الاعجاز العلمي في القرآن

سامي أحمد الموصلي

الاعجاز العلمي في القرآن

المؤلف:

سامي أحمد الموصلي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار النفائس للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ١١١

صدقت كلماتنا ، وإن أخضعنا كلماتنا لكلمات الله فزنا بالعلم كله وبالنجاة من الشك والريب وبحسن المسيرة في الحياة إلى مصيرنا الذي حتّمه الحق سبحانه» ، ويقول (١) «إن سائر قوانين المادة ، وقوانين علاقاتنا البشرية بها مذخور هاهنا ، فالكلمة القرآنية ليست كلمة تقال كأي كلمة ولكنها حشد للحياة ، خاضعة لكلمات الله خضوع عبادة لله» ، إن الله هو الذي يمنحنا مصادر الأفكار ومواردها ، فكلماتنا ما لم تخضع له ، إذ نتفكر في آياته ، فهي باطلة ، وليس في وسعنا إذن أن نتكلم فنصدق. ويخلص المؤلف إلى القول (٢) : «إن الحياة كلها لم تعرف كتابا واحدا عدا القرآن قد كشف الحقيقة الشاملة للحياة ليكون هو ، في إحكام كلماته وفي تفصيلاتها ، قد أحاطها بالحياة ، وحكمها حكما شاملا للمادة والأخلاق جميعا».

على أن للمؤلف رأيا لا يمكن تجاهله في إيضاحنا لفهمه للقرآن وتفسيره ، فهو ، بناء على نظريته في الكلمة القرآنية المعجزة ، وتطبيقا لعنوان كتابه «القرآن تفسير الكون والحياة» يجد ، ضمن مفردات تحليله لكلمة تفسير وتأويل الواردة في القرآن ، أن القرآن لا يمكن أن يفسّره أحد مهما بلغ من العلم ، وحتى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم إنما بيّن القرآن بيانا وطبّقه عمليا ولم يفسّر القرآن أو يؤوله رغم أنه مؤيد من الله بأنه (وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى (٣) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى) [النجم / ٣ ، ٤] ، فكيف يشرح هذه الفكرة بمصطلحاته وصياغاته اللغوية الخاصة؟. يعقد المؤلف فصلا تحت عنوان (أفلا يتدبرون القرآن) يبدأ بسؤال (كيف نفسّر حياتنا في القرآن) ليصل إلى أن العلاقة لمّا كانت بين الإنسان ، وشأنه الخضوع لكتاب الله ، وبين القرآن ، وشأنه حكم كل شيء بكلمات الله ، لذا فمن أراد أن يفهم الحياة أو يفسّرها فلن يتحقق له شيء من ذلك إلا بالقرآن ، فهذا محتاج إلى ربط أنفسنا بالقرآن كلّما تدبرنا القرآن ، ثم ليستنتج (٣) «بأن القرآن حقا هو تفسير الحياة ، ولا يمكن أن يكون للحياة تفسير غير القرآن ، والمقصود بالحياة الكون والحياة معا بل والوجود حاضره وغائبه».

إنه ينعي على التعبير العملي للحياة عجزه عن متابعة متغيراتها ومفاجآتها في كل لحظة (٤) «إذا كانت الحياة الإنسانية كلها تبحث عن لغة للتعبير فلا تجد لأن متغيرات الحياة تفاجئنا كل لحظة بما لم يكن في الحسبان. إن القرآن هو التفسير ، التفسير الوحيد اليقين المطلق لكل شيء للحياة في شمولها وتفصيلها».

__________________

(١) القرآن تفسير الكون والحياة ـ محمّد العفيفي ، ص ٧٨.

(٢) المصدر السابق ، ص ٨٦.

(٣) المصدر السابق ، ص ٢٨٦.

(٤) المصدر السابق ، ص ٢٨٧.

٨١

وهكذا حينما يستشهد بقول القرآن (وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْناكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً) [الفرقان / ٣٣] نراه يعلق على كلمة (تَفْسِيراً) «بأنها جاءت مرة واحدة دالة على أن كلام الله هو الذي يفسّر كل ما عداه تفسيرا ، هو الحق فليس بعد الحق إلا الضلال ، فمهما يحاول الناس أن يصيبوا الحق في تفسيرهم أمرا من أمور الحياة ، فربما تيسّر لهم شيء من صواب الرأي أو القول ، ولكنهم لن يعلموا يقينا أنهم أصابوا أحسن الحديث وأحسن العمل ، كمن يسافر من بلد إلى آخر ، فلعلّه يختار مكانا من البلد وصل إليه وغيره أحسن منه وهو لا يدري من ذلك شيئا ، بل هو لا يدري وجه الإصابة فيما أصاب ، واليقين لا مصدر له إلا الله وحده لا شريك له» ، ويستشهد بحديث الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم (من قال في القرآن برأيه فأصاب فقد أخطأ) ، ويشرحه بقوله (١) : «إن الأصل في القرآن أنه هو اليقين ، فلا يكافئه في القول فيه إلا اليقين ، ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم هو المؤيد باليقين ، فكان كلامه عن القرآن وعمله به هي الصدور الكامل عن الوحي ، وكان ما عدا ذلك من القول بالرأي باطلا لأنه إن صادف وجه الحق ، والحق بكل شيء محيط ، فليس يغني ذلك من اليقين بالحق ووضوحه في وعي القائلين بالرأي ، حيث لا يغنيهم أن يصلوا إلى الحق اتفاقا لا يقينا ظاهرا في الاعتقاد الذي يبين العمل ويحققه تحقيقا كاملا في الضمير ، فضلا عن سائر الجوارح ، حيث هذا الظهور في الفهم هو طريق التواصي بالحق والتواصي بالصبر».

