الحسين عليه السلام وبطلة كربلاء

محمّد جواد مغنية

الحسين عليه السلام وبطلة كربلاء

المؤلف:

محمّد جواد مغنية


المحقق: سامي الغريري
الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: دار الكتاب الإسلامي
المطبعة: مطبعة ستار
الطبعة: ١
ISBN: 964-465-169-3
الصفحات: ٥٢٨

المصائب والأحزان

شاءت الأقدار أن تلقي بالسّيّدة الحوراء في أحضان المصائب والأحزان منذ الطّفّ ولة إلى آخر يوم في حياتها ... فمن يقف على سيرتها يجد سلسلة من حلقات متّصلة من الآلآم منذ البداية ، حتّى النّهاية.

وأي إنسان خلت أو تخلو حياته من الهموم والأكدار ، حتّى أصحاب السّلطان ، والجاه ، والثّراء لا منجاة لهم من ضربات الزّمان ، وطواريء الحدثان ... وقديما قيل على لسان الإمام عليّ : «الدّهر يومان : يوم لك ، ويوم عليك ؛ فإذا كان لك فلا تبطر ، وإذا كان عليك فاصبر!» (١). ومن الّذي حقّق جميع رغباته ، ولم يفقد قريبا من أقربائه ، وعزيزا من أعزائه.

ولكن من غير المألوف والمعروف أن يعيش «إنسان» في خضّم من المحن والأرزاء ، كما عاشت السّيّدة زينب الّتي إنهالت عليها الشّدائد من كلّ جانب الواحدة تلو الأخرى ، حتّى سميّت أمّ المصائب ، وأصبحت هذه الكنية علما خاصّا بها.

فقد شاهدت وفاة جدّها رسول الله ، وتأثيرها على المسلمين بعامّة ، وعلى أمّها وأبيها ، وأهل بيتها بخاصّة ، قال أمير المؤمنين : «نزل بي من وفاة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ما

__________________

(١) انظر ، نهج البلاغة : الحكمة «٣٩٤».

٣٢١

لم أكن أظن الجبال لو حملته عنوة كانت تنهض به ... ورأيت النّاس من أهل بيتي ما بين جازع لا يملك جزعه ، ولا يضبط نفسه ، ولا يقوى على حمل فادح نزل به ، قد أذهب الجزع صبره ، وأذهل عقله ، وحال بينه وبين الفهم والإفهام ، والقول ، والأسماع» (١).

وطبيعي أن يصيب أهل البيت هذا ، وأكثر منه ، فأنّ تأثير المصاب بالفقيد ، أي فقيد يقاس بقدره وقيمته ...

وكفى الرّسول عظمة أن يقترن اسمه باسم الله ، ولا يقبل الإيمان والإعتراف بالله الواحد الأحد إلّا مع الإعتراف والإيمان برسول الله محمّد ...

هذا ، إلى أنّ النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله كان قد حدث أهل بيته بكلّ ما يجري عليهم من بعده ، وكرّره أكثر من مرّة على مسامعهم تصريحا وتلويحا ، حتّى ساعة الوفاة كان ينظر إلى وجوههم ويبكي ، ولمّا سئل قال : «أبكي لذّرّيتي ، وما تصنع بهم شرار أمّتي من بعدي»(٢).

شاهدت زينب وفاة جدّها الرّسول ، وما تركه من آثار ، وشاهدت محنة أمّها الزّهراء ، وندبها لأبيها في بيت الأحزان ، ودخول من دخل إلى خدرها ، وانتهاك حرمتها ، واغتصاب حقّها ، ومنع إرثها ، وكسر جنبها ، وإسقاط جنينها ، وسمعتها ، وهي تنادي فلا تجاب ، وتستغيث فلا تغاث ... وكلّنا يعلم علاقة البنت بالأمّ ، وتطلعها إليها ، وتأثرها بها تلقائيّا وبدون شعور.

__________________

(١) انظر ، مناقب آل أبي طالب : ١ / ٢٣٣ ، الخصال للشّيخ الصّدوق : ٣٧١ ، شرح الأخبار : ١ / ٣٤٦ ، الإختصاص للشّيخ المفيد : ١٧٠.

(٢) انظر ، أمالي الشّيخ الطّوسي : ١٨٨ ح ١٨.

٣٢٢

وشاهدت قتل أبيها أمير المؤمنين ، وأثر الضّربة في رأسه ، وسريان السّم في جسده الشّريف ، ودموعه الطّاهرة الزّكية تفيض على خدّيه ، وهو يقلب طرفه بالنّظر إليها ، وإلى أخويها الحسنين.

وشاهدت أخاها الحسن أصفر اللّون يجود بنفسه ، ويلفظ كبده قطعا من أثر السّم (١) ، ورأت عائشة تمنع من دفنه مع جدّه ، وتركب بغلة ، وتصيح ، والله لا يدفن الحسن هنا أبدا (٢).

__________________

(١) روي أنّه لمّا وضع الطّشت بين يدي الحسن ، وهو يقذف كبده سمع أنّ أخته زينب تريد الدّخول عليه أمر برفع الطّشت إشفاقا عليها. (منه قدس‌سره). الرّواية على تقدير صحّتها نصّت على أنّ السّمّ أثر في كبده حتّى قاء بعضا منه ، وهذا ممّا يرفضه الطّبّ الحديث بل يقول : إنّ السّمّ يحدث إلتهابا في المعدة وبالتالي يؤدّي إلى هبوط في ضغط الدّم ويؤدّي إلى إلتهاب الكبد ، والكبد هو الجهاز الخاصّ في الجانب الأيمن الّذي يقوم بإفراز الصّفراء كما جاء في القاموس : ١ / ٣٣٢ ، تاج العروس : ٢ / ٤٨١ ، ويسمّى الجوف بكامله كبدا ، وهنا تكون الرّواية غير منافية للطّبّ حيث إنّه ألقى من جوفه قطعا من الدّم المتخثّر ، والّتي تشبه الكبد.

(٢) انظر ، الإصابة : ١ / ٣٣٠ ، تأريخ دمشق : ٨ / ٢٢٨ ، البداية والنّهاية : ٨ / ٤٤ ، الإستيعاب : ١ / ٣٨٩ ، العقد الفريد : ٣ / ١٢٨ ، مروج الذّهب : ٢ / ٥١ ، رحلة ابن بطّوطزة : ٧٦ ، عيون الأخبار : ٢ / ٣١٤ ، الإمام الحسن بن عليّ للملطاوي : ٧٢ ، دلائل الإمامة : ٦١ ، المقاتل : ٧٤ ، شرح النّهج لابن أبي الحديد : ١٦ / ٤٩ ـ ٥١ ، كفاية الطّالب : ٢٦٨ ، الكامل في التّأريخ : ٣ / ١٩٧.

