الحسين عليه السلام وبطلة كربلاء

محمّد جواد مغنية

الحسين عليه السلام وبطلة كربلاء

المؤلف:

محمّد جواد مغنية


المحقق: سامي الغريري
الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: دار الكتاب الإسلامي
المطبعة: مطبعة ستار
الطبعة: ١
ISBN: 964-465-169-3
الصفحات: ٥٢٨

__________________

ـ الكبير للطّبراني حياة الإمام الحسين عليه‌السلام : ١٢٢ ح ٤٥ و ٤٨ و ٩٥ ، كفاية الطّالب : ٢٧٩ ، أعلام النّبوّة للماوردي : ٨٣ باب ١٢ ، نظم درر السّمطين : ٢١٥ ، البداية والنّهاية لابن كثير : ٦ / ٢٣٠ ، و : ٨ / ١٩٩ ، الرّوض النّضير : ١ / ٨٩ و ٩٢ و ٩٣ ، و : ٣ / ٢٤ ، مروج الذّهب : ٢ / ٢٩٨ ، اسد الغابة : ١ / ٢٠٨ ، حلية الأولياء : ٣ / ١٣٥ ، الرّياض النّضرة : ٢ / ٥٤ الطّبعة الأولى.

واستشهد من المهاجرين يوم أحد مع حمزة أسد الله وأسد رسوله : عبد الله بن جحش ، ومصعب بن عمير ، وشماس بن عثمان بن الشّريد ، واستشهد من الأنصار واحد وستون رجلا. (انظر ، المعارف لابن قتيبة : ١٦٠).

وروى ابن مسعود : أنّ النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله صلّى على حمزة وبكى وقال كما أسلفنا سابقا : يا حمزة يا عمّي ، ... يا حمزة يا أسد الله وأسد رسوطه ، يا حمزة يا فاعل الخيرات ، يا حمزة يا كاشف الكربات ، يا حمزة يا ذابّ عن وجه رسول الله ... قال : وطال بكاؤه ، قال : ودعا برجل رجل حتّى صلّى على سبعين رجلا سبعين صلاة وحمزة موضوع بين يديه. ذكر ذلك صاحب ذخائر العقبى : ١٨١.

أمّا الرّواية الّتي نقلها صاحب الينابيع عن عبد الله بن مسعود فقد جاء فيها : لمّا قتل حمزة وقتل إلى جنبه رجل من الأنصار يقال له سهيل ، قال : فجيء بحمزة وقد مثّل به. فجاءت صفيّة بنت عبد المطّلب بثوبين لكفنه ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : دونك المرأة فردّها ، فأتاها الزّبير بن العوّام ـ كما ذكرنا سابقا ـ فدفعت الثّوبين وانصرفت. فأقرع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بينه ـ حمزة ـ وبين سهيل فأصاب سهيلا أكبر الثّوبين ـ إلى أن قال : ـ فدعا برجل رجل حتّى صلّى عليه سبعين صلاة وحمزة على حالته. فقد أخرجها أحمد ، والبغوي ، وصاحب الصّفوة ، والمحاملي ، وابن شاذان.

أمّا مقتل مصعب بن عمير : فإنّه لمّا علم صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّ لواء المشركين مع طلحة من بني عبد الدّار أخذ اللّواء من عليّ عليه‌السلام ودفعه إلى مصعب بن عمير لأنّه أيضا من بني عبد الدّار وقال : نحن أحقّ بالوفاء منهم.

ورد ذلك في الكامل في التّأريخ : ٢ / ١٥٠. وقال الطّبريّ : ٢ / ٢١٩٩ ، وابن الأثير أيضا : ٢ / ١٥٥ ، قاتل مصعب بن عمير دون رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ومعه لواؤه حتّى قتل ، وكان الّذي أصابه وقتله ابن قميئة اللّيثي وهو يظنّ أنّه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فرجع إلى قريش فقال : قتلت محمّدا ، فجعل النّاس يقولون قتل محمّد ، قتل محمّد ، فلمّا قتل مصعب بن عمير أعطى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله اللّواء عليّ بن أبي طالب.

وتفرّق أكثر أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وقصده المشركون وجعلوا يحملون عليه يريدون قتله ، وثبت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يرمي عن قوسه حتّى تكسّرت وقاتل قتالا شديدا ورمى بالنّبل حتّى فني نبله ـ

٣٤١

__________________

ـ وانكسرت سية قوسه وانقطع وتره. (انظر الكامل في التّأريخ لابن الأثير : ٢ / ١٥٤).

وهنا انخلعت القلوب وأوغلوا في الهروب كما قال تعالى : (إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْراكُمْ فَأَثابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍ) آل عمران : ١٥٣ والرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله يدعوهم فيقول : إليّ عباد الله ، إليّ عباد الله ، أنا رسول الله من كرّ فله الجنّة. ولذا قال ابن جرير : ٢ / ٢٠٣ وابن الأثير في الكامل : ٢ / ١١٠ : وانتهت الهزيمة بجماعة المسلمين وفيهم عثمان بن عفّان وغيره إلى الأعوص فأقاموا بها ثلاثا ، ثمّ أتو النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال لهم حين رآهم : لقد ذهبتم فيها عريضة. ذكر هذا الحديث تأريخ الطّبريّ : ٢ / ٢٠٣ ، الكامل لابن الأثير : ٢ / ١١٠ ، السّيرة الحلبية : ٢ / ٢٢٧ ، البداية والنّهاية : ٤ / ٢٨ ، السّيرة النّبويّة لابن كثير : ٣ / ٥٥ ، شرح النّهج لابن أبي الحديد : ١٥ / ٢١ ، الدّر المنثور : ٢ / ٨٩ ، تفسير الفخر الرّازي : ٩ / ٥٠ للآية المذكورة.

