لواعج الأشجان في مقتل الحسين عليه السلام

السيّد محسن الأمين العاملي

لواعج الأشجان في مقتل الحسين عليه السلام

المؤلف:

السيّد محسن الأمين العاملي


المحقق: السيد حسن الأمين
الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: دار الأمير للثقافة والعلوم ش.م.م
الطبعة: ١
الصفحات: ١٩٨

سيدها ومن الوغى ليثها ، وارث المشعرين وأبو السبطين الحسن والحسين ، ذاك جدي علي بن أبي طالب عليه‌السلام.

ثم قال : انا ابن فاطمة الزهراء ، انا ابن سيدة النساء ، فلم يزل يقول : أنا أنا حتى ضج الناس بالبكاء والنحيب وخشي يزيد ان يكون فتنة ، فأمر المؤذن فقطع عليه الكلام ، فلما قال المؤذن : الله أكبر الله أكبر ، قال علي عليه‌السلام لا شيء أكبر من الله ، فلما قال : أشهد ان لا إله إلا الله ، قال علي بن الحسين : شهد بها شعري وبشري ولحمي ودمي ، فلما قال المؤذن : أشهد ان محمدا رسول الله ، التفت من فوق المنبر الى يزيد فقال : محمد هذا جدي أم جدك يا يزيد ، فان زعمت انه جدك فقد كذبت وكفرت وان زعمت انه جدي فلم قتلت عترته ، ولله در القائل :

يصلى على المبعوث من آل هاشم

ويغزى بنوه ان ذا لعجيب

وعن ابن لهيعة عن أبي الأسود محمد بن عبد الرحمن قال : لقيني رأس الجالوت فقال : والله ان بيني وبين داود لسبعين أبا وان اليهود تلقاني فتعظمني ، وأنتم ليس بين ابن نبيكم وبينه الا أب واحد ، قتلتم ولده.

وعن زين العابدين عليه‌السلام قال : لما أتي برأس الحسين عليه‌السلام الى يزيد كان يتخذ مجالس الشرب ويأتي برأس الحسين عليه‌السلام ويضعه بين يديه ويشرب عليه ، فحضر ذات يوم في مجلسه رسول ملك الروم وكان من أشراف الروم وعظمائهم ، فقال : يا ملك العرب هذا رأس من؟ فقال له يزيد : مالك ولهذا الرأس ، فقال : اني إذا رجعت الى ملكنا يسألني عن كل شيء رأيته فأحببت ان أخبره بقصة هذا الرأس وصاحبه حتى يشاركك في الفرح والسرور ، فقال يزيد : هذا رأس الحسين بن علي بن أبي طالب ، فقال الرومي : ومن أمه؟ فقال : فاطمة بنت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقال النصراني : أف لك ولدينك لي دين أحسن من دينك ، ان أبي من حوافد داود وبيني

١٨١

وبينه آباء كثيرة والنصارى يعظمونني ويأخذون من تراب قدمي تبركا بي بان أبي من حوافد داود ، وأنتم تقتلون ابن بنت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وما بينه وبين نبيكم إلا أم واحدة فأي دين دينكم ، ثم قال ليزيد : هل سمعت حديث كنيسة الحافر؟ فقال له : قل حتى اسمع ، فقال : ان بين عمان والصين بحرا مسيرة ستة أشهر ليس فيها عمران إلا بلدة واحدة في وسط الماء طولها ثمانون فرسخا في ثمانين فرسخا ما على وجه الأرض بلدة أكبر منها ، ومنها يحمل الكافور والياقوت أشجارهم العود والعنبر ، وهي في أيدي النصارى لا ملك لأحد من الملوك فيها سواهم ، وفيها كنائس كثيرة أعظمها كنيسة الحافر ، في محرابها حقة ذهب معلقة فيها حافر يقولون : ان هذا حافر حمار كان يركبه نبيهم عيسى عليه‌السلام ، وقد زينوا حول الحقة بالذهب والديباج يقصدها في كل عام عالم من النصارى يطوفون حولها ويقبلونها ويرفعون حوائجهم الى الله تعالى ، هذا شأنهم ودأبهم بحافر يزعمون انه حافر حمار كان يركبه عيسى نبيهم ، وأنتم تقتلون ابن بنت نبيكم ، فلا بارك الله فيكم ولا في دينكم ، فقال يزيد : اقتلوا هذا النصراني لئلا يفضحني في بلاده ، فلما أحس النصراني بذلك قال له : اتريد ان تقتلني؟ قال : نعم ، قال : اعلم اني رأيت البارحة نبيكم في المنام يقول : يا نصراني أنت من أهل الجنة ، فتعجبت من كلامه ، وأنا أشهد ان لا إله إلا الله وان محمدا رسول الله ، ثم وثب الى رأس الحسين عليه‌السلام فضمه الى صدره وجعل صدره يقبله ويبكي حتى قتل.

