أحكام القرآن - ج ١

أبي بكر محمّد بن عبدالله [ ابن العربي ]

أحكام القرآن - ج ١

المؤلف:

أبي بكر محمّد بن عبدالله [ ابن العربي ]


المحقق: علي محمّد البجاوي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الجيل
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٢٣

وكانت الحمس (١) لا يبالون ذلك. قال الأنصارى : وأنا أحمسىّ ـ يعنى على دينك ـ فأنزل الله تعالى الآية.

المسألة العاشرة ـ في تأويلها ثلاثة أقوال :

الأول ـ أنها بيوت المنازل.

الثاني ـ أنها النساء أمرنا بإتيانهنّ من القبل لا من الدّبر.

الثالث ـ أنها مثل ؛ أمر الناس أن يأتوا الأمور من وجوهها.

المسألة الحادية عشرة ـ في تحقيق هذه الأقوال :

أما القول إنّ المراد بها النساء فهو تأويل بعيد لا يصار إليه إلّا بدليل ، فلم يوجد ولا دعت إليه حاجة.

وأما كونه مثلا في إتيان الأمور من وجوهها فذلك جائز في كلّ آية ؛ فإنّ لكل حقيقة مثلا منها ما يقرب ومنها ما يبعد.

وحقيقة هذه الآية البيوت المعروفة ، بدليل ما روى في سبب نزولها من طرق متعددة ذكرنا أوعبها عن الزهري ، فحقّق أنها المراد بالآية ، ثم ركّب من الأمثال ما يحمله اللفظ ويقرب ، ولا يعارضه شيء.

المسألة الثانية عشرة ـ قال علماؤنا : هذا دليل على مسألة من الفقه ، وهي أن الفعل بنيّة العبادة لا يكون إلا في المندوبات خاصة دون المباح ودون المنهي عنه. واقتحام البيوت من ظهورها عند التلبّس بالعمرة لم يكن ندبا فيقصد به وجه القربة ؛ ولذلك لا يتعلّق النذر بمباح ولا منهىّ عنه ، وإنما يتعلّق بكل مندوب ؛ وهذا أصل حسن.

الآية الموفية أربعين ـ قوله تعالى (٢) : (وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ ، وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ).

فيها خمس مسائل :

__________________

(١) الحمس : جمع الأحمس. والحمس : قريش ومن ولدت قريش وكنانة وجديلة قيس ، وهم فهم وعدوان ابنا عمرو بن قيس بن عيلان ، وبنو عامر بن صعصعة ، هؤلاء الحمس ، سموا حمسا لأنهم تحمسوا في دينهم وتشددوا (اللسان ـ مادة حمس).

(٢) الآية التسعون بعد المائة.

١٠١

المسألة الأولى ـ في مقدمة لها :

إنّ الله سبحانه بعث نبيّه صلى الله عليه وسلم بالبيان والحجّة ، وأوعز إلى عباده على لسانه بالمعجزة والتذكرة ، وفسح لهم في المهل ، وأرخى لهم في الطّيل (١) ما شاء من المدة بما اقتضته المقادير التي أنفذها ، واستمرت به الحكمة ، والكفار يقابلونه بالجحود والإنكار ، ويعتمدونه وأصحابه بالعداوة والإذاية ، والباري سبحانه يأمر نبيّه عليه السلام وأصحابه باحتمال الأذى والصّبر على المكروه ، ويأمرهم بالإعراض تارة وبالعفو والصفح أخرى ، حتى يأتى الله بأمره ، إلى أن أذن الله تعالى لهم في القتال.

فقيل : إنه أنزل على رسوله (٢) : (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا) ، وهي أول آية نزلت ، وإن لم يكن أحد قاتل ، ولكن معناه أذن للذين يعلمون أنّ الكفّار يعتقدون قتالهم وقتلهم بأن يقاتلوهم [٥٥] على اختلاف القراءتين (٣) ، ثم صار بعد ذلك فرضا ، فقال تعالى : (وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ).

ثم أمر بقتال الكلّ ، فقال (٤) : (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ ..) الآية. وقيل : إن هذه الآية أول آية نزلت.

والصحيح ما رتّبناه ؛ لأن آية الإذن في القتال مكّية ، وهذه الآية مدنية متأخّرة.

المسألة الثانية ـ في سبب نزولها : روى أن النبي صلى الله عليه وسلم لما سار إلى العمرة زمن الحديبية فصدّه المشركون عنها ، فأمر بقتالهم ، فبايع على ذلك ، ثم أذن له في الصلح إلى أمر ربّك أعلم به.

المسألة الثالثة ـ قال جماعة : إنّ هذه الآية منسوخة بآية براءة ، وهذا لا يصحّ ؛ لأنه أمر هاهنا بقتال من قاتل ، وكذلك أمر بذا بعده ، فقال تعالى (٥) : (وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً) ، بيد أن أشهب روى عن مالك أنّ المراد هاهنا أهل المدينة ، أمروا بقتال من قاتلهم.

وقال غيره : هو خطاب للجميع ، وهو الأصحّ ؛ أمر كل أحد أن يقاتل من قاتله ، إذ لا يمكن سواه ؛ ألا تراه كيف بيّنها تعالى في سورة براءة بقوله (٦) : (قاتِلُوا الَّذِينَ

__________________

(١) الطيل : حبل تشد به قائمة الدابة ، أو تشد ويمسك طرفه وترسلها ترعى.

(٢) سورة الحج ، آية ٣٩

(٣) في ل : على اختلاف في القولين. وفي القرطبي (١٢ ـ ٦٨) : وقرى أذن بفتح الهمزة ، أى أذن الله. يقاتلون ، بكسر التاء ، أى يقاتلون عدوهم.

(٤) سورة التوبة ، آية ٥

(٥) سورة التوبة ، آية ٣٦

(٦) سورة التوبة ، آية ١٢٣

١٠٢

يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ) ؛ وذلك لأنّ المقصود أوّلا كان أهل مكة فتعيّنت البداية بهم وبكلّ من عرض دونهم (١) أو عاونهم ؛ فلما فتح الله تعالى مكة كان القتال لمن يلي ممن كان يؤذى ، حتى تعمّ الدعوة وتبلغ الكلمة جميع الآفاق ، ولا يبقى أحد من الكفرة (٢) ، وذلك متماد إلى يوم القيامة ، ممتدّ إلى غاية هي قول النبي صلى الله عليه وسلم (٣) : الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة : الأجر والغنيمة. وذلك لبقاء القتال ؛ وذلك لقوله تعالى (٤) : (وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ).

وقيل غايته نزول عيسى بن مريم عليه السلام. قال صلى الله عليه وسلم (٥) : ينزل فيكم ابن مريم حكما مقسطا يكسر الصّليب ، ويقتل الخنزير ، ويضع الجزية. وذلك موافق للحديث قبله ؛ لأن نزول عيسى عليه السلام من أشراط الساعة. وسيقاتل الدجال ، ويأجوج ومأجوج ، وهو آخر الأمر.

