نزهة الأنام في محاسن الشام

أبي البقاء عبدالله بن محمد البدري المصري الدمشقي

نزهة الأنام في محاسن الشام

المؤلف:

أبي البقاء عبدالله بن محمد البدري المصري الدمشقي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: المكتبة العربيّة
المطبعة: المطبعة السلفيّة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣٩٢

برنية من زجاج وقد رأيتها ، ثم انكسرت بعد مدة فلم يوضع مكانها شيء

وبنى الوليد المنارة التي يقال لها (العروس) وجعل عدّة من المصابيح توقد عليها في كلّ ليلة ورتّب لها ثلاث نوب كل نوبة اربعون مؤذّنا وهى باقية الى يومنا هذا. واما (الغربية) و (الشرقية) فهما على ما كانتا عليه من غير عمل ادوار ودرابزين ، وهما من بناء اليونان كالصوامع لضرب النواقيس والرّصد. وقال بعض المؤرّخين انّ الشرقيّة احترقت في سنة اربعين وسبعمائة فنقضت وجدّدت من اموال النصارى لكونهم اتّهموا بحرقها واقرّ بعضهم بذلك فقامت على احسن الاشكال. وقال بعض العلماء في المنارة الشرقية البيضاء التي ينزل عليها عيسى بن مريم عليه‌السلام في آخر الزمان بعد خروج الدجّال كما ثبت في صحيح مسلم عن النواس بن سمعان والله أعلم

ويقال انه كان في الركتين الشماليين صومعتان كالمقابلة

٤١

فهدمهما الوليد ، وجعل من بعض آلتهما قبتان على اعمدة في صحن الجامع ، وجعل فيهما خلوتان من فوق الاعمدة واودع بهما كتب اوقاف هذا الجامع ومصاريفه ، ويقفل عليهما بالاقفال الحديد المانعة (١)

وكانت فيه طلّسمات اصطنعتها اليونان لعدم دخول الحشرات كالحية والعقرب والخنافس والعناكب وغير ذلك من الطيور كالحمام والعصافير والوطاويط وما اشبه ذلك. قال ابن عساكر : وذهب بعض طلسماته. قلت : بل كلها

__________________

(١) توجد الى الآن في الشمال الغربي من صحن المسجد قبة على أعمدة فتحت في أواخر عهد السلطان عبد الحميد بطلب من الحكومة الألمانية بناء على اقتراح بعض مستشرقيها. وكان من العلماء الذين حضروا فتحها باسم الحكومة العثمانية شيخنا المرحوم الشيخ طاهر الجزائري ، فوجد فيها بعض الصكوك والوقفيات والمصاحف وامثال ذلك من المكتوبات القديمة. أما الشمال الشرقي من صحن المسجد ففيه الآن قبة الساعات وهي على جدران لا على أعمدة

المطبعة السلفية

٤٢

بسبب المحن التي توالت وتعدّدت على دمشق آخرها محنة تمرلنك

وقال عمرو بن مهاجر الانصاري رحمه‌الله : ضبط الكتّاب ما انفق على الكوة التي في قبلة المسجد فكانت سبعين الف دينار. وقال ابو قصي : انفق في عمارة مسجد دمشق خمسة آلاف الف دينار وستمائة الف دينار. فلما بلغ امير المؤمنين الوليد انّ عمرو بن مهاجر والنّاس قالوا «أنفد الوليد بيت مال المسلمين في غير حقّه وكان يعمّر هذا الجامع ببعض ذلك» جمع النّاس ، ونودي بالصلاة جامعة ، ثم صعد المنبر وحمد الله واثنى عليه فقال «يا ايها الناس ، قد بلغني عنكم أنكم قلتم بانّي انفقت بيت مال المسلمين في غير موضعه بغير حقّ» فأطرقت الناس ثم قال «يا عمرو ـ يعني ابن مهاجر ـ قم فأحضر اموال بيت المال» فحمل على البغال. وبسطت الأنطاع تحت القبة وصب عليها المال ذهبا وفضّة حتى كان الرجل لا يرى الآخر وجيء بالقبانين ووزنت فاذا هي تكفى الناس ثلاث سنين مستقبلة

