نزهة الأنام في محاسن الشام

أبي البقاء عبدالله بن محمد البدري المصري الدمشقي

نزهة الأنام في محاسن الشام

المؤلف:

أبي البقاء عبدالله بن محمد البدري المصري الدمشقي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: المكتبة العربيّة
المطبعة: المطبعة السلفيّة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣٩٢

الحمراء فأمر بتناوله من ذلك التراب فلما لمسه بيده أعجبه ورأى لونه كالزعفران فامر بالنزول هناك وان يحفر حفيرة فلما حفرت أمر برد التراب فردوه ففضل منه ثلثه فقال (الاسكندر) للغلام (دمشقش) ارجع الى الموضع الذي به الارز وانزل الوادي واقطع الاشجار التي على حافاته وابنها مدينة وسمها باسمك فهناك يصلح أن يكون مدينة وهنا يصلح أن يكون زرعها فانه يجزئها ويكون منه ميرتها. يعنى المكان المسمى بحوران والبثنية. فرجع الغلام دمشقش الى الغيضة واختط بها المدينة وجعل لها ثلاثة ابواب الأول (باب جيرون) والثاني (باب البريد) والثالث (باب الفراديس) وهذا القدر هو المدينة فاذا غلقت هذه الثلاثة الأبواب فقد اغلقت المدينة وتحصنت. وخارج الابواب مرعى ونبات وأعشاب وما أشبه ذلك. وكان قد بنى له فيها كنيسة يعبد الله تعالى [فيها] وهي الموضع الذي هو الآن الجامع

وقيل إن الذي بنى الكنيسة اليونان. وقيل بل وسعوها هم وكبروها على ما هي عليه اليوم من الجامع المعمور

٢١

بذكر الله تعالى

وسكنها (دمشقش) واستمر بها الى أن مات فيها وبه عرفت وسميت ، غير ان طول الازمنة وتغير الاحوال واختلاف الالسنة حذفت شينه وسكنت قافه فقيل (دمشق) وقيل انما اسمه دمشق وبه سميت

وقال الجوهري دمشق المراد به السرعة ويجمع على دماشق ومنه قول الهذلي :

دماشق يعفقن عفق السعالى

خفاف التوالي طوال الجزور (١)

وناقة دمشق أي سريعة جدا ومثالها حضجر ومنه قول الزفيان «وصاحبي ذات هباب دمشق»

قال الجوهري و (دمشق) هي قصبة الشام. انتهى.

وقال ابو مسهر عبد الأعلى راوي الحديث المتقدم ان الذي بنى حصن (دمشق) هو الذي حول أبواب (بيت المقدس) الى مسجدها وجعله على مساحته

__________________

(١) لم نجد هذا في (الصحاح) وفيه الاسطر الثلاثة التالية :

٢٢

واليونان هم الذين وضعوا الارصاد وتكلموا على حركات الكواكب واتصالاتها ومقارنتها وبنوا (دمشق) في طالع سعيد واختاروا هذه البقعة الى جانب الماء الوارد بين هذين الجبلين ، وصرفوا أنهارا تجرى الى الاماكن المرتفعة والمنخفضة وسلكوا الماء في أبنية الدور بها وبنوا هذا المعبد وكانوا يصلون الى القطب الشمالي فكانت محاريبه تجاه الشمال وبابه يفتح الى جملة القبلة حيث المحراب اليوم كما شاهدنا ذلك عيانا لما نقضوا بعض الحائط القبلي وهو باب حسن مبني بحجارة منحوته عن يمينه ويساره بابان صغيران بالنسبة اليه وكان غربىّ المعبد قصرا منيفا جدّا تحمله هذه الاعمدة التي بباب البريد وشرقيه باب قصر جيرون وهي «إرم ذات العماد ، التي لم يخلق مثلها في البلاد» انتهى

وقال بعض المؤرخين الذي بني (باب جيرون (١)) سليمان عليه‌السلام بنته له الشياطين وكان الذى تكفل

__________________

(١) فى الاصل «الذي بباب جيرون»

٢٣

بعمارته اسمه (جيرون) فسمى به

وقال بعض المؤرخين بناه (عاد) وقيل بل ولده (سعد) كان له ولدان احدهما اسمه (جيرون) والآخر (بريد) فبنى لهما هذين القصرين على أعمدة وفتح لكل قصر منهما بابا الى المعبد فسمى كل واحد باسم صاحبه وهو أول من صنع المدينة وأحدث بها البناء وعمل لها الابواب:

