الحسين عليه السلام وبطلة كربلاء

محمّد جواد مغنية

الحسين عليه السلام وبطلة كربلاء

المؤلف:

محمّد جواد مغنية


المحقق: سامي الغريري
الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: دار الكتاب الإسلامي
المطبعة: مطبعة ستار
الطبعة: ١
ISBN: 964-465-169-3
الصفحات: ٥٢٨

الرّأس الشّريف علوم القرآن الكريم ، والرّسول العظيم.

أيهدى إلى الشّامات رأس ابن فاطم

ويقرعه بالخيزرانة كاشحه

وتسبى كريمات النّبيّ حواسرا

تفادي الجوا من ثكلها وتراوحه

يلوح لها رأس الحسين على القنا

فتبكي وينهاها عن الصّبر لائحه

٤١
٤٢

رضا الله رضانا أهل البيت

من كلام سيّد الشّهداء أبي عبد الله الحسين عليه‌السلام :

«اللهمّ اجعلني أخشاك كأنّي أراك ... واجمعني عليك بخدمة توصلني إليك ، وكيف يستدل عليك بما هو في وجوده مفتقر إليك؟! أيكون لغيرك من الظّهور ما ليس لك حتّى يكون المظهر لك؟! متى غبت حتّى تحتاج إلى دليل يدل عليك؟! عميّت عين لا تراك عليها رقيبا ، وخسرت صفقة عبد لم يجعل له من حبّك نصيبا» (١).

هكذا عرف الله سبحانه أئمّة أهل البيت عليهم‌السلام. عرفوه حتّى كأنّهم يرونه وجها لوجه ، وحتّى كأنّهم يسمعون أوامره ، ونواهيه رأسا وبلا واسطة ، لقد فتح الله لهم أبواب العلوم بربوبيته وعظمته ، وأضاء لهم طرق الإخلاص له في توحيده وطاعته ، وشرّفهم بالفضائل على جميع خلقه ، فما نطقوا إلّا بكلمة الله ، وما عملوا إلّا بما يرضي الله ، وما قطعوا أمرا ، إلّا بأمر من الله. لمّا عزم الحسين على الخروج إلى العراق قام خطيبا ، وقال :

«الحمد لله ما شاء الله ، ولا قوّة إلّا بالله ، وصلّى الله على رسوله ، خطّ الموت على ولد آدم مخطّ القلادة على جيد الفتاة ، وما أولهني إلى أسلافي اشتياق

__________________

(١) انظر ، كتاب الإقبال لابن طاوس : ٣٤٩ ، من دعاء الحسين يوم عرفة.

٤٣

يعقوب إلى يوسف وخير لي مصرع أنا لاقيه ، كأنّي بأوصالي تقطعها عسلان الفلوات بين النّواويس ، وكربلاء فيملأنّ منّي أكراشا جوفا ، وأجربة سغبا ، لا محيص عن يوم خطّ بالقلم ، رضا الله رضانا أهل البيت نصبر على بلائه ويوفينا أجور الصّابرين ، لن تشذّ عن رسول الله لحمته بل هي مجموعة له في حظيرة القدس تقرّ بهم عينه ، وينجز بهم وعده ، من كان باذلا فينا مهجته ، وموطّنا على لقاء الله نفسه فليرحل معنا فإنّني راحل ، مصبحا إنّ شاء الله تعالى» (١).

قيل للإمام الصّادق عليه‌السلام : «بأي شيء يعلم المؤمن أنّه مؤمن؟

قال : بالتّسليم والرّضا فيما ورد عليه من السّرور أو السّخط» (٢).

إذن لا يقاس المؤمن المخلص بالإعتقادات والعبادات ، وإنّما يقاس إيمانه وإخلاصه بالتّسليم لأمر الله ، وطيب نفسه بما يرضي الله ، ولو كان قرضا بالمقاريض ، ونشرا بالمناشير.

قال أمير المؤمنين : «أوحى الله إلى داود : تريد ، وأريد ، ولا يكون إلّا ما أريد ، فإن أسلمت لما أريد أعطيت ما تريد ، وإن لم تسلم لما أريد أتعبتك فيما تريد ، ثمّ لا يكون إلّا ما أريد» (٣).

وقال : «... ولا تسخط الله برضا أحد من خلقه ، فإنّ في الله خلفا من غيره ، وليس من الله خلف في غيره ...» (٤).

__________________

(١) انظر ، شرح الأخبار ، القاضي النّعمان المغربي : ١٤٦ ، كشف الغمّة : ٢ / ٢٣٩ ، اللهوف في قتلى الطّفوف : ٢٥.