٤٣

وفي رواية سبع سنين مستقبلة لو لم يدخل الناس شىء بالكلية ففرح الناس وهللوا وكبروا وحمدوا الله وأثنوا على أمير المؤمنين ودعوا له وشكروه على ذلك. ثم قال الوليد «يا أهل دمشق انكم تفخرون على الناس بأربع : بهوائكم ومائكم ، وفاكهتكم ، وحماماتكم ؛ فاحببت أن أزيدكم خامسة وهي هذا المعبد» فحمدوا الله تعالى وانصرفوا شاكرين له. انتهى

ومن محاسن الشام ما وصف جامعها به بدر الدين حسن ابن حبيب الحلبي في كتاب سماه (تشنيف المسامع في وصف الجامع) قال : واما دمشق فانها في وجنة الدنيا كالشامة ، وزينة البلاد كريش الطاوس أو طوق الحمامة. وفي دائرة الاقطار كالنقطة المعلمة ، وفي جيش الامصار كالملك الذى ينطق بالحكمة. وفي قلادة الاقليم كالواسطة ، وفي سماء الحلل كالشمس التي بدت أشعتها في الوجوه باسطة. وهي الربوة المباركة. والغوطة التي جلت عن المماثلة والمشاركة.

٤٤

والمعدودة من جملة مدائن الجنة ، والمأهولة بالأهلة من أرباب الكتاب والسنة. والمعروفة بإرم ذات العماد ، والموصوفة بلم يخلق مثلها في البلاد. وأما جامعها ففيه أقول :

يا جامعا في دمشق

في حسنه قد تفرّد

لم تطرب الناس طرا

ألا لأنك معبد (١)

وقلت أيضا :

معبد الشام يجمع الناس طرا

واليه شوقا تميل النفوس

كيف لا يجمع الورى وهو بيت

فيه تجلى على الدوام العروس (٢)

وقلت :

يا راغبا في غير جامع (جلّق)

هل يستوي الممنوع والمنوح

__________________

(١) فيه تورية باسم (معبد) الموسيقي العربي الشهير

(٢) فيه تورية باسم (منارة العروس) التي مر ذكرها.

٤٥

اقصر عناك وفي غلوك لا تزد

إن الزيادة بابها مفتوح (١)

قلت : وهذا الباب المفتوح في بيت ابن حبيب سرقه من بيتي الشيخ جمال الدين محمد بن نباتة لكن ركبه في محله أحسن تركيب وهما :

أرى الحسن مجموعا بجامع (جلق)

وفي صدره معنى الملاحة مشروح

فان يتغالى في الجوامع معشر

فقل لهم باب الزيادة مفتوح

ونقلت من خط الشيخ صلاح الدين الصفدى قوله فيه :

تقول (دمشق) اذ تفاخر غيرها

بمعبدها الزاهي البديع المشيّد

جرى لتناهي حسنه كل معبد

وما قصبات السبق الا لمعبد

__________________

(١) فيه تورية باسم (باب الزيادة) الذى مر ذكره

٤٦

والاصل في ذلك قول الشيخ برهان الدين القيراطي رحمه‌الله :

سقى بدمشق الغيث جامع نسكها

وروضا به غنى الحمام المغرّد

اذا ما زهى في العين من ذاك معبد

لذكر حلا في السمع من ذاك معبد

ومن معانيه البديعة قوله فيه :

الجامع الأموي اضحى حسنه

حسنا عليه في البرية أجمعا

حلوه اذ حلوه فانظر صحنه

تلقاه أصبح للحلاوة مجمعا

ومن تحريره البديع قوله فيه :