وقال جماعة من الفقهاء : إن الجهاد بعد فتح مكة ليس بفرض إلا أن يستنفر الإمام أحدا منهم ، [قاله] (٦) سفيان الثوري ، ومال إليه سحنون ، وظنه قوم بابن عمر حين رأوه مواظبا على الحجّ تاركا للجهاد ، وقد قال النبىّ صلى الله عليه وسلم (٧) : لا هجرة بعد الفتح ، ولكن جهاد ونيّة ، وإذا استنفرتم فانفروا. ثبت ذلك عنه.

وهذا هو دليلنا ، لأنه أخبر أن الجهاد باق بعد الفتح ، وإنما رفع الفتح الهجرة ، وذلك لقوله تعالى (٨) : (وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ) ؛ يعنى كفرا [ويكون الدين لله] (٩)

ومواظبة ابن عمر رضى الله عنه على الحجّ لأنه اعتقد الحقّ ، وهو أن الجهاد فرض على الكفاية إذا قام به بعض المسلمين سقط عن الباقين.

ويحتمل أن يكون رأى أنه لا يجاهد مع ولاة الجور.

والأول أصحّ ؛ لأنه قد كان في زمانه عدول وجائرون ، وهو في ذلك كلّه مؤثر للحجّ مواظب عليه.

__________________

(١) في ل : من دونهم.

(٢) في ا : الكفر.

(٣) ابن ماجة : ٩٣٢

(٤ ـ ٨) سورة البقرة ، آية ١٩٣

(٥) ابن ماجة : ١٣٦٣

(٦) من ل.

(٧) ابن ماجة : ٩٢٦

(٩) من ل.

١٠٣

المسألة الرابعة ـ لما أقام النبىّ صلى الله عليه وسلم يدعو عشرة أعوام أو ثلاثة عشر عاما أو خمسة عشر عاما على اختلاف الروايات في مدّة مقامه بمكة ، ثم تعيّن القتال بعد ذلك ، سقط فرض الدعوة إلّا على الذين لم تبلغهم ، وبقيت مستحبّة. فأما الآن فقد بلغت الدعوة وعمّت وظهر العناد ، ولكن الاستحباب لا ينقطع.

روى مسلم وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ادعهم إلى ثلاث خصال ، فإن أجابوك إليها فاقبل منهم وكفّ عنهم ، فذكر الدعاء إلى الشهادة ، ثم إلى الهجرة أو إلى الجزية ، وهذا إنما كان بعد نزول آية الجزية ؛ وذلك بعد الفتح.

وصحّ أنّ النبىّ صلى الله عليه وسلم أغار على بنى المصطلق من خزاعة وهم غارّون فقتل وسبى ، فعلم صلى الله عليه وسلم [٥٦] الجائز والمستحب.

المسألة الخامسة ـ قوله تعالى : (وَلا تَعْتَدُوا). فيها ثلاثة أوجه :

أحدها ـ لا تقتلوا من لم يقاتل ، وعلى هذا تكون الآية منسوخة بقوله تعالى : (وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً) ، و (١) (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ).

الثاني ـ أنّ معنى قوله تعالى : (وَلا تَعْتَدُوا) ؛ أى لا تقاتلوا على غير الدين ، كما قال تعالى : (وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ) ؛ يعنى دينا.

الثالث ـ ألا يقاتل إلّا من قاتل ، وهم الرجال البالغون ؛ فأما النساء والولدان والرهبان [والحشوة] (٢) فلا يقتلون ؛ وبذلك أمر أبو بكر الصديق رضى الله عنه يزيد بن أبى سفيان حين أرسله إلى الشام إلّا أن يكون لهؤلاء إذاية. وفيه (٣) ستّ صور :

الأولى ـ النساء (٤) ، قال علماؤنا : لا تقتلوا النساء إلّا أن يقاتلن ؛ لنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن قتلهن. خرّجه البخارىّ ومسلم والأئمة ، وهذا ما لم يقاتلن ، فإن قاتلن قتلن. قال سحنون : في حالة المقاتلة.

والصحيح جواز قتلهن ، إذا قاتلن على الإطلاق في حالة المقاتلة وبعدها لعموم قوله تعالى : (وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ) ، وقوله تعالى (٥) : (وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ) ،

__________________

(١ ـ ٢) ليس في م.

(٣) في ا : وفهم ست صور ، وهو تحريف.

(٤) في هامش م هنا : مسألة في قتل النساء.

(٥) سورة البقرة ، آية ١٩١

١٠٤

وللمرأة آثار عظيمة في القتال ؛ منها الإمداد بالأموال ، ومنها التحريض على القتال ، فقد كنّ يخرجن ناشرات شعورهن ، نادبات ، مثيرات للثأر ، معيّرات بالفرار ، وذلك يبيح قتلهن(١).

الثانية ـ الصبيان (٢) ؛ فلا يقتل الصبىّ لنهى النبىّ صلى الله عليه وسلم عن قتل الذرية ، خرّجه الأئمة كلهم ، فإن قاتل قتل حالة القتال ، فإذا زال القتال ففي سماع يحيى في العتبية يقتل ، وكذلك المرأة.

والصحيح أنه لا يقتل ، فإنه لا تكليف عليه ، وفي ثمانية أبى زيد : لا تقتل المرأة ولا الصبىّ إذا قاتلا ، وأخذا بعد ذلك أسيرين إلّا أن يكونا قتلا ، وهذا لا يصحّ لأن القتل هاهنا ليس قصاصا ، وإنما هو ابتداء وحدّ. والذي يقوّى عندي قتل المرأة لما فيها من المنّة ، والعفو عن الصّبى لعفو الله سبحانه عنه في مسائل الذنوب.

الثالثة ـ الرهبان (٣).

قال علماؤنا : لا يقتلون ولا يسترقّون ؛ بل يترك لهم ما يعيشون به من أموالهم ، وهذا إذا انفردوا عن أهل الكفر ، لقول أبى بكر رضى الله عنه ليزيد بن أبى سفيان (٤) : وستجد أقواما حبسوا أنفسهم فذرهم وما حبسوا أنفسهم له ، فإن كانوا مع الكفّار في الكنائس قتلوا.

ولو ترهبت المرأة روى أشهب عنه أنها لا تهاج (٥).

وقال سحنون : لا يغير الترهب حكمها.

والصحيح عندي رواية أشهب ؛ لأنها داخلة تحت قوله : فذرهم وما حبسوا أنفسهم له.

الرابعة ـ الزّمنى (٦) : قال سحنون : يقتلون ، وقال ابن حبيب : لا يقتلون.

__________________

(١) في ق : غير أنهن إذا حصلن في الأسر فالاسترقاق أنفع لسرعة إسلامهن ورجوعهن عن أديانهن وتعذر فرارهن إلى أوطانهن بخلاف الرجال.