وخرج زين العابدين عليه‌السلام يوما يمشي في أسواق دمشق ، فاستقبله المنهال بن عمرو ، فقال له : كيف امسيت يا ابن رسول الله؟ قال : أمسينا كمثل بني اسرائيل في آل فرعون يذبحون ابناءهم ويستحيون نسائهم ، يا منهال امست العرب تفتخر على العجم بان محمدا عربي ، وأمست قريش تفتخر على سائر العرب بأن محمدا منها ، وامسينا معشر أهل بيته ونحن

١٨٢

مغصوبون مقتولون مشردون ، انا لله وأنا إليه راجعون مما أمسينا فيه يا منهال ، ولله در مهيار حيث قال :

يعظمون له أعواد منبره

وتحت أرجلهم أولاده وضعوا

بأي حكم بنوه يتبعونكم

وفخركم انكم صحب له تبع

ودعا يزيد يوما بعلي بن الحسين عليهما‌السلام وعمرو بن الحسن عليه‌السلام ، وكان عمرو غلاما صغيرا يقال ان عمره احدى عشرة سنة ، فقال له : أتصارع هذا يعني ابنه خالدا؟ فقال له عمرو : لا ولكن اعطني سكينا واعطه سكينا ، ثم اقاتله ، فقال يزيد (شنشنة اعرفها من أخزم هل تلد الحية إلا حية).

وكان يزيد وعد علي بن الحسين عليهما‌السلام يوم دخولهم عليه ان يقضي له ثلاث حاجات ، فقال له : اذكر حاجاتك الثلاث اللاتي وعدتك بقضائهن ، فقال له : الأولى : ان تريني وجه سيدي ومولاي وأبي الحسين عليه‌السلام فاتزود منه وانظر اليه وأودعه.

والثانية : ان ترد علينا ما أخذ منا.

والثالثة : ان كنت عزمت على قتلي ان توجه مع هؤلاء النساء من يردهن الى حرم جدهن صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقال : اما وجه أبيك فلن تراه أبدا ، وأما قتلك فقد عفوت عنك ، واما النساء فما يردهن غيرك الى المدينة ، واما ما أخذ منكم فأنا أعوضكم عنه أضعاف قيمته ، فقال عليه‌السلام : أما مالك فلا نريده وهو موفر عليك ، وإنما طلبت ما أخذ منا لأن فيه مغزل فاطمة بنت محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومقنعتها وقلادتها وقميصها ، فأمر برد ذلك وزاد فيه من عنده مائتي دينار فأخذها زين العابدين وفرقها في الفقراء والمساكين وفي رواية ان يزيد قال لعلي بن الحسين عليهما‌السلام : ان شئت أقمت عندنا فبررناك ، وان شئت رددناك الى المدينة ، فقال : لا أريد الا المدينة.

١٨٣

ثم ان يزيد (لع) أمر برد السبايا والأسارى الى المدينة ، وأرسل معهم النعمان بن بشير الأنصاري في جماعة ، فلما بلغوا الى العراق قالوا للدليل : مر بنا على طريق كربلا ، فلما وصلوا الى موضع المصرع وجدوا جابرا بن عبد الله الأنصاري وجماعة من بني هاشم ورجالا من آل الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد وردوا لزيارة قبر الحسين عليه‌السلام ، فتوافوا في وقت واحد وتلاقوا بالبكاء والحزن واللطم وأقاموا المأتم ، واجتمع عليهم أهل ذلك السواد وأقاموا على ذلك أياما.