الاول (الباب الصغير) وهو الذي نزل عليه (يزيد بن أبى سفيان) في حصار المسلمين الروم ودخل منه. وسمى بذلك لانه كان أصغر أبوابها حين بنيت. وقيل يسمى (باب الجابية الصغير) وهو في قبلة البلد

الثانى (باب كيسان) وهو من شرقيّه وينسب الى (كيسان مولى معاوية) لنزوله عليه قلت وهو الآن مسدود

ويليه الثالث وهو (باب شرقيّ) لانه شرقيّ البلد وعليه نزل (خالد بن الوليد) رضي‌الله‌عنه ومنه دخل عنوة كما في التواريخ المطولة

ويليه الرابع وهو (باب توما) من شام البلد ينسب

٢٤

الى عظيم عن عظماء الروم وسمي باسمه وكان له عليه كنيسة

ويليه الباب الخامس وهو المسمى (بباب الجنيق) منسوب الى رومي اسمه (الجنيق) وبه تعرف (محلة الجنيق) كانت خارج البلد تسمى (الفراديس) والفراديس بلغة الروم البساتين

ويليه السابع وهو (باب الجابية) منسوب الى (قرية الجابية) وكانت في الجاهلية مدينة عظيمة انتهى. وقال الحافظ ابن عساكر رحمه‌الله كان باب الجابية ثلاثة ابواب الاوسط منها كبير ومن جانبيه بابان صغيران وكان الباب الشرقي بهذه الصفة لكونه مقابله وكان من الثلاثة الابواب ثلاثة اسواق ممتدة من الباب الشرقي الى باب الجابية

وكان الأوسط من الأسواق الثلاثة للمشاة من الناس ، وأحد السوقين [لمن] يشرّق بدابة والآخر لمن يغرّب بدابة حتى لا يلتقي فيهما راكبان

والأبواب صوروها على الكواكب فزحل على باب كيسان وعلى الباب الشرقي صورة الشمس وعلى باب توما

٢٥

الزهرة وعلى باب الجنيق القمر (١) وعلى باب الفراديس عطارد وعلى باب الجابية المشتري وعلى الباب الصغير المريخ (٢)

وكان من حكماء اليونان من اتخذ على باب الجابية صورة انسان مطرق الرأس كالمتفكر ومن أعماله أنه اذا دخل أحد يريد بدمشق سوءا أو بأهلها فان ذلك الانسان يصر لأنينه الباب فيعلم به خدمة الباب وقوامه. انتهى

والمرحوم نور الدين محمود بن زنكي الشهيد افتتح لها بابا وسماه باب السلام (٣) وأحدث باب الفرج وسماه بذلك لما وجد الناس به من الفرج

قال ابن عساكر وكان بقربه باب يسمى باب العمارة فتح عند عمارة القلعة فسدّ وأثره باق الى يومنا هذا وأول

__________________

(١) في ابن عساكر (١ : ١٦) وباب الفراديس الآخر المسدود للقمر

(٢) في ابن عساكر الباب الصغير للمشتري وباب الجابية للمريخ

(٣) في الاصل «باب السلامة»

٢٦

من بنى القلعة اقسر ابن آوق ولما جدد الملك العادل أبو بكر بن أيوب القلعة أذهب باب العمارة. والله أعلم

ويليه الباب الجديد وهو الآن خاص بالقلعة والذي أحدثه الأتراك في دولتهم ثم صحفته العوام بالحديد (١) وهو يفتح الى القلعة يليه من الغرب باب السر سمي بذلك لكونه يفتح الى القلعة أيضا وكانت الأتراك ينزلون منه سرا ويطلعون منه ويجوز الخارج منه على جسر من خشب من تحته الخندق الدائر بالقلعة ينيف عمقه على مائة ذراع بالعملة به يتخزن الماء وينبت البوص وغير ذلك وهو غير خندق المدينة

واصطلح في آخر دولة ابن قلاوون أن من يولى نيابة دمشق أن يصلي عند هذا الباب ركعتين مستقبل القبلة بحيث يبقى الباب على يساره ويقف أجناد القلعة وأرباب الوظائف والاتراك في منازلهم على حسب العادة متحملين السلاح الى أن يفرغ من صلاته ودعائه فان أريد به شر

__________________

(١) قال ابن عساكر (١ : ١٦) باب الحديد في سوق الاساكفة

٢٧

قبض عليه ودخلوا به من ذلك الباب ويقفلون الجسر بينهم وبين أعوانه ، فان الجسر بلوالب يحيل بينهم. وان أريد به خير ركب في عزه ووجوه الدولة في خدمته الى أن ينزل بدار العدل التي أنشأها المرحوم نور الدين الشهيد.

