الحسين عليه السلام وبطلة كربلاء

محمّد جواد مغنية

الحسين عليه السلام وبطلة كربلاء

المؤلف:

محمّد جواد مغنية


المحقق: سامي الغريري
الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: دار الكتاب الإسلامي
المطبعة: مطبعة ستار
الطبعة: ١
ISBN: 964-465-169-3
الصفحات: ٥٢٨

لنبّية وللمؤمنين ... وعلينا أن نعرفها جميعا؟.

حقّا ، في كتب السّيرة أنّ النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله اشتاق للولد ، كما أنّه أدرك لذعة الثّكل الّتي تعانيها زوّجته الأثيرة إليه رضي الله عنها. وكان زيد بن حارثة قد عرض للبيع رقيقا في مكّة ثمرة من ثمار حروب العرب المستمرة ، فطلب إلى السّيّدة خديجة أن تبتاعه ، فلمّا فعلت أعتقه وتبنّاه ، وأصبح يعرف بعد ذلك بأنّه زيد بن محمّد ... لقد أصبح زيد أخا بالتّبني لكلّ من زينب ، ورقيّة ، وأمّ كلثوم ، وفاطمة رضي الله عنهنّ.

وكانت البعثة ... وقام الرّسول بالدّعوة ... قام يدعو قومه .. ثمّ يدعو قومه وكلّ العرب ... ثمّ يدعو قومه وكلّ النّاس ... وظهر من المشركين من يعّيره بأنّه «الأبتر» الّذي سينقطع ذكره بين النّاس لأنّه لا ولد له ... وهنا تظهر أوّل الأضواء على الحكمة الّتي نبحث عنها .. تظهر في قول الله ردا على المشرك وتأمينا للنبي : (إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ) (١) ..

إنّ الإنقطاع إذن هو الكفر ولقد وهب الله نبّيه «الكوثر» .. أي وهبه كثرة الذّاكرين لسيرته ، والسّائرين بذكره والمصلّين عليه في صلاة كلّ يوم من

__________________

(١) الكوثر : ١ ـ ٣. وقد اتّفق المفسرون على أنّ العاص قال : أنّي لأشنأ محمّد الأبتر ، فأنزل الله فيه ، كان عمرو بن العاص من الّذين عادوا النّبيّ وآذوه ، وكاودا له وكذبوه : وقاتله مع جيوش الشّرك ، وهجاه بسبعين بيتا من الشّعر ، فقال رسول الله : «أللهمّ إنّي لا أقول الشّعر ، ولا ينبغي لي ، أللهمّ إلعنه بكلّ حرف ألف لعنة ، فكان عليه من الله ما لا يحصى من اللّعنات». انظر ، شرح النّهج لابن أبي الحديد : ٦ / ٢٩١ ، شرح الحميدي : ٢ / ١٠١ ـ ١٠٤ ، جواهر المطالب في مناقب الإمام عليّ لابن الدّمشقي : ٢ / ٢٢٣.

٤٤١

المؤمنين ... أبد الآبدين ودهر الدّاهرين (١).

وهنا يظهر أيضا معنى تبني الرّسول الكريم لزيد بعد عتقه .. يظهر معنى البديل الّذي اتّخذه عن ولديه من ظهره ... لقد جاء محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ليعتق ويحرّر جميع المؤمنين بالإيمان ـ كما عتق زيدا ... ثمّ يكون بحقّه عليهم أبا كريما ، ورسولا رحيما ، واسرة حسنة .. ما قامت الدّعوة إلى الله والإسلام على أرض البشر.

وهنا تظهر حكمة الله للمرّة الثّالثة عند ما ولد إبراهيم بالمدينة ، وعند ما مات واشتدّ حزن الرّسول عليه ... وكان أسباطه صلى‌الله‌عليه‌وآله من أحبّ بناته إليه وأشدّهم حزنا عليه فاطمة الزّهراء ، هم أبناؤها من الإمام عليّ رضى الله عنه : الحسن ، والحسين ، ومحسن ، وزينب ، وأمّ كلثوم.

قال ابن إسحق في السّيرة : «كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لا يسمع شيئا يكرهه ، من ردّ عليه ، وتكذيب له ، فيحزنه ذلك ، إلّا فرّج الله عنه بخديجة رضي الله عنها ، إذا رجع إليها تثبته وتخفف عنه ، وتصدّقه وتهون عليه أمر النّاس ، حتّى ماتت رضي الله عنها» (٢).

على هذا السّمت من البر ، وتفريج الأحزان ، والتّثبيت والتّخفيف ، في الدّعوة إلى الله ، والجهاد في سبيل الله كانت بنات الرّسول صلوات الله وسلامه عليه ، وبنات السّيّدة خديجة رضي الله عنها ... وكان أسباطه وأسباطها منهنّ .. وكانت السّيّدة زينب رضي الله عنها ...

__________________

(١) انظر ، صحيح البخاري : ٧ / ٢٠٧ ، المستدرك على الصّحيحين : ٢ / ٥٣٧ ، تحفة الأحوذي : ٩ / ٢٠٥ ، تفسير ابن كثير : ٤ / ٥٩٦ ، تفسير مجاهد : ٢ / ٧٩٠ ، زاد المسير : ٨ / ٣٢٠ ، تفسير الثّعالبي : ٥ / ٦٣٢ ، الكواكب النّيرات لابن كيال الشّافعي : ٧٣.

(٢) انظر ، سيرة ابن إسحق : ٦٩. (منه قدس‌سره).