وعن كتاب بشارة المصطفى وغيره بسنده عن الأعمش بن (عن خ ل) عطية العوفي ، قال : خرجت مع جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنه زائرا قبر الحسين عليه‌السلام ، فلما وردنا كربلا دنا جابر من شاطىء الفرات فاغتسل ثم اتزر بازار وارتدى بآخر ، ثم فتح صرة فيها سعد فنثرها على بدنه ، ثم لم يخط خطوة إلا ذكر الله تعالى ، حتى إذا دنا من القبر قال: المسنيه فالمسته إياه ، فخر على القبر مغشيا عليه ، فرششت عليه شيئا من الماء ، فلما أفاق قال : يا حسين ثلاثا ، ثم قال : حبيب لا يجيب حبيبه ، ثم قال : وانى لك بالجواب وقد شخبت أوداجك على أثباجك وفرق بين بدنك ورأسك ، أشهد انك ابن خير النبيين ، وابن سيد المؤمنين ، وابن حليف التقوى ، وسليل الهدى ، وخامس أصحاب الكسا ، وابن سيد النقبا ، وابن فاطمة سيدة النسا ، ومالك لا تكون هكذا وقد غذتك كف سيد المرسلين ، وربيت في حجر المتقين ، ورضعت من ثدي الايمان ، وفطمت بالاسلام ، فطبت حيا وطبت ميتا ، غير ان قلوب المؤمنين غير طيبة بفراقك ، ولا شاكة في حياتك ، فعليك سلام الله ورضوانه ، وأشهد انك مضيت على ما مضى عليه أخوك يحيى بن زكريا.

ثم جال ببصره حول القبر وقال : السلام عليكم ايتها الأرواح التي

١٨٤

حلت بفناء الحسين عليه‌السلام وأناخت برحله ، أشهد انكم اقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة ، وأمرتم بالمعروف ونهيتم عن المنكر ، وجاهدتم الملحدين ، وعبدتم الله حتى أتاكم اليقين ، والذي بعث محمدا بالحق لقد شاركناكم فيما دخلتم فيه.

قال عطية (ابن عطية خ ل) : فقلت لجابر : فكيف ولم نهبط واديا ولم نعل جبلا ولم نضرب بسيف ، والقوم قد فرق بين رؤوسهم وأبدانهم وأوتمت أولادهم وأرملت الأزواج ، فقال لي : يا عطية (يا ابن عطية خ ل) سمعت حبيبي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : من أحب قوما حشر معهم ومن أحب عمل قوم أشرك في عملهم ، والذي بعث محمدا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالحق ان نيتي ونية أصحابي على ما مضى عليه الحسين عليه‌السلام وأصحابه ، قال عطية (ابن عطية : خ ل) : فبينما نحن كذلك وإذا بسواد قد طلع من ناحية الشام فقلت يا جابر هذا سواد قد طلع من ناحية الشام ، فقال جابر لعبده: انطلق الى هذا السواد وأتنا بخبره ، فان كانوا من أصحاب عمر بن سعد فارجع إلينا لعلنا نلجأ الى ملجأ ، وان كان زين العابدين فأنت حر لوجه الله تعالى ، قال : فمضى العبد فما كان بأسرع من ان رجع وهو يقول : يا جابر قم واستقبل حرم رسول الله ، هذا زين العابدين قد جاء بعماته واخواته ، فقام جابر يمشي حافي الأقدام مكشوف الرأس الى ان دنا من زين العابدين عليه‌السلام ، فقال الإمام : أنت جابر؟ فقال : نعم يا ابن رسول الله ، فقال : يا جابر ههنا والله قتلت رجالنا وذبحت أطفالنا وسبيت نساؤنا وحرقت خيامنا.

ثم انفصلوا من كربلا طالبين المدينة ، قال بشير بن جذلم : فلما قربنا منها نزل علي بن الحسين عليهما‌السلام فحط رحله وضرب فسطاطه وأنزل نساءه وقال : يا بشير رحم الله أباك لقد كان شاعرا فهل تقدر على شيء منه؟ قلت بلى يا ابن رسول الله اني لشاعر ، قال : فادخل المدينة وانع أبا عبد الله ، قال

١٨٥

بشير : فركبت فرسي وركضت حتى دخلت المدينة ، فلما بلغت مسجد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رفعت صوتي بالبكاء وأنشأت أقول :

يا أهل يثرب لا مقام لكم بها

قتل الحسين فادمعي مدرار

الجسم منه بكربلاء مضرج

والرأس منه على القناة يدار

ثم قلت : يا أهل المدينة هذا علي بن الحسين مع عماته واخواته قد حلوا بساحتكم ونزلوا بفنائكم ، وأنا رسوله اليكم اعرفكم مكانه ، قال : فما بقيت بالمدينة مخدرة ولا محجبة إلا برزن من خدورهن مكشوفة شعورهن ، مخمشة وجوههن ، ضاربات خدودهن ، وهن يدعون بالويل والثبور ، ولم يبق بالمدينة أحد إلا خرج وهم يضجون بالبكاء ، ، فلم أر باكيا أكثر من ذلك اليوم ، ولا يوما أمرّ على المسلمين منه بعد وفاة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وسمعت جارية تنوح على الحسين عليه‌السلام وتقول :

