نزهة الأنام في محاسن الشام

أبي البقاء عبدالله بن محمد البدري المصري الدمشقي

نزهة الأنام في محاسن الشام

المؤلف:

أبي البقاء عبدالله بن محمد البدري المصري الدمشقي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: المكتبة العربيّة
المطبعة: المطبعة السلفيّة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣٩٢

وهي مسكن الرؤساء والاعيان وبها دار قاضي القضاة نجم الدين يحيى بن جحى وفيها قتل رحمه‌الله تعالى ومنها تدخل الى أرض الربوة

وأعجب من هذا ان السالك الى الربوة من حين يخرج من باب (جامع يلبغا) يمشي بين اشجار. وأثمار. ومياه. وظل ظليل. لا يمكن ان يرى الشمس. الا ان يقصد رؤيتها انتهى

وفيها يقول بدر الدين ابن لؤلؤ الذهبي يصف النير بين :

رعى الله (وادي النيربين) فانّي

قطعت به يوما لذيذا من العمر

درى انني قد جبته متنزها

فمدّ لاقدامى ثيابا من الزهر

واوحى الى الاغصان قربي فارسلت

هدايا مع الارياح طيبة النشر

وأخدمني الماء القراح وحيثما

سنحت رأيت الماء في خدمتي يجري

٨١

وأجاد الوداعي بقوله ثم أفاد :

ويوم لنا بالنير بين رقيقة

حواشيه خال من رقيب يشينه

وقفنا وسلمنا على الدوح بكرة

فردت علينا بالرءوس غصونه

سيف الدين المشد وأبدع :

وصبا صبت من (قاسيون) فسكنت

بهبوبها وصب الفؤاد البالي

خاضت مياه (النيربين) عشية

وأتتك وهي بليلة الاذيال

ومن محاسن الشام محلة (الربوة) قال بعض المفسرين الربوة احدثها بنو كنعان وابتدأوها. وهي المذكورة في قوله تعالى (وَآوَيْناهُما إِلى رَبْوَةٍ ذاتِ قَرارٍ وَمَعِينٍ) يعني مريم وعيسى عليهما‌السلام وانما قيل لها ربوة لانها مرتفعة مشرفة على غوطتها ومياهها. وكل راب مرتفع على ما حوله يقال له ربوة ومنه تربية الصبى لترفعه في النفس والجسم. والمعين

٨٢

الماء الذي يخرج من الارض

وقال ابن مطرف في ترتيبه : الربوة فيها ثمان لغات رُبوة. وربوه. وربوة. ورباوة. ورباوة. ورباوة. ورابية وربي والجمع ربى

والربوة مغارة لطيفة بسفح الجبل الغربي وبه صفة محراب يقال انه مهد عيسى عليه‌السلام يزار وينذر له. وبها جامع وخطبة ومدارس وعدة مساجد وبها قاعات واطباق وفيها عين ماء يقال لها (الملثم) ومرابط للدواب وبها سويقتان قاطع بينهما نهر (بردى) وبها صياد والسمك يصطادون والقلايون على جبل النهر يقلونه ويذبح فيها كل يوم خمسة عشر رأسا من الغنم خلاف ما يجيئها من اللحم من المدينة وبها عشرة شرايحية ليس لهم شغل غير الطبخ والغرف في الزبادي والصحون وكل ما تشتهيه الانفس فيها وبها فرنان وثلاثة حوانيت برسم عمل الخبز الشوري (١) وأما الفواكه فلا قيمة لها فانى اشتريت الرطل (٢) بربع

__________________

(١) كذا

(٢) وزن الرطل الدمشقي ثمانمائة درهم

٨٣

درهم وكذلك الرطل الدمشقي من المشمش مثله والتفاح كذلك وبها حمام ليس على وجه الارض نظيره لكثرة مائه ونظافته وله شبابيك تطل على النهر وهو مبني ما بين الانهر من فوقه ومن تحته. وبها طارمة المسجد الديلمي الذي جدده نور الدين الشهيد وله اوقاف على قرّاء ووعاظ وقراءة البخاري وغير ذلك كالمؤذن والفراش والبواب والوقاد وفيه يقول تاج الدين الكندي :

ان (نور الدين) لما أن رأى

في البساتين قصور الاغنياء

عمر (الربوة) قصرا شاهقا

نزهة مطلقة للفقراء

وقال الامير مجير الدين محمد بن تميم وأحسن رحمه‌الله :