(٢) انظر ، اصول الكافي : ٢ / ٦٢ ح ١٢.

(٣) انظر ، توحيد الصّدوق : ٣٣٧.

(٤) انظر ، نهج البلاغة : من كتاب له عليه‌السلام تحت رقم (٢٧).

٤٤

وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «من طلب رضا مخلوق بسخط الخالق سلّط الله عليه ذلك المخلوق»(١).

وأوضح مثال على هذه الحقيقة جزاء ابن زياد لابن سعد. قاتل هذا الحسين عليه‌السلام طمعا في ملك الرّي ، فحرمه من الملك ، ثمّ سلّط الله عليه المختار (٢) فذبحه على فراشه ، وحرمه الحياة. (فَانْتَقَمْنا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ) (٣).

ولبى أصحاب الحسين نداءه ، ورحلوا معه ، وبذلوا مهجهم دونه طلبا لمرضاة الله ، ورغبة بلقائه وثوابه ، فلقد كان حنظلة بن أسعد الشّبامي (٤) يوم الطّفّ يقف بين يدي الحسين يقيه السّهام ، والرّماح ، والسّيوف بوجهه ونحره ، وينادي يا قوم! إنّي أخاف عليكم مثل يوم الأحزاب ، مثل قوم نوح ، وعاد ، وثمود ، والّذين من بعدهم : (وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ) (٥) ، (وَيا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنادِ يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ ما لَكُمْ مِنَ اللهِ مِنْ عاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ) (٦). يا قوم لا تقتلوا حسينا : (فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذابٍ وَقَدْ خابَ مَنِ

__________________

(١) انظر ، تحف العقول : ٥٢.

(٢) انظر ، تأريخ الطّبري ، «ثورة المختار» : ٤ / ٤٨٧ ـ ٥٧٧ و : ٧ / ١٤٦ ، الفرق بين الفرق : ٣١ ـ ٣٧ ، الكامل لابن الأثير : ٤ / ٨٢ ـ ١٠٨ ، الحور العين : ١٨٢ ، الأخبار الطّوال : ٢٨٢ ـ ٣٠٠ ، أخبار اليمن : ٣٢ ، الفاطميون في مصر : ٣٤ ـ ٣٨.

(٣) الرّوم : ٤٧.

(٤) الشّبامي : شبام بطن من همدان ، من القحطانية (يمن ، عرب الجنوب) كوفي.

(٥) غافر : ٣١.

(٦) غافر : ٣٠ ـ ٣٢.

٤٥

افْتَرى) (١).

ثمّ قال حنظلة : السّلام عليك يا أبا عبد الله ، صلّى الله عليك وعلى أهل بيتك ، وعرّف بيننا وبينك في جنته ، وقاتل حتّى قتل رضوان الله عليه (٢) ، وكان من الّذين عناهم الله بقوله تعالى : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ وَاللهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ)(٣).

__________________

(١) طه : ٦١.

(٢) انظر ، تأريخ الطّبري : ٥ / ٤٤٣ ، مقتل الحسين : ٢ / ٢٤.

(٣) البقرة : ٢٠٧.

٤٦

روح النّبيّ والوصيّ

قال عبد الله بن عمّار ، وقد شهد معركة الطّفّ : «ما رأيت مكثورا قطّ ، قتل ولده وأهل بيته ، وأصحابه أربط جأشا من الحسين ، وإن كانت الرّجال لتشدّ عليه ، فيشدّ عليها بسيفه ، فتنكشف عنه إنكشاف المعزى إذا شدّ فيها الذّئب ، وكان يحمل فيهم ، وقد تكاملوا ثلاثين ألفا ، فينهزمون بين يديه ، كأنّهم الجراد المنتشر ثمّ يرجع إلى مركزه ، وهو يقول : «لا حوّل ولا قوّة إلّا بالله العليّ العظيم» (١).

لقد دهش هذا الرّاوي من شجاعة الحسين ، ومضي عزمه ، وذهل ، وهو ينظر إليه ، وقد شدّ على ثلاثين ألفا (٢) فتنكشف عنه إنكشاف المعزى إذا شدّ عليها اللّيث ، لقد دهش وذهل ، وما درى أنّه ابن عليّ القائل : «والله لو تظاهرت العرب

__________________

(١) انظر ، تأريخ بغداد : ٣ / ٣٣٤ ، شرح الأخبار : ٢ / ١٦٤ ، اللهوف في قتلى الطّفوف : ٤٩ و ٧٠ ، المجدي في أنساب الطّالبيّين : ١٢ ، البداية والنّهاية : ٨ / ٢٠٤ ، مقتل الحسين لأبي مخنف : ١٩٤ ، ترجمة الإمام الحسين لابن عساكر : ٣٣٣.