٤٤٢

وكان حظّ السّيّدة زينب أن تكون المكرسّة لمواساة أخيها الإمام الحسين ، وأن تمضي معه على طريق مأساته إلى آخرها ، تثبته وتخفف عنه ، وتبدي له الرّأي ، وتتبعه إلى ما يريد ، فلمّا كان استشهاده وقفت كالقصّاص العادل من قاتليه ، وممّن غرّروا به .. ثمّ تبعت رأسه الطّاهر إلى دمشق تدفع عن ذكره وتبين عن حقّه ، وتطلب حكم الله بينه وبين من أصابوه ، وبغوا عليه.

ولمّا أوت إلى المدينة لم تنثن عن ذكره حتّى ضجروا بها ، وضجرت بهم .. وطلبوا إليها أن تختار غير المدينة منزلا .. وجاءها نساء من بني هاشم وعلى رأسهنّ ابنة عمّها «زينب بنت عقيل» الّتي قالت لها مشفقة عليها : «يا ابنة عمّي قد صدقنا الله وعده ، وأورثنا الأرض نتبوأ منها حيث نشاء ، وسيجيزي الله الشّاكرين .. إرحلي إلى بلد آمن» (١).

__________________

(١) انظر ، وفيّات الأئمّة : ٤٦٨.

٤٤٣
٤٤٤

خلافة النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله لمن بات على فراشه

ليلة الهجرة

التزمت في «التّفسير الكاشف» بما يدل عليه ظاهر الآية من معنى مع التّركيز ، والوضوح ، والإيجاز ، وإزاحة كلّ شبهة يمكن أن تمر بالخاطر حول الآية ودلالتها .. هذا في غير الآيات الّتي نزلت في فضل أهل البيت عليهم‌السلام ، حيث تركت الحديث عنها لعلماء السّنّة والمفسرين منهم ، اتّقاء للتّهمة وسوء الظّن ، فوجدت في تفاسيرهم وما نقلوه من أحاديث الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله في أهل بيته ـ ما عند الشّيعة وزيادة ... حتّى إسلام أبي طالب الّذي قال عنه السّيّد قطب في «ظلاله» ما قال على عكس ما صرّح به صاحب روح البيان عند تفسير الآية (٥٤) من سورة يوسف : (وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنا مَكِينٌ أَمِينٌ). وقال : «لقد آسى أبو طالب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وذبّ عنه ما دام حيّا ، فالأصحّ أنّه من الّذين هداهم الله للإيمان كما سبق في المجلّد الأوّل».

وحذف المتعصبون الّذين في قلوبهم مرض الكثير ممّا يتّصل بفضائل أهل البيت الّتي كانت ثابتة في الطّبعة الأولى من كتب التّفسير والحديث عند السّنّة ، بخاصّة الأحاديث الصّريحة الواضحة الّتي لا تقبل التّأويل بحال كحديث : «هذا

٤٤٥

أخي ووصييّ وخليفتي فيكم ، فاسمعوا له ، وأطيعوا» (١) .... ولكن السّيّد الفاضل مرتضى الحسيني الفيروز آبادي تتبع الطّبعات الأولى لكتب التّفسير والأحاديث عند السّنّة ، ونقل عنها كلّ ما يتّصل بأهل البيت ، وذكر رقم الجزء والصّفحة ، وتأريخ الطّبع في كتابه القيّم والوحيد في بابه الّذي أسماه «فضائل الخمسة من الصّحاح السّتة» في ثلاثة أجزاء تبلغ حوالي (١٣٠٠) صفحة.

و «في ظلال نهج البلاغة» سلكت نفس الطّريق الّتي التزمتها بالتّفسير الكاشف من الأخد بظاهر اللّفظ مع التّركيز والوضوح والإيجاز ، وفيما يعود إلى فضائل أهل البيت نقلت عن كبّار علماء السّنّة وادبائهم كالبخاري ، ومسلم ، وابن حنبل من القدامى ، وطه حسين ، وعبد الرّحمن الشّرقاوي ، وأحمد عبّاس صالح ، وعبد الكريم من الجدّد ... ومرّة ثانية اشير إلى أنّي وجدت في هذه الأقوال ما عند الشّيعة وزيادة .. حتّى القول : أنّ ما حدث لأهل البيت في كربلاء

__________________

(١) ذكر هذا الحديث محمّد حسين هيكل في كتاب «حياة محمّد» طبعة أولى ، ثمّ حذفه في الثّانية لقاء (٥٠٠) جنية ، ودليلنا المقابلة بين الطّبعتين. انظر ، التّعليق : ١٤٤ من «أعيان الشّيعة» ١ / قسم ١ طبعة عام (١٩٦٠ م). انظر ، مسند أحمد بن حنبل : ٤ / ٢٨١ ، الصّواعق لابن حجر : ٢٦ ، التّمهيد في أصول الدّين لأبي بكر الباقلاني : ١٧١ ، الرّياض النّضرة لمحبّ الدّين الطّبري : ٢ / ١٦٩ ، حياة عليّ ابن أبي طالب للشّنقيطي : ٢٨ ، الملل والنّحل المطبوع بهامش الفصل في الملل والأهواء والنّحل لابن حزم الظّاهري : ١ / ٢٢٠ ، المناقب للخوارزمي : ٩٤ ، التّفسير الكبير لفخر الدّين الرّازي : ٣ / ٦٣٦ النّهاية لابن الأثير : ٤ / ٢٤٦ ، كفاية الطّالب للحافظ الكنجي : ١٦ ، التّذكرة لابن الجوري : ١٨ ، فرائد السّمطين للجويني الباب الثّالث عشر ، مشكاة المصابيح : ٥٥٧.

وانظر ، البداية والنّهاية لابن كثير الشّافعي : ٥ / ٢٠٩ ، خطط المقريزي : ٢ / ٢٢٣ ، كنز العمّال : ٦ / ٣٩٧ ، وفاء الوفا بأخبار دار المصطفى للسّمهودي الشّافعي : ٢ / ١٧٣ ، المواهب اللّدنية لشهاب الدّين القسطلاني : ٢ / ١٣.