وهي التي تسمى اليوم بدار السعادة وهي تلي باب السرور وعلى بابها باب النصر فتحه الملك الناصر بن أيوب للمدينة

وهذه الخمسة الابواب الحادثة جميعها فيما بين بابي الجابية والفراديس الاباب السلام وفي السور أبواب صغار تفتح عند الحاجة اليها غير ما ذكرنا وغالب هذه الأبواب القديمة بنى عليها منائر نور الدين الشهيد رحمه‌الله على مساجد وجعل لكل باب باشورة كالسويقة بها حوانيت مملوءة بالبضائع فاذا حصنت المدينة وقفلت الأبواب يستغنى أهل كل باب من هذه الأبواب بما عندهم وهو مقصد جميل. والله أعلم

ومن محاسن الشام افتتاحها على يد الصحابة رضي‌الله‌عنهم قال الحافظ ابن عساكر لما فتح الله تعالى على المسلمين

٢٨

الشام بكماله ومن جملته (دمشق) المحروسة بجميع اعمالها وانزل الله عزوجل رحمته فيها وساق بره اليها كتب أمير المؤمنين (١) وهو اذ ذاك أبو عبيدة رضي‌الله‌عنه كتاب أمان وأقر بايدي النصارى أربع عشرة كنيسة وأخذ منهم نصف هذه الكنيسة وأخذ منهم التي كانوا يسمونها كنيسة مريحنا بحكم أن البلد فتحه خالد بن الوليد رضي‌الله‌عنه من الباب الشرقي بالسيف وأخذت النصارى الامان من أبي عبيدة وهو على باب الجابية فاختلفوا ثم اتفقوا على أن جعلوا نصف البلد صلحا ونصفه عنوة فاخذ المسلمون نصف هذه الكنيسة الشرقي فجعله أبو عبيدة رضي‌الله‌عنه [مسجدا وكانت قد صارت اليه إمارة الشام فكان أول من صلى فيه أبو عبيدة رضي‌الله‌عنه](٢) ثم الصحابة بعده في البقعة التي يقال لها محراب الصحابة رضي‌الله‌عنهم ولم يكن

__________________

(١) أي الأمير على من شهد هذا الفتح من المؤمنين

(٢) الموضوع بين هاتين الاشارتين [ ] كان ناقصا من النسخة البغدادية وأكمل من النسخة المصرية

٢٩

الجدار مفتوحا بمحراب محنى وانما كان المسلمون يصلون عند هذه البقعة المباركة

وكان المسلمون والنصارى يدخلون من باب واحد وهو باب المعبد الاصلي الذى كان في جهة القبلة مكان المحراب الكبير الذي هو اليوم حسبما سلف لنا ذكره فينصرف النصارى الى جهة الغرب لكنيستهم ويأخذ المسلمون يمنة الى مسجدهم. ولا يستطيع النصارى أن يجهروا بقراءة كتابهم ولا يضربون بناقوس اجلالا للصحابة رضي‌الله‌عنهم ومهابة لهم وخوفا منهم

ولما ولي امارتها معاوية رضي‌الله‌عنه بنى دار الامارة وسماها (الدار الخضراء) وسكنها معاوية أربعين سنة والامر على ذلك. والله أعلم

ومن محاسن الشام ما ورد في فضل مسجدها. نقل عن بعض المفسرين في قوله تعالى (وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ وَطُورِ سِينِينَ وَهذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ) عن قتادة أنه قال : لقد أقسم الله تعالى بأربعة مساجد فان التين هو مسجد دمشق

٣٠

والزيتون مسجد بيت المقدس وطور سينين حيث كلم الله عزوجل موسى عليه‌السلام والبلد الامين مكة المشرفة