يا حسن طارمة في الجوّ شاهقة

ما ان تملّ بها العينان من نظر

نزّه لحاظك في طاقاتها لترى

اصناف ما خلق الرحمن للبشر

٨٤

ترى محاسن واد يحتوى نزها

لذاذة السمع والابصار والفكر

وربوة قد سمت حتى تخال لها

سرا تحدّثه للانجم الزهر

ما بين روض وأنهار مسلسلة

تجري وتحمل انواعا من الثمر

كم بتّ فيها وخدني شادن غنج

حلو التثنى كغصن البانة النضر

اشكو اليه الذي ألقى ومقلته

تشكو اليّ الذي يلقى من السهر

حتى رأيت نجوم الليل قد غربت

عنا وهبت علينا نسمة السحر

قمنا نجرّر أذيال العفاف بها

والله يعلم منها صحة الخبر

لا خير في لذة تمضي ويعقبها

خطيئة تسلك الانسان في سقر

٨٥

ومن لطائفه قوله :

موضع القس (١) جنة الخلد اضحت

مهجتي كل ساعة تشتهيها

طوقتني بفضلها فلهذا

كلما زرتها اغرّد فيها

وهذه القاعة التي بناها نور الدين الشهيد هي على شعب جبل جميعها متختة بالواح من خشب سقفها (نهر يزيد) وأساسها من تحتها (نهر ثورا) ومنظرها من الغايات التى لا تدرك وقبالها في الجبل الغربي ضريح العاشق والمعشوق وعليهما صومعتان مبيضتان وبينهما سبعة مقاصف كل مقصف فيه من الثريات والمصابيح والغطاء والوطاء ما لا يحتاط به الوصف حتى ان بعض الناس يطلع اليها ليتنزه فيها يوما فيقيم بها شهرا وجبلاها متقابلان متلاقيان عليها الجبل الغربي بذيله دف الزعفران والجبل الشرقي رأسه مثل الجنك. ولهذا اطنب الشعراء في وصفهما

__________________

(١) كذا

٨٦

وقال الشيخ جمال الدين محمد بن تباتة في وصفها :

بالجنك من مغنى دمشق حمائم

في دف اشجار تشوق بلطفها

فاذا أشار لها الشجيّ بكاسه

غنت عليه بجنكها وبدفها

وقال الشيخ صلاح الدين خليل بن ايبك الصفدي :

انهض الى (الربوة) مستمتعا

تجد من اللذات ما يكفي

فالطير قد غنى على عوده

في الروض بين الجنك والدف

ومن محاسن الشيخ عمر بن انوردى قوله :

دمشق قل ما شئت في وصفها

واحك عن (الربوة) ما تحكي

فالطير قد غنى على عوده

في الروض بين الدف والجنك

٨٧

ومن لطائفه قوله وقد اغار الصفدي على بيت ابن الوردي :

يا ربوة أطربتني

وحسنت لي هتكي

اذ لست ابرح فيها

ما بين دف وجنك

ونقلت من خط الشيخ شعبان الآثاري (١) :

كم تحت جنك الربوة الفيحاء من

دف زهت اشجاره بشنوفها

سقيالها من ربوة من حل في

ها أطربته بجنكها ودفوفها

ونقلت من خط الشرف القواس قوله :

بربوة الشام ربت منيتي

وقر قلبي وهي دار القرار

وطيرها المطرب في جنكه

غنى على ناى وعود وطار

ونقلت من خط الشرف القواس قوله :

__________________

(١) في الاصل (شيبان الاماري)

٨٨

اودّ بأني لو أرى الجنك ساعة

وأنفق فيه كل ما أنا أملك

فليس لنفسي في سوى الجنك مطلب

فدعهم يقولوا فيه للصب مهلك

ونقلت أيضا من خطه :

سر بي الى الوادى وقف متنزها

فالجنك غنت فوقه الاطيار

لو لم يكن هو جنة المأوى لنا

ما كان تجري تحتها الانهار

ونقلت من تحرير الشيخ برهان الدين القيراطي قوله :

سقى الجنك منهلّ الرّباب فشوقنا

لطيب مغاني ارضه ماله حصر

وحيا بقطر الشام انهارها التي

على شهدها للدمع من مقلتي قطر

وجادت سماء الغيث ارضا سماؤها

غصون رياض الزهر آفاقها زهر

٨٩

فكم جاءني منها نسيم ممسك

وعرّفها للقاربين بها العطر

وطلع الشيخ شمس الدين محمد بن الخياط الشهير بضفدع مع ابن خلكان الى الربوة فوجدا غلمانا يعومون ويلعبون في نهر (ثورا) الذي تحت التخوت المعروف بالمنيقية فانشد ضفدع قوله :