ولسنا بصدد بيان من فرّ ورجع ، وماذا قال وقيل له ، كأنس بن النّضر عمّ أنس بن مالك حين قال لبعض المهاجرين حين ألقوا ما بأيديهم : ما يحبسكم قالوا : قتل النّبيّ ، قال : فما تصنعون بالحياة بعده؟ موتوا على ما مات عليه النّبيّ. ثمّ استقبل القوم فقاتل حتّى قتل رضى الله عنه فوجد به سبعون ضربة وطعنه وما عرفته إلّا أخته من حسن بنانه : وقيل : لقد سمع أنس بن النّضر جماعة يقولون لمّا سمعوا أنّ النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله قتل : ليت لنا من يأتي عبد الله بن أبي بن سلول ليأخذ لنا أمانا من أبي سفيان قبل أن يقتلونا ، فقال لهم أنس : يا قوم إن كان محمّد قد قتل فإنّ ربّ محمّد لم يقتل ، فقاتلوا على ما قاتل عليه محمّد ، أللهمّ إنّي أعتذر إليك ممّا يقول هؤلآء وأبرأ إليك ممّا جاء به هؤلآء. ثمّ قاتل حتّى استشهد رضى الله عنه. علما بأنّ ابن جرير الطّبريّ ، وابن الأثير الجزري ، وابن هشام في السّيرة الحلبية وغيرهم قد ذكروا أسماء الّذين فرّوا يوم أحد ، ونحن نحيل القارئ الكريم على المصادر التّالية المتيسره لدينا على سبيل المثال لا الحصر : الكامل في التّأريخ لابن الأثير : ٢ / ١٠٨ و ١٤٨ ، السّيرة الحلبية : ٢ / ٢٢٧ ، تأريخ الطّبريّ : ٢ / ٢٠٣ ، الدّر المنثور : ٢ / ٨٠ و ٨٨ و ٨٩ ، شرح النّهج لابن أبي الحديد : ١٥ / ٢٠ و ٢٢ و ٢٤ و ٢٥ ، و : ١٣ / ٢٩٣ ، و : ١٤ / ٢٧٦ ، البداية والنّهاية لابن كثير : ٤ / ٢٨ و ٢٩ ، السّيرة النّبويّة لابن كثير : ٣ / ٥٥ و ٥٨ ، السّيرة النّبويّة لابن هشام : ٤ / ٨٥ ، لباب الآداب : ١٧٩ ، حياة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله لهيكل : ٢٦٥. انظر ، تفسير الرّازي : ٩ / ٥٠ و ٦٧ ، كنز العمّال : ٢ / ٢٤٢ ، و : ١٠ / ٢٦٨ و ٢٦٩ ، حياة الصّحابة : ١ / ٢٧٢ ، و : ٣ / ٤٩٧ ، المغازي للواقدي : ٢ / ٦٠٩ و ٩٩٠ ، منحة المعبود في تهذيب مسند الطّيّالسي : ٢ / ٩٩ ، طبقات ابن سعد : ٣ / ١٥٥ ، و : ٢ / ٤٦ و ٤٧ الطّبعة الأولى ، تأريخ الخميس : ١ / ٤١٣.

٣٤٢

الخروج بالنّساء :

قد يقول قائل : ما دام الحسين يعلم بأنّه مقتول لا محالة ، كما صرّح بذلك لأخيه محمّد بن الحنفيّة وحين علم بمقتل ابن عمّه مسلم ، وفي مناسبات شتى ، فلماذا صحب معه النّساء والأطفال ، حتّى جرى عليها ما جرى؟ ..

الجواب :

أجل : أنّ الحسين والأصحاب والتّابعين كانوا يعلمون بمقتل الحسين قبل وقوعه ، فقد اشتهر وتواتر من طريق السّنّة والشّيعة أنّ النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أخبر بذلك أكثر من مرّة ... قال صاحب «العقد الفريد» :

«قالت أمّ سلمة : «كان جبرائيل عليه‌السلام عند النّبيّ والحسين معي فغفلت عنه فذهب إلى النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وجعله على فخذه

فقال له جبرائيل أتحبّه يا محمّد؟

فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : نعم

فقال : إنّ أمّتك ستقتله ، وإن شئت أريتك تربة الأرض الّتي يقتل بها ، ثمّ فبسط جناحه إلى الأرض وأراه أرضا يقال لها كربلاء. تربة حمراء بطفّ العراق ، فبكى النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله» (١).

__________________

(١) انظر ، العقد الفريد : ٥ / ١٢٤ طبعة (١٩٥٣ م). (منه قدس‌سره).

انظر ، مسند أحمد : ٣ / ٢٤٢ ، و : ٦ / ٢٩٤ ، ذخائر العقبى : ١٤٦ ، كنز العمّال : ٧ / ١٠٦ و ١٠٥ و ١١٠ ، و : ٦ / ٢٢٢ و ٢٢٣ ، مجمع الزّوائد : ٩ / ١٨٧ ـ ١٨٩ ، الصّواعق المحرقة : ١١٥ و ١٩٢ ح ٢٨. المستدرك على الصّحيحين : ٣ / ١٧٦ و ٢١٧٩ ، الطّبقات الكبرى : ٨ / ٢٠٤ ، الإصابة : ١ / ٦٨ و : ٨ / ٢٦٧ ، و : ٥ / ٢٣١ ، اسد الغابة : ٣ / ٣٤٢ ، و : ٢ / ١٠ ، مسند أحمد : ٦ / ٣٩٩ ، صحيح ابن ماجه ـ

٣٤٣

وقال صاحب ذخائر العقبى :

«قال رسول الله : «أنّ ابني هذا يعني الحسين يقتل بأرض من العراق فمن أدركه منكم فلينصره» (١).

ثمّ قال صاحب الذّخائر : وهذا الحديث خرّجه البغوي في معجمه ، وأبو حاتم في صحيحه ، وأحمد في مسنده (٢).

وبهذا يتبيّن معنى أنّ الّذين نهوا الحسين عن الخروج من الأصحاب والتّابعين ، وأعلموه بأنّه مقتول قد اعتمدوا على أحاديث النّبيّ ، وتجاهلوا قوله «فمن أدركه منكم فلينصره» إيثارا للعاجلة على الآجلة ... حين سمع ابن عمر بخروج الحسين أسرع خلفه حتّى أدركه في بعض المنازل ، فقال له : «إلى أين يا رسول الله؟.