إن المؤلف يرى أن الآية السابقة تدل دلالة واضحة على أن القرآن هو الذي يفسّر وليس هو الذي يفسّر ، ويبني رأيه على أنه ليس من شأننا ، نحن البشر العاديين ، بعد ذلك أن نقول إن أحدا من الناس قد فسّر القرآن ، فإذا القرآن مفسّر وليس مفسّرا كما بيّن لنا القرآن ، وكما حقق لنا التفصيل المطلق لكلمات الله تعالى ، وقد استثني مقام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من هذا الحكم حيث هو المبلّغ ، وهو المؤدي للأمانة ، فهو المبيّن للبيان القرآني ، وبيان البيان هو التبليغ وليس التفسير. أما كلمة التأويل والتي يعتبرها المؤلف أدق تعبيرا عن القرآن من كلمة التفسير ، فهو أيضا شيء لا يقدر عليه أحد إلا الله ، ويكون التسليم بالنص القرآني ، حسب وروده ، هو البديل الوحيد للإنسان لكي يتلقى العلم الإلهي «فالتأويل هو عدم القدرة البشرية على التأويل ، ومعرفة الناس ذلك هو وضوح خضوعهم للحق سبحانه ، وهذا هو التسليم بحدود الإنسان وإقامة حدود الله في النفس والضمير والفكر ، والمعادل العملي لهذه الحقيقة هي تلمذة

__________________

(١) القرآن تفسير الكون والحياة ـ محمّد العفيفي ، ص ٢٧٥.

٨٢

المؤمنين للقرآن تلمذة كاملة شاملة متصلة ، فالمؤمن لا يدخل على القرآن برأيه وإنما يدخل عليه متأدّبا طالبا متتلمذا عالما بعجزه عن التأويل ، وهذا هو أقوى أسباب العلم» ، وأخيرا يصل إلى التعميم التالي لكل ما تقدم فيقول (١) : «فلسنا إذن من يفسّر القرآن أو يؤوله ، وإن كان للرسولصلى‌الله‌عليه‌وسلم شرف بيانه ، كما هو ظاهر في آياته البيّنات ، وتأويله في حدود العمل به ، إذ العمل نوع من أنواع التأويل ، ومقام الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم منه هو مقام الأسوة الحسنة ، ومقامنا نحن مقام التلقّي والأخذ عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مع الوعي بأن تأويل القرآن على أساس شامل متصل بأمور الغيب جميعا إنما هو من أمر الله وحده ، ولا سبيل لنا إلى ذلك إلا بالإيمان».

ومع أنه يعود ليستثني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من ذلك على أساس أنه قد يكون أن الله سبحانه قد أطلعه على تأويل من تآويل الغيب ولم يأمر ببيانه ليلة أسري به وعرج به إلى السماوات العلى ، إلّا أنّه يؤكد على أن ظاهر التأويل يدلّنا على أن تأويل الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم للقرآن كان بالنسبة العملية والقولية أي تحقيق القرآن بالعبادات أنه يبني موقفه على قوله تعالى : (إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (١٧) فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (١٨) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ) [القيامة / ١٧ ـ ١٩] فيقول بأن الله وحده هو الذي بيّن كلامه والرّسول الأعظم صلوات الله عليه قد بلّغ الرسالة ، وأدّى الأمانة بيانا للبيان لا بيانا لشيء محتاج لبيان ، وإننا لنقرأ في سورة الطلاق قوله تعالى (رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِ اللهِ مُبَيِّناتٍ) [الطلاق / ١١] ، كما نجد في سورة البقرة (٢) (وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ آياتٍ بَيِّناتٍ وَما يَكْفُرُ بِها إِلَّا الْفاسِقُونَ) [البقرة / ٩٩] ، أما دور الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وسلم في بيان القرآن للناس ، كما يقول المؤلّف ، فيكون في طريقين :

«أحدهما : متصل ببيان بيان القرآن ذاته ، وذلك من قوله تعالى ، كما نجده في سورة النّحل (وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) [النحل / ٤٤] ، فكون القرآن هو الذكر ، فهو بيان واضح يحتاجه التذكّر الإنساني ليعقد بينه وبين كل شيء العلاقة الصحيحة التي يتمّ بها الوعي بكل شيء ، والفعل المضارع (يَتَفَكَّرُونَ) يبيّن لنا الحالة الآنية بين الإنسان وموضوعات تفكّره وتذكّره.

وثانيهما : هو بيان حقائق الحياة الخارجية ، كما يبيّنها البيان القرآني ، وكما يبلّغ ذلك كلّه الرسول صلوات الله عليه ، فذلك ما نجده في الآية الرابعة والستّين من

__________________

(١) القرآن تفسير الكون والحياة ـ محمّد العفيفي ، ص ٢٧٩.

(٢) المصدر السابق ، ص ٢٨٢.

٨٣

سورة النحل أيضا (وَما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) [النحل / ٦٤]. فالذي اختلفوا فيه هو أساليب تفكّرهم ، وأساليب فهمهم لحقائق الأشياء ، حيث بيّن لهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن الحقّ جلّ وعلا هو وحده ربّ كل شيء ، وهذا بيان قرآني ظاهر ، فعمل الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم هو بيان البيان».

وهكذا يصل المؤلّف إلى ختام هذا القول بالتأكيد الواضح على أن كلمة التفسير في إطلاقها على القرآن على أساس أن يكون الناس هم الذين يفسّرون القرآن شيء غير صحيح ، أما من استطاع أن يتدبّر القرآن فليفعل على أن لا يدّعي أنّه يفسر كلاما محتاجا لتفسير ، وإنما على أساس أن القرآن هو المفسّر للحياة والأحياء ، وأن من يتدبّر القرآن من النّاس فهو إنما يفسّر الناس القرآن وهم منه بهذا المكان.