الفتنة الكبرى :

اتّجهت مواكب التّشيّيع نحو المرقد النّبوي لتجدّد العهد بجدّه صلى‌الله‌عليه‌وآله لكن لمّا علم الأمويون ذلك تجمّعوا وانضمّ بعضهم إلى بعض بدافع الأنانيّة والحقد والعداء للهاشميّين إلى إحداث شغب ومعارضة لدفن الإمام بجوار جدّه لأنّهم رأوا أنّ عميدهم عثمان دفن في حش كوكب ـ مقبرة اليهود ـ فكيف يدفن الحسن عليه‌السلام مع جدّه فيكون ذلك عارا عليهم وخزيا فأخذوا يهتفون بلسان الجاهليّة الحمقاء : يا ربّ هيجاء ، هي خير من دعة ، أيدفن عثمان بأقصى المدينة ويدفن الحسن عند جدّه؟

وانعطف مروان بن الحكم وسعيد بن العاص نحو عائشة وهما يستفزّانها ويستنجدان بها لمناصرتهم ـ

٣٢٣

أمّا ما شاهدته في كربلاء ، وحين مسراها إلى الكوفة ، والشّام مع العليل ، والنّساء ، والأطفال فيفوق الوصف ، وقد وضعت فيه كتب مستقلّة.

هكذا كانت حياة السّيّدة ، وبيئتها من يومها الأوّل إلى آخر يوم ، حياة مشبّعة بالأحزان ، متخمة بالآلام لا تجد منها مفرّا ، ولا لها مخرجا.

وبعد هذه الإشارة نقف قليلا لنرى كيف قابلت السّيّدة هذه الصّدمة والأحداث الجسام : هل أصابها ما يصيب النّساء في مثل هذه الحال من الإضطراب

__________________

ـ بذلك وهما يعرفان دخيلة عائشة وما تنطوي عليها نفسها بما تكنّه من الغيرة والحسد لولد فاطمة عليها‌السلام قائلين لها : يا أمّ المؤمنين ، إنّ الحسين يريد أن يدفن أخاه الحسن مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله والله لئن دفن الحسن بجوار جدّه ليذهبنّ فخر أبيك ، وصاحبه عمر إلى يوم القيامة. فألهبت هذه الكلمات نار الثّورة في نفسها فاندفعت بغير اختيار لمناصرتهما راكبة على بغل وهي تقول : مالي ولكم تريدون أن تدخلوا بيتى من لا أحبّ؟! وكادت أن تقع الفتنة بين بني هاشم وبني أميّة ، فبادر ابن عبّاس إلى مروان فقال له : ارجع يا مروان من حيث جئت ، فإنّا ما نريد أن ندفن صاحبنا عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بل نريد أن نجدّد العهد به ، ثمّ نردّه إلى جدّته فاطمة بنت أسد فندفنه عندها لوصيته بذلك ، ولو كان وصّى بدفنه مع النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله لعلمت أنّك أقصر باعا من ردّنا عن ذلك ، لكنّه عليه‌السلام كان أعلم بالله ورسوله وبحرمة قبره من أن يطرق عليه هدما كما طرق ذلك غيره ، ودخل بيته بغير إذنه. ثمّ أقبل على عائشة فقال لها : وا سوأتاه! يوما على بغل ويوما على جمل ... وفي رواية قال ابن عبّاس : يوما تجمّلت ويوما تبغّلت ، وإن عشت تفيّلت ... فأخذه ابن الحجّاج الشّاعر البغدادي فقال :

يا بنت أبي بكر

لا كان ولا كنت

لك التّسع من الثّمن

وبالكلّ تملّكت

تجمّلت تبغّلت

وإن عشت تفيّلت

هذا الخبر رواه الفريقان من أهل السّنّة والشّيعة بتغيّر ببعض عباراته كلّ بحسب مذهبه.

انظر ، مقاتل الطّالبيّين : ٨٢ ، شرح النّهج لابن أبي الحديد : ٤ / ١٨ ، و : ١٦ / ٤٩ ـ ٥١ ، تذكرة الخواصّ : ٢٢٣ ، تأريخ اليعقوبي : ١ / ٢٠٠ ، تأريخ أبي الفداء : ١ / ١٩٢ ، العقد الفريد : ٣ / ١٢٨ ، أنساب الأشراف : ١ / ٤٠٤ ، الطّبقات الكبرى : ٨ / ٥٠ ، كتاب عائشة والسّياسة : ٢١٨ ، الإستيعاب : ١ / ٣٧٤ ، كفاية الطّالب : ٢٦٨ ، الفتوح لابن أعثم : ٢ / ٣٢٣ هامش رقم «٣».

٣٢٤

واختلال الأعصاب؟ ... هل هيمنت عليها العاطفة العمياء الّتي لا يبقى معها أثر لعقل ولا دين؟ ... وبالتّالي ، هل خرجت عن حدود الإتزان والإحتشام؟ ... حاشا بنت النّبيّ ، وفاطمة ، وعليّ ، وأخت الحسنين ، وحفيدة أبي طالب أن تنهزم أمام النّكبات ، وتستسلم للضّربات ... حاشا النّفس الكبيرة أن تتمكن منها العواطف ، أو تزعزعها العواصف ... فلقد تحولت تلك المحن ، والمصائب بكاملها إلى عقل ، وصبر ، وثقة بالله ، وكشفت كلّ نازلة نزلت بها عن معنى من أسمى معاني الكمال ، والجلال ، وعن سرّ من أسرار الإيمان النّبويّ المحمّديّ ، أنّ اعتصامها بالله ، وإيمانها به تماما كإيمان جدّها رسول الله.