(٢) في هامش م هنا : مسألة في قتل الصبيان.

(٣) هنا في هامش م : مسألة في قتل الرهبان.

(٤) هو يزيد بن أبى سفيان بن حرب ، أسلم يوم فتح مكة ، وعقد له أبو بكر رضى الله عنه سنة ١٣ ه‍ مع أمراء الجيوش إلى الشام ، وشيعه أبو بكر راجلا.

(٥) لا تهاج : لا تزعج ولا تنفر.

وفي ل : لا تباح.

(٦) في هامش م هنا : مسألة في قتل الزمنى والشيوخ. والزمنى : أصحاب العاهات.

١٠٥

والصحيح عندي أن تعتبر أحوالهم ؛ فإن كان فيهم إذاية قتلوا ، وإلّا تركوا وما هم بسبيله من الزّمانة ، وصاروا مالا على حالهم (١)

الخامسة ـ الشيوخ ؛ قال مالك في كتاب محمد : لا يقتلون ، ورأيى (٢) قتلهم لما روى النسائي عن سمرة بن جندب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : اقتلوا الشيوخ المشركين واستحيوا شرخهم (٣). وهذا نصّ ، ويعضده عموم القرآن ووجود المعنى فيهم من المحاربة والقتال ، إلّا أن يدخلهم التشيخ والكبر في حدّ الهرم والفند (٤) ، فتعود زمانة ، ويلحقون بالصورة الرابعة وهي الزّمنى (٥) ، إلّا أن يكون في الكل إذاية بالرأى ونكاية بالتدبير فيقتلون أجمعون ، والله أعلم. السادسة ـ العسفاء ، وهم الأجراء والفلاحون ، وكلّ من هؤلاء حشوة. وقد اختلف فيهم ؛ فقال مالك في كتاب محمد : لا يقتلون.

وفي وصيّة أبى بكر الصديق رضى الله عنه ليزيد بن أبى سفيان : لا تقتلنّ عسيفا.

والصحيح عندي قتلهم ؛ لأنهم إن لم يقاتلوا فهم ردء للمقاتلين ، وقد اتفق أكثر العلماء على [٥٧] أن الرّدء يحكم فيه بحكم المقاتل ، وخالفهم أبو حنيفة ؛ وقد مهّدنا الدليل في المسألة ، وأوضحنا وجوب قتله في مسائل الخلاف بما فيه غنية ، والله أعلم.

الآية الحادية والأربعون ـ قوله تعالى (٦) : (وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ ، وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ ، كَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ. فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ).

فيها أربع مسائل :

المسألة الأولى ـ المعنى حيث أخذتموهم (٧) ، وفي هذا دليل ظاهر على قتل الأسير ، وقد روى الترمذي عن علىّ أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم هبط عليه جبريل عليه السلام ، فقال : خيّرهم ـ يعنى أصحابك ـ في أسرى بدر : القتل أو الفداء على أن تقتل منهم قاتلا مثلهم. قالوا :

__________________

(١) في ق ، ل : وصاروا مالا على حالهم وحشوة.

(٢) في ا : ورأى. والمثبت من ل.

(٣) الشرخ : الصغار الذين لم يدركوا. وقيل : أراد بالشرخ الشباب أهل الجلد الذين ينتفع بهم في الخدمة (النهاية).

(٤) الفند : الخرف وإنكار العقل لهرم أو مرض (القاموس).

(٥) في ا : وهي الزمانة.

(٦) الآية الواحدة والتسعون والثانية والتسعون بعد المائة.

(٧) هذا تفسير : ثقفتموهم.

١٠٦

الفداء ، ويقتل منّا. وقد ثبت عن أنس أنّ النبي صلى الله عليه وسلم دخل مكة عام الفتح وعلى رأسه المغفر ؛ فقيل له : إن ابن خطل (١) متعلّق بأستار الكعبة ، فقال : اقتلوه.

المسألة الثانية ـ قوله تعالى : (وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ).

فيه قولان :

أحدهما ـ أنه محكم ، قاله مجاهد وأبو حنيفة.

الثاني ـ أنه منسوخ بقوله تعالى (٢) : (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ). وقال قتادة : هو منسوخ بقوله تعالى (٣) : (وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ).

قال القاضي أبو بكر بن العربي : وقد حضرت في بيت المقدس طهّره الله بمدرسة أبى عتبة الحنفي والقاضي الريحاني (٤) يلقى علينا الدرس في يوم جمعة ، فبينا نحن كذلك إذ دخل علينا رجل بهىّ المنظر على ظهره أطمار ، فسلّم سلام العلماء ، وتصدّر في صدر المجلس بمدارع الرّعاء ، فقال له الريحاني : من السيّد؟ فقال له : رجل سلبه الشطّار أمس ، وكان مقصدي هذا الحرم المقدس ، وأنا رجل من أهل صاغان من طلبة العلم. فقال القاضي مبادرا : سلوه ، على العادة في إكرام العلماء بمبادرة سؤالهم. ووقعت القرعة على مسألة الكافر إذا (٥) التجأ إلى الحرم ، هل يقتل فيه أم لا؟ فأفتى بأنه لا يقتل ، فسئل عن الدليل ، فقال : قوله تعالى : (وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ). قرئ : ولا تقتلوهم ولا تقاتلوهم ، فإن قرئ ولا تقتلوهم فالمسألة نصّ ، وإن قرئ ولا تقاتلوهم فهو تنبيه ؛ لأنه إذا نهى عن القتال الذي هو سبب القتل كان دليلا بيّنا ظاهرا على النهى عن القتل.

فاعترض عليه القاضي الريحاني منتصرا للشافعي ومالك وإن لم ير مذهبهما على العادة ، فقال : هذه الآية منسوخة بقوله تعالى : (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ). فقال له الصاغاني : هذا لا يليق بمنصب القاضي وعلمه ، فإن هذه الآية التي اعترضت بها علىّ عامّة في الأماكن ، والآية التي احتججت بها خاصة ، ولا يجوز لأحد أن يقول إن العامّ ينسخ الخاص ، فأبهت القاضي الريحاني. وهذا من بديع الكلام.

__________________

(١) هو هلال ، أو عبد الله بن خطل ، وتعلق بأستار الكعبة يوم الفتح. (القاموس ـ خطل).

(٢) سورة التوبة ، آية ٥

(٣) سورة البقرة ، آية ١٩٣

(٤) في ا : الزنجاني. وفي م : فقال القاضي. وفي ل : فقال القاضي الريحاني.

(٥) هنا في هامش م : مسألة الكافر إذا التجأ الحرم هل يقتل؟

١٠٧

وقد سأل بعض المتأخرين من أصحابنا أهل بلادنا ، فقال لهم : إنّ العامّ عند أبى حنيفة ينسخ الخاصّ ، وهذا البائس ليته سكت عما لا يعلم ، وأمسك عما لا يفهم ، وأقبل على مسائل مجردة (١).