إذن ، فالمؤلّف يطرح كلمة التدبّر بدل التفسير والتأويل ، ويعتبر أن مقام رسول الله عليه الصّلاة والسّلام هو قمة التدبّر ومقام الكافة هو التدبّر ، كما يناقش المؤلف ابن تيمية في قوله بأن السنّة شارحة للقرآن ، ويناقش الأحاديث النبوية مثل (ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه) ، ويعتبر التطبيق العملي للقرآن هو معناها ، ويعتقد أن القرآن هو الذي يهيمن على السنّة ويفسّرها وليس العكس ، كما هو مشهور عند المفسّرين والأصوليين ، كما يرد على معنى الحديث (اللهم فقّهه في الدين وعلّمه التأويل) في حق ابن عباس ، فيورد اختلاف الرواة على كلمة التأويل حيث وردت مرّة ، ووردت بدلها الحكمة مرة أخرى ليصل إلى القول : «إن كلمة تأويل في حديثه صلى‌الله‌عليه‌وسلم تعني كلمة ما يؤول إليه أمر الحياة والأحياء جميعا ، إذ يحقّ الله تعالى الحقّ بكلماته» ، ويعتقد أن المقصود بقوله تعالى (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ) [الأعراف / ٥٣] هو حالنا في الدنيا ، حيث نحن بانتظار دائب لما سبق به القرآن من أنباء الغيب ، فتأويله متحقق في الدنيا على توالي اكتشافات العلوم ، وفي قمّة هذه الاكتشافات يوم يأتي تأويله ، أي يأتي يوم القيامة ، أما كلمة التأويل في الآية الأخرى (وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ) [آل عمران / ٧] ، أما الراسخون في العلم فعلمهم هو تسليمهم بالجهد الإنساني ، وبذلك يصبح الإيمان هو أعلى درجات العلم غير المباشر ، أي العلم المتصل بالإيمان بالحق. فهاهنا يتحقق العلم بعدم العلم البشري ، ويتحقّق الإيمان بالعلم الإلهي (وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ) [آل عمران / ٧] وقولهم (آمَنَّا بِهِ) هو اتصالهم بعلم الله ، فهم بالعبادة الخالصة لربّهم سبحانه بين عبادتين : عبادة بالفكر ، فهم الراسخون في العلم ، وعبادة بالعمل ، فهم في تطبيق متواصل للعلم الذي لا يحصل بالاكتساب وإنما يحصل بالاقتراب (وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ) [العلق / ١٩] ، وحينما يسأل هل بالإمكان الاستفادة

٨٤

من العلوم ، كالطب والفلك وعلوم الذرّة والرياضيّات وغيرها ، كوسائل لتدبّرنا للقرآن؟ يجيب أن الاحتياط الواجب اتخاذه هنا هو أن يكون المنطلق من كون هذه العلوم هي في مكان خضوعها للقرآن وخضوع كل شيء لأحكام القرآن «إننا مثلا حين نصنع الصواريخ ، وحين نصعد للقمر ننظر للإنجاز في ذاته والمنجزات في ذاتها ، ولا ندرك أن القرآن وصّل كل شيء بكل شيء فالأخلاق التي تحدّد لنا قيمة المنجزات وطريق عملنا بها إنما هي في القرآن. إن القرآن يحكم القوانين الأساسية لحركة الفصل والوصل في أعمق أعماق النفس والحياة ، القرآن يحكم حركة الحياة التي نجهل مصيرنا في غاياتها البعيدة» والمؤلّف يستغفر الله العظيم حينما يقال له إن العلم البشري من جهة ، والقرآن من جهة يكمل بعضهم بعضا ويجيب (١) : «القرآن في الحكم لأنه كلام الله فهو (الآمر) وحياتنا في الخضوع لأنّها من خلق الله فهي في (الخلق) ، يقول الله تعالى (أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبارَكَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ) [الأعراف / ٥٤] ، فحقيقة ذلك أن أي ابتداع في العلوم إنما هو الخضوع القهري لكلام الله ، فإن عرف الناس حسن الأداء للمنتجات فهم متصلون فكرا وعملا بالحياة ، فهذا الاتصال هو الحق والله يحقّ الحقّ بكلماته».

ولعلّ من أخطر ما جاء به هو قوله بأن القرآن هو الذي يحدّد اللغة وليست اللغة هي التي تحدّد القرآن ، في تعليقه على تفسير ابن تيمية لكلمة الصمد ، والتي قال بأن معناها اللغوي (غير الأجوف) ويقول (٢) : «أستغفر الله العظيم ، إن الله تعالى ليس كمثله شيء والأشياء منها الأجوف ومنها المصمد ، وهذه العثرة الكبرى من عثرات الكرام قد أدّى إليها الاعتماد على اللغة ، والقرآن هو الذي يحدّد اللغة ، وليست اللغة هي التي تحدّد القرآن ، ألم نتدبر معا من قبل قوله تعالى (وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ حُكْماً عَرَبِيًّا) [الرعد / ٣٧] ، فالقرآن ، إذن ، كلماته هي أحكامه ، والكلمة من كلمات اللغة إذا كانت قد جاءت في القرآن فهي بموقعها من القرآن ، وبصيغتها القرآنية إنما هي حكم يزيدنا بيانا كلما ازددنا توسعا في التدبّر ، ونحن في التدبّر خاضعون بلغتنا وحياتنا كلها لهذه الأحكام القرآنية».

__________________

(١) القرآن تفسير الكون والحياة ـ محمّد العفيفي ، ص ٣١١.

(٢) المصدر السابق ، ص ٣١٥.

٨٥

الإعجاز العلمي

في الإسراء والمعراج

حينما نتحدّث عن معجزة الإسراء والمعراج في إطار المعجزات العلمية الخارقة لجميع العصور ، ما جاء منها وما لم يجيء ، فإنما لكي ندلّل بهذه المعجزة على استمرارية إعجاز نبوة خاتم النبيين من خلال القرآن الكريم ، وإذا كانت أكثر المعجزات العلمية المذكورة في القرآن قد أصبحت الآن معلومة لدى الكثير من العلماء في الفيزياء والكيمياء والفلك والبيولوجيا ... إلخ ، وقد أصبح الإيمان من خلالها بالقرآن ، وبصدق نبوة النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم واضحة وساطعة ، إلّا أن القيمة الأكبر في المعجزة القرآنية في الجانب العلمي بقيت ، وستبقى أبد الدهر ، مما يستحيل تفسيره مهما تقدّمت العلوم وتطورت ، ومهما اكتشف من حقائق الكون والإنسان. إن العلم تحدّث عن ثلاثة أغطية للجنين ، أو ثلاثة حجابات في بطن أمّه ، واكتشفها حديثا ، وكان القرآن قد سبقه في الحديث عن الظلمات الثلاث ، كما أن العلم تحدّث عن وحدة الكون ، أي أن السماء والأرض كانتا واحدة وانفجرت ولا زالت تتمدّد في عملية الانفجار ، وكان القرآن قد قال (أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما) [الأنبياء / ٣٠] ، وكثير من المعجزات العلمية المكتشفة حديثا ، والتي سبق القرآن فيها العلوم كلّها فأشار إليها ، إلّا أن معجزة الإسراء والمعراج تبقى حتى اليوم قائمة تذكّر بإعجاز خارق لا يتكرّر ، ولا يستطيع أحد أن يدخله في مفردات الفيزياء والكيمياء والكون ، أي إنه باق على إعجازه كما كان حينما أرسل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى قريش ، فهو كما كان معجزا لهم لا زال معجزا لنا حتى الآن مع كل التقدم العلمي على كافة المستويات.