وليس في قولي هذا أيّة شائبة من المغالاة ما دمت أقصد الإيمان الصّحيح الكامل الّذي لا ينحرف بصاحبه عن طاعة الله ومرضاته مهما تكن الدّوافع والملابسات ... وأي شيء أدل على هذه الحقيقة من قيامها بين يدي الله للصّلاة ليلة الحادي عشر من المحرّم ، ورجالها بلا رءوس على وجه الأرض تسفي عليهم الرّياح ، ومن حولها النّساء ، والأطفال في صياح وبكاء ، ودهشة وذهول ، وجيش العدو يحيط بها من كلّ جانب ... أنّ صلاتها في مثل هذه السّاعة تماما كصلاة جدّها رسول الله في المسجد الحرام ، والمشركون من حوله يرشقونه بالحجارة ، ويطرحون عليه رحم شاة ، وهو ساجد لله عزّ وعلا ، وكصلاة أبيها أمير المؤمنين في قلب المعركة بصفّين ، وصلاة أخيها سيّد الشّهداء يوم العاشر ، والسّهام تنهال عليه كالسّيل.

ولا تأخذك الدّهشة ـ أيّها القاريء ـ إذا قلت : أنّ صلاة السّيّدة زينب ليلة الحادي عشر من المحرّم كانت شكرا لله على ما أنعم ، ، وأنّها كانت تنظر إلى تلك

٣٢٥

الأحداث على أنّها نعمة خصّ الله بها أهل بيت النّبوّة من دون النّاس أجمعين ، وأنّه لولاها لما كانت لهم هذه المنازل والمراتب عند الله والنّاس ... ولا يشك مؤمن عارف بأنّ أهل البيت لو سألوا الله سبحانه دفع الظّلم عنهم ، وألحوا عليه في هلاك الظّالمين لأجابهم إلى ما سألوا ، كما لا يشك مسلم بأنّ رسول الله لو دعا على مشركي قريش لإستجاب دعاءه(١) ... ولكنّهم لو دعوا واستجاب لم تكن لهم هذه الكرامة الّتي نالوها بالرّضا والجهاد ، والقتل والإستشهاد ، وفي هذا نجد تفسير قول الحسين : «رضا الله رضانا أهل البيت نصبر على بلائه ويوفينا أجور الصّابرين ، لن تشذّ عن رسول الله لحمته بل هي مجموعة له في حظيرة القدس تقرّ بهم عينه ، وينجز بهم وعده ، من كان باذلا فينا مهجته ، وموطّنا على لقاء الله نفسه فليرحل معنا فإنّني راحل ، مصبحا إنّ شاء الله تعالى» (٢). وقول أبيه أمير المؤمنين ، وهو يجيب عن هذا السّؤال : فقال لي : «فكيف صبرك إذا»! فقلت : يا رسول الله ، ليس هذا من مواطن الصّبر ، ولكن من مواطن البشرى والشّكر.

__________________

(١) حين لقي المسلمون من المشركين شدّة شدّيدة قالوا لرسول الله : ألا تدعو الله : ألا تدعو الله لنا؟. قال : أنّ من كان قبلكم ليمشط أحدهم بأمشاط الحديد ما دون عظمه من لحم أو عصب ما يصرفه ذلك عن دينه ، ويوضع المنشار على مفرق رأسه فيشق بإثنين ما يصرفه ذلك عن دينه ، وليتمنّ الله هذا الأمر ، حتّى ليسير الرّاكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلّا الله». وهكذا تمّ أمر أهل البيت لا يخاف مواليهم إلّا الله ، والحمد الله. (منه قدس‌سره).

انظر ، صحيح البخاري : ٣ / ١٣٢٢ ح ٣٤١٦ و : ٦ / ٢٥٤٦ ح ٦٥٤٤ ، صحيح ابن حبّان : ٧ / ١٥٦ ح ٢٦٩٧ ، سنن البيهقي الكبرى : ٩ / ٥ ح ٢٧٤٩٨ ، السّنن الكبرى : ٣ / ٤٥٠ ح ٥٨٩٣ ، مسند البزّار : ٦ / ٦٧ ح ٢١٢٧ ، مسند أحمد : ٥ / ١٠٨ ح ٢١٠٩٥ و ٢١١٠٧ و ٢٧٢٦٠ ، مسند أبي يعلى : ١٣ / ١٧٤ ح ٧٢١٣ ، المعجم الكبير : ٤ / ٦٢ ح ٣٦٣٨.

(٢) تقدّمت تخريجاته.

٣٢٦

وقال : «يا عليّ ، إنّ القوم سيفتنون بأموالهم ، ويمنّون بدينهم على ربّهم ، ويتمنّون رحمته ، ويأمنون سطوته ، ويستحلّون حرامه بالشّبهات الكاذبة ، والأهواء السّاهية ، فيستحلّون الخمر بالنّبيذ ، والسّحت بالهديّة ، والرّبا بالبيع».

قلت : يا رسول الله ، فبأيّ المنازل أنزلهم عند ذلك؟ أبمنزلة ردّة ، أم بمنزلة فتنة؟ فقال : «بمنزلة فتنة» (١).

وزينب هي بنت أمير المؤمنين لا تعدوه في إيمانها ، ولا في نظرها إلى طريق الخلود والكرامة ... ولذا لم تترك الصّلاة شكرا لله ، حتّى ليلة الحادي عشر من المحرّم ، وحين مسيرها مسبيّة إلى الكوفة والشّام ، وحمدت الله ، وهي أسيرة في مجلس يزيد على أن ختم الله للأوّل من أهل البيت بالسّعادة ، وللآخر بالشّهادة والرّحمة.

ومن الخير أن ننقل كلمة لأبيها أمير المؤمنين تتّصل بالموضوع وتلقي عليه ضوءا من أنوار الحكمة كالهداية ، قال :

«أنّ أشدّ النّاس بلاء النّبيّون ، ثمّ الوصيون ، ثمّ الأمثل فالأمثل ، وإنّما يبتلى المؤمن على قدر أعماله الحسنة ، فمن صحّ دينه ، وحسن عمله اشتدّ بلاؤه ، ذلك أنّ الله لم يجعل الدّنيا ثوابا لمؤمن ، ولا عقوبة لكافر ، ومن سخف دينه ضعف عمله ، وقلّ بلاؤه ، وأنّ البلاء أسرع إلى المؤمن التّقي من المطر إلى قرار الأرض» (٢).

__________________

(١) انظر ، نهج البلاغة : الخطبة «١٥٦».

(٢) انظر ، الكافي : ٢ / ٢٥٩ ح ٢٩ ، علل الشّرائع : ١ / ٤٤ ح ١ ، السّرائر لابن إدريس : ٣ / ١٤٣ ، وسائل الشّيعة : ٣ / ٢٦٢ ح ٨.