(٢) نعتقد أنّ عدد الجيش الأموي في كربلاء يتجاوز الأربعة آلآف ، وهو العدد الّذي يبدو مقبولا لدى المؤرّخين. فقد ورد على لسان الطّرمّاح بن عديّ في كلامه مع الحسين حين لقي الحسين في عذيب الهجانات ، قوله : «... وقد رأيت قبل خروجي من الكوفة إليك بيوم ظهر الكوفة وفيه من النّاس ما لم تر عيناي في صعيد واحد جمعا أكثر منه ، فسألت عنهم ، فقيل : اجتمعوا ليعرضوا ، ثمّ يسرحون إلى الحسين ... انظر ، الطّبري : ٥ / ٤٠٦. وتذكر كتب المقتل عدّة روايات في عدد أفراد الجيش الأموي ، أقربها إلى تمثيل الحقيقة في نظرنا أنّ العدد يتراوح بين عشرين وثلاثين ألفا.

٤٧

على قتالي لما ولّيت عنها ، ولو أمكنت الفرص من رقابها لسارعت إليها» (١). وتعجب الرّاوي من صبر الحسين وإيمانه ، ونسي أنّه ابن من خاطب الله بقوله : «اللهمّ أنّك تعلم لو أنّي أعلم أنّ رضاك في أن أضع ظبّة سيفي في بطني ، ثمّ انحني عليه حتّى يخرج من ظهري لفعلت» (٢).

أنّ أهل البيت لا يقيمون وزنا لشيء في هذه الحياة ، ولا يكترثون ، ولو ملئت الأرض عليهم خيلا ، ورجالا ، ويصبرون على التّضحية بالنّفس ، والنّساء ، والأطفال ، ويطيقون كلّ حمل إلّا سخط الله وغضبه ، فإنّهم يفرون منه ، ويعجزون عنه ، ولا يستطيعون الصّبر على اليسير منه ، مهما تكن الظّروف.

وهنا تبرز خصائص الإمامة ، والعصمة (٣) ، ونجد السّر الّذي يميّز أهل البيت عن غيرهم من النّاس الّذين يصعب عليهم كلّ شيء إلّا معصية الله ، فإنّها أهون عندهم من التّنفس ، وشرب الماء ، أنّ الحسين بشر يأكل الطّعام ، ويمشي في الأسواق ، ولكنّه يحمل صفة تجعله فوق النّاس أجمعين ، وقد أشار النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى هذه الصّفة بقوله : «حسين منّي ، وأنا من حسين» (٤) ، ومحمّد من نور الله ،

__________________

(١) انظر ، نهج البلاغة : الرّسالة «٢٥».

(٢) انظر ، تأريخ الطّبري : ١ / ٣٣١٧ و : ٤ / ٢٢ و : ٥ / ٣٨ ، في عنوان «مقتل عمّار ....» ، المعيار الموازنة : ١٣٦ ، وقعة صفّين لنصر : ٣٢٠ ، سير أعلام النّبلاء : ٦ / ٦٥ ، الإصابة : ٤ / ٧٦٩.

(٣) استدل علماء الشّيعة على عصمة الإمام بأنّ الغاية من وجوده إرشاد النّاس إلى الحقّ ، وردعهم عن الباطل ، فلو أخطأ أو عصى لكان كمن يزيل القذارة بمثلها ، ولإفتقر الإمام إلى آخر ، ويتسلسل ، وهذا دليل نظري ، أمّا الدّليل العملي الملموس على عصمة عليّ وأولاده الأئمّة فسيرتهم وتضحياتهم في سبيل الحقّ ، والعدالة ، وكفى بموقف الحسين دليلا قاطعا ، وبرهانا ساطعا على عصمته. (منه قدس‌سره).

(٤) انظر صحيح التّرمذي : ١٣ / ١٩٥ ، و : ٥ / ٦٥٦ / ٣٧٧٥ ، و : ٢ / ٣٠٧ ، سنن ابن ماجه : ١ / ٥١ ح ـ

٤٨

فالحسين ، إذن من نور الله ، وقد علّق الأستاذ العلايلي على هذا الحديث : «بأنّه يفيد الإمتزاج ، والإتحاد» (١).