__________________

ـ ٢٨٩ ، تأريخ دمشق : ١٣ / ٦٢ ح ٦٣١ ، مجمع الزّوائد للهيثمي : ٩ / ١٧٩ و ١٨٧ ، الصّواعق المحرقة : ١٩٢ ح ٢٨ و ٢٩ ، المناقب لأحمد : ٢ / ٧٧٠ ح ١٣٥٧ ، ينابيع المودّة للقندوزي الحنفي : ٣ / ٧ و ٨ طبعة اسوة ، مقتل الحسين للخوارزمي : ١ / ١٥٩ ، تذكرة خواصّ الأمّة : ١٣٣ ، تأريخ ابن كثير : ٦ / ٢٣٠ ، ٨ / ١٩٩ ، أمالي الشّجري : ١٨٨ ، الرّوض النّضير : ١ / ٨٩ ، كنز العمّال : ٦ / ٢٢٣ ، الخصائص الكبرى : ٢ / ١٢٥.

(١) انظر ، ذخائر العقبى : ١٤٦ طبعة (١٣٥٦ ه‍). (منه قدس‌سره). اسد الغابة : ١ / ١٤٦ ، البداية والنّهاية : ٨ / ١٩٩ ، وأنس ـ راوي الحديث ـ هو أنس بن الحارث.

(٢) انظر ، المستدرك على الصّحيحين : ٤ / ٤٤٠ ح ٨٢٠٢ ، مسند أحمد : ٦ / ٢٩٤ ، الإصابة : ١ / ١٢١ رقم «٢٦٦» ، الآحاد والمثاني : ١ / ٣١٠ ح ٤٢٩ ، المعجم الكبير : ٣ / ١٠٩ ح ٢٨٢١ و : ٢٣ / ٣٠٨ ح ٦٩٧ ، سير أعلام النّبلاء : ٣ / ٢٨٩ ، الثّقات لابن حبّان : ٤ / ٤٩ ، تأريخ دمشق : ١٤ / ٢٢٤ ، معرفة الثّقات للعجلي : ١ / ١٧ ، الرّوض النّضير : ١ / ٩٣ ، تهذيب الكمال : ٦ / ٤١٠ ، تأريخ ابن الوردي : ١ / ١٧٣ ، سبل الهدى والرّشاد : ١١ / ٧٥ ، ينابيع المودّة : ٣ / ٨ ، تهذيب ابن عساكر : ٤ / ٣٣٨ ، أسد الغابة : ١ / ١٣٢ ، الجرح والتّعديل للرّازي : ١ / ٢٨٧ ، تأريخ البخاري الكبير : ١ / ٣٠ رقم «١٥٨٣».

٣٤٤

قال : إلى العراق.

قال : اكشف لي عن الموضوع الّذي كان رسول الله يقبّله منك. فكشف له عن سرّته ، فقبّلها ابن عمر ثلاثا ، وبكى ، وقال : استودعك الله يا ابن رسول الله ، فإنّك مقتول في وجهك هذا (١).

وإذا كان الحسين مقتولا لا محالة فليكن ثمن قتله واستشهاده ذهاب دولة الباطل من الوجود ، وخلاص المسلمين منها ومن الجور والبغي ... ولا طريق للخلاص إلّا بإنفجار الثّورة على الأمويّين وسلطانهم ... وكان ذبح الأطفال وسبي النّساء ، والتّطواف بهنّ من بلد إلى بلد من أجدى الوسائل لإنفجار الثّورة الّتي هزّت دولة البغي من الأركان.

لقد صحب الحسين النّساء معه عن قصد وتصميم ليطوف بهنّ الأمويون في البلدان ، ويراهن كلّ إنسان ، ويقلن بلسان الحال والمقال : «أيّها المسلمون ، انظروا ما فعلت اميّة الّتي تدّعي الإسلام بآل نبيّكم ... وكان النّاس يستقبلون جيش يزيد الّذي يطوف بالسّبايا ، يستقبلونه بالمظاهرات ، والرّشق بالأحجار ، والهتافات المعادية للأمويّين وحزبهم ، ويصرخون : في وجوههم يا فجرة ... يا قتلة أولاد الأنبياء ...

لقد رأى المسلمون في السّبايا من الفجيعة أكثر ممّا رأوا من قتل الحسين ، ولولاهنّ لم يتحقّق الهدف من قتل الحسين ، وهو إنهيار دولة الظّلم والطّغيان ... ولنفترض أنّ السّيّدة زينب بقيت في المدينة ، وقتل أخوها الحسين في كربلاء ، فماذا تصنع؟ ... وأي شيء تستطيع القيام به غير البكاء وإقامة العزاء؟ ...

__________________

(١) انظر ، أمالي الشّيخ الصّدوق : ٢١٧ ، العوالم : ١٧ / ١٦٣ ، لواعج الأشجان : ٧٤.

٣٤٥

وممّا قلته في كتاب المجالس الحسينيّة :

«هل ترضى لنفسها ، أو يرضى لها مسلم أن تركب جملا مكشوفة الوجه تنتقل من بلد إلى بلد تؤلّب النّاس على يزيد ، وابن زياد؟! وهل كان يتسنى لها الدّخول على ابن زياد في قصر الإمارة ، وتقول له في حشد من النّاس : «الحمد لله الّذي أكرمنا بنّبيه محمّد ، وطهرنا من الرّجس تطهيرا ، إنّما يفتضح الفاسق ، ويكذّب الفاجر ، وهو غيرنا والحمد لله» (١)؟! وهل كان بإمكانها أن تدخل على يزيد في مجلسه وسلطانه ، وتلقي تلك الخطب الّتي أعلنت بها فسقه ، وفجوره ، ولعن آبائه ، وأجداده على رؤوس الأشهاد؟!.

أنّ السّيّدة زينب لا تخرج من بيتها مختارة ، ولا يرضى المسلمون لها بالخروج مهما كان السّبب ، حتّى ولو قطّع النّاس يزيد بأسنانهم ، ولكن الأمويّين هم الّذين أخرجوها ، وهم الّذين ساروا بها ، وهم الّذين أدخلوها في مجالسهم ، ومهدوا لها طريق سبّهم ولعنهم ، والدّعاية ضدّهم وضدّ سلطانهم.