لربوتنا واد حوى كل بهجة

فعيش الورى يحلو لديه ويعذب

ترق لنا الانهار من تحت جنكه

فلا عجب انا نخوض ونلعب

فانشد ابن خلكان رحمه‌الله :

وسرب ظباء في غدير تخالهم

بدورا بأفق الماء تبدو وتغرب

يقول خليلي والغرام مصاحبي

أما لك عن عهد الصبابة مذهب

وفي دمك المطلول خاضوا كما ترى

٩٠

فقلت له دعبم يخوضوا ويلعبوا

ومن محاسن الشام (المقسم) الذي تنقسم منه السبعة الأنهار وأصله من ينابيع (عيون التوت)

واليها يشير برهان الدين القيراطي بقوله :

عندي لارض دمشق فرط صبابة

فسقى حماها الرحب صوب غيوث

وعيوننا لفراق مشمشها حكى

جريان أدمعها (عيون التوث)

ويمر [بردى] على قرية الزبداني كالبحر الى ان يلتقي على قرية (الفيجة) الفيحاء [بمياه ينبوعها]

وما أحسن قول الشيخ برهان الدين القيراطي في وصف الزبداني :

دمشق وافى بطيب

نسيمها المتداني

وصح قول البرايا

من عاشر الزبداني

قال ابن الجوزي رحمه‌الله تعالى في (الملتقط) ان ماء العيون بارد رطب ، وجيده من العيون الشرقية ينفع

٩١

الكبد الحارة ، وضرره احداث الترهل ، ودفع ضرره بالحمام والرياضة. يصلح للامزجة الحارة

وقال ابقراط الماء يحفظ على البدن رطوبته ويقمع الحرارة ولا يغذو ولكن يرقق الغذاء وينفذ الى العروق ، وهو يضر اصحاب الرطوبات والبلغم ، الا انه اذا طبخ في اناء جديد كخزف أو قوارير قلت رطوبته ونفخه. وأفضل المياه مياه العيون الحارة الارض ، التي تخرج من الاودية بشدة على مقابلة الشمال ، وتجري على الطين الحر مكشوفة للشمس والرياح ، ولا تمر على بطائح ، ويكون ماؤه صافيا براقا ، وأجوده أخفه وزنا ، وأسرعه قبولا للسخونة والبرودة ، وأعذبه طعما

ويقال من ظاهر (باب السلام) الى ظاهر (باب توما) ثلاثمائة وستون عينا تجري الى القبلة. قلت : ورأيت غالبها وارتويت من عذبها. انتهى

وتنقسم هذه الانهار السبعة منها (يزيد) و (ثورا) بذيل الجبل الشرقي. ويشق نهر (بردى) ببطن الوادي

٩٢

ونهر (بانياس) ونهر (القنوات) ونهر (القناية) ونهر (الداراني) بذيل الجبل الغربي

وآخر ما يتصفى من هذه الانهار ويفضل منها هو نهر (بردى) وينزل في (المقسم) على نحو من عشرين درجة كالشادروان ؛ فرؤيته تذهب الهم وتزيل الحزن

وما ألطف قول القاضي صدر الدين ابن الآدمي رحمه‌الله :

قالوا فؤادك برّد عن محبتهم

فقلت نار الهوى لا تنطفي ابدا

برّدت قلبي عن الاحباب مذر حلوا

بما (يزيد) على (ثورا) وما (بردا)

وقال صاحب دواوين الانشاء العلاء ابن فضل الله :

انزل بباناس ففي نهرها

سرّ به تجلى عروس السرور

واسمع حديث الماء في جريه

فانه يشفي عليل الصدور

٩٣

وجمعها الشيخ شعبان الآثاري في قوله وأجاد :

شوقي (يزيد) وقلب الصب ما (بردا)

و (بان يأسي) من المعشوق حين غدا

ومدمعى (قنوات) والعذول حكى

(ثورا) يلوم الفتى في عشقه حسدا

على مغنية بالجنك جاوبها

شبابة كم بها من عاشق شهدا

فالبدر (جبهتها) والردف (ربوتها)

وخلها مات من خلخالها كمدا

ومن محاسن الامير ابن درياس قوله :