٣٢٧

وبعد ، فإنّ الأحداث الّتي مرّت بالسّيّدة زينب لفتت إليها الأنظار ، فتحدّث عنها المؤرّخون وأصحاب السّير في موسوعاتهم ، ومنهم من وضع في سيرتها كتبا مستقلة ، وأشاد الخطباء بفضلها وعظمتها من على المنابر ، ونظم الشّعراء القصائد في أحزانها وأشجانها ، وصبرها وثباتها ، ونذكر هنا ـ على سبيل المثال ـ هذه القطعة الدّامية لهاشم الكعبي :

وثواكل في النّوح تسعد مثلها

أرأيت ذا ثكل يكون سعيدا

ناحت فلم تر مثلهنّ نوائحا

إذ ليس مثل فقيدهنّ فقيدا

لا العيس تحكيها إذا حنّت ولا

الورقاء تحسن عندها ترديدا

أن تنع أعطت كلّ قلب حسرة

أو تدع صدّعت الجبال الميدا

عبراتها تحيي الثّرى لو لم تكن

زفراتها تدع الرّياض همودا

وغدت أسيرة خدرها ابنة فاطم

لم تلق غير أسيرها مصفودا

تدعو بلهفة ثاكل لعب الأسى

بفؤاده حتّى إنطوى مفؤودا

تخفي الشّجا جلدا فإن غلب الأسى

ضعف فأبدت شجوها المكمودا

نادت فقطّعت القلوب بشجوها

لكنّما إنتظم البيان فريدا

ماذا نسمّي هذه النّغمات الحزينة؟ ... أنسميها شعرا ، والشّعر يحتاج إلى أعمال الفكر ، وتخير المعاني والألفاظ ، والكعبي لم يفعل شيئا من ذلك ، وإنّما انعكست في نفسه آلآم آل الرّسول ، ثمّ فاضت بها من حيث لا يشعر ، تماما كما فاضت عيون الثّاكلات بالعبرات ... وكل شيعي صادق الولاء لآل نبيّه يعبر عن ولائه بالبكاء ، وإقامة العزاء لمّا أصابهم وحلّ بهم ، أو بشد الرّجال لزيارة قبورهم ومشاهدهم المقدّسة ، أو بالإحتجاج لحقّهم ، ومنافحة خصومهم ، أو بثورة

٣٢٨

شعريّة ، كما فعل السّيّد حيدر الحلّي (١) ..

أمّا أن تكون نفس المحبّ بالذات هي الأداة المعبّرة عن حبّه وولائه ، فهذا ما لا نعرفه إلّا من أفراد قلائل جدّا ، منهم هاشم الكعبي ، والشّريف الرّضي ... أنّ هذه القطعة ليست وصفا لندب الثّواكل وحنينها إلى سيّدها وكفيلها ، ولا تصويرا لأحزانها واشجانها ، وكفى ، ولا أخبار بالّذي أصاب آل محمّد ، كما قال بعض الشّعراء :

سبيت نساء محمّد وبناته

من بعد ما قتلت هناك رجاله

وإنّما هي قلب مضطرم قد استحال إلى كلمات تلهب القلوب والمشاعر ... فلقد هيمن الولاء على الكعبي ، وانتقل به من عالمه ودنياه إلى عالم الثّواكل في كربلاء ، فشعر بشعورهنّ ، وأحس بإحساسهنّ ، حتّى أصبح مثلهنّ ثاكلا يندب وينوح بعبرات تحيي الثّرى ، وزفرات تدع الرّياض هودا.

__________________

(١) شاعر مكثر ومجيد في رثاء الحسين ، وشعره كلّه أو جلّه ثورة ، وحماسة ، واستنهاض. (منه قدس‌سره).

٣٢٩
٣٣٠

نوايا يزيد

مات معاوية ، وتولى يزيد الأمر من بعده ، وأبى إلّا أن يأخذ لنفسه بيعة الحسين ... وقال الحسين كلمته الّتي لا يحول عنها ، ولا يزول ، مهما تكن العواقب : «ومثلي لا يبايع مثله» (١) ... وكانت المأساة الّتي لا يزال ولن يزال يجري دمها طريّا على وجه الأرض ، كما قال السّيّد العبيدي ... أنّ معاوية ليس بشيء من الإسلام ، ولا من الإنسانيّة في حساب الحسين ، فكيف بولده يزيد؟! ... وإقرأ معي هذا التّأنيب والتّوبيخ الّذي وجّهه الحسين لمعاوية بصوت عال جريء.

الحسين ومعاوية :

كتب مروان بن الحكم ، وهو عامله على المدينة :

أمّا بعد ، فإنّ عمرو بن عثمان ذكر أنّ رجالا من أهل العراق ، ووجوه أهل الحجاز يختلفون إلى الحسين بن عليّ ، وأنّه لا يؤمن وثوبه ، وقد بحثت عن ذلك ، فبلغني أنّه يريد الخلاف يومه هذا ، فاكتب إليّ برأيك.

__________________

(١) تقدّمت تخريجاته.

٣٣١

فكتب معاوية إلى الحسين :

أمّا بعد : فقد انتهت إليّ أمور عنك إن كانت حقّا فقد أظنّك تركتها رغبة فدعها ، ولعمر الله أنّ من أعطى الله عهده وميثاقه لجدير بالوفاء ، فإن كان الّذي بلغني باطلا فإنّك أنت أعزل النّاس لذلك ، وعظ نفسك ، فاذكر ، وبعهد الله أوف فإنّك متى ما تنكرني أنكرك ، ومتى ما تكدني أكدك ، فاتّق شقّ عصا هذه الأمّة وإن يردهم الله على يديك في فتنة ، فقد عرفت النّاس وبلوتهم ، فانظر لنفسك ولدينك ولأمّة محمّد ، ولا يستخفنك السّفهاء والّذين لا يعلمون.

يا لسخرية الأقدار ... الشّجرة الملعونة في القرآن تقول لمن طهّره الله تطهيرا ... انظر لدينك ولأمّة محمّد ... عدوّ الله والرّسول الّذي قال لأهل الكوفة : «يا أهل الكوفة! أترون أنّي قاتلتكم على الصّلاة ، والزّكاة ، والحجّ ، وقد علمت أنّكم تصلّون ، وتزكون ، وتحجون ، ولكنّي قاتلتكم لأئتمر عليكم ، وألي رقابكم ، وقد أتاني الله ذلك وأنتم كارهون. ألا إنّ كلّ دم أصيب في هذه مطلول ، وكلّ شرط شرطته فتحت قدمي هاتين» (١). يقول لربيب الوحي : أنظر لدينك ولأمّة محمّد؟ .. ولكنّ الحسين قد أبطل كيده ، وهدم كهفه ، وأرغم أنفه ، حيث أجابه : أمّا بعد : فقد بلغني كتابك تذكر فيه أنّه انتهت إليك عنّي أمور أنت عنها راغب وأنا بغيرها عندك جدير ، فإنّ الحسنات لا يهدى لها ولا يسدّد إليها إلّا الله تعالى.