لقد اكتشف العلم الحديث الكون وأبعاده ، واكتشف الحياة ونشأتها عن الماء ، واكتشف كيفية حدوث الحمل والجنين في الأم ، كما اكتشف الذرة بمفرداتها والخلية الحية بأسرارها والطبيعة وجيولوجيا الأرض ، كما اكتشف حركة الكواكب والمجرّدات والفضاء ... إلخ ، واستطاع أن يصل إلى مفردات علمية سبقه القرآن بها منذ أربعة عشر قرنا ، ولكنّه ، بكل الأحوال ، اكتشف هذا الآن وأصبح الإعجاز لا

٨٦

ينصب إلّا على أن القرآن له السبق التاريخي في هذا ، وأنّه جاء عن طريق رجل أمّي لا يقرأ ولا يكتب ، في حين هو يفحم علماء القرن.

إذن ، ما دمنا قد فهمنا في القرن العشرين أسرار الحياة والكون والذّرّة ، فلنا إعجازنا نحن أيضا بقدرتنا على هذا التطور والتقدّم ، وبذلك أصبحت كثير من المعجزات العلمية ـ لا كلّها ـ في القرآن مسلّما بها في العلوم ، فكيف أستطيع أن أدعو إلى الإسلام والقرآن بعد أن انكشفت معالم الحياة والكون أمام الإنسان الجديد ، فاستطاع أن يفهم الكثير ، وحتى إذا ما قلت له إن هذا الإعجاز العلمي يدل على أن القرآن ليس من كلام البشر ، فهو لا بد أن يكون من عند الله تعالى ، وإذا ما صدّق المستمع هذا القول فإنه سيبقى يطالب بدليل إعجازي مستقبلي مستحيل حتى على نظرياته العلمية واكتشافاته الجديدة أن تصل إليه ، وهنا يأتي إعجاز الإسراء والمعراج كدليل لاستحالة كل ما جاء به على قدرة البشر مهما توصّلوا إلى تقدم وتقنية.

والإسراء والمعراج ليس آية تقرأ في القرآن ثم نحاول أن نبني عليها افتراضاتنا العلمية ، أي إنّها ليست خبرا وإنما حدثا واقعيا وقع للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعاشه بكيانه المادي الطبيعي ، فهو يتجاوز الإخبار بالحقائق العلمية المحتملة إلى الحوادث الواقعية المعاشة من قبل الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم في رحلته المباركة ، فإذا ما قال القرآن الكريم (وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍ) [الأنبياء / ٣٠] أو قال (أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما) [الأنبياء / ٣٠] فهذا يمكن طرحه كفرضية علمية ، والبرهنة عليه من خلال المختبرات والمجاهر والتلسكوبات ونظريات الفيزياء الذرية والكونية ، ولكن حينما يقول القرآن الكريم إن محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم انتقل عبر (دابة) من مكة إلى القدس ، ومن القدس عبر المعراج إلى السماوات العلى ، فهذا لا يبقى تحت التجربة العلمية لأنه يتجاوز كل الفرضية العلمية المعروفة حتى اليوم إلى ما هو أبعد من خيال أي عالم أو أديب ، فكيف يتحقّق ماديا وطبيعيا؟ بل إنه قد يتناقض مع مفردات العلوم الحديثة متجاوزا لها إلى أبعد مما يتصور الخيال. فإذا كانت العلوم الحديثة لا تستطيع أن تنقل الإنسان إلى القمر إلّا عبر التكنلوجيا المعقدة وأجهزة التنفس الصناعية ، فكيف بها إذا واجهت تحدّي اختراق السماوات العلى كلها في ليلة واحدة؟ وإذا ما رفض الإنسان أن يصدّق بمعجزة الإسراء والمعراج فسوف يجابه بمئات المعجزات العلمية التي تحقّقت اليوم قد أشار لها القرآن وحدّدها قبل ألف وأربعمائة سنة؟ فالذي يصدّق بمئات المعجزات العلمية ، والتي ليس ثمة تجربة علمية سبقتها للدلالة عليها ، وإنما هي آية من كلمات فقط جاء بها الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو أمّي لا يقرأ ولا يكتب ، هذا

٨٧

الذي يصدّق بهذه المعجزات العلمية كلها ، المكتشفة حتى الآن لا بدّ له أن يسلّم بأن القرآن هو من عند الله وليس كلام البشر ، وبالتالي فالذي يصدّق في مئات النماذج العلمية ، لما ذا أنكر عليه هذه المعجزة التي لم يصل علمي حتى الآن إليها؟ فلا بد أن أصدّق. وإذا ما سلّم بأن الله تعالى هو الذي تكلم بالقرآن ـ وهذا ما لا بد له منه ـ إذن فلا بد أن يصدّق أن الذي جاء به هو رسول من الله تعالى إلى البشرية ، على السياق المعروف في بعث الرسل أجمعين ، وهكذا تكون القيمة الإيمانية للإنسان المعاصر ، حينما يسلّم غيبا بما لم يثبت له علما ، فيحوز درجة المؤمنين الأوائل الذين آمنوا بالقرآن فصاحة وبلاغة إعجازية ، ولم يستطيعوا أن يصلوا إلى كل معاني القرآن العلمية ، فأسلموا وآمنوا ولم يطلبوا من البرهان أكثر مما جاءهم وتحمّلته عقولهم.