(دمشق) في الحسن لها منصب

عال وذكر في الورى شائع

فخلّ من قاس بها غيرها

وقل له ذا الجامع المانع

٤٧

ومن محاسنه قوله في الساعات رحمه‌الله تعالى :

في الجامع الأموي الحسن مجتمع

وبابه فيه للأحداق لذّات

دقائق الحسن يحويها له درج

فحبذا منه بالساعات ساعات

وحبذا معبدكم أطربت اذنا

فيه من الذكر نغمات وأصوات

جلا العروس على الرائي فطلعتها

تزفها من بدور التم طارات

ومن لطائفه قوله فيه وفي (النسر) تغمده الله برحمته :

يقول لنا نسر بجامع (جلق)

أنا الطائر المحكي والآخر الصدى

وقد أطرب الاسماع مطرب جنكها

وغنى به من لا يغنى مغردا

ومن محاسن الشام ما وصفها به الشيخ بدر الدين. محمد الدمياميني الاسكندري المالكي قال : «فتاملها المملوك

٤٨

فاذا هي جنة ذات ربوة قرار ومعين ، وبلدة تبعث محاسنها الفكر على حسن الوصف وتعين. وحسبها بالجامع الفارق بينها وبين سواها ، والانهار التي اذا ذكرت قبّل المحل فما أجراها ، واذا سمع حديث الخصب فما أرواها. وما أقول ومتنزهات مصر عارية عن المحاسن وهذه ذات الكسوة (١) ، وان النيل ما احترق (٢) الّا من الاسف حيث لم يسعده الدهر بالصعود الى تلك الربوة. وما أظنه احمرّ إلا خجلا من صفاء أنهارها ، ولا ناله الكسر الا لتألمه بالانقطاع عن الوصول الى سقي أزهارها. فلو رأى العاشق جبهتها لسلا بمصر معشوقه ، ونسى ظهور جوانبه المنحنية بقامات غصونه الممشوقة. ولو تطاولت المجنونة الى المفاخرة لتأخرت الى خلفها مستحيية ، وأحجمت عن الاقدام حين تحركت لها بدمشق السلسلة. وحق لمصر ألّا يجري حديث

__________________

(١) فيه تورية بقرية (الكسوة) وهي ضاحية جنوبى دمشق ، سميت باسم كسوة المحمل الذي كان يسافر منها الى مكة المكرمة كل عام

(٢) فيه اشارة الى (تحاريق النيل) ايام انخفاضه

٤٩

المفاخرة في وهمها ، وأن تتقي شر المنازعة قبل أن تصاب من هذه البلدة بسهمها. فسقى الله متنزهاتها التي طرب المملوك برؤية جنكها ولطالما اهتزت له المعاطف على السماع ، ورأى بها كل نهر ذاب عنه الجليد فانعقد على حلاوة شكره الاجماع»

وما أحسن قول الشيخ برهان الدين القيراطي :