وأمّا ما ذكرت أنّه رقيّ إليك عنّي ، فإنّه إنّما رقاه إليك الملاقون المشّاؤون

__________________

(١) انظر ، البداية والنّهاية : ٦ / ٢٤٦ ، تأريخ دمشق : ٥٢ / ٣٨٠ ، تأريخ ابن كثير : ٨ / ١٢١ ، الكامل في التّأريخ : ٦ / ٢٢٠ ، مقاتل الطّالبيين : ٧٠ ، شرح النّهج لابن أبي الحديد : ٤ / ١٦ و : ١٦ / ١٥ ، المعرفة والرّجال للبسوي : ٣ / ٣١٨ ، شرح الأخبار : ٢ / ١٥٧ ، مناقب آل أبي طالب : ٣ / ١٩٦ ، المصنّف لابن أبي شيبة الكوفي : ٧ / ٣٥١ ح ٢٣ ، تأريخ دمشق : ٥٢ / ٣٨٠ و : ٥٩ / ١٥٠ ، البداية والنّهاية : ٨ / ١٤٠.

٣٣٢

بالنّميمة ، المفرّقون بين الجمع ، وكذب الغاوون.

وما أردت إليك حربا ، ولا عليك خلافا ، وإنّي لأخشى الله في ترك ذلك منك ، ومن الأعذار فيه إليك وإلى أوليائك القاسطين حزب الظّلمة وأولياء الشّياطين.

ألست القاتل حجر بن عدي أخا كندة وأصحابه المصلّين العابدين الّذين كانوا ينكرون الظّلم ، ويستعظمون البدع ، ويأمرون بالمعروف ، وينهون عن المنكر ، ولا يخافون في الله لومة لائم ، ثمّ قتلتهم ظلما وعدوّانا ، من بعد ما أعطيتهم الأيمان المغلظة والمواثيق المؤكّدة ، لا تأخذهم بحدث كان بينك وبينهم ، جرأة منك على الله واستخفافا بعهده؟ ..

أولست قاتل عمرو بن الحمق الخزاعي صاحب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله العبد الصّالح الّذي أبلته العبادة ، فنحل جسمه ، واصفرّ لونه ، فقتلته بعد ما أمّنته ، وأعطيته ما لو فهمته العصم لنزلت من رؤوس الجبال؟ ..

أولست بمدّعي زياد بن سميّة المولود على فراش عبيد ثقيف ، فزعمت أنّه ابن أبيك ، وقد قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «الولد للفراش ، وللعاهر الحجر» (١) ، فتركت سنّة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله تعمدا ، وتبعت هواك بغير هدى من الله ، ثمّ سلّطته على أهل الإسلام يقتلهم ، ويقطع أيديهم وأرجلهم ، ويسمّل أعينهم ، ويصلبهم على جذوع النّخل ، كأنّك لست من هذه الأمّة وليسوا منك؟ ..

أولست قاتل الحضرمي الّذي كتب فيه إليك زياد أنّه على دين عليّ كرّم الله

__________________

(١) انظر ، مسند الإمام الشّافعي : ١٨٨ ، مسند أحمد : ٢ / ٣٨٦ ، سنن الدّارمي : ٢ / ١٥٢ ، صحيح البخاريّ : ٣ / ٣٩ ، صحيح مسلم : ٤ / ١٧١ ، سنن ابن ماجه : ١ / ٦٤٦ ، سنن التّرمذي : ٣ / ٢٩٣ ، مصباح الزّجاجة : ٢ / ١٢٢ ، مسند الشّهاب : ١ / ١٩٠ ، البيان والتّعريف : ٢ / ١٣٠ و ٢٦٧ ، الّتمهيد لابن عبد البر : ٨ / ١٩١ ، كشف الخفاء : ٢ / ٤٥١ ، شرح النّووي على صحيح مسلم : ١٠ / ٣٧.

٣٣٣

وجهه ، فكتب إليه أن أقتل كلّ من كان على دين عليّ ، فقتلهم ، ومثّل بهم بأمرك ، ودين عليّ هو دين ابن عمّه صلى‌الله‌عليه‌وآله الّذي أجلسك مجلسك الّذي أنت فيه ، ولو لا ذلك لكان شرفك وشرف آبائك تجشم الرّحلتين رحلة الشّتاء والصّيف؟ ..

وقلت فيما قلت : أنظر لنفسك ولدينك ولأمّة محمّد ، واتّق شقّ عصا هذه الأمّة وأن تردهم إلى فتنة. وإنّي لا أعلم فتنة أعظم على هذه الأمّة من ولايتك عليها ، ولا أزعلم نظرا لنفسي ولديني ولأمّة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله علينا أفضل من أن جاهدك ، فإن أفعل فإنّه قربة إلى الله ، وإن تركته فإنّي استغفر الله لديني ، وأسأله توفيقه لإرشاد أمري ..

وقلت فيما قلت : إنّي إن أنكرتك تنكرني وإن أكدك تكدني ، فكدني ما بدا لك ، فإنّي أرجو الله أن لا يضرني كيدك ، وأن لا يكون على أحد أضرّ منه على نفسك ، لأنّك قد ركبت جهلك ، وتحرصّت على نقض عهدك. ولعمري ما وفيّت بشرط ، ولقد نقضت عهدك بقتلك هؤلاء النّفر الّذين قتلتهم بعد الصّلح والأيمان والعهود والمواثيق ، فقتلتهم من غير أن يكونوا قاتلوا وقتلوا. ولم تفعل ذلك بهم إلّا لذكرهم فضلنا ، وتعظيمهم حقّنا ، فقتلتهم مخافة أمر لعلّك لو لم تقتلهم متّ قبل أن يفعلوا أو ماتوا قبل أن يدركوا. فأبشر يا معاوية بالقصاص ، واستيقن بالحساب ، واعلم أنّ لله تعالى كتابا لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلّا أحصاها ، وليس الله بناس لأخذك بالظّنة وقتلك أولياءه على التّهم ، ونفيك أولياءه من دورهم إلى دار الغربة. وأخذك للنّاس بيعة ابنك ، غلام حدث ، يشرب الشّراب ، ويلعب بالكلاب ، وما أراك إلّا قد خسرت نفسك ، وبترت دينك ، وغششت رعيتك وأخربت

٣٣٤

أمانتك ، وسمعت مقالة السّفيه الجاهل ، وأخفت الورع التّقي ، والسّلام (١).