وقد روى الأئمة عن ابن عباس أن النبىّ صلى الله عليه وسلم قال يوم فتح مكة : إنّ هذا البلد حرّمه الله تعالى يوم خلق السموات والأرض ، فهو حرام بحرمة الله تعالى إلى يوم القيامة ، وإنه لم يحلّ القتال فيه لأحد قبلي ، وإنما أحلّت لي ساعة من نهار.

فقد ثبت النهى عن القتال فيها قرآنا وسنة ؛ فإن لجأ إليها كافر فلا سبيل إليه. وأما الزاني والقاتل فلا بدّ من إقامة الحدّ عليه ، إلا أن يبتدئ الكافر بالقتال فيها فيقتل بنصّ القرآن.

المسألة الثالثة ـ قوله تعالى : (فَإِنْ قاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ ، كَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ).

هذا يبيّن أنّ الكافر إذا قاتل قتل بكل حال ، بخلاف الباغي المسلم فإنّه إذا قاتل يقاتل بنيّة الدّفع ، ولا يتبع مدبر ، ولا يجهز [٥٨] على جريح ؛ وهذا بيّن.

المسألة الرابعة ـ قوله تعالى : (فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ).

يعنى انتهوا بالإيمان فإنّ الله يغفر لهم جميع ما تقدم ، ويرحم كلّا منهم بالعفو عما اجترم. وهذا ما لم يؤسر ، فإن أسر منعه الإسلام عن القتل وبقي عليه الرقّ ، لما روى مسلم وغيره عن عمران بن حصين أنّ ثقيفا كانت حلفاء لبنى عقيل في الجاهلية ، فأصاب المسلمون رجلا من بنى عقيل ومعه ناقة له ، فأتوا به النبىّ صلى الله عليه وسلم ، فقال : يا محمد ؛ بم أخذتنى وأخذت سابقة الحاجّ؟ قال : أخذتك بجريرة حلفائك ثقيف ، وقد كانوا أسروا رجلين من المسلمين ، فكان النبىّ صلى الله عليه وسلم يمرّ به وهو محبوس ، فيقول : يا محمد ، إنى مسلم. قال : لو كنت قلت ذلك وأنت تملك أمرك أفلحت كلّ الفلاح ، ففدّاه رسول الله صلى الله عليه وسلم برجلين من المسلمين ، وأمسك الناقة لنفسه.

الآية الثانية والأربعون ـ قوله تعالى (٢) : (وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ).

فيها أربع مسائل :

__________________

(١) في ا : على مسائله المجردة.

(٢) الآية الثالثة والتسعون بعد المائة.

١٠٨

المسألة الأولى ـ قوله تعالى : (وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ).

يعنى كفر ، بدليل قوله تعالى (١) : (وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ) ، يعنى الكفر ، فإذا كفروا في المسجد الحرام ، وعبدوا فيه الأصنام ، وعذّبوا فيه أهل الإسلام ليردّوهم عن دينهم ، فكلّ ذلك فتنة ؛ فإن الفتنة في أصل اللغة الابتلاء والاختبار ، وإنما سمّى الكفر فتنة لأنّ مآل الابتلاء كان إليه ، فلا تنكروا قتلهم وقتالهم ؛ فما فعلوا من الكفر أشدّ مما عابوه.

المسألة الثانية ـ قوله تعالى : (وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ).

قال النبي صلى الله عليه وسلم (٢) : أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله ، فإذا قالوها عصموا منى دماءهم وأموالهم إلّا بحقّها ، وحسابهم على الله ؛ فإن لم يفعلوا قوتلوا وهم الظالمون لا عدوان إلّا عليهم.

المسألة الثالثة ـ أن سبب القتل هو الكفر بهذه الآية ؛ لأنه تعالى قال : (حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ) ؛ فجعل الغاية عدم الكفر نصّا ، وأبان فيها أنّ سبب القتل المبيح للقتال الكفر.

وقد ضلّ أصحاب أبى حنيفة عن هذا ، وزعموا أنّ سبب القتل المبيح للقتال هي الخربة ، وتعلّقوا بقول الله تعالى (٣) : (وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ) ، وهذه الآية تقضى عليها التي بعدها ؛ لأنه أمر أولا بقتال من قاتل ، ثم بيّن أن سبب قتاله وقتله كفره الباعث له على القتال ، وأمر بقتاله مطلقا من غير تخصيص بابتداء قتال منه.

فإن قيل : لو كان المبيح للقتل هو الكفر لقتل كلّ كافر وأنت تترك منهم النساء والرهبان ومن تقدّم ذكره معهم.

فالجواب أنّا إنما تركناهم مع قيام المبيح بهم لأجل ما عارض الأمر من منفعة أو مصلحة : أما المنفعة فالاسترقاق فيمن يسترقّ ؛ فيكون مالا وخدما ، وهي الغنيمة التي أحلّها الله تعالى لنا من بين الأمم.

وأما المصلحة فإن في استبقاء الرهبان باعثا على تخلّى رجالهم عن القتال فيضعف حربهم ويقلّ حزبهم فينتشر الاستيلاء عليهم.

المسألة الرابعة ـ قوله تعالى : (وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ) إباحة لقتالهم وقتلهم

__________________

(١) سورة البقرة ، آية ١٩١

(٢) صحيح مسلم : ٥٢ ، ٥٣

(٣) سورة البقرة ، آية ١٩٠

١٠٩

إلى غاية هي الإيمان ؛ فلذلك قال ابن الماجشون وابن وهب : لا تقبل من مشركي العرب جزية.

وقال سائر علمائنا : تؤخذ الجزية من كلّ كافر ؛ وهو الصحيح.

وسمعت الشيخ الإمام أبا على الرفاء بن عقيل الحنبلي إمامهم ببغداد يقول في قوله تعالى (١) : (قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ ، وَلا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللهُ وَرَسُولُهُ [٥٩] ، وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ) : إنّ قوله تعالى : «قاتلوا» أمر بالقتل. وقوله تعالى : (الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ) سبب للقتال. وقوله تعالى : (وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ) إلزام للإيمان بالبعث الثابت بالدليل. وقوله تعالى : (وَلا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللهُ وَرَسُولُهُ) بيان أنّ فروع الشريعة كأصولها وأحكامها كعقائدها. وقوله تعالى : (وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِ) أمر بخلع الأديان كلها إلّا دين الإسلام. وقوله تعالى : (مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) تأكيد للحجة ، ثم بيّن الغاية وبيّن إعطاء الجزية. وثبت أن النبىّ صلى الله عليه وسلم أخذ الجزية من مجوس هجر. خرّجه البخاري وغيره.

وقال المغيرة بن شعبة في قتاله لفارس : إن النبىّ صلى الله عليه وسلم أمرنا أن نقاتلكم حتى تعبدوا الله وحده ولا تشركوا به شيئا ، أو تؤدّوا الجزية ـ وقال النبىّ عليه السلام لبريدة (٢) : ادعهم إلى ثلاث خصال ... وذكر الجزية. وذلك كلّه صحيح.