وعن يزيد بن ميسرة قال : أربعة أجبل مقدسة بين يدي الله تعالى : طور زيتا ، وطور سينا ، وطور تينا ، وطور تيمانا. قال فطور زيتا بيت المقدس ، وطور سينا طور موسى عليه‌السلام ، وطور تينا مسجد دمشق ، وطور تيمانا مكة المشرفة

وعن محمد بن شعيب قال : سمعت غير واحد من قدمائنا يذكرون أن التين مسجد دمشق. وأنهم قد أدركوا فيه شجرا من تين قبل أن يبنيه الوليد

وعن عمرو بن الدونس الغساني في تفسير والتين قال : التين مسجد دمشق ، كان بستانا لهود عليه‌السلام ، وفيه تين قديم

وعن القاسم بن عبد الرحمن قال : أوحى الله تبارك وتعالى الى جبل قاسيون أن هب ظلك وبركتك لجبل بيت المقدس. قال ففعل. فاوحى الله عزوجل اليه : اما

٣١

وقد فعلت فاني سأبني لي في حضنك بيتا. قال الوليد بن مسلم في حضنك أي وسطك وهو المسجد أعني مسجد دمشق أعبد فيه بعد خراب الدنيا أربعين عاما ولا تذهب الايام والليالي حتى أرد عليك ظلك وبركتك. قال فهو عند الله بمنزلة المؤمن الضعيف المتضرع

ويقال ان أول من بنى جدران هذا الجامع الاربعة هود عليه‌السلام ، وكان هود قبل ابراهيم الخليل عليهما‌السلام بمدة طويلة

وقد جاء في الاخبار ان ابراهيم عليه الصلاة والسلام قاتل شمالي دمشق عند (برزة) قوما من أعدائه فظفر بهم وكان مقامه لمقاتلتهم عند قرية برزة وبه سميت عند بروزه على أعدائه وبها متعبده بسفح الجبل ينسب اليه. وكانت دمشق عامرة إذ ذاك

وعن مسلم بن الوليد قال لما أمر الوليد بن عبد الملك ببناء مسجد دمشق وجدوا في حائط المسجد القبلي لوحا من حجر منقوش فأتوا به الوليد فلم يجد من يحسن قراءته

٣٢

فدلوه على وهب بن منبه فبعث اليه فلما قدم أخبره بموضع ذلك اللوح فقرأه وهب فاذا فيه موعظة (١) وفي آخرها كتب في زمن سليمان بن داود عليهما‌السلام. والله سبحانه وتعالى أعلم

ومن محاسن الشام بناء معبدها. قال ابن عساكر : لما صارت الخلافة الى الوليد بن عبد الملك عزم على أخذ بقية هذه الكنيسة وإضافتها الى ما بأيدي المسلمين وجعل الجميع مسجدا واحدا وذلك لتأذي المسلمين بسماع قراءة النصارى في الانجيل ورفع أصواتهم في الصلاة فاحب أن يبعدهم عن المسلمين فطلب النصارى وسألهم أن يخرجوا عن بقية الكنيسة ويعوضهم اقطاعات كثيرة عرضها عليهم وان يقر لهم اربع كنائس لم تدخل في العهد وهي كنيسة مريم وكنيسة المصلبة وكلا هما داخل الباب الشرقي وكنيسة تل الجبن وكنيسة حميد بن درّة (٢) التي بدرب الصيقل

__________________

(١) هذه الموعظة في تاريخ ابن عساكر (١ : ١٩٧)

(٢) قال ابن عساكر (١ : ٢٤٢) : هو حميد بن عمرو بن مساحق القرشي العامري ، وأمه (درة) بنت أبى هاشم خال معاوية بن أبي سفيان ، وهو أبو هاشم بن عتبة بن ربيعة. وكان لدرب اقطاعا له فنسبت الكنيسة اليه

٣٣

فأبوا ذلك أشد الاباء فقال ائتونا بعهدكم الذي بأيديكم في زمن الصحابة فقريء بحضرة الوليد فاذا كنيسة توما التى كانت خارج باب توما لم تدخل في العهد وكانت فيما يقال أكبر من كنيسة مريحنا فقال أنا أهدمها وأجعلها مسجدا فقالوا بل يتركها أمير المؤمنين وما ذكر من الكنائس ونحن نرضى بأن يأخذ بقية كنيسة مريحنا فاقرهم على تلك الكنائس وأخذ منهم بقية الكنيسة