ولمّا قرأ معاوية الكتاب أطلع عليه ولده يزيد ، فقال له : أجبه جوابا يصغر إليه نفسه ، واذكر أباه عليّا بشر.

فقال معاوية : وما أقول في عليّ ، ومثلي لا يحسن أن يعيب بالباطل؟ ومتى ما عبت رجلا بما لا يعرفه النّاس كذّبوه ، وما عسيت أن أعيب حسينا؟ وو الله ما أرى للعيب فيه موضعا وقد رأيت أن أكتب إليه أتوعده أتهدده ، ثمّ رأيت أن لا أفعل ولا أمحكه (٢) ...

الحسين يبايع يزيد وهو يقف من أبيه معاوية هذا الموقف ، ويخاطبه بهذا الإحتقار والإزدراء : ركبت جهلك ، ونقضت عهدك ، وخسرت دينك ، وغششت الرّعية ، وقتلت أولياء الله ، وأخذت البيعة لغلام يشرب الشّراب ، ويلعب بالكلاب؟!.

قرأ يزيد هذا السّجل الخالد في مثالبه ، ومثالب من مهّد له ، وبايعه بالخلافة ، فحرّض أباه على أن ينال بالباطل من عليّ والحسين ، ولم يجد معاوية ما يقوله أللهمّ هؤلاء أهل بيتي فأذهب عنهم الرّجس وطهّرهم تطهيرا ، فاجتر يزيد ضغينته وأحقاده ، وانطوى على غيظه وغضبه ينتظر الفرصة المؤاتية.

فوران الحقد :

وبعد أن هلك معاوية ، وتولّى يزيد الأمر من بعده صمّم أن يقتل الحسين على

__________________

(١) انظر ، أعيان الشّيعة : ٤ / ١٤٢ طبعة سنة (١٩٤٨ م) نقلا عن كتاب «الإمامة والسّياسة» لابن قتيبة. وذكر هذا الكتاب أيضا صاحب البحار : ١٠ / ١٤٩. (منه قدس‌سره).

(٢) انظر ، معدن الحكمة : ١ / ٥٨٢ ، الإحتجاج للطّوسي : ٢٧٩ ، معجم رجال الحديث : ١٩ / ٢١٥ ، العوالم : ١٧ / ٩٣ ح ٦ ، إختيار معرفة الرّجال : ١ / ٢٥٩.

٣٣٥

كلّ حال ، وبأيّ ثمن ، ومهما تكن النّتائج ... وسواء أصحّ أنّ معاوية أوصاه خيرا بالحسين ، أو لم يصحّ ، فإنّ فوران الحقد ، واللّؤم ، والبغض ، والغيظ من الحسين قد بلغ الغاية من نفسه ، وأدّى به إلى حمق لا تجدي معه النّصيحة ، وإلى داء لا يشفيه إلّا الإنتقام ، ولو كان به ذهابه وذهاب ملكه ، ومن قبل قال عبد الله بن الزّبير : «اقتلوني ومالكا» (١).

صمّم الحسين أن لا يبايع يزيد ، قتل أو لم يقتل ، لسبب واحد وهو «مثله لا يبايع مثل يزيد» (٢) ... وصمّم يزيد على قتل الحسين بايع أو لم يبايع لأسباب : «منها» : العداء المبدئي الّذي أشار إليه الإمام الصّادق بقوله : «نحن وآل أبي سفيان تعادينا في الله ، قلنا : صدق الله. وقالوا كذب الله» (٣).

و «منها» : العداء الشّخصي ، فقد كان يزيد يعلم علم اليقين بأنّ الحسين يزدريه ويحتقره وأباه معاوية ، وأيضا يعلم بأنّ الحسين ينظر إليه وإلى أبيه كما ينظر إلى المنافقين والمفترين ، ولا شيء أشدّ وطأة على النّفس من الإحتقار والإستخفاف.

و «منها» : الأخذ بثارت بدر ... ولذا هتف بأشياخه حين وضع رأس الحسين بين يديه ، وقال : «ليت أشياخي ببدر شهدوا».

__________________

(١) انظر ، الفتوح لابن أعثم : ١ / ٤٨٥ وما بعدها ، وقارن بين قوله وقول المؤرّخ في تأريخ الطّبري : ١ / ٣١٩٩ ـ ٣٢٠٠ ، و : ٥ / ٢٠٤ و ٢١٠ و ٢١١ ، والواقدي برواية شرح النّهج لابن أبي الحديد : ١ / ٨٧ في شرح الخطبة «كنتم جند المرأة» ، الكامل في التّأريخ : ٣ / ٩٩ ، العقد الفريد : ٤ / ٣٢٦ طبعة لجنة التّأليف ، الإمامة والسّياسة : ١ / ٩٦ ، الهامش رقم (١ و ٢) في نفس الصّفحة.

(٢) تقدّمت تخريجاته.

(٣) تقدّمت تخريجاته.

٣٣٦

وقد تجاهل هذه الحقيقة الّذين اضمروا العداء لعليّ وبنيه ، وقالوا : أنّ الحسين ألقى بيده إلى التّهلكة ، وكان عليه أن يسلّم ليزيد ، ما دام عاجزا عن مقاومته ... قالوا هذا ، وهم يعلمون أنّ الحسن صالح معاوية ، وسلّم له الأمر ، ثمّ غدر به ، وأنّ معاوية أعطى العهود والمواثيق لأولياء الله كحجر بن عدي ، وعمرو بن الحمق وغيره ، ثمّ نقضها ، وقتلهم دون أن يقاتلوه ، وأنّ مسلم بن عقيل ألقى السّلاح بعد أن أخذ العهد والأمان من أذناب الأمويّين ، ثمّ قتلوه ومثّلوا به.