٤٤٦

وغيرها إنّما هو للثّأر من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بأهل بيته ، أمّا الزّيادة فاقرأها فيما يلي لعبد الكريم الخطيب ، وهو يتحدّث ويحلل مبيت الإمام في فراش النّبيّ ليلة الهجرة ... وإن دلّ هذا على شيء فإنّه يدل على أنّ الشّيعة والسّنّة ينهلون من نبع واحد ، «ما فرّق بينكم إلّا خبث السّرائر ، وسوء الضّمائر» (١). كما قال الإمام عليّ عليه‌السلام.

وقال في خطبة أخرى : «أنا وضعت في الصّغر بكلاكل العرب ، وكسرت نواجم قرون ربيعة ومضر ، وقد علمتم موضعي من رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ بالقرابة القريبة ، والمنزلة الخصيصة. وضعني في حجره وأنا ولد يضمّني إلى صدره ، ويكنفني في فراشه ، ويمسّني جسده ، ويشمّني عرفه. وكان يمضغ الشّيء ثمّ يلقمنيه ، وما وجد لي كذبة في قول ، ولا خطلة في فعل ، ولقد قرن الله به ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ من لدن أن كان فطيما أعظم ملك من ملائكته يسلك به طريق المكارم ، ومحاسن أخلاق العالم ، ليله ونهاره» (٢). وكتب في شرح هذه الجملة فيما كتبت ، ونقلت عن أدباء السّنّة ما يلي :

رافق عليّ النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله في مراحله كلّها ، وسبق النّاس إلى الإيمان بدعوته ، والتّمسك بعروته ، ودافع عنه وعنها بنفسه لا يرجو إلّا رضا الله ومودّة الرّسول ، بل كان عليّ يبث الدّعوة لمحمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله قبل البعثة ، ويحدّث الغلمان من أترابه عن خلق محمّد وعظمته ، قال الأستاذ عبد الرّحمن الشّرقاوي في كتاب «محمّد رسول الحرّيّة» : «كان عليّ ، وهو في الثّامنة يحدّث الغلمان في مثل سنه ابن

__________________

(١) انظر ، نهج البلاغة : الخطبة (١١٣).

(٢) انظر ، نهج البلاغة : الخطبة (١٩٢).

٤٤٧

عمّه ، ويقول : إنّ محمّدا ألغى في بيته كلمة العبيد والجواري ، وأحلّ مكانهما كلمة فتاي ، وفتاتي ، وهو يصبر على الخدم ، فما يقول لواحد منهم «اف» مهما يخطىء» (١).

وكان عتاة قريش يغرون الصّبيان برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فيصحب معه عليّا يذبهم عنه. ومن جهاده في المرحلة الأولى مبيته على فراش رسول الله ليلة الهجرة. وهنا أدع الحديث لغيري لمواضع التّهم .. فقد نشرت جريدة الأخبار المصرية ، كلمة بعنوان «مشاهدات فدائية في تأريخ الإسلام» جاء فيها :

«إنّ تأريخ الإسلام حافل بضروب باسلة من أمثلة الفدائية النّبيلة ... وأظهر من نعرف من فدائيي العصر النّبوّي عليّ بن أبي طالب ، ومواقفه الفدائية أكثر من أن تحصر ، لعل أوّلها في تأريخ الدّعوة مبيته ليلة الهجرة على فراش ابن عمّه متوقعا ما سيحيق به من الموت المباغت إذ أحاط به الأعداء من كلّ صوب ، فهانت عليه نفسه وراء ما ينشد من تفدية صاحب الدّعوة ، ومكث اللّيل الطّويل ينتظر ما بين لحظة وأخرى ، وقد برقت الأسنّة ، ولمعت السّيوف ... إنّ مخاطرات عليّ الفدائية تغلغلت في أعماقه حتّى غدت إحدى وسائل النّصر في بطولاته ، وحسبك أن تعلم إنّه في طليعة المتقدمين في ميدان المبارزة الحربية ، وإنّه بطل الإسلام» (٢).

أمّا الكاتب الإسلامي المصري الاستاذ عبد الكريم الخطيب فقد استوحى من المبيت معنى دقيقا ما سبقه إليه عالم وباحث ، قال :

__________________

(١) انظر ، كتابه «محمّد رسول الحرّيّة» : ٦٥ ، الطّبعة الأولى. (منه قدس‌سره).

(٢) انظر ، تأريخ نشر المقال في الجريدة : ٨ ـ ١٢ ـ ١٩٦٧ م. (منه قدس‌سره).

٤٤٨

«هذا الّذي كان من عليّ في ليلة الهجرة .... لم يكن أمرا عارضا ، بل هو عن حكمة لها آثارها ومعقباتها فلنا أن نسأل : أكان لإلباس الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله شخصية لعليّ أكثر من جامعة القرابة القريبة بينهما؟. وهل لنا أن نستشف من ذلك ـ أي من أنّ الرّسول ألبس شخصيته لعليّ أنّه إذا غاب شخص الرّسول كان عليّ هو الشّخصية المهيأة لأنّ يخلفه ، ويمثل شخصيته ، ويقوم مقامه؟ ..

وأحسب أننا لم نتعسف كثيرا حين نظرنا إلى عليّ ، وهو في برد الرّسول ، وفي مثوى منامه الّذي اعتاد أن ينام فيه ـ فقلنا : هذا خلف الرّسول والقائم مقامه» (١).

وبحقّ قال الأستاذ الخطيب : إنّ شيعة عليّ لا يقيمون شاهدا من هذه الواقعة يشهد لعليّ أنّه أولى برسول الله على حين نراهم يتعلقون بكلّ شيء يرفع عليّا إلى تلك المنزلة أي الخلافة.

