؛ فمن كان لها مهر فمتاعها مهرها ، ومن لم يكن لها مهر فمتاعها ما تقدم.

الثاني أنّ إحدى الآيتين حقيقة دون الأخرى ، وذلك بيّن في مسائل الخلاف ، فلينظر هنالك إن شاء الله تعالى.

الآية الخامسة والسبعون ـ قوله تعالى (٢) : (وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى ، وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ).

فيها ثماني مسائل :

المسألة الأولى ـ هذا القسم هو أحد الأقسام المتقدمة ، وهو مطلّقة قبل المسيس وبعد الفرض ، فلها نصف المفروض واجبا ، كما أنّ للمتقدمة المتعة مستحبّة.

المسألة الثانية ـ إنّ المطلقة قبل المسيس لها نصف المهر ، وإن خلا بها ، ولا تضرّ الخلوة بالمهر ، إلّا أن يقترن بها مسيس في مشهور المذهب ؛ وبه قال الشافعى.

وقال أبو حنيفة : يتقرّر المهر بالخلوة ؛ وظاهر القرآن يدلّ على ما قلناه.

فإن قيل : الآية حجّة عليكم ؛ لأنه لو خلا وقبّل ولمس قلتم لا يتقرّر المهر.

قلنا : المسيس هاهنا كناية عن الوطء بإجماع ؛ لأنّ عندكم أنه لو خلا ولم يلمس ولا قبّل يتقرر المهر ، ولم يوجد هنا مسّ ولا وطء ؛ وهذا خلاف الآية ومراغمة الظاهر.

المسألة الثالثة ـ لما قسم الله تعالى حال المطلقة إلى قسمين ؛ مطلّقة سمّى لها فرض ، ومطلّقة لم يسمّ لها فرض دلّ على أنّ نكاح التفويض جائز ، وهو كلّ نكاح عقد من غير ذكر الصداق ؛ ولا خلاف فيه ، ويفرض بعد ذلك الصداق. فإن فرض التحق بالعقد وجاز ، وإن لم يفرض لها وكان الطلاق لم يجب صداق إجماعا ، وإن فرض بعد عقد النكاح وقبل وقوع الطلاق فقال أبو حنيفة : لا يتنصف بالطلاق ؛ لأنه لم يجب بالعقد ، وهذا خلاف الظاهر من قوله تعالى : (وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ

__________________

(١) سورة البقرة ، آية ٢٤١

(٢) الآية السابعة والثلاثون بعد المائتين.

٢١٨

لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ) وخلاف القياس أيضا ؛ فإن الفرض بعد العقد يلحق بالعقد ؛ فوجب أن يتنصف بالطلاق أصله الفرض (١) المقترن بالعقد.

المسألة الرابعة ـ فإن وقع الموت قبل الفرض فقال مالك : لها الميراث دون الصداق. وخالف في ذلك الشافعىّ وأبو حنيفة ، فقالوا : يجب لها الصّداق والميراث ، واحتجّوا بما روى جماعة منهم النسائي وأبو داود أنّ النبىّ صلى الله عليه وسلم قضى في بروع بنت واشق وقد مات زوجها قبل أن يفرض لها ـ بالمهر والميراث والعدّة. والحديث ضعيف ؛ لأن راويه مجهول ؛ ودليلنا أنه فراق في نكاح قبل الفرض فلم يجب فيه صداق أصله الطلاق ، وقد خرّج الحديث المتقدم (٢) أبو عيسى ، وقال : حديث ابن مسعود حديث حسن صحيح ، وقد روى عنه من غير وجه.

المسألة الخامسة ـ قوله تعالى : (إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ).

الواجب لهنّ من الصداق أذن (٣) الله تعالى لهنّ في إسقاطه بعد وجوبه ؛ إذ جعله خالص حقّهنّ يتصرفن فيه بالإمضاء والإسقاط كيف شئن إذا ملكن أمر أنفسهن في الأموال ورشدن (٤).

المسألة السادسة ـ (أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ).

وهي معضلة اختلف العلماء فيها ؛ فقيل : هو الزوج ؛ قاله علىّ وشريح وسعيد بن المسيّب وجبير بن مطعم ومجاهد والثوري ؛ واختاره أبو حنيفة والشافعى في أصحّ قوليه.

ومنهم من قال : إنه الولىّ ؛ قاله ابن عباس ، والحسن ، وعكرمة ، وطاوس ، وعطاء ، وأبو الزناد ، وزيد بن أسلم ، وربيعة ، وعلقمة ، ومحمد بن كعب ، وابن شهاب ، والأسود ابن يزيد ، وشريح الكندي ، والشعبي ، وقتادة.

واحتجّ من قال إنه الزوج بوجوه كثيرة ، لبابها ثلاثة :

الأول ـ أن الله تعالى ذكر الصداق في هذه الآية ذكرا مجملا من الزوجين ، فحمل على

__________________

(١) في ل : والمقترن.

(٢) في ا : المتفرع. والمثبت من ل. وأبو عيسى : هو الترمذي.

(٣) في ا : بإذن.

(٤) الفعل كقعد وطرب.

٢١٩

المفسّر في غيرها (١) ، وقد قال الله تعالى (٢) : (وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً) ؛ فأذن الله تعالى للزوج في قبول الصداق إذا طابت نفس المرأة بتركه.

وقال أيضا (٣) : (وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً أَتَأْخُذُونَهُ ......) إلى آخرها.

فنهى الله تعالى الزوج أن يأخذ مما آتى المرأة إن أراد طلاقها.

الثاني ـ قوله تعالى : (إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ).

يعنى النساء ، أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح : يعنى الزوج ، معناه يبذل جميع الصداق. يقال : عفا بمعنى بذل ، كما يقال : عفا بمعنى أسقط.

ومعنى ذلك وحكمته أنّ المرأة إذا أسقطت ما وجب لها من نصف الصداق تقول هي: لم ينل منى شيئا ولا أدرك ما بذل فيه هذا المال بإسقاطه (٤) ، وقد وجب إبقاء للمروءة واتقاء في الديانة. ويقول الزوج : أنا أترك المال لها لأنى قد نلت الحلّ وابتذلتها بالطلاق فتركه أقرب للتقوى وأخلص من الأئمة.

الثالث ـ أنه تعالى قال : (وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ).

وليس لأحد في هبة مال لآخر (٥) فضل ؛ وإنما ذلك فيما يهبه المفضل من مال نفسه ، وليس للولىّ حقّ في الصداق.

واحتجّ من قال : إنه الولىّ بوجوه كثيرة ؛ نخبتها أربعة :

الأول ـ قالوا : الذي بيده عقدة النكاح الولىّ ، لأن الزوج قد طلّق ؛ فليس بيده عقدة ، ومنه قوله تعالى (٦) : (وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتابُ أَجَلَهُ) ، وهذا يستمرّ مع الشافعى دون أبى حنيفة الذي لا يرى عقدة النكاح للولىّ.

الثاني ـ أنه لو أراد الأزواج لقال : إلّا أن تعفوا أو تعفون ، فلما عدل من مخاطبة الحاضر المبدوء به في أول الكلام إلى لفظ الغائب دلّ على أن المراد به غيره.

__________________

(١) في ل : في غيرهما.

(٢) سورة النساء ، آية ٤

(٣) سورة النساء ، آية ١٩

(٤) في ل : وإسقاطه.

(٥) في ا : آخر.

(٦) سورة البقرة ، آية ٢٣٥

٢٢٠