ومرّة ثانية نقول : هذه هي المصلحة في خروج الحسين بنسائه وأطفاله إلى كربلاء ، وما كان لأحد أن يدركها في بدء الأمر إلّا الحسين وأخته زينب ، عهد إلى الحسين من أبيه عليّ عن جدّه محمّد عن جبريل عن ربّ العالمين. سرّ لا يعلمه إلّا الله ، ومن ارتضاه لعلمه ورسالته.

وكلّ ما فعله الأمويون في كربلاء عاد عليهم بالوبال والخسران ... قال الألماني ماريين: «بعد وقعة كربلاء انكشفت سرائر الأمويّين ، وظهرت قبائح أعمالهم ، وانتشر الخلاف على يزيد وبني أميّة. وما كان يجرؤ إنسان قبل كربلاء

__________________

(١) انظر ، الإرشاد : ٢ / ١١٥ ، إعلام الورى بأعلام الهدى : ١ / ٤٧١ ، ينابيع المودّة لذوي القربى : ٣ / ٨٧.

٣٤٦

أن يجهر بتقدّيس عليّ والحسين ، وبعدها لم يكن للنّاس من حديث إلّا في فضل العلويّين ومحنهم ، حتّى في مجلس يزيد كان يذكر الحسين وأباه بالتّقدير والتّعظيم» (١).

__________________

(١) انظر ، تأريخ الدّولة العربيّة وسقوطها لهاوزن : ١٢٩ طبعة ١٩٥٨ م. (منه قدس‌سره).

٣٤٧
٣٤٨

في الكوفة والشّام

قيل للحسين : كيف أصبحت يا ابن رسول الله؟.

قال : «أصبحنا في قومنا مثل بني إسرائيل في آل فرعون ، يذبّحون أبنآءنا ويستحيون نسآءنا ، وأصبح خير البرية بعد محمّد يلعن على المنابر ، وأصبح عدوّنا يعطي المال والشّرف ، وأصبح من يحبّنا محتقرا منتقصا حقّه ... وكذلك لم يزل المؤمنون ، وأصبحت العجم تعرف للعرب حقّها ، لأنّ محمّدا منها ، وأصبحت العرب تعرف لقريش حقّها ، لأنّ محمّدا منها .. وأصبحنا أهل البيت لا يعرف لنا حقّ ، فهكذا أصبحنا» (١).

وإذا كان غير العرب لم ينافسوا العرب في الحكم والسّلطان ، لأنّهم أقرب إلى محمّد ، والعرب لم ينافسوا قريشا للسّبب ذاته ، فالنّتيجة الحتميّة لهذا المنطق أن تنافس قريش أهل البيت في حقّهم بالخلافة ، وأن تسمع لهم ، وتطيع ... وهذي هي عقيدة التّشيّع لأهل البيت ، ولا شيء سواها ، وهي ـ كما ترى ـ نتيجة طبيعيّة لمنطق الّذي أنكروا هذا الحقّ ، ومدلول قهري لدليلهم الّذي اعتمدوا عليه بالذات ، ومن هنا فرض نفسه على جاحدية ، وظهر على فلتات ألسنتهم من

__________________

(١) انظر ، تأريخ دمشق : ٤١ / ٣٦٩ ، الطّبقات الكبرى : ٥ / ٢٢٠ ، تهذيب الكمال : ٢٠ / ٤٠٠ ، المنتخب من ذيل المذيل للطّبري : ١٢٠. ونسب بعضهم هذا القول إلى الإمام السّجّاد عليه‌السلام.

٣٤٩

حيث لا يشعرون.

قال الرّاغب الإصفهاني :

«كان عمر يسير مع ابن عبّاس ، فقرأ آية فيها ذكر عليّ بن أبي طالب

فقال : أما والله يا بني عبد المطّلب لقد كان عليّ فيكم أولى بهذا الأمر منّي ، ومن أبي بكر ...

فقال ابن عبّاس : أنت تقول ذلك يا أمير المؤمنين ، وأنت وصاحبك وثبتما ، وافترعتما الأمر منّا دون النّاس؟! ..

فقال عمر : إنّا والله ما فعلنا الّذي فعلنا عن عداوة ، ولكن استصغرناه ، وخشينا أن لا تجتمع عليه العرب وقريش لما قد وترها ...

قال ابن عبّاس : فأردت أن أقول : كان رسول الله يبعثه ، فينطح كبشها ، فلم يستصغره ، افتستصغره أنت وصاحبك؟ ..

فقال عمر : لا جرم : فكيف ترى؟ .. والله ما نقطع أمرا دونه ، ولا نعمل شيئا ، حتّى نستأذنه» (١).

وطبيعي أن يعتذر عمر بجميع الأعذار ، وأن يتشبث ولو بالطّحلب بعد أن اعترف صراحة أنّ عليّا أولى منه ومن صاحبه بالخلافة ... ولو وقف الأمر عند خلافة الشّيخين لهان الخطب ... ولكن هذه الخلافة جرّت الويلات على الإسلام والمسلمين إلى يوم يبعثون ، بخاصّة ما حدث على أهل البيت ، فلولاها لم يكونوا في قومهم كبني إسرائيل في آل فرعون ، ولا كان يوم عثمان ، ولا الجمل ، وصفّين ، والنّهروان ، ووقعة الحرّه ، وما إليها ...

__________________

(١) انظر ، محاضرات الأدباء : ٤ / ٤٧٨ طبعة سنة (١٩٦١ م). (منه قدس‌سره). و : ٧ / ٢٦٣.

٣٥٠

وقد لا تكون هذه الأحداث في حسبان الشّيخين ، ولا من مقاصدهما حين دبّر الأمر ضدّ عليّ ، ونحّيّاه عن الخلافة ، ولكنّها جاءت نتيجة طبيعيّة لخلافتهما ... وقد برّرا هذا التّدبير بخوف الفتنة ، وعدم إجتماع كلمة العرب وقريش على عليّ ، «لما قد وترها» ـ كما قال عمر ـ وقد أبطلت سيّدة النّساء هذا الزّعم بخطبتها الشّهيرة الّتي ألقتها على الخليفة الأوّل والأصحاب في مسجد أبيها ، حيث قالت : زعمتم خوف الفتنة : (أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ) (١).