ولي أن أجيب عن الشّيعة : بأنّهم لا يستدلون بشيء على خلافة إمامهم إلّا بأقوال السّنّة ، وعلى هذا جرت عادتهم منذ القديم تجنبا لمواطن التّهم ... وما رأوا أحدا قبل الأستاذ الخطيب استدل بهذه الواقعة على أوّلية عليّ بالخلافة ، ولمّا أنطقه الله به أخذوه عنه ، كما فعلت أنا. ثمّ قال الخطيب الكريم :

«إنّ عليّا خدع قريشا بمبيته على فراش رسول الله ، ومكر بها عن محمّد حتّى أفلت من بين أيديها ، وسلم من القتل ، وقد صفعها عليّ بفعلته هذه صفعة مذلّة مهينة ، فأضمرت قريش لعليّ السّوء ، وأرهقته وتجنت عليه بعد أن دخلت الإسلام ... إنّ هذا الّذي كان من عليّ ليلة الهجرة في تحديه لقريش ، هذا التّحدي

__________________

(١) انظر ، كتابه «عليّ بن أبي طالب بقية النّبوّة ، وخاتم الخلافة : ١٠٥ ، وما بعدها طبعة سنة ١٩٦٧ م.

(منه قدس‌سره).

٤٤٩

السّافر ، وفي استخفافه بها ، إنّ ذلك لا تنساه قريش لعليّ أبدا ، ولو لا أنّها وجدت في قتل عليّ يومئذ إثارة فتنة تمزق وحدتها لشفت ما بصدرها منه ، ولكنّها تركته ، وانتظرت الأيّام لتسوي حسابها معه ... ولحقّ النّبيّ بالرّفيق الأعلى ، وترك عليّا وراءه بالأحداث ، ويكابد الشّدائد حتّى يلحق بالرّسول ... ألّا يبدو لنا من هذه الموافقات ما نستشف منه أنّ لعليّ شأنا في رسالة الرّسول ، ودورا في دعوة الإسلام ليس لأحد غيره من صحابة الرّسول».

وبعد ، فإنّ الأستاذ عبد الكريم الخطيب لا يمت إلى الشّيعة بأمّ ولا أب ، ولا بتربية وبيئة ، وإنّما نطق بوحي من ضميره ودراسته مجردا عن كلّ غاية ، فالتقى مع شيعة عليّ من حيث لا يريد ... ثمّ تنبّه للعواقب ، وخاف من تهمة التّشيع ، وثورة المتعصّبين من الشّيوخ ، فاتقاهم بقوله : «وبعد فهذه خطرات لا نحسبها على تلك القضيّة ، ولا نأخذ بها فيها». ولكن أسلوبك في التّعبير ـ أيّها الأستاذ الكريم ـ ينم عن شعور قلبك وإيمانه ، لا عن خطرات خيالك ووساوسه ، إنّ هذه الخطرات والوساوس تتجلى في اعتذارك بقولك «لا نأخذ بها فيها» إنّ هذا الأسلوب إن دلّ على شيء فإنّه يدلّ على الشّك والحيرة والارتباك. وعلى أيّة حال فأنت معذور لقوله تعالى : (إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ) (١).

قدّمنا أنّ الدّعوة الإسلامية مرّت بثلاث مراحل أساسية :

الأولى : مجرد الإيمان والإعلان مع الثّبات والصّبر على الأذى.

والثّانية : ردع العدوان.

__________________

(١) آل عمران : ٢٨.

٤٥٠

والثّالثة : الهجوم الرّادع ، وأشرنا إلى جهاد الإمام في المرحلة الأولى. ومن جهاده في المرحلة الثّانية بلاؤه يوم بدر ، وبعد أن تحدث عبد الكريم الخطيب عن هذا اليوم ، قال : «فأنت ترى كيف كان ابن أبي طالب سيفا بتّارا يضرب أئمة الكفر من قريش» (١).

وقال عن يوم أحد : «كان لعليّ يوم أحد ما كان له يوم بدر من الإطاحة برؤوس أئمة الكفر من قريش ... ومن قتلى عليّ في هذا اليوم طلحة ابن أبي طلحة صاحب راية المشركين في تلك الواقعة ، فغير منكور إذن تلك اليد الضّاربة ، وهذا السّيف لعليّ في معركة الإسلام ، وأيضا غير منكور التّراث الّتي كانت للمشركين عند عليّ ، والّتي لم يخل منها بيت من بيوت قريش» (٢).

وقال عن وقعة الأحزاب (٣) : «قال النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، حين برز عليّ لابن ودّ يوم

__________________

(١) انظر ، كتابه «عليّ بن أبي طالب بقية النّبوّة ، وخاتم الخلافة : ١٠٨ ، وما بعدها طبعة سنة ١٩٦٧ م.

(منه قدس‌سره).

(٢) انظر ، كتابه «عليّ بن أبي طالب بقيّة النّبوّة ، وخاتم الخلافة : ١٢٥ ، وما بعدها طبعة سنة ١٩٦٧ م.

(منه قدس‌سره).