فإن قيل : فهل يكون هذا نسخا أو تخصيصا؟ قلنا : هو تخصيص ؛ لأنه سبحانه أباح قتالهم وأمر به حتى لا يكون كفر. ثم قال تعالى : (حَتَّى يُعْطُوا) (٣) (الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ) ؛ فخصّص من الحالة العامة حالة أخرى خاصة ، وزاد إلى الغاية الأولى غاية أخرى ، وهذا كقوله صلى الله عليه وسلم : أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا : لا إله إلا الله.

وقال في حديث آخر : أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا : لا إله إلا الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة. ثم ذكر في حديث آخر الصوم والحجّ ، ولم يكن ذلك نسخا ، وإنما كان بيانا وكمالا. وكذلك لا يحلّ دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث : كفر بعد إيمان ، أو زنا بعد

__________________

(١) سورة التوبة ، آية ٢٩

(٢) هكذا في ا ، ول : وفي م : يزيد.

(٣) يعطوا : يؤدوا ويقدموا.

١١٠

إحصان ، أو قتل نفس بغير حق (١) ، ثم بيّن القتل في مواضع لعشرة أسباب سنبينها في موضعها إن شاء الله تعالى.

الآية الثالثة والأربعون ـ قوله تعالى (٢) : (الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ).

فيها أربع مسائل :

المسألة الأولى ـ في سبب نزولها :

قيل : إنها نزلت سنة سبع حين قضى النبىّ صلى الله عليه وسلم عمرته في ذي القعدة عن التي صدّه عنها كفار قريش سنة ست في الحديبية في ذي القعدة ، فدخل النبىّ صلى الله عليه وسلم مكة ، وقد أخلتها قريش ، وقضى نسكه ، ونزلت هذه الآية.

المعنى شهر بشهر وحرمة بحرمة ، وصار ذلك أصلا في كل مكلّف قطع به عذر أو عدوّ عن عبادة ثم قضاها ، أن الحرمة واحدة والمثوبة سواء.

وقيل : إن المشركين قالوا : أنهيت يا محمد عن القتال في شهر الحرام؟ قال : نعم. فأرادوا قتاله فيه ، فنزلت الآية.

المعنى إن استحلّوا ذلك فيه فقاتلهم عليه ، فإنّ الحرمة بالحرمة قصاص.

قال علماؤنا : وهذا دليل على أن لك أن تبيح دم من أباح دمك ، وتحل مال من استحلّ مالك ، ومن أخذ عرضك فخذ عرضه بمقدار ما قال فيك ، ولذلك كله تفصيل :

أما من أباح دمك فمباح دمه لك ، لكن بحكم الحاكم لا باستطالتك وأخذ لثأرك بيدك ، ولا خلاف فيه.

وأما من أخذ مالك فخذ ماله إذا تمكنت منه ، إذا كان من جنس (٣) مالك : طعاما بطعام ، وذهبا بذهب ، وقد أمنت من أن تعدّ سارقا.

__________________

(١) في ل : قتل نفس بنفس.

(٢) الآية الرابعة والتسعون بعد المائة.

(٣) هنا في هامش م : مسألة من ظفر بجنس حقه.

١١١

وأمّا إن تمكّنت من ماله بما ليس من جنس مالك فاختلف العلماء ؛ فمنهم من قال : لا يؤخذ إلّا بحكم حاكم ، ومنهم من قال : يتحرّى (١) قيمته ويأخذ مقدار ذلك ، وهو الصحيح عندي.

وأما إن أخذ عرضك (٢) فخذ عرضه لا تتعدّاه إلى أبويه ولا إلى ابنه أو قريبه. لكن ليس لك أن تكذب عليه ، وإن كذب عليك ، فإنّ المعصية لا تقابل بالمعصية ؛ فلو قال لك مثلا : يا كافر ، جاز لك أن تقول له : أنت الكافر ؛ وإن قال لك : يا زان ، فقصاصك أن تقول : يا كذّاب ، يا شاهد زور. ولو قلت له : يا زان ، كنت كاذبا فأثمت في الكذب ، وأخذت فيما نسب إليك من ذلك ، فلم [٦٠] تربح شيئا ، وربما خسرت. وإن مطلك وهو غنىّ دون عذر قل : يا ظالم ، يا آكل أموال الناس. قال النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيح : لىّ الواجد (٣) يحلّ عرضه وعقوبته. أما عرضه فبما فسرناه ، وأما عقوبته فبالسجن حتى يؤدّى.

وعندي أن العقوبة هي أخذ المال كما أخذ ماله ، وأما إن جحدك وديعة وقد استودعك أخرى فاختلف العلماء فيه ؛ فمنهم من قال : اصبر على ظلمه ، وأدّ إليه أمانته ، لقول النبىّ صلى الله عليه وسلم (٤) : أدّ الأمانة إلى من ائتمنك ، ولا تخن من خانك.

ومنهم من قال : أجحده ، كما جحدك ؛ لكن هذا لم يصح سنده ، ولو صح فله معنى صحيح ، وهو إذا أودعك مائة وأودعته خمسين فجحد الخمسين فاجحده خمسين مثلها ، فإن جحدت المائة كنت قد خنت من خانك فيما لم يخنك فيه ، وهو المنهىّ عنه. وبهذا الأخير أقول. والله أعلم.

المسألة الثانية ـ قوله تعالى : (فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ).

هذه الآية عموم متّفق عليه وعمدة فيما تقدم بيانه وفيما جانسه.

المسألة الثالثة ـ قوله تعالى : (فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ).

هذه مسألة بكر. قال علماؤنا رحمة الله عليهم : إنما سمّى الفعل الثاني اعتداء ، وهو مفعول بحقّ ، حملا للثاني على الأول على عادة العرب. قالوا : وعلى هذا جاء قوله تعالى(٥): (وَجَزاءُ

__________________

(١) في ا : تحرى. والمثبت من ل.

(٢) هنا في هامش م : مسألة فيمن أخذ عرض رجل هل له أن يأخذ عرضه.

(٣) اللى : المطل. الواجد : القادر على قضاء دينه.

(٤) خرجه الدارقطني وغيره.

(٥) سورة الشورى ، آية ٤٠

١١٢

سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها). والذي أقول فيه : إنّ الثاني كالأول في المعنى واللفظ ؛ لأن معنى الاعتداء في اللغة مجاوزة الحدّ ، وكلا المعنيين موجود في الأول والثاني ؛ وإنما اختلف المتعلّق من الأمر والنهى ؛ فالأول منهىّ عنه ، والثاني مأمور به ، وتعلّق الأمر والنهى لا يغيّر الحقائق ولا يقلب المعاني ؛ بل إنه يكسب ما تعلّق به الأمر وصف الطاعة والحسن ، ويكسب ما تعلق به النهى وصف المعصية والقبح ؛ وكلا الفعلين مجاوزة الحدّ ، وكلا الفعلين يسوء الواقع به ، وأحدهما حقّ والآخر باطل.