فأفهمتهم أنّ الفتنة والشّقاق فيما دبّروا وتآمروا ، كما ذكّرتهم :

كيف كانوا في جاهليتهم؟ وكيف صاروا بفضل أبيها ، وجهاد ابن عمّها ، ثمّ وازنت بينهم وبين بعلها أمير المؤمنين ، بقولها :

«كان عليّ عليه‌السلام مكدودا في ذات الله ، مجتهدا في أمر الله ، قريبا من رسول الله سيّدا من أولياء الله ، مشمّرا ناصحا ، مجدّا كادحا ، وأنتم في بلهنيّة من العيش ، وادعون فاكهون آمنون ، تتربصون بنا الدّوائر ، وتتوكفون الأخبار ، وتنكصون عند النّزال ، وتفرّون عند القتال ، فلمّا اختار الله لنبّيه دار أنبيائه ، ومأوى أصفيائه ظهرت فيكم حسيكة النّفاق ... وأطلع الشّيطان رأسه من مغرزه هاتفا بكم ، فالفاكم لدعوته مستجيبين ، وللغرّة فيه ملاحظين ، ثمّ استنهضكم فوجدكم خفافا» (٢).

__________________

(١) التّوبة : ٤٩.

(٢) انظر ، بلاغات النّساء لابن طيفور : ١٤ ، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : ١٦ / ٢٥١ ، جواهر المطالب في مناقب عليّ بن أبي طالب لابن الدّمشقي : ١ / ١٦٠ ، شرح الأخبار : ٣ / ٣٦ ، السّقيفة وفدك للجوهري : ١٤٣ ، كشف الغمّة : ٢ / ١١١.

٣٥١

وبهذا يتبيّن أنّ الزّهراء أوّل من وضع أسّس الموازنة ، والمفاضلة بين أهل البيت وغيرهم ، وأوّل من دعا دعوة صريحة واضحة لولائهم ووجوب طاعتهم ومتابعتهم ، وأوّل من أعلن نفاق من صدّوا عليّا عن الخلافة بعد أبيها (١) ... خطبت الزّهراء بعد حادثة السّقيفة خطبتين :

الأولى : في المسجد الجامع بحضور المهاجرين والأنصار ، وفيهم أبو بكر وعمر.

والثّانية : في بيتها حين إجتمعت نّساء الأصحاب ، ليعدنها في المرض الّذي ماتت فيه ، وترتكز أقوالها في كلتا الخطبتين على أنّ ابن عمّها عليّا هو صاحب الحقّ في الخلافة بعد رسول الله ، وأنّ الّذين حالوا بينه وبينها قد خانوا العهد

__________________

(١) أوّل من أثبت الولاية لعليّ الله ورسوله ، فلقد فسّر المفسرون قوله تعالى : (وَالَّذِينَ آمَنُوا) المائدة : ٥٦ فسّروها بعليّ وهي : (إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ). (منه قدس‌سره).

انظر ، الكشف والبيان في تفسير القرآن : ٤ / ٢٣٤ ، جواهر العقدين في فضل الشّرفين : ٣ / ٥٣٤ ، الصّواعق المحرقة : ٢٩ ، صحيح البخاريّ : ٢ / ٣٢٤ ، صحيح مسلم في فضائل عليّ : ٣٢٤ ، المستدرك للحاكم : ٣ / ١٠٩ ، مسند ابن ماجه : ١ / ٢٨ ، مسند أحمد : ١ / ١٧٥ و ١٧٧ و ١٧٩ و ١٨٢ و ٣٣١ و ٣٦٩ ، كنز العمّال : ٦ / ١٥٢ ح ٢٥٠٤ ، خصائص النّسائي : ١٧ ، الإصابة : ٤ / ٥٦٨ ، ذخائر العقبى : ٨٨ ، الجامع لأحكام القرآن للقرطبي : ١٨ / ٢٨٧ ، شواهد التّنزيل : ١ / ١٦٢ ، الإعتقاد للبيهقي : ٢٠٤ ، اسد الغابة : ٢ / ١٢ ، تأريخ اليعقوبي : ٢ / ١٠٢ ، مجمع الزّوائد : ٩ / ١٦٤ ، تأريخ دمشق : ٢ / ٤٥ ح ٥٤٥ ، المسامرة في شرح المسايرة : ٢٨٢ ، الإبانة عن أصول الدّيانة : ١٨٧ الطّبعة الأولى دمشق ١٩٨١.

أمّا أحاديث الولاية من السّنّة فلا يبلغها الإحصاء ، منها الحديث المتواتر عند جميع المسلمين ، وهو «من كنت مولاه فعليّ مولاة». تقدّمت تخريجاته.

٣٥٢

والميثاق ؛ (وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ) (١).

أمّا مطالبتها بفدك فقد كانت وسيلة لهذه الغاية ، وإلّا فما لفاطمة بنت محمّد وفدك ، وغير فدك ... إنّ الدّنيا بكاملها ليست من آل محمّد في شيء ، ولا هم منها في شيء ... هذا ، إلى أنّها كانت على علم من موقف الخليفة قبل أن تخاصمه ، وتحتجّ عليه ، فقد أخبرها أبوها بكلّ ما يجري عليها وعلى بعلها ، وأولادها من بعده ، وصرّحت هي بمعرفتها هذه في آخر الخطبة بقولها : «وقد قلت ما قلت على معرفة منّي بالخذلة الّتي خامرتكم والغدرة الّتي استشعرتها قلوبكم» (٢).