إذن ، معجزة الإسراء والمعراج ، بهذه الصورة الموصوفة بها ، تبقى دليلا أكيدا على إعجاز القرآن وعلى استمرارية دعوة النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم من خلال القرآن وشموليتها لكل الخلق ، وتؤكّد أن خاتم النبيين لم يترك العالم دون معجزة حتى وهو قد فارق الحياة ، بل ترك لهم معجزة ناطقة تتكلّم بكل اللغات الإنسانية ، وبوجوه متعدّدة تناسب كل عصر من العصور حتى قيام الساعة ، ولغتها اليوم ووجهها هي العلوم والتّقدّم العلمي ، فلو أرسل الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم اليوم إلى العالم لن تتغيّر مفردات كلماته ، ولن يتغيّر القرآن الذي جاء به فهو قد جاء للناس كافة بشيرا ونذيرا وشاهدا على الجميع ، وقد جاء قرآنه ليبقى الكتاب الذي فيه تبيان كل شيء ، لأنه تعالى لم يفرّط في الكتاب بشيء ، ويدلّل كل يوم على صدقه وإعجازه ، وقد أكّد ، بأكثر من آية ، أنّه يتحدّث لكل إنسان في كل عصر على مدى الزمان كله ويعطيه دليله وحجّته (سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُ) [فصلت / ٥٣] وقد تبيّن لنا اليوم أنّه الحق الأوحد في كل جانب وفي كل مكان وزمان. على أن من ميزة هذه المعجزة أنّها جاءت كحادثة للرّسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم مما تعتبر به تعظيما له وتقديرا وتبجيلا ، فلو كانت آية خبرية لكانت كالآيات الأخر التي تكتسب قيمتها من كونها في القرآن وليس للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيها إلّا ما له في غيرها من آيات القرآن ، أما هذه المعجزة فهي قد حدثت له شخصيا وفرديا ، ولما كانت هي أعظم المعجزات القرآنية علميا ، كما نفهمها اليوم ، فالرّسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم يكون له من هذه العظمة الإعجازية الحظ الأوفر والموقع المتقدم.

وهكذا نرى أن الله سبحانه وتعالى ، حتى في آيات الإعجاز العلمي التي بهرت العقول والألباب ، جعل لرسوله الكريم أفضلية كبيرة على جميع المعجزات الواردة

٨٨

في القرآن الكريم ، وهذا ما جعل الشيخ أحمد محيي الدين العجوز يقول في كتابه «معالم القرآن في عوالم الأكوان» ما يلي .. (١) «فأراد سبحانه أن يكون لنبيّه محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم الأسبقية في كل تقدّم وانطلاق ، فمهما تقدّم الناس في علومهم ، ومهما ترقّوا في فنونهم ، ومهما توصّلوا إليه في أعمالهم من وسائل النقل والأسفار ، ومهما ابتكروا من صنعة لاجتياز الأبعاد وارتقاء المعالي ، فإنّه خصّ نبيّه محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأعظم من ذلك ، برحلة أرضية أسرع ، ورحلة سماوية أبلغ ، فلا يكون لغيره تفوّق في الانطلاق ، ولا تميّز في الارتقاء».

إن معجزة الإسراء والمعراج حدثت قبل أربعة عشر قرنا ، فما هي القيم المعنوية والاعتبارية فيها؟ وكيف فهمت هذه المعجزة آنذاك؟ وكيف كانت المعاني التعظيمية للرّسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم من قبل ربّه سبحانه وتعالى تفهم من قبل أولئك البشر الذين كانت استحالتها المطلقة تساوي الإيمان المطلق بها ، والتسليم بصدقها من قبل المؤمنين حقا حتى قيل إن الصدّيق أبا بكر سمّي صدّيقا لأنه أوّل من صدّق بها رغم استحالتها المطلقة في الذهن البشري الاعتيادي ، ولكن إيمانه كان أقوى من مفردات الاستحالة الطبيعية التي طرحتها هذه المعجزة عليه ، وبغضّ النظر عن معقوليتها من عدم معقوليتها ، بل وعدم القدرة على البرهنة على إمكانها حتى كمعجزة؟ أما مضمون تفسيره لتصديقه فهي ، كما جاءت الرواية التاريخية ، من أن (٢) «رجالا من المشركين سعوا إليه فقالوا : هل لك إلى صاحبك يزعم أنّه أسري به إلى بيت المقدس؟ قال : وقد قال ذلك؟ قالوا : نعم ، قال : لئن قال ذلك لقد صدق ، قالوا : أتصدّقه أنه ذهب إلى بيت المقدس وجاء قبل أن يصبح؟ قال : نعم إني لاصدّقه فيما هو أبعد من ذلك ، أصدّقه في خبر السماء في غدوة وروحة» ، على أن البعض من ضعاف الإيمان من المسلمين ارتدّوا بعد حديث الإسراء لقلّة إيمانهم ، وعدم قدرة عقولهم على مجرّد التصديق بالانتقال من مكّة إلى القدس والعودة في ليلة واحدة ، فكيف بخبر السماوات السبع وما فوقهن؟. فما هو الإسراء والمعراج؟ وما هي الآيات والأحاديث الدالة عليه؟ وكيف فسّرها وفهمها الأقدمون قبلنا؟

يقول القاضي عياض ، في باب كرامة الإسراء ، في كتابه الشفا في أحوال المصطفى (٣) «ومن خصائصه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قصة الإسراء وما انطوت عليه من درجات الرفعة ،

__________________

(١) معالم القرآن في عوالم الأكوان ـ أحمد محيي الدين العجوز ص ١٥٥.

(٢) محمّد ـ محمّد رشيد رضا ، ص ١٧٧.

(٣) الشفا في أحوال المصطفى ، القاضي عياض ، ج ٢ ، ص ٣٤٣.

٨٩

مما نبه عليه الكتاب العزيز وشرحته صحاح الأخبار ، قال الله تعالى (سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ ..) [الإسراء / ١] الآية ، وقال تعالى (وَالنَّجْمِ إِذا هَوى) [النجم / ١] إلى قوله (لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى) [النجم / ١٨] فلا خلاف بين المسلمين في صحة الإسراء به صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، إذ هو نصّ القرآن ، وجاءت بتفصيله وشرح عجائبه وخواص نبيّنا محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيه أحاديث كثيرة منتشرة».