نعى سيدي ناع نعاه فاوجعا

وأمرضني ناع نعاه فافجعا

فعينيّ جواد بالدموع واسكبا

وجودا بدمع بعد دمعكما معا

على من دهى عرش الجليل فزعزعا

فاصبح هذا المجد والدين اجدعا

على ابن نبي الله وابن وضيه

وان كان عنا شاحط الدار اشسعا

ثم قالت : أيها الناعي جددت حزننا بأبي عبد الله عليه‌السلام وخدشت منا قروحا لما تندمل ، فمن أنت رحمك الله؟ فقلت : انا بشير بن جذلم وجهني مولاي علي بن الحسين عليهما‌السلام وهو نازل بموضع كذا وكذا مع عيال أبي عبد الله الحسين عليه‌السلام ونسائه ، قال : فتركوني مكاني وبادروني ، فضربت فرسي حتى رجعت اليهم ، فوجدت الناس قد أخذوا الطرق والمواضع ، فنزلت عن فرسي وتخطأت رقاب الناس حتى قربت من باب الفسطاط ، وكان علي بن الحسين عليهما‌السلام داخلا ، فخرج معه خرقة يمسح بها دموعه وخلفه خادم معه كرسي فوضعه له وجلس عليه وهو لا يتمالك من العبرة ، وارتفعت

١٨٦

أصوات الناس بالبكاء من كل ناحية يعزونه ، فضجت تلك البقعة ضجة شديدة ، فأومأ بيده ان اسكتوا فسكنت فورتهم ، فقال :

خطبة زين العابدين عليه‌السلام بالمدينة

الحمد لله رب العالمين ، الرحمن الرحيم ، مالك يوم الدين بارىء الخلائق أجمعين ، الذي بعد فارتفع في السماوات العلى ، وقرب فشهد النجوى ، نحمده على عظائم الأمور ، وفجائع الدهور ، وألم الفجائع ، ومضاضة اللواذع ، وجليل الرزء ، وعظيم المصائب الفاظعة الكاظة الفادحة الجائحة.

أيها القوم ان الله وله الحمد ابتلانا بمصائب جليلة وثلمة في الاسلام عظيمة ، قتل أبو عبد الله وعترته وسبي نساؤه وصبيته ، وداروا برأسه في البلدان من فوق عامل السنان ، وهذه الرزية التي لا مثلها رزية.

أيها الناس فأي رجالات منكم يسرون بعد قتله ، أم أي فؤاد لا يحزن من أجله ، أم أي عين منكم تحبس دمعها وتضن عن انهمالها ، فلقد بكت السبع الشداد لقتله ، وبكت البحار بأمواجها ، والسماوات بأركانها ، والأرض بأرجائها ، والأشجار بأغصانها ، والحيتان في لجج البحار ، والملائكة المقربون وأهل السماوات أجمعون.

يا أيها الناس أي قلب لا ينصدع لقتله ، أم أي فؤاد لا يحن إليه ، أم أي سمع يسمع هذه الثلمة التي ثلمت في الاسلام ولا يصم.

أيها الناس أصبحنا مطرودين ، مشردين ، مذودين ، شاسعين عن الأمصار ، كأنا أولاد ترك وكابل ، من غير جرم اجترمناه ، ولا مكروه ارتكبناه ، ولا ثلمة في الاسلام ثلمناها ، ما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين ان هذا الا اختلاق ، والله لو ان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تقدم اليهم في قتالنا كما تقدم اليهم

١٨٧

في الوصاية بنا لما زادوا على ما فعلوا بنا ، فانا لله وإنا إليه راجعون من مصيبة ما أعظمها وأوجعها وأفجعها ، وأكظها وأفظعها ، وأمرها وافدحها ، فعند الله نحتسب فيما اصابنا وما بلغ بنا انه عزيز ذو انتقام.

فقام صوحان بن صعصعة بن صوحان وكان زمنا ، فاعتذر اليه بما عنده من زمانة رجليه ، فأجابه بقبول معذرته وحسن الظن فيه وترحم على أبيه.