قال الأستاذ العقّاد في كتاب «أبو الشّهداء» :

«ظل الحسين على حضور ذهنه ، وثبات جأشه في تلك المحنة المتراكمة الّتي تعصف بالصّبر ، وتطيش بالألباب ... وهو جهد عظيم لا تحتويه طاقة اللّحم والدّم. فإنّه رضى الله عنه كان يقاسي جهد العطش ، والجوع ، والسّهر ، ونزف الجراح ، ومتابعة القتال ، ويلقي باله إلى حركات القوم ومكائدهم ، ويدبّر لرهطه ما يحبطون به تلك الحركات ، ويتّقون به تلك المكائد ، ثمّ يحمل بلاءه وبلاءهم. ويتكاثر عليه وقر الأسى لحظة بعد لحظة ، كلّما فجع بشهيد من شهدائهم. ولا يزال كلّما أصيب عزيز حمله إلى جانب إخوانه ، وفيهم رمق ينازعهم وينازعونه ، وينسون في حشرجة الصّدور ما فيهم ... فيطلبون الماء ، ويحزّ طلبهم في قلبه كلّما أعياه الجواب ، ويرجع إلى ذخيرة بأسه ، فيستمد من هذه الآلام الكاوية عزما يناهض به الموت ، ويعرض به عن الحياة ... ويقول في أثر كلّ صريع : «لا خير في العيش بعدك» (٢).

__________________

ـ ١٤٤ ، مسند أحمد : ٤ / ١٧٢ ، المستدرك على الصّحيحين : ٣ / ١٧٧ ، تهذيب الكمال : ٧١ ، اسد الغابة : ٢ / ١٩ ، و : ٥ / ١٣٠ ، تيسير الوصول : ٣ / ٢٧٦ ، مقتل الحسين للخوارزمي : ١ / ١٤٦ ، البخاري في الأدب المفرد : ح ٣٤٦ ، كنز العمّال : ٦ / ٢٢١ ، و : ١٦ / ٢٧٠ ، و : ١٣ / ١٠١ و ١٠٥ و ١٠٦ ، و : ١٢ / ١٢٩ ح ٣٤٣٢٨ ، و : ٧ / ١٠٧ ، المعجم الكبير للطّبراني : ٣ / ٣٢.

(١) انظر ، سمو المعنى في سمو الذّات : ٧٨ طبعة (١٩٣٩ م).

(٢) انظر ، كتاب «أبو الشّهداء الحسين بن عليّ» : ١٧٦ ، طبعة القاهرة.

٤٩

«لا حوّل ولا قوّة إلّا بالله العليّ العظيم» (١).

يمس أحدنا الخطب مسّا خفيفا فيملاء الدّنيا صراخا وعويلا ، ويمتحنه الله بنقص من المال أو الأهل ، فيخرج من عقله ودينه ، ويجرأ على خالقه بألفاظ تصم منها المسامع ، وتخرس لها الألسن. وتنهال السّهام ، والسّيوف ، والرّماح على الحسين ، ويتفجّر جسده الشّريف بالدّماء ، ويتساقط القتلى من أولاده ، وأصحابه بالعشرات ، وهو ينظر إليهم ، ثمّ لا يزيد على قول : «لا حوّل ولا قوّة إلّا بالله العليّ العظيم» ، أجل ، لقد قال حين سقط على الأرض مخاطبا ربّه ، وهو يسلّمه النّفس الأخير :

«أللهمّ أنّك قريب إذا دعيت ، محيط بما خلقت ، قابل التّوبة لمن تاب إليك ، قادر على ما أردت ... أدعوك محتاجا ، وأرغب إليك فقيرا ، وأفزغ إليك خائفا» (٢).

أنت خائف من ربّك يا أبا عبد الله ، وغيرك في أمان من عقابه!. ومن أي شيء تخاف! من ظلمك وطغيانك ... وما ظلم أحد في الكون كما ظلمت .. أو من تهاونك بأمر الله ، وكنت تصلّي له في اليوم واللّيلة ألف ركعة!. أو من سكوتك عن حكّام الجور ، وترك الأمر بالمعروف. وما ضحى أحد في هذه السّبيل كما ضحيت! .. أو تخشى جبنك وخورك ، وقد لا قيت ثلاثين ألفا بصدرك ، وقلبك ، وكنت عنوانا لصبر الأنبياء ، ومثال الشّجاعة ، والإباء لكلّ جيل كان ويكون! ...

__________________

(١) انظر ، تأريخ بغداد : ٣ / ٣٣٤ ، شرح الأخبار : ٢ / ١٦٤ ، اللهوف في قتلى الطّفوف : ٤٩ و ٧٠ ، المجدي في أنساب الطّالبيّين : ١٢ ، البداية والنّهاية : ٨ / ٢٠٤ ، مقتل الحسين لأبي مخنف : ١٩٤ ، ترجمة الإمام الحسين لابن عساكر : ٣٣٣.

(٢) انظر ، مصباح المتهجّد : ٨٢٧ ، إقبال الأعمال : ٣ / ٣٠٤.