المسألة الرابعة ـ تعلّق علماؤنا بهذه الآية في مسألة من مسائل الخلاف ؛ وهي المماثلة في القصاص ، وهو متعلّق صحيح وعموم صريح ؛ وقد اختلف العلماء فيها على ثلاثة أقوال :

الأول ـ أنه لا قود إلّا بحديدة ؛ قاله أبو حنيفة وغيره ، واحتجّوا بالحديث (١) : إنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال : لا قود إلّا بحديدة ولا قود إلّا بالسيف.

الثاني ـ أنه يقتصّ منه بكلّ ما قتل إلّا الخمر وآلة اللواط ، قاله الشافعى.

الثالث ـ قال علماؤنا : يقتل بكلّ ما قتل إلّا في وجهين وصفتين : أما الوجه الأول فالمعصية كالخمر واللواط ، وأما الوجه الثاني فالسمّ والنار لا يقتل بهما.

قال علماؤنا : لأنه من المثل ؛ ولست أقوله ؛ وإنما العلّة فيه أنه من العذاب. وقد بلغ ابن عبّاس أنّ عليّا حرق ناسا ارتدّوا عن الإسلام ؛ فقال ابن عباس : لم أكن لأحرقهم بالنار ؛ لأنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال : لا تعذّبوا بعذاب الله ، ولقتلتهم لقول النبي صلى الله عليه وسلم : من بدّل دينه فاقتلوه. وهو الصحيح. والسمّ نار باطنة نعوذ بالله من النارين ، ونسأل الله تعالى الشهادة في سبيله.

وأما الوصفان فروى ابن نافع عن مالك : إن كانت الضربة بالحجر مجهزة قتل بها ، وإن كانت ضربات فلا.

وقال مالك أيضا : ذلك إلى الولىّ. وروى ابن وهب يضرب بالعصا حتى يموت : ولا يطول عليه. وقاله ابن القاسم.

وقال أشهب : إن رجى أن يموت بالضرب ضرب ، وإلا أقيد منه بالسيف.

__________________

(١) في ا : بهذا الحديث. والمثبت من ل.

١١٣

وقال عبد الملك : لا يقتل بالنبل ولا بالرّمى بالحجارة ؛ لأنه من التعذيب. واتفق علماؤنا على أنه إذا قطع يده ورجله وفقأ عينه قصد التعذيب فعل ذلك به ، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم بقتلة (١) الرّعاء حسبما روى في الصحيح ، وإن كان في مدافعة ومضاربة قتل بالسيف.

والصحيح من أقوال علمائنا أنّ المماثلة واجبة ، إلا أن تدخل في حدّ التعذيب فلتترك إلى السيف.

وإلى هذا يرجع جميع الأقوال.

وأما حديث أبى حنيفة فهو عن الحسن عن أبى بكر عن النبىّ صلى الله عليه وسلم ؛ ولا يصحّ لوجهين بيّناهما في شرح الحديث الصحيح. وكذلك حديث عبد الله بن عمر رضى الله عنه في شبه العمد بالسوط والعصا لا يصحّ أيضا.

والذي يصحّ ما رواه مسلم (٢) وغيره عن علقمة بن وائل ، عن أبيه ، قال : إنى لقاعد عند النبي صلى الله عليه وسلم إذا رجل يقود آخر بنسعة (٣). فقال : يا رسول الله ؛ هذا قتل أخى. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أقتلته؟ فقال : إنه لو لم يعترف لأقمت عليه البيّنة. قال : نعم ، قتلته. قال : كيف قتلته؟ قال : كنت أنا وهو نحتطب (٤) من شجرة فسبّنى فأغضبنى فضربته بالفأس على قرنه فقتلته. وروى أبو داود : ولم أرد قتله.

فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : هل لك من شيء تؤدّى عن نفسك؟ فقال : ما لي مال إلّا كسائي وفأسى. قال : فترى قومك يشترونك؟ قال : أنا أهون على قومي من هذا. قال : فرمى إليه بنسعته ، وقال : دونك صاحبك. فانطلق به الرجل ؛ فلما ولّى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن قتله فهو مثله. فرجع. فقال : يا رسول الله ، بلغني أنك قلت كذا وأخذته بأمرك. قال : أما تريد أن يبوء بإثمك وإثم صاحبك؟ قال : لعلّه. قال : بلى. قال : فإنّ ذاك كذلك. قال : فرمى بنسعته وخلّى سبيله.

والحديث مشكل وقد (٥) بيّناه في شرح الحديث الصحيح ، والذي يتعلّق به من مسألتنا أنّ النبىّ صلى الله عليه وسلم أوجب عليه القتل ، وقد قتل بالفأس.

__________________

(١) هم قوم من عرينة بعث بهم رسول الله إلى إبل الصدقة ليشربوا من ألبانها فقتلوا رعاتها.

(٢) صحيح مسلم : ١٣٠٧

(٣) النسعة : حبل من جلود مضفورة جعلها كالزمام له يقوده بها.

(٤) في مسلم : نختبط : أى نضرب الشجر بالعصا فيسقط ورقه فنجمعه علفا.

(٥) في ا : أوقد ، وهو تحريف طبعي.

١١٤

وروى الأئمة أنّ يهوديّا رضخ رأس جارية على أوضاح (١) لها ، فأمر به النبي صلى الله عليه وسلم ، فاعترف فرضّ رأسه بين حجرين اعتمادا للماثلة وحكما بها (٢).

الآية الرابعة والأربعون ـ قوله تعالى (٣) : (وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ).

فيها أربع مسائل :

المسألة الأولى ـ في سبب نزولها : روى الترمذىّ وصحّحه عن يزيد بن أبى حبيب عن أسلم أبى (٤) عمران التّجيبى ، قال : كنّا بمدينة الروم ، فأخرجوا إلينا صفّا عظيما من الروم ، فخرج إليهم من المسلمين مثلهم أو أكثر ، وعلى أهل مصر عقبة بن عامر ، وعلى الجماعة فضالة بن عبيد ، فحمل رجل من المسلمين على صفّ الروم حتى دخل فيهم ، فصاح الناس وقالوا : سبحان الله! يلقى بيده إلى التّهلكة! فقام أبو أيوب فقال : يا أيها الناس ، إنكم لتتأوّلون هذه الآية هذا التأويل ، وإنما أنزلت هذه الآية فينا معشر الأنصار لما أعزّ الله الإسلام وكثر ناصروه.

فقال بعضنا لبعض سرّا دون رسول الله صلى الله عليه وسلم : إنّ أموالنا قد ضاعت ، وإنّ الله قد أعزّ الإسلام وكثر ناصروه ، فلو أقمنا في أموالنا فأصلحنا ما ضاع منها. فأنزل الله تعالى على نبيه يردّ علينا ما قلنا : (وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) ، وكانت التهلكة الإقامة على الأموال وإصلاحها ، وتركنا الغزو ؛ فما زال أبو أيوب شاخصا في سبيل الله حتى دفن بأرض الروم.