وملخص حديث الإسراء والمعراج ، كما أورده ابن قيّم الجوزية في كتابه «زاد المعاد في هدي خير العباد» ، والذي أخذه عن أدق الأحاديث ، يقول (١) : «ثم أسري برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم بجسده على الصحيح من المسجد الحرام إلى بيت المقدس راكبا على البراق ، صحبه جبريل عليهما الصّلاة والسلام ، فنزل هناك وصلّى بالأنبياء إماما وربط البراق بحلقة باب المسجد ... ثم عرج به تلك الليلة من البيت المقدس إلى السماء الدنيا ، فاستفتح له جبريل ففتح له فرأى هناك آدم أبا البشر فسلّم عليه فردّ عليه‌السلام ورحّب به وأقرّ بنبوته ، وأراه الله أرواح السعداء عن يمينه وأرواح الأشقياء عن يساره ، ثم عرج به إلى السماء الثانية فاستفتح له فرأى يحيى بن زكريا وعيسى ابن مريم فلقيهما وسلّم عليهما فردّا عليه ورحّبا به وأقرّا بنبوته ، ثم عرج به إلى السماء الثالثة فرأى يوسف فسلّم عليه ورحّب به وأقرّ بنبوته ، ثم عرج به إلى السماء الرابعة فرأى فيها إدريس فسلّم عليه ورحّب به وأقرّ بنبوته ، ثم عرج به إلى السماء الخامسة فرأى فيها هارون بن عمران فسلّم عليه ورحّب به وأقر بنبوّته ، ثم عرج به إلى السماء السادسة فلقي فيها موسى بن عمران فسلّم عليه ورحّب به وأقرّ بنبوته ، فلما جاوزه بكى موسى فقيل له : ما يبكيك؟ فقال : أبكي لأن غلاما بعث بعدي يدخل الجنّة من أمّته أكثر مما يدخلها من أمّتي ، ثم عرج به إلى السماء السابعة فلقي فيها إبراهيم فسلّم عليه ورحّب به وأقرّ بنبوته ، ثم رفع إلى سدرة المنتهى ، ثم رفع له البيت المعمور ، ثم عرج به إلى الجبار جلّ جلاله ، فدنا منه حتى كان قاب قوسين أو أدنى ، فأوحى إلى عبده ما أوحى ، وفرض عليه خمسين صلاة ، فرجع حتى مرّ على موسى فقال له : بم أمرت؟ قال : بخمسين صلاة ، قال : إن أمّتك لا تطيق ذلك ، ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لأمتك ، فالتفت إلى جبريل كأنه يستشيره في ذلك ، فأشار أن نعم إن شئت. فعلا به جبريل حتى أتى به الجبار تبارك وتعالى وهو في مكانه ـ وهذا لفظ البخاري في بعض الطرق ـ فوضع عنه عشرا ، ثم أنزل حتى مرّ

__________________

(١) زاد المعاد في هدي خير العباد ـ ابن قيم الجوزية ، ج ٣ ، ص ٣٤ ـ ٣٥.

٩٠

بموسى فأخبره فقال : ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف ، فلم يزل يتردّد بين موسى وبين الله عزوجل حتى جعلها خمسا ، فأمره موسى بالرجوع وسؤال التخفيف ، فقال : قد استحييت من ربي ولكن أرضى وأسلّم ، فلما بعد نادى مناد : قد أمضيت فريضتي وخففت عن عبادي» ، ولا شك أن هناك تفاصيل كثيرة في الأحاديث الأخرى لا حاجة لنا لروايتها هنا ، لننتقل إلى التفسيرات.

١ ـ معجزة الإسراء والمعراج وتفسيرها لدى القدامى

أ ـ التفسير العقلي :

لقد تحدّد نقاش الأقدمين من المفسرين والعلماء في معجزة الإسراء والمعراج على نقطتين أساسيتين وما يتفرّع عنهما ، وهما : هل كان الإسراء والمعراج بالروح والجسد ، أم كان بالروح فقط؟ ويخرج من هاتين النقطتين أن الإسراء والمعراج إذا كان بالروح أو بالمنام فلا إشكال فيه ، أما إذا كان يقظة وبالروح والجسد ، فكيف يمكن تفسير السرعة التي استخدمها الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم في انتقاله من مكة إلى بيت المقدس ثم إلى السماوات العلى؟ فالسرعة المعروفة لديهم كانت لا تتجاوز سرعة الحصان والجمل ، وهم يقطعون المسافة بين مكة وبيت المقدس بأربعين يوما ، فكيف يستطيع الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن ينتقل بساعات ما يستغرقونه هم بقطعه شهورا أو أياما؟ أما لو عرفوا سعة الكون وحدوده البعيدة التي تقاس الآن بالسنين الضوئية لكان إنكارهم أشدّ ، لاستحالة هذا الانتقال بأي واسطة معروفة. إذن ، كان على الذين يقولون إن الإسراء والمعراج قد تمّ بالروح والجسد ويقظة لا في المنام ، أن يبرهنوا أولا على إمكانية وجود سرعة خارقة في الكون تتجاوز مفهومهم عن السرعة ، ثم يبرهنوا ، بعد ذلك ، على وقوع الإسراء والمعراج حقيقة في جسد النبي وروحه عبر هذه الإمكانية النظرية؟. أما أن الإسراء والمعراج كان بالروح والجسد ، فقد ذكر المفسّرون أنّه كان كذلك بدليل قوله تعالى (أَسْرى بِعَبْدِهِ) ، فمسمى العبد هو للجسد والروح وليس للروح ، كما أنّه لا حاجة لأن يقول الله تعالى في بدء سورة الإسراء (سُبْحانَ الَّذِي) فالتسبيح إنما يكون للأمور العظيمة فقط ، ولو كان بالروح لما كان معجزة للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، كما استدلّوا على بذلك بقوله (ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى) [النجم / ١٧] والبصر من آلات الجسد لا الروح ، كذلك أن الحديث النبوي يروي أن الإسراء كان عبر ركوب دابة البراق ، ولو كان بالروح لما احتاج إلى دابة للانتقال ، واستدلوا أيضا على أنه لو كان بالروح ، ومناما ، لما احتاج أحد إلى تكذيبه ، فالأحلام

٩١

لا تحتاج وسائط مادية خارقة ، ولو كان بالروح لما قالت له أم هاني : لا تحدّث به قومك فيكذبونك ، ولما ارتدّ بعض ضعاف الإيمان لأنهم علموا أنّه يقول بأنه انتقل بجسده وروحه ، ولما سمّي الصدّيق صدّيقا للحديث المذكور سابقا.