٥٠

إذا ماذا أراد الحسين بقوله : «وأفزع إليك خائفا» (١). أنّه أراد أن يقول لله سبحانه : على الرّغم من كلّ ما حلّ بي يا إلهي فأنا طيّب النّفس ، صابر على امتحانك وبلائك ، راض بحكمك وقضائك ، وما أنا بمتألم ولا متبرم ، لأنّه لا مطمح لي إلّا رضاك ، فإن تألمت وخفت من شيء فإنّما أخاف أن تمنعني حبّك وقربك.

وهنا يقف العقل حائرا ومتسائلا : هل في الكون أعظم ، وأكبر منزلة عند الله من الحسين؟؟ هل ضحى أحد في سبيل الله ، والحقّ كما ضحى الحسين ، وهل وجد من هو في عمقه ورحابته؟! ولو ابتلي أحد بما ابتلي به الحسين لوجدنا وجها للموازنة والمقارنة. لقد سمعنا بمن ضحى بنفسه ، أو بماله ، أو بأولاده ، أمّا من ضحى بكلّ هذه مجتمعة ، أمّا من ذبح أطفاله الصّغار والكبار ، وقتل جميع أهل بيته وأصحابه ، وسبيت نساؤه ، واحرقت دياره ، ونهبت أمواله ، ورفع رأسه على الرّمح ، ووطأت الخيل صدره وظهره ، أمّا كلّ هذه مجتمعة فلم تكن لأحد غير الحسين ، ولن تكون أبدا! وبالتالي ، فإنّنا نتساءل : هل في الكون أعظم من الحسين؟ ونحن نؤمن بأنّه الصّورة الكاملة لعظمة جدّه محمّد ، وأبيه عليّ.

__________________

(١) انظر ، المصدر السّابق.

٥١
٥٢

خروج الإمام بأهله

قامت المرأة بدور هام في وقعة الطّفّ ، وكان لها أبعد الأثر في الكشف عن مخازي الأمويّين ، وانهيار حكمهم ، وتألّب النّاس عليهم ، فمن النّساء من دفعت بابنها أو زوّجها إلى القتل بين يدي الحسين تقربا إلى الله ، والرّسول ، كما فعلت أمّ وهب وزوّجته ، ومنهنّ من حملنّ السّلاح للدّفاع عن نساء النّبيّ وأطفاله ، ومنهنّ من تظاهرنّ ضدّ حكّام الجور الّذين قتلوا ابن بنت رسول الله ، ورشقنّ جيش الطّغاة بالحجارة هاتفات بسب يزيد وابن زياد.

أرسل الحسين رسولا إلى زهير بن القين ليأتيه ، ولمّا دخل عليه الرّسول وجده مع قومه يتغذون ، وحين أبلغه رسالة الحسين طرح على كلّ إنسان ما في يده ، وجمد حتّى كأنّ على رأسه الطّير ، فالتفتت امرأة زهير ، وقالت : يا سبحان الله! أيبعث إليك ابن رسول الله ، ثمّ لا تأتيه؟! فذهب زهير إلى الحسين ، وما لبث أن جاء مستبشرا مشرق الوجه ، وقال : قد عزمت على صحبة الحسين لأفديه بنفسي ، واقيه بروحي ، ثمّ التفت إلى زوّجته ، وقال لها : أنت طالق ، إلحقي بأهلك ، فإنّي لا أحبّ أن يصيبك بسببي إلّا خير ، وأعطاها ما لها ، وسلّمها إلى بعض أهلها. فقامت إليه ، وبكت وودعته قائلة : «كان الله عونا ومعينا لك ، خار

٥٣

الله لك ، أسألك أن تذكرني يوم القيامة عند جدّ الحسين» (١).

لقد دفعت هذه الحرّة المصونة المؤمنة بزوّجها إلى سعادة الدّارين ونالت الدّرجات العلى عند الله والنّاس ، فما زال اسمها يعلن على المنابر ويدوّن في الكتب مقرونا بالحمد والثّناء إلى يوم يبعثون ، وهي في الآخرة مع جدّ الحسين وأبيه وأمّه ، وحسن أولئك رفيقا ، وهكذا المرأة العاقلة المؤمنة تدفع بزوّجها إلى الخير ، وتردعه عن الشّر ما استطاعت إلى ذلك سبيلا.

وكانت امرأة من بني بكر بن وائل مع زوّجها في أصحاب عمر بن سعد ، فلمّا رأت القوم قد اقتحموا على أطفال الحسين ، ونساؤه هاربات حاسرات ، يستغثنّ ويندبنّ ، ولا مغيث ، اسودّ الكون في وجهها ، وفار الدّم في قلبها وعروقها ، وأخذت سيفا ، وأقبلت نحو الفسطاط منادية : يا آل بكر أتسلب بنات رسول الله؟! لا حكم إلا لله! يا لثارات رسول الله! فأخذها زوّجها ، وردها إلى رحله (٢).