(٣) غزوة الخندق وقعت في شوال سنة خمسة من الهجرة ، وتسمى بغزوة الأحزاب ، وتأتي بعد غزوة بني النّضير كما جاء في السّيرة الحلبية بهامش السّيرة النّبويّة : ٢ / ٣٠٩ ، أمّا ابن قتيبة في معارفه : ١٦١ أنّها وقعت سنة أربع ويوم بني المصطلق ، وبني لحيان سنة خمس. ولسنا بصدد بيان سببها تفصيلا بل نشير إلى ذلك إشارة وهي :

لمّا أجلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بني النّضير من المدينة بسبب نقضهم العهد ، ساروا إلى خيبر. وخرج جماعة منهم عبد الله بن سلّام بن أبي الحقيق النّضري ، وحييّ بن أخطب ، وكنانة بن أبي الحقيق (الرّبيع) ، وهوذة بن قيس الوالبي ، وأبو عمارة الوالبي إلى مكّة قاصدين أبا سفيان لعلمهم بشدة عداوّته للنّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وتشوّقه إلى إراقة الدّماء والقتال لما ناله هو وزوّجته هند ـ أمّ معاوية ـ منه صلى‌الله‌عليه‌وآله يوم بدر ـ ،

٤٥١

الخندق : «الآن برز الإسلام كلّه للشّرك كلّه (١) ... وقال حذيفة بن اليمان : «لو

__________________

ـ وسألوه المعونه على قتاله صلى‌الله‌عليه‌وآله وقال لهم : أنا لكم حيث تحبّون فاخرجوا إلى قريش وادعوهم إلى حربه واضمنوا لهم النّصرة حتّى تستأصلوه ، فطافوا على وجوه قريش ، ودعوهم إلى حربه صلى‌الله‌عليه‌وآله فقالت قريش : أيدينا مع أيديكم ونحن معكم ... فتجهزّت قريش بقيادة أبي سفيان وتبعتها بعض القبائل ، واليهود وخرجت غطفان وقائدها عيينة بن حصين في بني فزارة ، والحارث بن عوف في بني مرّة ، وبرّة بن طريف في بني أشجع.

فلمّا سمع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله باجتماع الأحزاب استشار أصحابه وأجمع رأيهم على البقاء في المدينة وحرب القوم إن جاؤوا إليهم ، وهنا أشار سلمان رضي الله عنه بحفر الخندق ، فأمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بحفره وعمل فيه بنفسه ، وعمل فيه المسلمون لمدة أكثر من ستة أيّام وقطعه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أربعين ذراعا بين كلّ عشرة ، ولذا اختلف المهاجرون والأنصار في سلمان كلّ يقول هو منّا ، فقطع الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله نزاع القوم وقال قوله المشهور : سلمان منّا ، سلمان من أهل البيت.

وفرغ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله من حفر الخندق قبل قدوم قريش بثلاثة أيّام.

وحاصرت قريش المدينة بضعا وعشرين ليلة ولم يكن بينهم حرب إلّا الرّمي بالنّبل ، ولمّا رأى صلى‌الله‌عليه‌وآله الوهن والضّعف في قلوب أكثر المسلمين بعث إلى عيينة ، والحارث يدعوهما إلى الصّلح ، والرّجوع عن حربه على أن يعطيهم ثلث ثمار المدينة ، واستشار في ذلك أصحابه منهم سعد بن معاذ ، وسعد بن عبادة وغيرهما. ولسنا بصدد بيان قول كلّ منهما. بل نقلنا ذلك بتصرّف من المصادر التّالية :

تأريخ دمشق لابن عساكر الشّافعي : ١ / ١٥٠ ، السّيرة الحلبية بهامش السّيرة النّبويّة : ٢ / ٣٠٩ ، كشف الغمّة : ١ / ٢٦٧ ، أعيان الشّيعة : ١ / ٢٩٢ و ٣٩٤ ، تأريخ الطّبري : ٢ / ٢٦٥ ، و : ٣ / ٢٣٤ ، و : ٥ / ٢٩ ـ ٣٣ ، الكامل لابن الأثير : ٣ / ١٧٨ ، دائرة المعارف الإسلامية الشّيعية : ١ / ٢٦٢ «معركة الخندق» ، السّيرة لابن هشام : ٣ / ١٨٤ و ١٩٢ و ٢٢٥ و ٣٢٠ ـ ٣٢٢ ، مغازي الواقدي : ٢ / ٤٤١ و ٤٧٧ ، الإرشاد للشّيخ المفيد : ١ / ٩٤ ، كشف اليقين في فضائل أمير المؤمنين عليه‌السلام : ١٣١ ، تأريخ اليعقوبي : ٢ / ٥٠ ـ ٥١ ، إمتاع الأسماع للمقريزي : ٢٣٥ و ٢٣٦ ، تفسير البغوي المسمى بمعالم التّنزيل : ٣ / ٥٢٣ ، وانظر ، الطّبقات الكبرى لابن سعد : ٢ / ١٧ و ١٨.

(١) فقد روى المؤرّخون في مبارزة عليّ عليه‌السلام يوم الخندق ، وأنّها أفضل من أعمال الأمّة إلى يوم القيامة بألفاظ مختلفة تؤدّي إلى نفس المعنى. فقد روى صاحب المستدرك عن سفيان الثّوري أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله قال ذلك لعليّ عليه‌السلام يوم الخندق. ورواه الخطيب البغدادي في تأريخه : ١٣ / ١٩ عزن إسحاق بن بشر ـ

٤٥٢

__________________

ـ القرشيّ. وذكره الفخر الرّازي في تفسيره الكبير : ٣٢ / ٣١ ، وفي ذيل تفسير سورة القدر ورد بلفظ : لمبارزة عليّ عليه‌السلام مع عمرو بن عبد ودّ أفضل من عمل أمّتي إلى يوم القيامة. وذكر ابن أبي الحديد في شرح النّهج أيضا : ١٩ / ٦١ أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله قال حين برز عليّ عليه‌السلام لعمرو بن عبدودّ : برز الإيمان كلّه إلى الشّرك كلّه. وقال الإيجي في شرح المواقف : ٦١٧ قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : لضربة عليّ يوم الخندق أفضل من عبادة الثّقلين. وفي السّيرة الحلبية بهامش السّيرة النّبويّة : ٢ / ٣٢٠ قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : قتل عليّ لعمرو بن عبدودّ أفضل من عبادة الثّقلين.