المسألة الثانية ـ في تفسير النفقة.

فيها ثلاثة أقوال :

الأول ـ أنه ندبهم إلى النفقة في سبيل الله.

قال النبي صلى الله عليه وسلم : من أنفق زوجين في سبيل الله نودي من أبواب الجنة الثمانية ، أى هلمّ (٥).

__________________

(١) الرضخ : الشدخ والدق والكسر. وفي ق : رض. والأوضاح : نوع من الحلي يعمل من الفضة سميت بها لبياضها ، واحدها وضح (النهاية لابن الأثير).

(٢) في ل : وحكايتها.

(٣) الآية الخامسة والتسعون بعد المائة.

(٤) في ا : مولى. والمثبت في التقريب ، والقرطبي أيضا.

(٥) في ا : أى فل هلم. والمثبت من ل.

١١٥

الثاني ـ أنها واجبة لقوله تعالى : (وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ).

الثالث ـ أن معناه لا تخرجوا بغير زاد توكّلا واتّكالا.

وحقيقة التوكّل قد بيّناها في موضعها ، والاتكال على أموال الناس لا يجوز.

والقول الأول صحيح ؛ لأنه دائم ، والثاني قد يتصوّر إذا وجب الجهاد. والثالث صحيح [٦١] لأنّ إعداد الزاد فرض.

المسألة الثالثة ـ في تفسير التّهلكة.

فيه ستة أقوال :

الأول ـ لا تتركوا النفقة. الثاني ـ لا تخرجوا بغير زاد ، يشهد له قوله تعالى (١) : (وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى). الثالث ـ لا تتركوا الجهاد. الرابع ـ لا تدخلوا على العساكر التي لا طاقة لكم بها. الخامس ـ لا تيأسوا من المغفرة ؛ قاله البراء بن عازب.

قال الطبري : هو عامّ في جميعها لا تناقض فيه ، وقد أصاب إلّا في اقتحام العساكر ؛ فإن العلماء اختلفوا في ذلك ؛ فقال القاسم بن مخيمرة ، والقاسم بن محمد ، وعبد الملك من علمائنا : لا بأس أن يحمل الرجل وحده على الجيش العظيم إذا كان فيه قوة وكان لله بنيّة خالصة ؛ فإن لم تكن فيه قوة فذلك من التهلكة.

وقيل : إذا طلب الشهادة وخلصت (٢) النية فليحمل ؛ لأنّ مقصده (٣) واحد منهم ، وذلك بيّن في قوله تعالى (٤) : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ).

والصحيح عندي جوازه ؛ لأنّ فيه أربعة أوجه : الأول طلب الشهادة. الثاني وجود النّكاية. الثالث تجرية (٥) المسلمين عليهم. الرابع ضعف نفوسهم ليروا أنّ هذا صنع واحد ، فما ظنّك بالجميع ، والفرض لقاء واحد (٦) اثنين ، وغير ذلك جائز ؛ وسيأتى بيانه في موضعه إن شاء الله تعالى.

المسألة الرابعة ـ قوله تعالى : (وَأَحْسِنُوا).

فيه ثلاثة أقوال :

الأول ـ أحسنوا الظنّ بالله ؛ قاله عكرمة.

__________________

(١) سورة البقرة ، آية ١٩٧.

(٢) في ا : وحصلت.

(٣) في ل : مقصوده.

(٤) سورة البقرة ، آية ٢٠٧

(٥) في ا : تجزئة ، وهو تحريف.

(٦) في ل : والغرض إذا وجد لشيء.

١١٦

الثاني ـ في أداء الفرائض ، قاله الضحاك.

الثالث ـ أحسنوا إلى من ليس عنده شيء.

قال القاضي : الإحسان مأخوذ من الحسن ، وهو كلّ ما مدح فاعله. وليس الحسن صفة للشيء ؛ وإنما الحسن خبر من الله تعالى عنه بمدح فاعله. وقد بيّن جبريل عليه السلام أصله للنبي صلى الله عليه وسلم حين قال له : ما الإحسان؟ قال : أن تعبد الله كأنك تراه ، فإن لم تكن تراه فإنه يراك.

الآية الخامسة والأربعون ـ قوله تعالى (١) : (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ).

فيها اثنتان وثلاثون مسألة :

المسألة الأولى ـ قوله تعالى : (وَأَتِمُّوا) ، فيه سبعة أقوال :

الأول ـ أحرموا بهما من دياركم ؛ قاله عمر ، وعلىّ ، وسفيان.

الثاني ـ أتمّوهما إلى البيت ؛ قاله ابن مسعود (٢).

الثالث ـ بحدودهما وسننهما ؛ قاله مجاهد.

الرابع ـ ألّا يجمع (٣) بينهما ؛ قاله ابن جبير.

الخامس ـ ألّا يحرم بالعمرة في أشهر الحجّ ؛ قاله قتادة.

السادس ـ إتمامهما إذا دخل فيهما ؛ قاله مسروق.

السابع ـ ألا يتّجر معهما.

قال القاضي رضى الله عنه : حقيقة الإتمام للشيء استيفاؤه بجميع أجزائه وشروطه ، وحفظه من مفسداته ومنقصاته.

__________________

(١) الآية السادسة والتسعون بعد المائة.

(٢) ليس في ل.

(٣) في ا : ألا تجتمع.

١١٧

وكلّ الأقوال محتمل في معنى الآية ؛ إلّا أنّ بعضها مختلف فيه.

أما قوله : أحرم بها من دويرة أهلك ، فإنها مشقّة رفعها الشّرع وهدمتها السنّة بما وقّت النبىّ صلى الله عليه وسلم من المواقيت.

وأما قول ابن مسعود إلى البيت ، فذلك واجب ، وفيه تفصيل ، وله شروط بيانها في موضعها.

وأما قول مجاهد فصحيح. وأما ألّا يجمع بينهما فالسنة الجمع بينهما ، كذلك فعل النبىّ صلى الله عليه وسلم ، وقد بيّناه في مسائل الخلاف. وأما ألّا يحرم بالعمرة في أشهر الحج فهو التمتّع. وأما إتمامهما إذا دخل فيهما فلا خلاف بين الأمّة فيهما حتى بالغوا فقالوا : يلزمه إتمامهما ، وإن أفسدهما. وأما ألّا يتّجر فيهما فهو مذهب الفقراء ألا تمتزج الدنيا بالآخرة ، وهو أخلص في النية وأعظم للأجر ، وليس ذلك بحرام ؛ والكلّ يبين في موضعه بحول الله وعونه (١).