إذن ، فالأساس العقلاني واللغوي والاعتباري ومجريات الأحداث ، بعد إخبار الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم لهم وإنكارهم عليه ، كان كل هذا مقنعا حقا لكي يجمع جمهور علماء المسلمين على أن الإسراء والمعراج كان بالروح والجسد حقيقة ويقظة لا مناما ، أما مسألة السرعة الخارقة غير المعروفة لدى القدماء فكانت هذه من أكبر القضايا التي كان عليهم أن يبرهنوا عليها عقليا ، ومن باب الإمكانية المطلقة ، لكي يمكن فهم حقيقة معجزة الإسراء والمعراج ضمن محدودية مفاهيمهم وأفكارهم آنذاك! ولعل أكثر الذين أولوا هذه المعجزة اهتماما بتفسيرها هو شيخ المفسرين الفخر الرازي في تفسيره الكبير.

وقد طرح الفخر الرازي المسألة معتمدا على منطق الجواز العقلي والإمكانية المتاحة ، يقول : «الحركة الواقعة في السرعة إلى هذا الحد ممكنة في نفسها والله قادر على جميع الممكنات ، وذلك يدل على أن حصول الحركة في هذا الحد من السرعة غير ممتنع» ، ويبدأ بالبرهنة على إمكانية وجود هذه السرعة من خلال عدة براهين ، بعضها يتعلّق بمفاهيم قديمة لعلم الفلك ، وبعضها يتعلّق بالمنطق العقلي والكلامي ، ونلخص بعض هذه البراهين العقلية كما يلي (١) :

١) يرى أنه كما يستبعد في العقل صعود الجسم الكثيف من مركز العالم إلى ما فوق العرش ، كذلك يجب أن يستبعد نزول الجسم اللطيف الروحاني من فوق العرش إلى مركز العالم ، فإن كان القول بمعراج محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الليلة الواحدة ممتنعا في العقول ، كان القول بنزول جبريل عليه الصلاة والسلام من العرش إلى مكة في اللحظة الواحدة ممتنعا.

٢) إن أرباب الملل والنحل يسلّمون بوجود إبليس ، ويسلّمون بأنّه هو الذي يتولى إلقاء الوسوسة في قلوب بني آدم ، ويسلمون بأنه يمكنه الانتقال من المشرق إلى المغرب لأجل إلقاء الوساوس في قلوب بني آدم ، فلمّا جوّزوا مثل هذه الحركة السريعة في حق إبليس فلأن يسلّموا جواز مثلها في حق أكابر الأنبياء كان أولى.

٣) يستشهد الرازي بأن الرياح كانت تسير بسليمان شهرا إلى المواضع البعيدة ، كما

__________________

(١) تفسير الفخر الرازي ـ الفخر الرازي ، ج ٢ ، ص ١٤٨ ـ ١٥٠.

٩٢

ورد في القرآن ، ويستنتج أن الحسّ يدل على أن الرياح تنتقل عند شدة هبوبها من مكان إلى مكان في غاية البعد في اللحظة الواحدة ، إذن فالحركة السريعة ممكنة بذاتها.

٤) إن القرآن يدل على أن من عنده علم من الكتاب أحضر عرش بلقيس من أقصى اليمن إلى أقصى الشام في مقدار لمح البصر بدليل قوله تعالى (قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ) [النمل / ٤٠] وإذا كان ممكنا في حق بعض الناس علمنا أنّه في نفسه ممكن الوجود.

٥) إن من الناس من يقول : الحيوان إنما يبصر المبصرات لأجل أن الشعاع يخرج من عينيه ويتصل بالمبصر ، ثم إنّا إذا فتحنا العين ونظرنا إلى رجل رأيناه ، فعلى قول هؤلاء انتقل شعاع العين من أبصارنا إلى رجل في تلك اللحظة اللطيفة ، وذلك يدل على أن الحركة الواقعة على هذا الحد من السرعة من الممكنات لا من الممتنعات ، فثبت ، بهذه البراهين ، أن حصول الحركة المنتهية في السرعة إلى هذا الحد أمر ممكن الوجود في نفسه. وهكذا يستنتج الرازي أن هذه الحركة لما كانت ممكنة في نفسها وجب أن لا يكون حصولها في جسد محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ممتنعا ، والذي يدل عليه في رأيه «أن الأجسام متماثلة في تمام ماهيّاتها» ، فلما صح حصول مثل هذه الحركة في حق بعض الأجسام وجب إمكان حصولها في سائر الأجسام ، وذلك يوجب القطع بأن حصول مثل هذه الحركة في جسد محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم أمر ممكن الوجود (في نفسه) ، ويضيف لهذا «ثبت بالدليل أن خالق العالم قادر على جميع الممكنات ، وثبت أن حصول الحركة البالغة في السرعة إلى هذا الحد في جسد محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ممكن ، فوجب كونه تعالى قادرا عليه ، وحينئذ يلزم من مجموع المقدمات أن القول بثبوت هذا المعراج أمر ممكن الوجود في نفسه .. أقصى ما في الباب أنه يبقى التعجّب إلّا أن هذا التعجّب غير مخصوص بهذا المقام ، بل هو حاصل في جميع المعجزات».

ومن أعجب التفسيرات التي ذكرها الآلوسي في تفسيره عن مسألة المعراج ، وضمن إطار مذهب القدامى نفسه ، ما ذكره وهو لا يؤمن به حيث يقول (١) : «ومن العجائب ما سمعته عن الطائفة الكشفية ، والعهدة على الراوي ، أن للروح جسدين : جسد من عالم الغيب لطيف لا دخل للعناصر فيه ، وجسد من عالم الشهادة كثيف مركّب من العناصر ،

__________________

(١) روح المعاني ـ الآلوسي ، ص ١٠ ـ ١١.