وقال الفخر الرّازي في نهاية العقول في دراية الأصول : ١١٤ أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : لضربة عليّ يوم الخندق أفضل من عبادة الثّقلين ، تأريخ دمشق ترجمة الإمام عليّ عليه‌السلام : ١ / ١٥٥ ، فرائد السّمطين : ١ / ٢٥٥ ح ١٩٧ ، وهامش تأريخ دمشق : ١٥٥ ، وشواهد التّنزيل : ٢ / ١٤ ح ٦٣٦ ، المناقب للخوارزمي : ١٦٩ ح ٢٠٢ و ٥٨ الفصل ٩ ، كتاب المواقف : ٣ / ٢٧٦ ، هداية المرتاب : ١٤٨ ، كنز العمّال : ٦ / ١٥٨ الطّبعة الأولى ، شرح المختار قال ابن أبي الحديد في (٢٣٠) فى باب قصار كلام أمير المؤمنين من نهج البلاغة : ٥ / ٥١٣ بإضافة : ... تعدل أعمال المهاجرين والأنصار وطاعاتهم كلّها ، وفي الدّر المنثور : ٥ / ١٩٢.

وها هو عليه‌السلام يقول : ... نشدتكم الله ، أفيكم أحد يوم عبر عمرو بن عبد ودّ الخندق وكاع عنه جميع النّاس فقتله غيري؟ قالوا : أللهمّ لا. (انظر تأريخ بغداد : ١٣ / ١٩ ، مقتل الحسين للخوارزمي : ٤٥ ، تلخيص المستدرك : ٣ / ٣٢). ويوم الخندق لمّا سكت كلّ منهم ولم يجب طلب عمرو بن عبدودّ العامري. وكادت تكون هزيمة نكراء لو لم ينهض بها عليّ بن أبي طالب ، وبهذا قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : برز الإيمان كلّه إلى الشّرك كلّه.

وبهذا وذاك تذهب أدراج الرّياح إيرادات ، وإشكالات ، وتبريرات ابن تيمية حين قال كما ورد في السّيرة الحلبية ومعها هامش السّيرة النّبويّة : ٢ / ٣٢٠ : إنّها أي ضربة عليّ يوم الخندق أفضل من عبادة الثّقلين ـ من الأحاديث الموضوعة الّتي لم ترد في شيء من الكتب الّتي يعتمد عليها ولا بسند ضعيف ، وكيف يكون قتل كافر أفضل من عبادة الثّقلين الإنس والجنّ ومنهم الأنبياء؟! ثمّ قال : بل إنّ عمرو بن عبدودّ هذا لم يعرف له ذكر إلّا في هذه الغزوة.

والجواب نحن لسنا بصدد هذا الكلام ومناقشته بل نورد ما قاله العلّامة برهان الدّين الحلبي الشّافعي في نفس كتابه السّيرة الحلبية وفي نفس الجزء والصّفحة : إنّ عمرو بن عبد ودّ هذا لم يعرف له ذكر إلّا في هذه الغزوة ، قول ليس له أصل ، وكان عمرو بن عبدودّ قد قاتل يوم بدر حتّى أثبتته الجراحة فلم ـ

٤٥٣

قسمت فضيلة عليّ بقتل عمرو يوم الخندق بين المسلمين أجمعهم لوسعتهم» (١). وقال ابن عبّاس في قوله تعالى : (وَكَفَى اللهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ) (٢) بعليّ. والحقّ أنّ مكان عليّ في معارك الإسلام أكبر من أن تخفى وراء التّعصّب في مواقف الخصومة والملاحاة ، ولو أنّ بطولة عليّ كانت موضع شكّ لما سار الحديث عنها مسير المثل ، فكان ممّا قيل : «لا فتى إلّا علي ، ولا سيف إلّا ذو الفقار» (٣). إنّ عليّا أكثر المسلمين شدّة على مشركي قريش ، وإفجاعا لهم في

__________________

ـ يشهد يوم أحد ، فلمّا كان يوم الخندق خرج معلّما ... وأنّه نذر لا يمسّ رأسه دهنا حتّى يقتل محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ... وقوله «كيف يكون قتل كافر أفضل من عبادة الثّقلين» فيه نظر لأنّ قتل هذا كان فيه نصرة للدّين وخذلان الكافرين ... وقال الشّيخ المظفر في دلائل الصّدق : ٢ / ٤٠٢ : لمبارزة عليّ لعمرو أفضل من ... فكان هو السّبب في بقاء الإيمان واستمراره وهو السّبب في تمكين المؤمنين من عبادتهم إلى يوم الدّين ، لكن هذا ببركة النّبيّ الحميد ودعوته وجهاده في الدّين .... وانظر أيضا المعيار والموازنة : ٩١ ، حياة الحيوان الكبرى للدّميري : ١ / ٢٣٨ طبعة مصر عام (١٣٠٦ ه‍) ، المطبعة المشرفيّة ، عليّ بن أبي طالب بقيّة النّبوّة : ١٤٥ طبع مصر عام (١٣٨٦ ه‍) ، مطبعة السّنّة المحمّديّة ، الإمام عليّ أسد الله ورسوله : ٢٨ ، الإمام عليّ رجل الإسلام المخلّد لعبد المجيد لطفي : ٧٥ ، خاتم النّبيين لمحمّد أبو زهره : ٢ / ٩٣٨.

(١) انظر ، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : ١٣ / ٢٨٤ ، شرح إحقاق الحقّ : ٢٠ / ٦٢٦.

(٢) الأحزاب : ٢٥.