ما فيه إلا جوسق أو روضة

أو جدول أو بلبل أو ربرب

وكأن ذاك النهر فيه معصم

بيد النسيم منقش ومكتّب

واذا تكسر ماؤه أبصرته

في الحال بين رياضه يتشعب

وشدت على العيدان ورق أطربت

بغنائها من غاب عنه المطرب

فالورق تنشد والنسيم بها فكم

اضحى له من بيننا متطلّب

٥٠

ولكم طربت على السماع بجنكها

وغدا بربوتها اللسان يشبّب

فمتى أزور معالما ابوابها

بسماحها كتب الكرام تبوب

ومن محاسن الشام ما وصف جامعها به العلامة اليعقوبي قال «مدينة دمشق جليلة قديمة. وهي مدينة الشام ، في الجاهلية وفي الاسلام. وليس لها نظير في جميع بلاد الشام في انهارها ومبانيها وكثرة عمارتها. افتتحت في خلافة عمر بن الخطاب رضى الله عنه سنة اربع عشرة وبانيها اسمه دماشق بن نمرود بن كنعان. وقيل دمشق بن قاني بن مالك ابن أرفخشد بن سام بن نوح عليه‌السلام. وقيل سعد بن عاد ، وبنى فيها قصرين لولديه بريد وجيرون ، ولما بنى دمشق سماها إرم وعلى هذا نقلت الاخبار ان ارم ذات العماد هي دمشق ، يقال انه كان فيها اربعمائة الف عمود. واما جامعها فليس في مدائن الاسلام احسن منه ، بناه الوليد في خلافته بالرخام والذهب سنة ثمان وثمانين ، فرشه

٥١

بالرخام الابيض المختم بالارزق ، وسقفه لا خشب فيه ، مذهب كله من اعلاه الى اسفله ، وبه ثلاثة منابر» انتهى

ومن محاسن الشام وصف الاستاد ابن جبير لجامعها. نقلت من خط الشريشي قال : أملى عليّ شيخنا ابن جبير في وصف جامع دمشق ما صورته قال «الجامع الاموي من اشهر جوامع الاسلام حسنا واتقان بناء. وغرابة صنعة ، واحتفال تنميق وتزيين. ومن عجيب شأنه انه لا ينسج فيه عنكبوت ، ولا تدخله ولا تلم به الطير المعروفة بالخطاف

ووجه الوليد الى ملك الروم بالقسطنطينية فامر باشخاص اثنى عشر الف صانع من جميع بلاده وتقدم اليه بالوعيد في ذلك ان توقف. فامتثل امره مذعنا فشرع في بنائه وبلغت الغاية في التأنق فيه [وانزلت جدره كلها] بالفصوص الملونة المذهبة المعروفة بالفسيفساء ومثلت به الاشجار مفرّعة الاغصان بانواع الازهار ، فجاء يغشى العيون وميضا وبصيصا

وبلغت النفقة عليه احد عشر الف الف دينار

٥٢

ومائتي الف دينار

وكان ابو عبيدة بن الجراح رضي‌الله‌عنه لما دخلها صالح النصارى بان اخذ نصف الكنيسة الشرقي فصيره مسجدا وبقى النصف الغربي للنصارى فاخذه الوليد وادخله في الجامع بعد ان ارغبهم في التعويض عنه فأبوا فاخذه قسرا. وكانوا يزعمون ان من يهدم كنيستهم يجن ، فبادر الوليد وقال أنا أول من يجن في حب الله وبدأ الهدم بيده فتبادر المسلمون للهدم ثم ارضاهم عمر بن عبد العزيز في خلافته عن الكنيسة بمال عظيم

وطول هذا الجامع من الشرق الى الغرب مائتا خطوة وهي ثلاثمائة ذراع وذرعه في السعة من القبلة الى الشمال مائة وخمس وثلاثون خطوة وهي مائتا ذراع وتكسيره من المرجعلبل الغربي اربعة وعشرون مرجعا وهو تكسير مسجد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم غير ان طوله في مسجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من القبلة [الى الشمال]. وبلاطاته المتصلة بالقبلة ثلاث مستطيلة من الشرق الى الغرب سعة كل بلاطة منها ثماني عشرة

٥٣

خطوة [والخطوة] ذراع ونصف وقامت البلاطات على ثمانية وستين عمودا منها [اربع وخمسون سارية و] ثماني ارجل واربع [ارجل مرخمة ابدع ترخيم ، مرصعة بفصوص من الرخام ملونة ، قد نظمت خواتيم وصورت] يتخللها اثنتان مرخمة ملصقة في الجدار الذي يلي الصحن واربعة محاريب واشكال غريبة قامت في البلاط الأوسط دور كل رجل منها اثنان وسبعون شبرا ويستدير بالصحن بلاط من ثلاث جهات سعته عشر خطوات عدد قوائمه سبع وأربعون منها اربعة عشر رجلا والباقي سواد