وليس من شك أنّ ثورة هذه السّيّدة النّبيلة قد بعثت الإستياء والنّقمة على الأمويّين ، وملأت النّفوس عليهم وعلى سلطانهم حقدا وغيظا ، وكلّ ما حدث في كربلاء ، وفي الكوفة ، وفي مسير السّبايا إلى الشّام كان من أجدى الدّعايات وأنفعها ضدّ الأمويّين.

أمر ابن زياد أن يطاف بالرّأس الشّريف في أزقّة الكوفة يهدد به كلّ من تحدّثه

__________________

(١) انظر ، تأريخ الطّبري : ٤ / ٢٩٨ ، مقتل الحسين عليه‌السلام ، لأبي مخنف : ٧٤ و ١١٣ ، روضة الواعظين : ١٧٨ ، مقتل الحسين للخوارزمي : ٢ / ٤ ، و : ٤ / ٣٢٠ ، إعلام الورى : ١ / ٤٥٧ ، الإرشاد للشّيخ المفيد : ٢ / ٩٥ ، مناقب آل أبي طالب : ٣ / ٢٥٠ ، البداية والنّهاية : ٨ / ١٩٣ ، الأخبار الطّوال : ٢٥٦ ، تأريخ الطّبري : ٥ / ٣٩٦ ـ ٣٩٧.

(٢) انظر ، اللهوف في قتلى الطّفوف : ٧٨.

٥٤

نفسه بالخروج عن طاعته ، وطاعة أسياده ، فكان هذا التّطوّف خير وسيلة لنشر الدّعوة العلوية ، ومبدأ التّشيّع لأهل البيت ، ولعن من شايع ، وبايع ، وتابع على قتل الحسين ، وسلام الله على السّيّدة الحوراء حيث قالت ليزيد : «فو الله ما فريت إلّا جلدك ، وما حززت إلّا لحمك» (١).

وبعد الطّواف بالرّأس أرسله ابن زياد وسائر الرّؤوس إلى يزيد مع أبي بردة ، وطارق بن ضبّان في جماعة من أهل الكوفة ، ثمّ أمر بنساء الحسين وصبيانه فشدّوا بالحبال على أقتاب الجمال مكشوفات الوجوه ، ومعهم الإمام زين العابدين قد وضعت الأغلال في عنقه ، وسرّح بهم ابن زياد مع مخفر بن ثعلبة وشمر بن ذي الجوشن (٢) ، فأسرعا حتّى لحقا بالقوم الّذين معهم الرّؤوس ، وكانوا إذا مرّوا ببلد استقبلهم أهله بالمظاهرات ، والهتافات المعادية ، ورشقتهم النّساء والأطفال بالحجارة يصرخون بهم : يا فجرة ، يا قتلة أولاد الأنبياء.

سبوا الأطفال ، والنّساء ، وطافوا بهنّ وبالرّؤوس ليقضوا على مبدأ عليّ وأبناء عليّ ، فكان السّبي ، والتّطوّاف ، ضربة مميتة لهم ولسطانهم ، ووسيلة حقّقت الغاية الّتي أرادها الحسين من نهضته ، فلقد أثار السّبي الأحزان ، والأشجان في كلّ نفس ، وزاد من فجائع الواقعة المؤلمة ، وكشف أسرار الأمويّين للقاصي والدّاني ، وظهرت قبائحهم ومخازيهم للعالم والجاهل ، واستبان للمسلمين في

__________________

(١) انظر ، الإحتجاج : ٢ / ٣٦ ، مثير الأحزان لابن نما : ٨١ ، مقتل الحسين لأبي مخنف الأزدي : ٢٢٧. (٢) انظر ، الكامل لابن الأثير : ٤ / ٩٢ ، ميزان الإعتدال : ١ / ٤٤٩ ، لسان الميزان : ٣ / ١٥٢ ، تأريخ علماء الأندلس : ١ / ١٦٦ ، جمهرة الأنساب : ٢٧٠ ، اللّباب : ٢ / ٦٩ ، المحبّر : ٣٠١ ، تأريخ الطّبري : ٤ / ٣٤٩ و : ٥ / ٤٥٥ ـ ٤٥٦ ، مثير الأحزان : ٦٥ ، اللهوف في قتلى الطّفوف : ٦٠ ، الإرشاد للشّيخ المفيد : ٢ / ١٦٣ ، الأخبار الطّوال : ٢٥٩ ، مقتل الحسين لأبي مخنف : ٢٠٤.