المسألة الثانية ـ الحجّ ، وهو في اللغة عبارة عن القصد ، وخصّه الشرع بوقت مخصوص وبموضع مخصوص على وجه معيّن على الوجه المشروع ، وقد كان [٦٢] الحجّ معلوما عند العرب ، لكنها غيّرته ، فبيّن النبىّ صلى الله عليه وسلم حقيقته ، وأعاد على ملّة إبراهيم عليه السلام صفته ، وحثّ على تعلّمه ، فقال : خذوا عنى مناسككم.

المسألة الثالثة ـ العمرة ، وهي في اللغة عبارة عن الزّيارة ، وهي في الشريعة عبارة عن زيارة البيت ، خصّصته الشريعة ببعض موارده ، وقصرته على معنى من مطلقه ، على عادتها في ألفاظها على سيرة العرب في لغاتها ، وقد بيّنها النبىّ صلى الله عليه وسلم بيان الحج.

المسألة الرابعة ـ اختلف العلماء في وجوب العمرة ، فقال الشافعى : هي واجبة ، ويؤثر ذلك عن ابن عباس.

وقال جابر بن عبد الله : هي تطوّع ، وإليه مال مالك وأبو حنيفة.

وليس في هذه الآية حجة للوجوب ؛ لأن الله سبحانه إنما قرنها بالحجّ في وجوب الإتمام لا في الابتداء ، فإنه (٢) ابتدأ إيجاب الصلاة والزكاة ، فقال تعالى : (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا

__________________

(١) في ل : إن شاء الله.

(٢) في ل : لأنه.

١١٨

الزَّكاةَ). وابتدأ بإيجاب الحج فقال تعالى (١) : (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً). ولما ذكر العمرة أمر بإتمامها لا بابتدائها ، فلو حجّ عشر حجج أو اعتمر عشر عمر لزمه الإتمام في جميعها ؛ وإنما جاءت الآية لإلزام الإتمام لا لإلزام الابتداء ، وقد مهّدنا القول فيها في مسائل الخلاف.

المسألة الخامسة ـ قوله تعالى : (لِلَّهِ).

الأعمال كلّها لله ، خلق وتقدير ، وعلم وإرادة ، ومصدر ومورد ، وتصريف وتكليف ؛ وفائدة هذا التخصيص أنّ العرب كانت تقصد الحجّ للاجتماع والتظاهر ، والتناضل (٢) والتنافر ، والتفاخر وقضاء الحوائج ، وحضور الأسواق ؛ وليس لله فيه حظّ يقصد ، ولا قربة تعتقد ؛ فأمر الله سبحانه بالقصد إليه لأداء فرضه وقضاء حقّه ، ثم سامح في التجارة على ما يأتى بيانه إن شاء الله.

المسألة السادسة ـ قوله : (الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ).

روى عن ابن عباس أنه قرأ «والعمرة» بالرفع للهاء ، وحكى (٣) قوم أنه إنما فرّ من فرض العمرة ؛ وهذا لا يصحّ من وجهين :

أحدهما ـ أنّ القراءة ينبنى عليها المذهب ، ولا يقرأ بحكم المذهب.

الثاني ـ أنّا قد بيّنا أنّ النّصب لا يقتضى ابتداء الفرض ، فلا معنى لقراءة الرفع إلّا على رأى من يقول : يقرأ بكل لغة ، وقد بيّنا ذلك في موضعه من القسم الأول من علوم القرآن.

المسألة السابعة ـ قوله تعالى : (فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ).

هذه آية (٤) مشكلة عضلة من العضل ، فيها قولان :

أحدهما ـ منعتم بأىّ عذر كان ؛ قاله مجاهد ، وقتادة ، وأبو حنيفة.

الثاني ـ [منعتم] (٥) بالعدوّ خاصة ؛ قاله ابن عمر ، وابن عباس ، وأنس ، والشافعى ؛ وهو اختيار علمائنا ، ورأى أكثر (٦) أهل اللغة ومحصّليها على أنّ أحصر عرّض للمرض ، وحصر نزل به الحصر (٧). وقد اتفق علماء الإسلام على أنّ الآية نزلت سنة ستّ في عمرة الحديبية

__________________

(١) سورة آل عمران ، آية ٩٧

(٢) في ا : والتناصر.

(٣) في ا : وظن.

(٤) في ا : مسألة.

(٥) من ل.

(٦) في ا : كبراء ، وهو تحريف.

(٧) الحصر : المنع والحبس. وفي القرطبي : نزل به العدو.

١١٩

حين صدّ المشركون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن مكة ، وما كانوا حبسوه ولكن حبسوا البيت ومنعوه ، وقد ذكر الله تعالى القصة في سورة الفتح فقال (١) : (وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ).

وقد تأتى أفعال يكون فيها فعل وأفعل بمعنى واحد ، والمراد بالآية رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، ومعناها : فإن منعتم. ويقال : منع الرجل عن كذا ؛ فإنّ (٢) المنع مضاف إليه أو إلى الممنوع عنه.

وحقيقة المنع عندنا العجز الذي يتعذّر معه الفعل ، وقد بيناه في كتب الأصول ، والذي يصحّ أن الآية نزلت في الممنوع بعذر ، وأنّ لفظها في كل ممنوع ، ومعناها يأتى إن شاء الله.

المسألة الثامنة ـ في تحقيق جواب الشرط من قوله تعالى : (فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ).

وظاهره قوله : (فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ) ، وبهذا (٣) قال أشهب في كتاب محمد عن مالك ، وروى ابن القاسم أنه لا هدى عليه [٦٣] ؛ لأنه لم يكن منه تفريط ؛ وإنما الهدى على ذي التفريط ؛ وهذا ضعيف من وجهين :

أحدهما ـ أنّ الله تعالى قال : (فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ) ؛ فهو ترك لظاهر القرآن ، وتعلّق بالمعنى.

الثاني ـ أن النبىّ صلى الله عليه وسلم أهدى عن نفسه وعن أصحابه البدنة عن سبعة ، والبقرة عن سبعة. ولهم أن يقولوا : إنّ النبىّ صلى الله عليه وسلم حمل الهدى تطوّعا ، وكذلك كان ؛ فأما ظاهر القرآن فلا كلام فيه. وأما المعنى فلا يمتنع أن يجعل الباري تعالى الهدى واجبا ـ مع التفريط ومع عدمه ـ عبادة منه لسبب ولغير سبب في الوجهين جميعا.

ومن علمائنا من قال ـ وهو ابن القاسم : إنّ الذي عليه الهدى من أحصر بمرض فإنه يتحلّل بالعمرة ويهدى.

وقال أبو حنيفة : يتحلّل بالمرض في موضعه. وهذا ضعيف من الوجهين : أحدهما لا معنى للآية إلّا حصر العدوّ ، أو الحصر مطلقا (٤) ، فكيف يرجع الجواب إلى (٥) مقتضى

__________________

(١) سورة الفتح ، آية ٢٥

(٢) في ا : كان المنع مضافا.

(٣) ا : ولهذا.

(٤) في ا : المطلق.

(٥) في ا : على.

١٢٠