وسقف الجامع كله من خارج ألواح من رصاص واعظمها ما فيه قبة الرصاص المتصلة بالمحراب هي قائمة في الهواء عظيمة الاستدارة وقد استقل بها هيكل عظيم وهو غارب لها (١) يتصل من المحراب الى الصحن والقبة

__________________

(١) كانت في الاصل «وهو عمودها» فصححناها من رحلة ابن جبير ومنها أخذنا الزيادات التي أدخلناها في هذه القطعة بين هاتين الاشارتين [ ]

٥٤

قد اقيمت في الهواء فاذا استقبلتها أبصرت مرأى عظيما هائلا

ومن أي جهة استقبلت البلد ترى القبة في الهواء كأنها معلقة في الجو وعدد شمسياتها الزجاجية الملونة المذهبة أربع وسبعون فاذا قابلتها الشمس واتصل شعاعها انعكس الشعاع الى كل لون منها واتصل ذلك بالجدار القبلي وتتصل بالابصار منها أشعة ملونة هائلة لا تبلغ العبارة بعض صورها

ومحرابه من أعجب المحاريب الاسلامية حسنا وغرابة صنعة يتقد ذهبا كله قد قامت في وسطه محاريب صغار متصلة بجدار تحفها اسورة مفتولات قبلي الاجدرة كأنها مخروطة بعضها أحمر كأنها مرجان ولم ير شيء أجمل منها

وفيه ثلاث مقاصير : مقصورة معاوية رضي‌الله‌عنه وهي مقصورة وضعت في الاسلام طولها اربعة وأربعون شبرا وعرضها نصف الطول. ويليها لجهة الغرب المقصورة

٥٥

التي احدثت عند زيادة الكنيسة فيه وهى أكبر. والثالثة بالجانب الغربى تجتمع السادة الحنفية فيها للتدريس

وله أربعة أبواب باب قبلي يعرف بباب الزيادة وباب شمالي يعرف بباب الناطفيين وباب غربى يعرف بباب البريد وباب شرقي يعرف بباب جيرون وهو أعظمها. وله وللغربي [وللشمالي أيضا] دهاليز متسعة يفضي كل دهليز منها الى باب عظيم كانت كلها مداخل الى الكنيسة فبقيت على حالها

وفي صحنه من عجائب الابنية والقباب والصوامع الثلاث والمياه المدبرة ما يحير العقول وتكلّ عنده الافهام وهذا الصحن من أجمل المناظر وأحسنها وفيه يجتمع أهل البلد و [هو] متفرجهم كل عشية تراهم فيه ذاهبين راجعين من باب البريد الى باب جيرون لا يزالون على هذا الحال الى انقضاء العشاء الآخرة منهم من يتحدث مع صاحبه ومنهم من يقرأ. فهذا دأبهم بالعشي والغداة ، والاحفل بالعشي. وأهل البطالة يسمونهم الحراثين»

٥٦

وما أحسن قول الشاب الظريف محمد بن العفيف في غلام يمشي في صحن الجامع :

تمشى بصحن الجامع الشادن الذي

على قده أغصان بان النقى تثني

فقلت وقد لاحت عليه حلاوة

الا فانظروا هذي الحلاوة في الصحن

وقال ابن جبير «وللجامع الاموي اربع سقايات في كل جهة

سقاية باب جيرون ، وباب جيرون مفروش بالبلاط الطويل العريض وهو خمسة ابواب مقوسة لها ستة أعمدة. وفي جهة اليسار منه مشهد كبير كان فيه رأس الحسين رضي‌الله‌عنه قبل أن ينقل الى القاهرة. وبازائه مسجد صغير لعمر بن عبد العزيز رضي‌الله‌عنه. قد انتظمت أمام البلاط أدراج ينحدر عليها الى الدهليز وهو كالخندق العظيم يتصل الى باب عظيم الارتفاع ينحسر الطرف دونه سموا قد حفته أعمدة كالجذوع طولا وكالاطواد