ثم دخل زين العابدين عليه‌السلام الى المدينة فرآها موحشة باكية ، ووجد ديار أهله خالية تنعى أهلها وتندب سكانها. ولنعم ما قال الشاعر :

مررت على أبيات آل محمد

فلم ارها أمثالها يوم حلت

فلا يبعد الله الديار وأهلها

وان أصبحت منهم برغم تخلت

وقال آخر :

ولما وردنا ماء يثرب بعدما

اسلنا على السبط الشهيد المدامعا

ومدت لما نلقاه من ألم الجوى

رقاب المطايا واستلانت خواضعا

وجرع كأس الموت بألطف أنفس

كرام وكانت للرسول ودائعا

وبدل سعد الشم من آل هاشم

بنحس فكانوا كالبدور طوالعا

وقفنا على الاطلال نندب أهلها

اسى ونبكي الخاليات البلاقعا

١٨٨

خاتمة فيها فصلان

فصل في مدفن رأس الحسين عليه‌السلام

اختلفت الروايات والأقول في ذلك على وجوه :

الأول : انه عند أبيه أمير المؤمنين عليه‌السلام بالنجف ، ذهب اليه بعض علماء الشيعة استنادا الى أخبار وردت بذلك في الكافي والتهذيب وغيرهما من طرق الشيعة عن الأئمة عليهم‌السلام وفي بعضها ان الصادق عليه‌السلام قال لولده اسماعيل : انه لما حمل الى الشام سرقه مولى لنا فدفنه بجنب أمير المؤمنين عليه‌السلام ، وهذا القول مختص بالشيعة.

الثاني : انه مدفون مع جسده الشريف وفي البحار انه المشهور بين علمائنا الإمامية ، رده علي بن الحسين عليهما‌السلام انتهى. وفي اللهوف انه أعيد فدفن بكربلا مع جسده الشريف ، وكان عمل الطائفة على هذا المعنى المشار إليه (انتهى). واعتمده هو أيضا في كتاب الأقبال وقال ابن نما الذي عليه المعول من الأقوال : انه أعيد الى الجسد بعد ان طيف به في البلاد ودفن معه (انتهى). وعن المرتضى في بعض مسائله انه رد الى بدنه بكربلا من الشام. وقال الطوسي : ومنه زيارة الأربعين وقال سبط بن الجوزي في تذكرة

١٨٩

الخواص : اختلفوا في الرأس على أقوال أشهرها انه يعني يزيد رده الى المدينة مع السبايا ، ثم رد الى الجسد بكربلا فدفن معه ، قاله هشام وغيره (انتهى). فهذا القول مشترك بين الشيعة وأهل السنة.

الثالث : انه مدفون بظهر الكوفة دون قبر أمير المؤمنين عليه‌السلام رواه في الكافي بسنده عن الصادق عليه‌السلام.

الرابع : انه دفن بالمدينة المنورة عند قبر أمه فاطمة عليها‌السلام ، وان يزيد أرسله الى عمرو بن سعيد بن العاص بالمدينة فدفن عند أمه الزهراء عليها‌السلام ، وان مروان بن الحكم كان يومئذ بالمدينة فأخذه وتركه بين يديه ، وقال :

يا حبذا بردك في اليدين

ولونك الأحمر في الخدين

والله لكأني انظر إلى أيام عثمان ، حكاه سبط بن الجوزي في تذكرة الخواص عن ابن سعد في الطبقات.

الخامس : انه بدمشق قال سبط بن الجوزي : حكى ابن أبي الدنيا قال : وجد رأس الحسين عليه‌السلام في خزانة يزيد بدمشق ، فكفنوه ودفنوه بباب الفراديس ، وكذا ذكر البلادري في تاريخه ، قال : هو بدمشق في دار الامارة ، وكذا ذكر الواقدي أيضا (انتهى). ويروى ان سليمان بن عبد الملك قال : وجدت رأس الحسين عليه‌السلام في خزانة يزيد بن معاوية ، فكسوته خمسة أثواب من الديباج وصليت عليه في جماعة من أصحابي وقبرته. وفي رواية انه مكث في خزائن بني أمية حتى ولي سليمان بن عبد الملك ، فطلب فجيء به وهو عظم أبيض ، فجعله في سفط وطيبه وجعل عليه ثوبا ودفنه في مقابر المسلمين بعد ما صلى عليه ، فلما ولي عمر بن عبد العزيز سأل عن موضعه فنبشه وأخذه والله اعلم ما صنع به. وقال بعضهم : الظاهر من دينه انه بعث به