ثم امر الوليد بالهدم فجاءت اساقفة النصارى وقساوستهم وقد ندموا فقالوا يا أمير المؤمنين إنا نجد في كتبنا أن من يهدم هذه الكنيسة يجن فقال انا أحب أن اجن في الله والله لا يهدم فيها أحد قبلي ثم صعد المنارة الغربية وكانت صومعة عظيمة فاذا فيها راهب فأمره بالنزول منها فأبى الراهب فأخذ بقفاه وحدّره منها ثم وقف على أعلى مكان

٣٤

منها فوق المذبح الاكبر الذى يسمونه الشاهد وأخذ فاسا وضرب أعلى حجر فالقاه فتبادر الامراء والاجناد الى الهدم بالتكبير والتهليل والنصارى تصرخ بالعويل على درج باب البريد وجيرون وقد اجتمعوا فامر الوليد صاحب الشرط أن يضربهم وهدم المسلمون جميع ما كان من آثارهم من المذابح والابنية والحنايا حتى بقى صرحة مربعة

ثم شرع في بنائه بفكرة جيدة على هذه الصفة الحسنة التي لم يشهد مثلها من قبلها ولا من بعدها

واستعمل الوليد في هذا المسجد خلقا كثيرا من الصناع والمهندسين والمرخمين. وكان المستحث على عمارته أخوه سليمان بن عبد الملك ويقال ان الوليد بعث الى ملك الروم يطلب منه صناعا في الرخام والاحجار وغير ذلك ليعمروا هذا المسجد على ما يريد وأرسل يتوعده إن لم يفعل ليغزونّ بلاده بالجيوش وليخربن كل كنيسة في بلاده حتى القيامة التى بالقدس الشريف ويهدم كنيسة الرّها وجميع آثار الرّوم. فبعث ملك الروم صنّاعا كثيرة جدّا وكتب

٣٥

اليه يقول له ان كان ابوك فهم هذا الذي تصنعه وتركه فانه لوصمة عليك وان لم يفهمه وفهمته انت فانه لوصمة عليه. فاراد ان يكتب اليه الجواب واذا بالفرزدق الشاعر دخل عليه فاخبره بما كتبه ملك الروم فقال يا امير المومنين انت جعلت اخاك سليمان هو القائم بأمر العمارة والجواب بنص القرآن (فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ وَكُلًّا آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً) فاعجب ذلك الوليد وارسل به جوابا لملك الرّوم

ولما اراد الوليد ان يبنى القبّة التي في وسط الرواقات التى يقال لها قبّة النسر (قلت وهو اسم حادث على ما اظنّ كأن العوام شبهوها بالنسر في شكله لأن الرواقات عن يمينها وشمالها كالاجنحة لها) حفر لأركانها حتى وصل الى الماء وشربوا منه ماء عذبا زلالا ثم وضعوا فيه جراز الكرم وبنوا فوقها بالحجارة فلما ارتفعت الاركان عقدوا عليها القبة فسقطت. فقال الوليد وقد أعياه أمرها لبعض المهندسين اريد أن تبني لي أنت هذه القبة. فقال علي أن تعطيني عهد الله وميثاقه أن لا يبني فيها أحد غيرى

٣٦

وان لا يعارضني فيما أرومه. ففعل ذلك. وبنى الاركان ثمّ سترها بالبواري والحصر واختفى سنة لا يعلم الوليد أين ذهب ولا يستطيع أن يدع أحدا يتمّها. فلما كان بعد العام حضر على الوليد فقال له : كيف حتى عطلت البناء. قال لامر خفى على أمير المؤمنين وعلى البنائين ثم قال يا أمير المؤمنين احضر معي حتى أوقفك على ذلك فلما حضر الوليد وكشف الحصر والبواري عن الاركان فاذا هي هبطت بعد ارتفاعها حتى ساوت الارض. فأعجب الوليد و [رجال] الدولة وخلع عليه. ثم أكمل بناءها وعقدها على الهيئة المعلومة الآن