٥٧

ضخامة. وبجانبي هذا الدهليز أعمدة قامت عليها شوارع مستديرة فيها حوانيت العطارين وغيرهم وعليها شوارع مستطيلة فيها الحجر والبيوت. وفي وسط الدهليز حوض بانبوب صفر يزعج الماء بقوة فيرتفع الى الهواء أزيد من القامة وحوله أنابيب صغار ترمي الماء علوا فيخرج عنها كقضبان اللجين وكأنها أغصان تلك الدوحة المائية ومنظرها ابدع من أن يوصف

وعن يمين الخارج من باب جيرون في جدار البلاط الذي أمامه شبه غرفة لها هيئة طاق كبيرة مستديرة فيها طيقان من صفر وقد فتحت أبوابا صغارا على عدد ساعات النهار ودبرت تدبيرا هندسيا فعند انقضاء ساعة من النهار تسقط صنجتان من صفر من فمي بازيين من صفر قائمين على طاستين من صفر مثقوبتين فتبصر البازيين يمدان اعناقهما بالبندقتين (١) الى الطاستين ويقذفانهما بسرعة

__________________

(١) كانت في الاصل «بالصيحتين» المحرفة عن «الصنجتين»

٥٨

وتدبير عجيب تتخيله الاذهان سحرا فعند وقوعهما يسمع لهما دوي فيعودان من الاثقاب الى داخل الجدار الى الغرفة وينغلق الباب للحين بلوح صفر فلا يزال كذلك حتى تنقضى الساعات فتنغلق الابواب كلها ثم تعود الى حالاتها الاولى

ولها بالليل تدبير آخر وذلك ان في القوس المنعطف على الطيقان المذكورة اثنتي عشرة دائرة من النحاس مخرمة في كل دائرة زجاجة وخلف الزجاجة مصباح يدور به الماء على ترتيب مقدار الساعة فاذا انقضت عمّ الزجاجة ضوء المصباح وأفاض على الدائرة شعاعا فلاحت دائرة محمرة ثم ينتقل الى الاخرى حتى تنقضي ساعات الليل وقد وكل بها من يدبر شأنها فيعيد فتح الابواب ويسرح الصنج الى موضعها وهي التي تسمى الميقاتية (١)»

فصححناها من رحلة ابن جبير. وفيما نقل هنا عن ابن جبير اختصار وتلخيص في مواضع كثيرة

__________________

(١) في رحلة ابن جبير «وهي التي يسميها الناس المنجانة»

٥٩

انتهى كلام ابن جبير والله أعلم

ومن محاسن الشام قلعتها وحسن بنائها واتساعها فانها قدر مدينة. وبها ضريح السيد الجليل ابي الدرداء رضي‌الله‌عنه. وبها جامع وخطبة كالمدينة فانها بفرد خطبة لا غير وخارج المدينة الخطب الكثيرة يعسر الآن علينا تعدادها. وبها حمام وطاحون وبعض حوانيت لبيع البضائع. وبهادار الضرب التي تضرب فيها النقود. وبها الدور والحواصل وبها الطارمة التي ليس على وجه الأرض أحسن منها كأنها افرغت بقالب من شمع ينظر الرائي اعلاها فيحسن نظره وان طال مرآه

وهي تسامت رءوس الجبال. يقال ان تمرلنك لما ان حاصرها وعجز عنها امر أن ينقب تحتها وتقطع الاشجار وتعلق بها حتى اذا انتهى تعليقها اطلق النار فيما تحتها من الاخشاب وظن انها تفسخ بذلك وتسقط شذر مدر فيبلغ مراده من أخذ القلعة. فلما عمت النار فيما تحتها بركت بصوت أزعج الوجود كما يبرك الاسد فمن ثم سمّوها

٦٠