٥٥

كلّ مكان وزمان إلّا الأمويّين أعدى أعداء الإسلام يبطنون الكفر ، ويظهرون الإيمان رياء ونفاقا.

وبذلك نجد الجواب عن هذا السّؤال : لماذا صحب الحسين معه النّساء والأطفال إلى كربلاء؟! وما كان أغناه عن تعرضهم للسّبي والتّنكيل؟!.

لقد صحبهم معه الحسين ليطوفوا بهم في البلدان ، ويراهم كلّ إنسان مكشّفات الوجوه ، يقولون للنّاس ـ وفي أيديهم الأغلال والسّلاسل ـ : «أيّها النّاس انظروا ما فعلت أميّة الّتي تدّعي الإسلام بآل نبّيكم».

نقل عن السّبط ابن الجوزي عن جدّه أنّه قال : «ليس العجب أن يقتل ابن زياد حسينا ، وإنّما العجب كل العجب أن يضرب يزيد ثناياه بالقضيب ، ويحمل نساءه ، سبايا على أقتاب الجمال! ...» (١). لقد رأى النّاس في السّبايا من الفجيعة أكثر ممّا رأوا في قتل الحسين ، وهذا بعينه ما أراده الحسين من الخروج بالنّساء والصّبيان ، ولو لم يخرج بهنّ لما حصل السّبي والتّنكيل ، وبالتالي لم يتحقّق الهدف الّذي آراه الحسين من نهضته ، وهو إنهيار دولة الظّلم ، والطّغيان.

ولو افترض أن السّيّدة زينب بقيت في المدينة ، وقتل أخوها في كربلاء فماذا تصنع؟! وأي عمل تستطيع القيام به غير البكاء وإقامة العزاء؟!.

وهل ترضى لنفسها ، أو يرضى لها مسلم أن تركب جملا مكشوفة الوجه

__________________

(١) انظر ، تذكرة الخواصّ : ١٤٨ طبعة لكنهو ، صورة الأرض لابن حوقل : ١٦١ ، الكامل لابن الأثير : ٤ / ٣٥ ، مروج الذّهب للمسعودي : ٢ / ٩١ ، والعقد الفريد : ٢ / ٣١٣ ، أعلام النّساء : ١ / ٥٠٤ ، ومجمع الزّوائد : ٩ / ١٩٨ ، الشّعر والشّعراء : ١٥١ ، الأشباه والنّظائر : ٤ ، الأغاني : ١٢ / ١٢٠ ، الفتوح لابن أعثم : ٥ / ٢٤١ ، شرح مقامات الحريري : ١ / ١٩٣ ، البداية والنّهاية : ٨ / ١٩٧ ، الطّبري في تأريخه : ٦ / ٢٦٧ ، و : ٤ / ٣٥٢ ، الآثار الباقية للبيروني : ٣٣١ طبعة اوفسيت ، قريب منه.

٥٦

تنتقل من بلد إلى بلد تؤلّب النّاس على يزيد ، وابن زياد؟! وهل كان يتسنى لها الدّخول على ابن زياد في قصر الإمارة ، وتقول له في حشد من النّاس : «الحمد لله الّذي أكرمنا بنّبيه محمّد ، وطهرنا من الرّجس تطهيرا ، إنّما يفتضح الفاسق ، ويكذّب الفاجر ، وهو غيرنا والحمد لله» (١)؟! وهل كان بإمكانها أن تدخل على يزيد في مجلسه وسلطانه ، وتلقي تلك الخطب الّتي أعلنت بها فسقه ، وفجوره ، ولعن آبائه ، وأجداده على رؤوس الأشهاد؟!.

أنّ السّيّدة زينب لا تخرج من بيتها مختارة ، ولا يرضى المسلمون لها بالخروج مهما كان السّبب ، حتّى ولو قطّع النّاس يزيد بأسنانهم ، ولكن الأمويّين هم الّذين أخرجوها ، وهم الّذين ساروا بها ، وهم الّذين أدخلوها في مجالسهم ، ومهدوا لها طريق سبّهم ولعنهم ، والدّعاية ضدّهم وضدّ سلطانهم.

ومرّة ثانية نقول : هذه هي المصلحة في خروج الحسين بنسائه وأطفاله إلى كربلاء ، وما كان لأحد أن يدركها في بدء الأمر إلّا الحسين وأخته زينب ، عهد إلى الحسين من أبيه عليّ عن جدّه محمّد عن جبريل عن ربّ العالمين. سرّ لا يعلمه إلّا الله ، ومن ارتضاه لعلمه ورسالته.