أنّها لا تريد فدكا ... وإنّما تريد أن ترسي أساس حقّ عليّ في الخلافة ، وتعلن للأجيال أنّ هذا الحقّ ركن من أركان الإسلام ، ودعامة من دعائمه ، ولا يهمها بعد هذا أن يصل بعلها إلى الخلافة أو لا يصل ، وإنّما المهم أن يعرف هذا الحقّ ، ويؤمن به كلّ من آمن بالله ونبّوّة محمّد ... وقد طعن معاوية على الإمام بأنّه أجبر على مبايعة من سبقه ، فأجابه : «ما على المسلم من غضاضة في أن يكون مظلوما ما لم يكن شاكّا في دينه» (٣).

أنّ الّذي لا يكترث بالأقاليم السّبعة ، تحت أفلاكها ، ويستهين بالحياة ، ويرى الشّهادة الفوز الأكبر ، لا يهتم بهذه الخلافة ، ومن تقمصّها ... وطبيعي أن لا يهتم

__________________

(١) البقرة : ٢٧ ، الرّعد : ٢٥.

(٢) انظر ، بلاغات النّساء لابن طيفور : ١٢ ـ ١٩ ، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : ١٦ / ٢١٣ ، جواهر المطالب في مناقب عليّ بن أبي طالب لابن الدّمشقي : ١ / ١٦٠ ، شرح الأخبار : ٣ / ٣٦ ، السّقيفة وفدك للجوهري : ١٠٢ ، كشف الغمّة : ٢ / ١١٤ ، أعلام النّساء : ٣ / ١٢٠٨ ، مناقب آل أبي طالب : ٢ / ٥٠.

(٣) انظر ، نهج البلاغة : الرّسالة (٢٨).

٣٥٣

عليّ بالخلافة الّتي يتنافس عليها ابناء الدّنيا ما دام الحقّ يدور معه كيفما دار ... أنّ عليّا خليفة على كلّ حال ، لأنّ خلافته إلهية ، تماما كنبوّة محمّد لا يمكن أن يتولاها غيره ، أو ينتزعها أحد منه. وإذا جهل ، أو تجاهل هذه الحقيقة ، الّذي انقلب على عقبيه بعد نبيّه ، فقد وعدها وآمن بها الّذين ثبّتهم الله على الإيمان بإتّباع الرّسول وأهل بيته.

خطبت الزّهراء خطبتين : الأولى في المسجد الجامع ـ كما قدّمنا ـ والثّانية في نساء الأصحاب ، وقد جاء في هذه الخطبة :

«أصبحت والله عائفة لدنيا كنّ ، قالية لرجالكنّ ... (لَبِئْسَ ما قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذابِ هُمْ خالِدُونَ) (١) ... فجدعا ، وعقرا ، وبعدا للقوم الظّالمين .. وما الّذي نقموا من أبي الحسن؟. نقموا والله نكير سيفه ، وقلة مبالاته بحتفه ، وشدّة وطأته ، وتنمره في ذات الله عزوجل ، وتالله لو مالوا عن المحجّة اللأئحة ، وزالوا عن قبول الحجّة الواضحة لردّهم إليها» (٢).

وتكلّمت ابنتها زينب بعد يوم كربلاء في ثلاثة مواقف :

الأوّل : حين دخلت السّبايا الكوفة ، واستقبلها الكوفيون والكوفيّات بالبكاء والعويل ، فارتجلت خطبة ، جاء فيها :

__________________

(١) المائدة : ٨٠.

(٢) انظر ، بلاغات النّساء لابن طيفور : ٢٠ ، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : ١٦ / ٢٣٣ ، جواهر المطالب في مناقب عليّ بن أبي طالب لابن الدّمشقي : ١ / ١٦٦ ، شرح الأخبار : ٣ / ٣٦ ، السّقيفة وفدك للجوهري : ١٢٠ ، كشف الغمّة : ٢ / ١١٥ ، أعلام النّساء : ٣ / ١٢٠٨ ، مناقب آل أبي طالب : ٢ / ٥٠ ، معاني الأخبار : ٣٥٥ ، أمالي الطّوسي : ٣٧٥ ، الإحتجاج للطّبرسي : ١ / ١٤٧ ، النّزاغ والتّخاصم : ١٠٠.

٣٥٤

«أمّا بعد : يا أهل الكوفة ، أتبكون؟ فلا سكنت العبرة ، ولا هدأت الرّنّة ، إنّما مثلكم مثل الّتي نقضت غزلها من بعد قوّة انكاثا ، تتخذون أيمانكم دخلا بينكم ، ألا ساء ما تزرون.

«أي والله ، فابكوا كثيرا ، واضحكوا قليلا ، فلقد ذهبتم بعارها وشنارها ، فلن ترحضوها بغسل أبدا وكيف ترحضون قتل سبط خاتم النّبوّة ، ومعدن الرّسالة ومدار حجتكم ، ومنار محجتكم ، وهو سيّد شباب أهل الجنّة ....؟.

لقد أتيتم بها خرقاء شوهاء. أتعجبون لو أمطرت دما.؟.

ألا ساء ما سوّلت لكم أنفسكم أن سخط الله عليكم ، وفي العذاب أنتم خالدون.

أتدرون أي كبد فريتم؟ وأي دم سفكتم؟ وأي كريمة أبرزتم؟ لقد جئتم شيئا إدّا ، تكاد السّموات يتفطرن منه وتنشق الأرض ، وتخر الجبال هدّا» (١).

ومن تأمّل خطبتها هذه ، وخطبة أمّها تلك يبدو له لأوّل نظرة وجه الشّبه بين الخطبتين ، وأنّهما تصدران من معدن واحد ، وترميان إلى هدف واحد ، وهو بثّ الدّعوة لأهل البيت ، ونشر فضائلهم ومحاسنهم ، ومثالب غيرهم ومساوئهم .. وإفهام النّاس جميعا أنّ الإسلام في حقيقته لا يقوم على التّلفظ بالشّهادة ، وتأدية الفرائض المكتوبة ، وكفى ، بل لا بدّ ـ أوّلا وقبل كلّ شيء ـ من التّصديق بكلّ ما جاء به محمّد ، وممّا جاء به وجوب التّمسك بالكتاب والعترة «بنصّ حديث الثّقلين الّذي رواه مسلم وأحمد» (٢) ، ولكن المسلمين بعد نبيّهم نبذوا الكتاب ،

__________________

(١) انظر ، اللهوف في قتلى الطّفوف : ٨٧ ، مثير الأحزان : ٦٧ ، الإحتجاج : ٢ / ٩٦.