وأراد الوليد أن يجعل بيضة القبة من ذهب خالص ليعظم بذلك شأن المسجد فقال له بعض المعلمين : انك لا تقدر على ذلك. فضربه خمسين سوطا وقال له ويلك أنا أعجز عن ذلك. فقال له المهندس الذي بناها : صدق يا أمير المؤمنين وأنا اوضحه لك. فأمر أن يسبك له لبنة على القدر الذي يطلبه. فلما أحضرها قال أمير المؤمنين : احسبوا القدر الذي دخل فيها. فوجدوه عدة من الالوف فقال : يا أمير

٣٧

المؤمنين اريد مثل هذه كذا وكذا الف لبنة فان كان عندك ما يكفي عملناه. فلما تحقق الوليد صحة قوله أطلق المضروب ورسم له بخمسين دينارا واعتذر اليه

ولما سقف الوليد الجامع جعلوا أسقفه جملونات وباطنها مسطحا مقرنصا بالذهب. فقال له بعض أهله : أتعبت الناس بعدك بتلبيس سطح هذا الجامع في كل عام. فأمر الوليد أن يجمع ما في بلده وباقي معاملته من الرصاص ليجعله عوض الطين ويكون أخف على السقف ، فجمع ذلك. فلم يكفه. ثم بلغ الوليد ان امرأة عندها من الرصاص القناطير المقنطرة ورثته من ابيها ، فساوموها في بيعه فأبت وقالت : لا ابيعه الا بثقله فضة. فقال لهم : نشتريه لحاجتنا بزنته فضة. فلما اخبروها ان امير المؤمنين سمح لك بزنة ما قلت. قالت : حيث كان صادقا في حب الله فانا احب ان يكون لى في هذا الجامع شيء في حب الله خذوه باجمعه ، فكفاه وفضل. وذكر بعض المؤرخين ان هذه المرأة كانت اسرائيلية

٣٨

وقال ابن عساكر اشترى الوليد هذين العمودين تحت قبة النسر من خالد بن يزيد بن معاوية بألف وخمسمائة دينار

قال وكان في مسجد دمشق اثنا عشر الف مرخم

واشترى لوحين [من] رخام فستقى من الاسكندرية بمائة اشرفي ونقلهما ووضعهما على محل الغار التي فيها رأس يحيى بن زكريا عليهما‌السلام. وقيل انهما كانا في عرش بلقيس مع الستة الشبابيك التي في مشهد المؤذنين على الباب والمشهد الذي تجاهه

وعن يزيد بن واقد قال وكلنى الوليد على العمال في بناء الجامع فوجدنا فيه مغارة فعرّفنا الوليد. فلما كان الليل وافى وبين يديه الشمع فنزل فاذا هي كنيسة لطيفة ثلاثة اذرع في ثلاثة اذرع واذا فيها صندوق ففتح الصندوق فاذا فيه سفط وفي السفط رأس يحيى بن زكريا. فأمر الوليد بردّه الى مكانه وقال : اجعلوا العمود الذي فوقه معينا بين الاعمدة. فجعلوا عليه عمودا مسفط الرأس

وذكر بعض المؤرخين انّ ارض الجامع كانت مفروشة

٣٩

بالفصوص المزمكة بالذهب المسماة بالفسيفساء. وان الرخام كان في جدرانه سبع وزرات. ومن فوقه صفات البلاد والقرى وما فيهما من العجائب. وان الكعبة المشرفة وضع صفاتها فوق المحراب. ثم فرق البلاد يمينا وشمالا وما بينهما من الاشجار المثمرة والمزهرة وغير ذلك. وجعل سلاسل المصابيح من نحاس محلّى بالذهب. ورتب له من الشموع ما يوقد منه في اماكن مختصة. واصطنع في صحنه صفة مجامر على اعمدة برسم البخور ووكل بذلك خدمة لا يفترون ليلا ولا نهارا حتّى كان يشمّ روائح البخور من مسيرة فرسخين وسبك له سرجا من نحاس كلّ سراج يوضع فيه قنطار زيت وجعل على كلّ باب سراجا. وجعل في محراب الصحابة رضي‌الله‌عنهم اجمعين حجر بلّور ، وقيل بل درّة لا قيمة لها وكانت اذا طفئت المصابيح يقوم نورها مكانها وان الامين بن الرشيد ارسل الى صاحب دمشق ان يسيّرها اليه فاختلسها وسيّرها اليه ، وقيل انه لمّا رآها امر بردّها. وقال الحافظ ابن عساكر ثم ذهبت بعد ذلك فجعل مكانها

٤٠