انظر ، تفسير القرطبي : ١ / ٨٤ ، مناقب آل أبي طالب : ٢ / ٣٢٤ ، تفسير الدّر المنثور للسّيوطي : ٥ / ١٩٢. وكان ابن مسعود يقرأ : وكفى الله المؤمنين القتال بعليّ ، وكان الله قوّيا عزيزا. وفي ميزان الإعتدال : ٢ / ١٧ مثله. وفي شواهد التّنزيل : ٢ / ٧ ح ٦٢٩ ـ ٦٣٢ ، النّور المشعل : ١٧١ الطّبعة الأولى ، ابن عساكر في تأريخ دمشق : ٢ / ٤٢٠ الطّبعة الثّانية ح ٩٢٧ ، كفاية الطّالب : ٢٣٤ باب ٦٢ ، وانظر أيضا تهذيب التّهذيب : ٦ / ٣٤ ، شرح النّهج لابن أبي الحديد : ١٣ / ٢٨٤ ، خصائص الوحي : ٢١٩ ، تفسير الميزان : ١٦ / ٣١٤ ، المناقب لابن شهر آشوب : ٣ / ١٣٤ ، الدّلائل للشّيخ المظفر : ٢ / ١٧٤ طبعة بصيرتي / قم ، ينابيع المودّة : ٩٤ طبعة بصيرتي / قم ، نور الأبصار : ٩٧.

(٣) الرّواية المشهورة هي أنّ جبرائيل عليه‌السلام هو الّذي كان ينادي : لا سيف إلّا ذو الفقار ولا فتى إلّا عليّ.

٤٥٤

الأبناء ، والآباء ، والأعمام ، والأخوال ، وهذه الاحن على عليّ ، وتلك التّرات في نفوس قريش المشركة ظّلت حيّة بعد أن دخلت في الإسلام ... وبعد موت النّبيّ تناولت قريش بسيوفها شيب بني هاشم ، وشبابها ، وصبيانها ، وشرّدت عقائلها ، وحرائرها ، وكأنّما تثأر بهذا لقتلاها في بدر وأحد ، وحسبنا أن نذكر هنا مصرع الحسين وآل بيته في كربلاء ، وما تلا ذلك من وقائع» (١).

محمّد جواد مغنيّة

__________________

ـ وقيل : إنّ رضوان عليه‌السلام هو المنادي ، وهما ملكان كريمان كما ورد في كنز العمّال : ٣ / ١٥٤ بعد أن ساق حديث الإمام عليّ عليه‌السلام يوم بيعة عثمان فقال عليه‌السلام : اناشدكم الله أنّ جبرائيل نزل على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال : يا محمّد : لا سيف إلّا ذو الفقار ولا فتى إلّا علىّ ، فهل تعلمون هذا كان لغيري؟ وورد في ذخائر العقبى : ٧٤ أيضا عن الإمام أبي جعفر محمّد بن عليّ عليه‌السلام قال : نادى ملك من السّماء يوم بدر يقال له رضوان ، أن : لا سيف إلّا ذو الفقار ولا فتى إلّا عليّ. وورد في الرّياض النّضرة : ٢ / ١٩٠ ، والمناقب لابن المغازلي : ١٩٧ ـ ١٩٩ ح ٢٣٤ و ٢٣٥.

وانظر ، شرح النّهج لابن أبي الحديد : ١ / ٢٨ ، و : ٧ / ٢١٩ ، و : ١٠ / ١٨٢ ، و : ١٤ / ٢٥١ ، تأريخ الطّبريّ : ٢ / ١٩٧ و ٥١٤ ، فرائد السّمطين : ١ / ٢٥٦ ـ ٢٥٨ ح ١٩٨ و ١٩٩ ، تأريخ دمشق : ١ / ١٤٨ ح ٢١٥ و ١٦٧ ، المناقب للخوارزمي : ١٦٧ و ٢١٣ طبعة الحيدريّة ح ٢٠٠ ، كفاية الطّالب : ٢٧٧ ، ابن هشام في السّيرة : ٣ / ٥٢ و ١٠٦ ، سنن البيهقيّ : ٣ / ٢٧٦ ، المستدرك : ٢ / ٣٨٥ ، الرّياض النّضرة : ٣ / ١٥٥ ، ميزان الإعتدال : ٢ / ٣١٢ و ٣١٧ ، و : ٣ / ٣٢٤ طبعة بيروت ، الكامل في التّأريخ : ٢ / ١٠٧ ، تذكرة الخواصّ : ٢٦ ، مجمع الزّوائد : ٦ / ١١٤ و ١٢٥ ، تأريخ الطّبريّ : ٢ / ١٩٧ طبعة آخر ، ربيع الأبرار : ١ / ٨٣٣ ، معارج النّبوّة : الرّكن الرّابع : ١٠٧ و ١٦٨ طبعة لكنهو ، الأغاني لأبي الفرج الاصفهاني : ١٥ / ١٩٢ ، نظم درر السّمطين للزّرندي : ١٢١.

(١) انظر ، كتابه «عليّ بن أبي طالب بقيّة النّبوّة ، وخاتم الخلافة : ١٣٥ ، وما بعدها طبعة سنة ١٩٦٧ م.

(منه قدس‌سره).

٤٥٥
٤٥٦

الشّعب المصري وآل البيت (١)

لماذا نحتفل بمولد الحسين. وتزخر القاهرة العامرة بالوافدين إلى مسجده لإحياء ذكراه في هذه الأيّام من كلّ عام ...؟.

إنّ الإحتفال بمولده ، أنّ بمولد جدّه عليه‌السلام أو بمولد ولّي من أولياء الله الصّالحين لم يرد به أمر في كتاب أو سنّة ، ولكن طبيعة هذا الشّعب الطّيب المؤمن المتدين تهّتز إعجابا ببطولة الأبطال ، وحبّا لأهل البيت وتعبّر عن إعجابها لهذه الإحتفالات الّتي تقيمها في كلّ مناسبة طيّبة.