١٩٠

الى كربلا فدفنه مع الجسد الشريف. وروى ابن نما عن منصور بن جمهور انه دخل خزانة يزيد لما فتحت فوجد بها جونة حمراء ، فقال لغلامه سليم : احتفظ بهذه الجونة فانها كنز من كنوز بني أمية ، فلما فتحها إذ فيها رأس الحسين عليه‌السلام وهو مخضوب بالسواد ، فلفه في ثوب ودفنه عند باب الفراديس عند البرج الثالث مما يلي المشرق (انتهى). أقول وكأنه هو الموضع المعروف الآن بمسجد أو مشهد رأس الحسين عليه‌السلام بجانب المسجد الأموي بدمشق وهو مشهد مشيد معظم.

السادس : انه بمسجد الرقة على الفرات بالمدينة المشهور. حكى سبط بن الجوزي عن عبد الله بن عمر الوراق أن يزيد لعنه الله قال : لأبعثنه الى آل أبي معيط عن رأس عثمان وكانوا بالرفة ، فبعثه اليهم فدفنوه في بعض دورهم ، ثم ادخلت تلك الدار في المسجد الجامع ، قال : وهو إلى جنب سدرة هناك وعليه شبه النيل لا يذهب شتاء ولا صيفا.

السابع : انه بمصر نقله الخلفاء الفاطميون من باب الفراديس الى عسقلان ، ثم نقلوه الى القاهرة ، وله فيها مشهد عظيم يزار ، نقله سبط بن الجوزي ، أقول حكى غير واحد من المؤرخين ان الخليفة العلوي بمصر أرسل الى عسقلان ، وهي مدينة كانت بين مصر والشام ، والآن هي خراب ، فاستخرج رأسا زعم انه رأس الحسين عليه‌السلام وجيء به إلى مصر ، فدفن فيها في المشهد المعروف الآن ، وهو مشهد معظم يزار والى جانبه مسجد عظيم رأيته في سنة احدى وعشرين بعد الثلاثمائة وألف ، والمصريون يتوافدون الى زيارته أفواجا رجالا ونساء ويدعون ويتضرعون عنده. وأخذ العلويين لذلك الرأس من عسقلان ودفنه بمصر كأنه لا ريب فيه ، لكن الشأن في كونه رأس الحسين عليه‌السلام.

١٩١
١٩٢

فصل وجه خروج الحسين عليه‌السلام الى الكوفة

ومما يدل على ان الحسين عليه‌السلام كان موطنا نفسه على القتل وظانا أو عالما في بعض الحالات بأنه يقتل في سفره ذلك خطبته التي خطبها حين عزم على الخروج الى العراق التي يقول فيها :

خط الموت على ولد آدم ... الخ ، فان أكثر فقراتها يدل على ذلك.

ونهي عمر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام له بمكة عن الخروج وإقامته البرهان على أن ذلك ليس من الرأي بقوله : انك تأتي بلدا فيه عماله وامراؤه ومعهم بيوت الأموال ، وإنما الناس عبيد الدينار والدرهم ، فلا آمن عليك ان يقتلك من وعدك نصره ومن أنت أحب إليه ممن يقاتلك معه ، وعدم أخذ الحسين عليه‌السلام بقوله : مع اعتذاره اليه واعترافه بنصحه.

ونهي ابن عباس له أيضا محتجا بنحو ذلك من ان الذين دعوه لم يقتلوا أميرهم وينفوا عدوهم ويضبطوا بلادهم ، بل دعوه وأميرهم عليهم قاهر لهم وعماله تجبي بلادهم ، فكأنهم دعوه الى الحرب ولا يؤمن ان يخذلوه

١٩٣

ويكونوا أشد الناس عليه ، ومعاودته للنهي ذاكرا له نحوا من ذلك ومشيرا عليه باليمن ، فلم يقبل ، وجوابه لمحمد بن الحنفية حين أشار عليه بعدم الخروج الى العراق فوعده النظر ثم ارتحل في السحر ، فسأله ابن الحنفية فقال له الحسين عليه‌السلام : أتاني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعدما فارقتك فقال : يا حسين اخرج فان الله قد شاء ان يراك قتيلا ، قال : ما معنى حملك هذه النسوة معك؟ قال : ان الله قد شاء ان يراهن سبايا.