وجاء في البحار :

«أنّ يزيد أنفذ عمرو بن سعيد إلى مكّة ، وولّاه الموسم وأمره بقتل الحسين على أي حال اتّفق ، وأنّه دسّ مع الحاج ثلاثين رجلا ، ليغتالوا الحسين ، ولمّا علم الحسين بذلك خرج من مكّة ، وقبل خروجه قال لأخيه محمّد بن الحنفيّة : والله يا أخي لو كنت في حجر هامّة من هوام الأرض لإستخرجوني منه ، حتّى يقتلوني (١) ... وفي هذا دلالة ظاهرة أنّه مقتول ، حتّى ولو سالم وبايع ، وكانوا يعرضون عليه البيعة صورة ، لعلمهم بأنه لا يبايع ، ألا ترى كيف أشار مروان بن الحكم بقتل الحسين على والي المدينة؟ ... وكيف كتب ابن زياد لابن سعد :

__________________

(١) انظر ، بحار الأنوار : ١٠ / ١١٦. وما رأيت أجهل ممّن قال : كيف اطمأنّ الحسين لأهل الكوفة ، وقد غدروا بأخيه ر ، وأبيه من قبل؟ ... فهل كان الحسين يجهل ذلك؟. ألم يصرح أكثر من مرّة بأنّ الله شاء أن يراني قتيلا ، ويرى نسوتي سبايا؟ ... (منه قدس‌سره).

انظر ، تأريخ الطّبري : ٣ / ٢٩٥ ، الكامل في التّأريخ : ٢ / ٥٤٦ ، تهذيب تأريخ دمشق لابن عساكر: (ترجمة الإمام الحسين عليه‌السلام) : ٢١٢ ح ٦٦٤ ، وقعة الطّفّ : ١٥٢ ، مقتل الحسين للخوارزمي : ١ / ٢١٨ مقتل الحسين لأبي مخنف : ٦٧ ، مقاييس اللّغة لابن فارس : ٤ / ٤٩٦ ، الفتوح لابن أعثم : ٣ / ٧٤ البداية والنّهاية : ٦ / ١٦٣ ح ١٦٦٠٨ ، ينابيع المودّة : ٣ / ٦٠ ، الطّبقات لابن سعد : ح ٢٧٨.

٣٣٧

أعرض على الحسين : أن ينزل على حكم بني عمّك ـ يقول : «لا والله ، لا أعطيهم بيدي إعطاء الذّليل ، ولا أقرّ إقرار العبيد. عباد الله : إنّي عذت بربّي وربكم أن ترجمون. أعوذ بربّي وربّكم من كلّ متكبّر لا يؤمن بيوم الحساب ، ألا وإنّ الدّعي ابن الدّعي قد ركز بين اثنتين : بين السّلة والذّلّة ، وهيهات منّا الذّلّة ، يأبى الله لنا ذلك ، ورسوله ، والمؤمنون ، وجدود طابت ، وحجور طهرت ، وأنوف حميّة ، ونفوس أبيّة لا تؤثر طاعة اللّئام على مصارع الكرام» (١).

ومن عرف حقيقة يزيد ، وعوامله النّفسيّة ، وتربيته لا يشك في شيء من ذلك ...أنّ يزيد ينزع للإنتقام بطبيعته وفطرته ، وبنسبه وتربيته ، ولا يشبع نزعته هذه ، البيعة وغير البيعة ، لا يشبعها إلّا الدّم ، حتّى الدّم لم يشف غليل جدّته هند ... فلاكت كبد الحمزة ، واتّخذت من أطرافه قلادة تتزين بها لجدّه أبي سفيان (٢) ...

__________________

(١) انظر ، تأريخ الطّبري : ٥ / ٤٢٥ ـ ٤٢٦ طبعة سنة ١٩٦٤ م ، الكامل في التّأريخ : ٣ / ٢٨٧ ـ ٢٨٨.

(٢) قتل حمزة والّتمثيل به :

حمزة بن عبد المطّلب يكنى أبا عمارة ، وأبا يعلى ، وهو أسد الله وأسد رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله عمّ النّبيّ قتله غلام يقال له وحشي مولى مطعم بن جبير ، وقد بعثه مولاه مع قريش وقال له : إن قتلت حمزة بعمّي طعيمة بن عديّ فأنت عتيق ، وجعلت هند بنت عتبة لوحشي جعلا على أن يقتل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أو عليّا أو حمزة. فقال : أمّا محمّد فلا حيلة فيه ، لأنّ أصحابه يطوفون به. وأمّا عليّ فإنّه إذا قاتل كان أحذر من الذّئب. وأمّا حمزة فأطمع فيه ، لأنّه إذا غضب لا يبصر ما بين يديه ، فقتله وحشي ، وجاءت هند فأمرت بشقّ بطنه وقطع كبده والتّمثيل به ، فجدعوا أنفه واذنيه. وهي الّتي اتخذت من آذان الرّجال وآنافهم وأصابع أيديهم وأرجلهم ومذاكيرهم قلائد ومعاضد ، واعطت وحشي معاضدها وقلائدها جزاء قتله حمزة فلاكة كبده فلم تسفه فلفظته. (انظر ، الكامل في التّأريخ : ٢ / ١١١ ، الدّرجات الرّفيعة : ٦٦ ـ ٦٩ ، السّيرة النّبويّة لابن هشام : ٣ / ٩٦ ، السّيرة الحلبية : ٢ / ٢٤٦ ، كشف اليقين لابن ـ

٣٣٨

__________________

ـ المطهّر الحلّي : ١٢٨).

وذكر أهل السّير والأخبار كابن جرير ، وابن الأثير ، وابن كثير ، وصاحب العقد الفريد وغيرهم ما قد أخرجه أحمد بن حنبل : ٢ / ٤٠ عن ابن عمر أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لما رجع من أحد جعلت نساء قريش يبكين على من قتل من أزواجهن. قال : فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : ولكن حمزة لا بواكي له ، قال : ثمّ نام فانتبه وهنّ يبكين ، قال فهنّ اليوم إذا يبكين يندبن حمزة.

وفي ترجمة حمزة من الإستيعاب نقلا عن الواقدي بهامش الإصابة : ١ / ٢٧٥ قال : لم تبك امرأة من الأنصار على ميّت ـ بعد قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لكن حمزة لا بواكي له ـ إلى اليوم إلّا بدأنّ بالبكاء على حمزة. (انظر للمزيد اسد الغابة ، والطّبقات الكبرى : ٢ / ٤٤ ، و : ٣ / ١١ و ١٧ ـ ١٩ ، ذخائر العقبى : ١٨٣ ، والسّيرة النّبويّة لابن هشام : ٣ / ١٠٤ ، شرح النّهج لابن أبي الحديد : ١٥ / ٤٢ ، الكامل في التّأريخ : ٢ / ١١٣ ، مجمع الزّوائد : ٦ / ١٢٠.