والنهر قد عشق الغصون ولم يزل

ابدا يمثل شخصها في قلبه

حتى اذا فطن النسيم فجاءها

من غيرة فامالها عن قربه

واتى عليه مهيمنا بعتابه

سرا فجعّد وجهه من عتبه

٩٤

ومن عقود ابن لؤلؤ الذهبي قوله :

ما فتّح النّور الا أشرف النّور

فما اشتغالك والمنثور منثور

يا حبذا ودروع الماء تنسخها

انامل الريح لو لا أنها زور

وقال ابن قرباص :

وتحدث الماء الزلال مع الحصى

فجرى النسيم عليه يسمع ما جرى

فكأن فوق الماء وشيا ظاهرا

وكان تحت الماء درا مضمرا

وقال :

أيا حسنها من رياض غدا

جنوني فنونا بأفنانها

جثى الماء فيها على رأسه

لتقبيل اقدام اغصانها

وقال القاسم بن علي في خيال الاغصان في الماء :

٩٥

انظر الى الغدران كيف ترقرقت

فبدا بها شبح الغصون الميّس

معكوسة الاشكال تحسب أنها

قامت على الأيدي له والأرؤس

وأبدع منه قول المناذري :

وقانا لفحة الرمضاء واد

وقاه مضاعف النبت العميم

نزلنا دوحه فحنا علينا

حنوّ المرضعات على الفطيم

وأرشفنا على ظمأ زلالا

الذّ من المدامة للنديم

يصد الشمس انّى واجهتنا

فيحجبها ويأذن للنسيم

تروع حصاه حالية العذارى

فتلمس جانب العقد النظيم

وما أحسن قول ابن المشد :

٩٦

والرّوض بين تكبّر وتواضع

شمخ القضيب به وخرّ الماء

ويعجبني قول ابن النبيه :

تبسم ثغر الزهر عن شنب القطر

ودبّ عذار الظل في وجنة النهر

فان رقّ واعتلّ النسيم صبابة

اذا مرّ في تلك الرياض فعن عذر

توسوست الاغصان عند هبوبه

فما برئت الّا على رقية القمري

يخادعني الورد الجني وانني

بوجنة من اهواه قد حرت في امري

ويبسم عن ثغر الاقاح بنفسج

فألثمه شوقا الى لعس الثغر

ومن محاسن ابن تميم قوله :

والنهر مذعلق الغصون محبة

اضحت تطيل صدوده وجفاه

٩٧

فتراه يجري لاثما اقدامها

وخريره شكوى الذي يلقاه

ومن لطائفه قوله :

ونهر حالف الاهواء حتى

غدا طوعا لها في كل أمر

اذا سرقت حلى الاغصان القت

اليه بها فيأخذها ويجري

وقال ابن لؤلؤ رحمه‌الله تعالى :

وحديقة مطلولة باكرتها

والشمس ترشف ريق ازهار الربا

يتكسر الماء الزلال على الحصى

فاذا جرى بين الرياض تشعبا

وقال أيضا :

والنهر كالمبرد يجلو الصدى

ببرده عن قلب ظمآنه

ومن نكته البديعة قوله :

٩٨

ونهر يحب الدّوح اصبح مغرما

يروح ويغدو هائما بوصالها

اذا بعدت عنه شكا بخريره

جفاها وامسى قانعا بخيالها

ومن اغراضه قوله :

ونهر اذا ما الشمس حان غروبها

عليه ولاحت في ملابسها الخضر

رأينا الذي أبقت به من شعاعها

كأنا أرقنا فيه كاسا من الخمر

ومن معانيه قوله :

وحديقة ينساب فيها جدول

طرفي برائق حسنه مدهوش

يبدو خيال غصونها في مائه

فكأنما هو معصم منقوش

ومن ملحه قوله :

٩٩

يا حبذا النهر الذى أمواهه

تسبي العقول بحسن ما تبديه

هو في الحدائق غير ان عيوننا

ان لا حظته تر الحدائق فيه

وقال محيي الدين بن قرناص :

فديتك ائت روضتنا تجدها

تميل الى لقائك بالصدور

يعانقك القضيب بها سرورا

ويخفق فرحة قلب الغدير

ومن لطائفه قوله :

لما تبدى النهر عند عشية

والروض يخضع للصبّا والشمأل

عاينته مثل الحسام ، وطله

مثل الصدا ، والريح مثل الصيقل

وقال ايضا :

١٠٠