وقد كان الحسين رضى الله عنه مثلا فريدا في شجاعة القلب ، وشرف الكلمة وإباء الضّمير ، وكانت مكانته في قلب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله مكانة الابن من قلب أبيه. ثمّ هو ابن فاطمة بنته ، وعليّ ابن عمّه ، وهو من الّذين ضمّهم النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله تحت كسائه وقال : «أللهمّ هؤلاء أهل بيتي فأذهب عنهم الرّجس وطهّرهم تطهيرا» (٢).

ولا شكّ أنّ مكانة أهل بيته في قلوب المؤمنين بالمثابة الّتي يشف عنها قول الله : (النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ) (٣) ، وقول

__________________

(١) انظر ، جريدة الأخبار المصريّة : (٢٥ / ٥ / ١٩٧٢ م). (منه قدس‌سره).

(٢) تقدّمت تخريجاته.

(٣) الأحزاب : ٦.

٤٥٧

النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : «والّذي نفسي بيده لا يؤمن عبد حتّى أكون أحبّ إليه من نفسه ، وأبويه ، وأهله وولده ، والنّاس أجمعين» (١).

وقد قال تعالى : (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ) (٢). وقد كان الحسين ـ وهو من ذرّيّته شبيها به في ملامحه وصفاته وسماته ، وكان موقفه من الّذين أحدقوا به وأطبقوا عليه ، شبيها بموقف جدّه عليه‌السلام وهو يواجه الّذين تحزبوا ضدّه وتألبوا عليه بقوله لعمّه : «لو وضعت الشّمس في يميني ، والقمر في شمالي ما تركت قول : لا إله إلّا الله محمّد رسول الله أبدا ، حتّى أنفذه أو اقتل دونه» (٣).

وقد بذل في سبيل كلمة الحقّ والشّرف دمه الزّكي ، وبقي اسمه خالدا ماجدا في سجل المجد والخلود ... رضي الله عنه ، وأرضاه.

عبد الرّحيم فودة

__________________

(١) تقدّمت تخريجاته.

(٢) الطّور : ٢١.

(٣) انظر ، دلائل النّبوّة ، الإصبهاني : ١ / ١٩٧ ، السّيرة النّبويّة لابن هشام : ٢ / ١٠١ ، تأريخ الطّبري : ١ / ٥٤٥.

٤٥٨

حقّ الجماعة يغلب حقّ النّفس! (١)

ذهب النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ذات يوم إلى بيت ابنته فاطمة ليزورها وعند باب البيت وعندما أوشك أن يدخل تراجع وعدل عن زيارتها. وتضطرب فاطمة وتسرع إلى زوّجها عليّ بن أبي طالب كرّم الله وجهه تطلب إليه أن يلحق بالرّسول ليسأله عن سبب عدوله عن زيارتها.

ويسير عليّ إلى الرّسول يسأله فيجيبه عليه‌السلام : «إنّي رأيت على بابها سترا موشيّا!!.

ويعود عليّ إلى زوّجته ليخبرها الخبر فتقول : ليأمرني فيه بما يشاء ، وأمر النّبيّ عليه‌السلام ـ بما معناه ـ أن تعطيه إلى أهل يحتاجون إليه (٢).

ويريد النّبيّ زيارتها مرّة أخرى ، ولكنّه يعود دون أن يدخل بيتها ، وتبعث إليه بمن يسأله عن السّبب فيقول عليه‌السلام : «إنّي وجدت في يديها سوارين من ذهب!!.

__________________

(١) انظر ، جريدة الأخبار المصريّة : (١٦ / ٢ / ١٩٦٨ م). (منه قدس‌سره).

(٢) انظر ، صحيح البخاري : ٢ / ٩٢٢ ح ٢٤٧١ ، سنن أبي داود : ٢ / ٢٧٨ ح ٤١٤٩ و : ٤ / ٧٢ ح ٤١٥٠ ، فتح الباري : ٥ / ٢٢٩ ، عون المعبود : ١١ / ١٣٨ ، شعب الإيمان : ٧ / ٣١٢ ح ١٠٤١٦ ، سبل الهدى والرّشاد : ٩ / ٥٥.

٤٥٩

ولمّا بلغها ذلك أرسلتهما إليه فباعهما ـ عليه‌السلام ـ بدرهمين ونصف درهم تصدّق بهذا المبلغ على الفقراء (١).

ويعلق الكاتب الرّاحل مصطفى صادق الرّافعي على ذلك فيقول :

يا بنت النّبيّ العظيم :

وأنت أيضا لا يرضى لك أبوك حلية بدرهمين ونصف درهم وفي المسلمين فقراء لا يملكون مثلها؟.

أي رجل شعبي على الأرض كمحمّد عليه‌السلام فيه للأمّة كلّها غريزة الأب ، وفيه ـ على كلّ أحواله ـ اليقين الّذي لا يتحول ، وفيه الطّبيعة التّامّة الّتي يكون بها الحقّيقي هو الحقّيقي.

يا بنت النّبيّ العظيم :

أنّ زينة بدرهمين ونصف درهم لا تكون زينة ـ في رأي الحقّ ـ إذا أمكن أن تكون صدقة بدرهمين ونصف درهم!!.

أنّ فيها حينئذ معنى غير معناها :

فيها حقّ النّفس غالبا على حقّ الجماعة .. وفيها الإيمان بالمنفعة حاكما على الإيمان بالخير ... وفيها ما ليس بضروري قد جاء على ما هو الضّروري .. وفيها خطأ من الكمال إن صحّ في حساب الحلال والحرام ، لم يصحّ في حساب الثّواب والرّحمة.

__________________

(١) انظر ، مستدرك الوسائل : ٦ / ٥١٢ ح ٦ ، بحار الأنوار : ٨٥ / ٩٤ ح ٦٢.

٤٦٠