وقول ابن عمر له حين نهاه عن الخروج فأبى : انك مقتول في وجهك هذا ، فانه دال على أن ظاهر الحال كان كذلك ، وما ظهر لابن عمر ما كان ليخفى على الحسين عليه‌السلام.

وقول الفرزدق له : قلوب الناس معك وأسيافهم عليك وقول بشر بن غالب له : اني خلفت القلوب معك والسيوف مع بني أمية ، وتصديق الحسين عليه‌السلام له.

ونهي عبد الله بن جعفر له وقوله : إني مشفق عليك من هذا الوجه ان يكون فيه هلاكك واستئصال أهل بيتك ، وقول الحسين عليه‌السلام له : اني رأيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في المنام وأمرني بما أنا ماض له ، وامتناعه من ان يحدث بتلك الرؤيا.

ونهي عبد الله بن مطيع له وقوله : والله لئن طلبت ما في أيدي بني أمية ليقتلنك واباء الحسين عليه‌السلام الا ان يمضي.

وقول الاعراب له : انا لا نستطيع ان نلج ولا نخرج القاضي باستيلاء بني أمية استيلاء تاما وخطورة الأمر.

واخبار اخته زينب عليها‌السلام بما سمعته حين نزل الخزيمية. وما رآه في منامه بالثعلبية وقوله لأبي هرة : وأيم الله لتقتلني الفئة الباغية ونظره الى بني

١٩٤

عقيل حين أخبره الأسديان بقتل مسلم وهاني وأشارا عليه بالرجوع ، وأخبراه انه ليس له بالكوفة ناصر بل هم عليه ، وقوله لهم : ما ترون فقد قتل مسلم وامتناعهم عن الرجوع حتى يموتوا أو يدركوا أثارهم ، وقوله للأسديين : لا خير في العيش بعد هؤلاء.

والحمد لله الذي وفق لجمع هذا الكتاب المميز بين القشر واللباب ، والحاوي من شوارد الأخبار ما لم يجتمع مثله في كتاب ، مع مراعاة الحد الوسط بين الايجاز والأطناب ، والقارىء المصنف يعلم امتيازه عن غيره مما صنف في هذا الباب ، فاسأله تعالى ان يكون وسيلة لشفاعة الحسين وجده وأبيه وأهل بيته عليهم‌السلام في يوم الحساب ، وأمنا من العقاب ، وزيادة في الثواب.

وقد فرغ من تسويده جامعه العبد الجاني على نفسه محسن ابن المرحوم السيد عبد الكريم الحسيني العاملي نزيل دمشق الشام ، عفى الله عن جرائمه ، عصر يوم الجمعة المبارك الحادي عشر من شهر ذي القعدة الحرام ، الذي هو من شهور سنة تسع وعشرين بعد الألف وثلاثمائة من هجرة سيد المرسلين صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ببلدة دمشق الشام صانها الله عن طوارق الحدثان ، والحمد لله وحده.

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.

١٩٥
١٩٦

الفهرس

مقدمة الناشر.................................................................... ٥

فاتحة الكتاب.................................................................... ٧

من فضائل الحسين عليه‌السلام.......................................................... ٩

من أدب الحسين عليه‌السلام.......................................................... ١٧

المقصد الأول : في الأمور المتقدمة على القتال...................................... ٢١

مقتل مسلم وهاني.............................................................. ٥٥

المقصد الثاني : في صفة القتال.................................................... ٨١

المقصد الثالث : في الأمور المتأخرة عن قتله....................................... ١٤٧

خطبة زينب بنت أمير المؤمنين عليهما‌السلام بالكوفة.................................... ١٥٣

خطبة فاطمة الصغرى عليها‌السلام بالكوفة............................................ ١٥٤

خطبة أم كلثوم عليها‌السلام بالكوفة................................................... ١٥٧

خطبة علي بن الحسين عليه‌السلام بالكوفة............................................ ١٥٧

خطبة زينب عليها‌السلام بالشام...................................................... ١٧٣

من خطبة لزين العابدين عليه‌السلام بالشام............................................ ١٧٩

١٩٧

من خطبة زين العابدين عليه‌السلام بالمدينة............................................. ١٨٧

خاتمة فيها فصلان : فصل في مدفن رأس الحسين عليه‌السلام............................ ١٨٩

الفهرس...................................................................... ١٩٧

١٩٨