__________________

(١) انظر ، الإرشاد : ٢ / ١١٥ ، إعلام الورى بأعلام الهدى : ١ / ٤٧١ ، ينابيع المودّة لذوي القربى : ٣ / ٨٧.

٥٧
٥٨

ما ذنب أهل البيت

سؤال ردّدته الأجيال منذ القديم ، ويردّده الآن كلّ إنسان ، وسيبقى خالدا إلى آخر يوم لا يقطعه مرور الزّمن ، ولا تحول دونه الحوادث وإن عظمت.

سؤال نظمه الشّعراء في آلاف القصائد ، ودونه الكتّاب في مئات الكتب ، وأعلنه الخطباء على المنابر في كلّ جزء من أحزاء المعمورة.

سؤال ردّده المؤمن والجاحد ، والكبير والصّغير حتّى الأطفال.

سؤال كبير في معناه ، صغير في مبناه يعبّر عنه بكلمتين فقط ، وهذا هو :

ما ذنب أهل البيت

حتّى منهم أخلوا ربوعه

تركوهم شتّى مصا

ئبهم وأجمعها فظيعه

فمغيّب كالبدر تر

تقب الورى شوقا طلوعه

ومكابد للسّم قد

سقيت حشاشته نقيعه

ومضرج بالسّيف آ

ثر عزّه وأبى خضوعه

ومصفّد لله سلّم

أمر ما قاسى جميعه

وسليبة باتت بأفعى

الهمّ مهجتها لسيعه

ومرّة ثانية

ما ذنب أهل البيت حتّى منهم أخلوا ربوعه؟!.

٥٩

وأي ذنب أعظم من ذنب الحرّة الطّاهرة عند الفاجرات العاهرات؟! وأي جرم أكبر من جرم الأمين المجاهد في سبيل الله عند الخونة الّذين باعوا دينهم وضمائرهم للشّيطان؟! وأي إساءة تعادل إساءة المحقّ عند المبطلين؟! وأي عداء أقوى من عداء الجهلة السّفهاء للعالم الشّريف؟!.

ألا يكفي أهل البيت من الذّنوب أن يشهد القرآن بقداستهم وتطهيرهم ، وأن تعلن الإذاعات في شرق الأرض وغربها في كلّ يوم ، وفي كلّ صباح ومساء : (يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً) (١)؟! ألّا يكفي

__________________

(١) لا بدّ لنا من تحديد معنى (الأهل) لغة واصطلاحا ـ كما وردت في كتاب الله ، وأحاديث رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله وقواميس اللّغة العربيّة ، وذلك لقطع الطّريق على المتلاعبين ، وإلقاء الحجة على الآخرين ، وليكن تحديدنا على نحو الإستعراض السّريع.

فالأهل في اللّغة : أهل الرّجل ، عشيرته ، وذو وقرباه ، جمعه : أهلون ، وأهلات ، وأهل. يأهل ويأهل أهولا وتأهل واتّهل : اتّخذ أهلا.

وأهل الأمر : ولاته ، وللبيت سكّانه ، وللمذهب من يدين به ، وللرّجل زوّجته كأهلته ، وللنّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أزواجه ، وبناته ، وصهره عليّ عليه‌السلام أو نساؤه ، والرّجال الّذين هم آله ، ولكلّ نبيّ أمّته ، ومكان آهل ، له أهل ومأهول ، فيه أهل ... (انظر القاموس المحيط للفيروز آبادي).

وذكر في المعجم الوسيط تعريفا آخر للأهل : الأهل : الأقارب ، والعشيرة ، والزّوجة ، وأهل الشّيء : أصحابه ، وأهل الدّار ونحوها : سكّانها.

وذكر الرّازي صاحب مختارات الصّحاح معنى الأهل فقال : من الأهالة ، والأهالة لغة : الودك والمستأهل هو الّذي يأخذ الأهالة ، والودك دسم اللّحم ، والبيت عيال الرّجل ... والأهل ، والأرقاب ، والعشيرة ، والزّوجة ، وأهل الشّيء أصحابه ، وأهل الدّار سكّانها.

إذن ، كلمة «أهل» عند ما تطلق فإنّها تحتمل عدّة معان ، فربّما تعني : الزّوجة فقط ، أو الأولاد فقط ، أو الزّوجة والأولاد معا ، أو الأرقاب والعشيرة ، إلى غير ذلك. ولذا نجد كلّ واحدة من هذه المعاني قد وردت في القرآن الكريم ، حيث قال تعالى : (فَلَمَّا قَضى مُوسَى الْأَجَلَ وَسارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ ـ

٦٠