(٢) انظر ، صحيح مسلم : ٤ / فضائل عليّ ح ٣٦ و ٣٧ و : ٧ / ١٢٠ ، مسند أحمد : ١ / ١٧٠ و ١٧٣ ـ

٣٥٥

وأضاعوا العترة ... ويقول الشّيخ المظفر : «ولا أدري متى تمسكت الأمّة بالعترة؟ .. أفي زمن أمير المؤمنين ، أو في زمن أبنائه الطّاهرين؟ ... بل جعلوا عداوتهم وسبّهم دينا ، وحاربوهم بالبصرة ، والشّام ، والكوفة ، وسبوا نساءهم سبي التّرك والدّيلم» (١).

ولا احسبني بحاجة إلى التّنبيه أنّ زينب حين تخاطب أهل الكوفة ، وتقول : «أتدرون أي كبد فريتم؟ وأي دم سفكتم؟ وأي كريمة أبرزتم؟ إنّما تعني من ظلم أهل البيت ، ورضي بظلمهم ، وشايع وتابع عليه.

الموقف الثّاني للسّيّدة زينب : حين دخلت مجلس ابن زياد ، وقال لها :

الحمد لله الّذي فضحكم ...

فقال : «الحمد لله الّذي أكرمنا بنّبيه محمّد ، وطهرنا من الرّجس تطهيرا ، إنّما يفتضح الفاسق ، ويكذّب الفاجر ، وهو غيرنا والحمد لله» (٢)؟!.

أجل ، يا ابنة أمير المؤمنين ، وسيّد الوصيّين أنّكم النّور الّذي انبثق من ذات. الله ، ومستودع سرّه وإمانته ، والطّهر الّذي انبعث من رسول الله ، ووارثو علمه وخلقه ، ومجده وشرفه ، وحكمه وسلطانه.

ثمّ قال ابن زياد : كيف رأيت فعل الله بأهل بيتك؟.

قالت : ما رأيت إلّا جميلا ، هؤلاء قوم كتب الله عليهم القتل ، فبرزوا إلى مضاجعهم ، وسيجمع الله بينك وبينهم ، فتحاج وتخاصم ، فانظر لمن الفلج يومئذ ،

__________________

ـ و ١٧٥ و ١٧٧ و ١٧٩ و ١٨٢ و ١٨٤ و ١٨٥ و ٣٣٠ ، و : ٣ / ٣٢ و ٣٣٨ ، و : ٦ / ٣٦٩ و ٤٣٨.

(١) انظر ، دلائل الصّدق ، الشّيخ المظفر : ج ٣. (منه قدس‌سره).

(٢) انظر ، الإرشاد : ٢ / ١١٥ ، إعلام الورى بأعلام الهدى : ١ / ٤٧١ ، ينابيع المودّة لذوي القربى : ٣ / ٨٧.

٣٥٦

ثكلتك أمّك يا ابن مرجانة» (١).

أسيرة تحتقر الحاكم الآسر وتزدريه ، ولا ترهب سلطانه وبطشه! ... أجل ، أنّها بنت عليّ لا تخشى الموت ، ومن لا يخشى الموت لا يخضع لشيء ، ولا يرهبه شيء.

وما أشبه قولها لابن زياد : «فانظر لمن الفلج يومئذ .. ثكلتك أمّك يا ابن مرجانة». يقول أمّها للخليفة الأوّل : «أفي كتاب الله أن ترث أباك ولا أرث أبي ، لقد جئت شيئا فريّا!!؟؟ ثمّ انصرفت عنه (٢).؟ ..

أجل ، أنّ كلّا منهما ـ المعني بخطاب الزّهراء ، والمعني بخطاب زينب ـ قد ترك الكتاب ، ونبذه وراء ظهره عن عمد ، ولم يختلفا في شيء إلّا في الأسلوب والمظهر ...

الموقف الثّالث : حين دخلت مجلس يزيد ، وسمعته يتمثل بأبيات من قال :

ليت أشياخي ببدر لو رأوا

مصرع الخزرج من وقع الأثل

لأهلوّا واستهلوا فرحا

ثمّ قالوا يا يزيد لا تسل

فقالت السّيّدة :

(الحمد لله رب العالمين ، والصّلاة على جدّي سيّد المرسلين ، صدق الله سبحانه كذلك يقول : (ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤُا السُّواى أَنْ كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ وَكانُوا بِها يَسْتَهْزِؤُنَ) (٣) ، أظننت يا يزيد حين أخذت علينا أقطار الأرض ،

__________________

(١) انظر ، مثير الأحزان : ٧١ ، اللهوف في قتلى الطّفوف : ٩٤.

(٢) تقدّمت تخريجاته.

(٣) الرّوم : ١٠.

٣٥٧

وضيّقت علينا آفاق السّماء ، فأصبحنا لك في آسار ، نساق إليك سوقا في أقطار ، وأنت علينا ذو اقتدار إنّ بنا من الله هوانا وعليك منه كرامة ، وامتنانا ، وإنّ ذلك لعظم خطرك ، وجلالة قدرك ، فشمخت بأنفك ، ونظرت في عطفك ، تضرب اصدريك فرحا ، وتنقض مذرويك مرحا ، حين رأيت الدّنيا لك مستوسقة ، والأمور لديك متّسقة ، وحين صفا لك ملكنا ، وخلص لك سلطاننا ، فمهلا مهلا لا تطش جهلا أنسيت قول الله عزوجل : (ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤُا السُّواى أَنْ كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ وَكانُوا بِها يَسْتَهْزِؤُنَ) (١). أمن العدل يابن الطّلقاء؟! تخديرك حرائرك وآمائك ، وسوقك بنات رسول الله سبايا ، قد هتكت ستورهنّ ، وأبديت وجوههنّ ، تحدوا بهنّ الأعداء من بلد إلى بلد ، وتستشرفهنّ المناقل ، ويتبرزنّ لأهل المناهل ، ويتصفّح وجوههنّ القريب والبعيد ، والغائب والشّهيد ، والشّريف والوضيع ، والدّني والرّفيع ليس معهنّ من رجالهنّ ولي ، ولا من حماتهنّ حمي ، عتوا منك على الله ، وجحودا لرسول الله ، ودفعا لما جاء به من عند الله ، ولا غرو منك ، ولا عجب من نظر في عطفه فعلك ، وأنّى يرتجى مراقبة من لفظ فوه أكباد الشّهداء ، ونبت لحمه بدماء السّعداء ، ونصب الحرب لسّيّد الأنبياء ، وجمع الأحزاب ، وشهر الحراب ، وهزّ السّيوف في وجه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أشد العرب جحودا ، وأنكرهم له رسولا ، وأظهرهم له عدوانا ، وأعتاهم على الرّب كفرا وطغيانا .... اللهمّ خذّ بحقنا ، وانتقم من ظالمنا ، واحلل غضبك على من سفك دمائنا ، ونقض ذمارنا ، وقتل حماتنا ... (وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ

__________________

(١) آل عمران : ١٧٨.

٣٥٨

خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ) (١) ، وحسبك بالله وليّا وحاكما ، وبرسول الله خصما ، وبجبرئيل ظهيرا ، وسيعلم من بوّأك ومكّنك من رقاب المسلمين .... فكد كيدك ، واسع سعيك ، وناصب جهدك ، فو الله لا تمحو ذكرنا ، ولا تمّيت وحينا ، ولا يدحض عنك عارها ، وهل رأيك إلّا فند ، وأيّامك إلّا عدد ، وجمعك إلّا بدد) (٢).

ثمّ تقول غير متألّم ولا مستعظم :

لأهلوّا واستهلوا فرحا

ثمّ قالوا يا يزيد لا تسل

منحنيا على ثنايا أبي عبد الله سيّد شباب أهل الجنّة ، تنكثها بمخصرتك؟ .. وكيف لا تقول ذلك؟ .. وقد نكأت القرحة ، واستأصلت الشّأفة بإراقتك دماء ذرّيّة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ونجوم الأرض من آل عبد المطّلب ، وتهتف بأشياخك ...

زعمت أنّك تناديهم ، فلتردن وشيكا موردهم ، ولتردن أنّك شللّت وبكمت ، ولم تكن قلت ما قلت ، وفعلت ما فعلت ، أللهمّ خذّ لنا بحقّنا ، وانتقم ممّن ظلمنا ، واحلل غضبك بمن سفك دماءنا ، وقتل حماتنا ، فو الله ما فريت إلّا جلدك ، ولا حززت إلّا لحمك». ويأخذ بحبّهم : (وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ) (٣).

وحسبك بالله حاكما ، وبمحمّد خصيما ، وبجبريل ظهيرا ، وسيعلم من سوّل

__________________

(١) آل عمران : ١٦٩ ـ ١٧٠.

(٢) انظر ، أخبار الزّينبيّات : ٨٦ ، بلاغات النّساء : ٢١ ، الحدائق الوردية : ١ / ١٢٩ ، الإحتجاج : ٢ / ٣٧ ، أعلام النّساء : ٢ / ٥٠٤ ، مقتل الحسين للخوارزمي : ٢ / ٦٤ ، اللهوف في قتلى الطّفوف : ٧٩ ، العوالم : ٢٠٥ ، بحار الأنوار : ٤٥ / ١٦٠.

(٣) آل عمران : ١٦٩.

٣٥٩

لك ، ومكّنك من رقاب المسلمين بئس للظّالمين بدلا وأيّكم شرّ مكانا ، وأضعف جندا.

ولئن جرّت عليّ الدّواهي مخاطبتك ، إنّي لأستصغر قدرك ، وأستعظم تقريعك ، وأستكثر توبيخك ، ولكن العيون عبرى ، والصّدور حرّى ... ألا فالعجب كلّ العجب لقتل حزب الله النّجباء بحزب الشّيطان الطّلقاء! .... فهذه الأيدي تنطف من دمائنا ، والأفواه تنحلب من لحومنا ، وتلك الجثث الطّواهر الزّواكي تنتابها العواسل ، وتعفّرها أمّهات الفراعل.

ولئن اتّخذتنا مغنما لتجدنا وشيكا مغرما حين لا تجد إلّا ما قدّمت يداك ، وما ربّك بظلّام للعبيد ، وإلى الله المشتكى ، وعليه المعوّل.

فكد كيدك ، واسع سعيك ، وناصب جهدك ، فو الله لا تمحو ذكرنا ، ولا تميّت وحينا ، ولا يدحض عنك عارها ، وهل رأيك إلّا فند ، وأيّامك إلّا عدد ، وجمعك إلّا بدد. يوم ينادي المنادي ألا لعنة الله على الظّالمين.

والحمد لله ربّ العالمين الّذي ختم لأولنا بالسّعادة والمغفرة ، ولآخرنا بالشّهادة والرّحمة ، ونسأل الله أن يكمل لهم الثّواب ، ويوجب لهم المزيد. ويحسن علينا الخلافة. أنّه رحيم ودود. وحسبنا الله ونعم الوكيل» (١).

وادع تحليل هذه الكلمات ، وبيان ما فيها من كنوز وأسرار ، لأنّي أخشى أن لا اعطيها قيمتها الحقيقة ، ومعناها الصّحيح ، واحاول أن أرسم ما استشعرته ، وأنا أتأمل ، وانعم الفكر في مدلول هذه الكلمات والنّبرات الّتي هي أمضى من

__________________

(١) انظر ، أخبار الزّينبيّات : ٨٦ ، بلاغات النّساء : ٢١ ، الحدائق الوردية : ١ / ١٢٩ ، الإحتجاج : ٢ / ٣٧ ، أعلام النّساء : ٢ / ٥٠٤ ، مقتل الحسين للخوارزمي : ٢ / ٦٤ ، اللهوف في قتلى الطّفوف : ٧٩ ، العوالم : ٢٠٥ ، بحار الأنوار : ٤٥ / ١٦٠.

٣٦٠