كان حمزة ، يحمل على القوم ، فإذا رأوه انهزموا ولم يثبت له أحد ، لكن غدر وحشي وحقد هند هما اللّذان مكنّا حربة وحشي فأصابته في أربيته ، وانشغال المسلمون بهزيمتهم هي الّتي مكّنت هند من شقّ بطنه وقطع كبده والتّمثيل به ، ولذا قال الشّاعر كما في كشف الغمّة : ١ / ٢٥٨.

ولا عار للأشراف إن ظفرت بها

كلاب الأعادي من فصيح وأعجم

فحربة وحشي سقت حمزة الرّدى

وحتف عليّ من حسام ابن ملجم

وحين رآه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : لو لا أن تحزن صفيّة أو تكون سنّة بعدي تركته حتّى يكون في أجواف السّباع وحواصل الطّير ، ولئن أظهرني الله على قريش لأمثّلنّ بثلاثين رجلا منهم. كما ذكر ابن الأثير في الكامل : ٢ / ١٦١. وقال المسلمون : لنمثّلنّ بهم مثلة لم يمثّلها أحد من العرب ، فأنزل الله في ذلك : (وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ) النّحل : ١٢٦.

ولذا ورد في السّيرة الحلبية عن ابن مسعود : ٢ / ٢٤٦ قال : ما رأينا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله باكيا أشدّ من بكائه على حمزة عليه‌السلام ووضعه في القبلة ، ثمّ وقف على جنازته وانتحب حتّى نشق ـ أي شهق ـ حتّى بلغ به الغش ، يقول صلى‌الله‌عليه‌وآله : يا عمّ رسول الله ، وأسد الله ، وأسد رسول الله ، يا حمزة فاعل الخيرات ، يا حمزة يا كاشف الكربات ، يا حمزة يا ذابّ عن وجه رسول الله. وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : جاءني جبريل عليه‌السلام وأخبرني بأنّ حمزة مكتوب في أهل السّماوات السّبع : حمزة بن عبد المطّلب أسد الله وأسد رسوله. وأمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله الزّبير أن يرجع أمّه صفيّة اخت حمزة ؛ عن رؤيته ، فقال لها : يا امّه ، إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ

٣٣٩

__________________

ـ يأمرك أن ترجعي ، فدفعت في صدره وقالت : لم وقد بلغني أنّه مثّل بأخي ، وذلك في الله قليل فما أرضاني بما كان في الله من ذلك ، لأحتسبنّ ولأصبرنّ إن شاء الله تعالى ، فجاء الزّبير فأخبره صلى‌الله‌عليه‌وآله بذلك؟ فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : خلّ سبيلها ، فجاءت واسترجعت واستغفرت له.

وفي رواية : كفّن حمزة بنمرة كانوا إذا مدّوها على رأسه انكشفت رجلاه ، وإن مدّوها على رجليه انكشف رأسه ، فمدّوها على رأسه وجعلوا على رجليه الأذخر ، وأمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله به فدفن. ذكر ذلك صاحب السّيرة الحلبية : ٢ / ٢٤٧ ، وابن الأثير في الكامل : ٢ / ١٦٢.

وذكر الواقدي أنّ النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله كان يومئذ إذا بكت صفيّة يبكي وإذا نشجت ينشج. قال : وجعلت فاطمة تبكي فلمّا بكت بكى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله.

وروى ابن مسعود قال : ما رأينا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله باكيا قطّ أشدّ من بكائه على حمزة بن أبي طالب لما قتل ـ إلى أن قال : ـ ووضعه في القبر ثمّ وقف صلى‌الله‌عليه‌وآله على جنازته وانتحب حتّى نشغ من البكاء. ذكر ذلك صاحب الاستيعاب بهامش الإصابة : ١ / ٢٧٥ الطّبعة الأولى ، والإمتاع للمقريزي : ١٥٤ ، والكامل في التّأريخ : ٢ / ١٧٠ ، ومجمع الزّوائد : ٦ / ١٢٠ ، والصّحيح من سيرة النّبيّ الأعظم : ٤ / ٣٠٧ و ٣١٠ ، وذخائر العقبى : ١٨٠ ، وسيرة ابن هشام : ٣ / ١٠٥ ، والسّيرة الحلبية : ٢ / ٢٤٦ ، وشرح النّهج : ١٥ / ٣٨٧ و ١٧.

ولسنا بصدد بيان جواز أو حرمة البكاء على الميت ولكن نترك للقارئ الكريم مجال التّفكير عند مراجعة المصادر التّالية على سبيل المثال لا الحصر منذ بكاء آدم عليه‌السلام على ابنه هابيل إلى اليوم لأنّ البكاء سنّة طبيعية.

انظر ، العرائس للثّعالبي : ٦٤ طبعة بمبي و ١٣٠ و ١٥٥ ، الطّبقات الكبرى لابن سعد : ١ / ١٢٣ ، و : ٢ / ٦٠ الطّبعة الثّانية طبعة بيروت ، فرائد السّمطين : ١ / ١٥٢ ح ١١٤ ، و : ٢ / ٣٤ ح ٢٧١ ، والمصنّف لابن أبي شيبة : ٦ و ١٢ ، كنز العمّال : ١٣ / ١١٢ الطّبعة الثّانية ، و : ١٥ / ١٤٦ ، و : ٦ / ٢٢٣ الطّبعة الأولى ، تأريخ دمشق : ٢ / ٢٢٩ ح ٣٦٧ و ٣٢٧ ح ٨٣١ ، مجمع الزّوائد : ٩ / ١١٨ و ١٧٩ و ١٨٩ الفضائل لأحمد بن حنبل : ح ٢٣١ ، المستدرك للحاكم : ٣ / ١٣٩ ، و : ٤ / ٤٦٤ ، تأريخ بغداد : ١٢ / ٣٩٨ ، و : ٧ / ٢٧٩ ، المناقب للخوارزمي : ٢٦ ، ينابيع المودّة : ٥٣ و ١٣٥.

سنن البيهقيّ : ٤ / ٧٠ ، سنن ابن ماجه : ٢ / ٥١٨ ، ذخائر العقبى : ١١٩ و ١٤٧ و ١٤٨ ، دلائل النّبوّة للبيهقي في ترجمة الإمام الحسين عليه‌السلام من تأريخ دمشق : ح ٦٢٢ و ٦١٢ ـ ٦١٤ و ٦٢٦ ـ ٦٣٠ ، المعجم ـ

٣٤٠