٩٣

والنّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين عرج به ألقى كل عنصر من عناصر الجسد العنصري في كرته ، فما وصل إلى فلك القمر حتى ألقى جميع العناصر ، ولم يبق معه إلّا الجسد اللطيف فرقى به حيث شاء الله تعالى ، ثم لما رجع عليه الصّلاة والسّلام رجع إليه ما ألقاه واجتمع فيه ما تفرّق منه ، ولعمري إنه حديث خرافة لا مستند له شرعا ولا عقلا» ، على أنّه بعد أن يعجز عن التفسير الحقيقي لهذه المعجزة ، وبعد أن يحدّد المسافات التي قطعها الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم في إسرائه ومعراجه يعود إلى رأي لطيف ليخرج به من هذا المأزق وللاعتراف بالعجز فيقول : «وقال بعضهم أمر المعراج أجلّ من أن يكيّف ، وما ذا عسى يقال سوى إن المحب القادر الذي لا يعجزه شيء دعا حبيبه الذي خلقه من نوره إلى زيارته ، وأرسل إليه من أرسل من خواص ملائكته ، فكان جبريل هو الآخذ بركابه وميكائيل هو الآخذ بزمام دابته إلى أن وصل إلى ما وصل إليه ، ثم تولّى أمره سبحانه بما شاء حتى حصل ، فأي مسافة تطول على ذلك الحبيب الرّبّاني ، وأي جسم يمتنع عن الخرق لذلك الجسد النوراني ، ومن تأمّل في العين وإحساسها بالقريب والبعيد ، ولو كان فاقدها ، وذكر له حالها لأنكر ذلك إنكارا ما عليه من مزيد ، وكذا في غير ذلك من آثار قدرة الله تعالى الظاهرة في الأنفس والآفاق والواقع على جلالة قدرها الاتفاق ، لم يسعه إلّا تسليم ما نطقت به الآيات وصحت به الروايات».

هكذا فسّر القدامى بعقولهم ومنطقهم مسألة الإسراء والمعراج ، فكيف فسّرها الصوفية بروحانياتهم؟.

ب ـ التفسير الصوفي :

لقد كان تركيز الصوفية ، في تفسيرهم للإسراء والمعراج ، على الجانب التقديري الاعتباري للرّسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم أكثر من الجانب التفسيري العقلي أو العلمي خاصة ، وأن الاتجاه الصوفي ، كما هو معروف ، له اتجاه للإغراق في الروحانيات والأنوار الكشفية وما شاكل ذلك ، ومع هذا فقد كان عندهم من المعاني العميقة والنكات الدقيقة ما كان يعجز عنه أكابر الفلاسفة والمتكلمين وحتى علماء التفسير ، لهذا نرى ابن عربي ، كما ينقل عنه الشعراني ، يقول عن الإسراء والمعراج (١) : «ما نقل الحق تعالى محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم من مكان إلى مكان إلّا ليريه ما خصّ تعالى به ذلك المكان من الآيات والعجائب الدالّة على قدرته تعالى ، من حيث وصف خاص لا يعلم من الله تعالى إلّا بتلك الآية ، كأنه تعالى يقول ما أسريت بعبدي إلّا لرؤية الآيات لا إليّ ،

__________________

(١) جواهر البحار ـ النبهاني ج ٢ ، ص ٤٥ ، عن اليواقيت والجواهر للشعراني.

٩٤

لأنه لا يحويني مكان ، ونسبة الأمكنة إلى نسبة واحدة ، وكيف أسري بعبدي إليّ وأنا معه حيث كان» ، بل إن الصوفية يدلّلون على أن الإسراء بالجسد والروح من خلال قولهم «إنه لما كان الاستواء على العرش تمدّحا لله عزوجل ، جعل الله لنبيّه صلى‌الله‌عليه‌وسلم كذلك نسبة على طريق التمدّح عليه ، حيث كان العرش أعلى مقام ينتهي إليه من أسري به من الرّسل عليهم الصلاة والسّلام ، وهذا يدل على أن الإسراء كان بجسمه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولو كان الإسراء رؤيا لما كان الإسراء ولا الوصول إلى هذا المقام تمدّحا ولا وقع من الأعراب في حقّه إنكار على ذلك ، لأن الرؤيا يصل الإنسان فيها إلى مرتبة رؤية الله تعالى ، وهي أشرف الحالات ، ومع ذلك فليس لها ذلك الموقع في النفوس. إن كل إنسان بل كل حيوان له قوة الرؤيا ، قال : وإنما قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، على سبيل التمدّح : حتى ظهرت لمستوى سمعت فيه صريف الأقلام. وأتي بحرف الغاية الذي هو حتى إشارة لما قلناه من أن منتهى السير بالقدم المحسوس العرش. والله تعالى أعلم».

ولما أراد الصوفية تفسير المعراج جاءوا بقول لطيف على لسان ابن عربي حينما قال (١) : «ومن كان مؤمنا لا ينكر المعراج ولكن وقوع السير المذكور في مقدار ذلك الزمن اليسير يشكل عند العقل بحسب الظاهر ، وأمّا عند التحقيق فلا إشكال ، ألا ترى أن في الوجود الإنساني شيئا لطيفا ، أعني القلب ، يسير من المشرق إلى المغرب بل في جميع العوالم في آن واحد ، وهو بديهي لا ينكره من له أدنى تمييز حتى البله والصبيان ، أفلا يجوز أن تحصل تلك اللطافة لوجود النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقدرة الله تعالى ، فوقع ما وقع منه في الزمن اليسير».

هكذا فسّر القدماء ، علماء ومفسّرون ومتكلّمة ومتصوفة ، معجزة الإسراء والمعراج ، ونرى اختلاف منطقهم عن منطق المعجزة العلمي القائم على منطق العلم الحديث الذي يتحدّث عن الطاقة والسرعة والكتلة ونظرية النسبية ، فكيف نظر علماء العصر الحديث لهذه المعجزة!؟.

٢ ـ معجزة الإسراء والمعراج والتفسير العلمي الحديث

لا شك أن محاولة تفسير معجزة الإسراء والمعراج في إطار العلوم الحديثة والقوانين الفيزيائية والكيمياوية ، وفي إطار علوم الفضاء والفلك ، هي محاولة قديمة

__________________

(١) جواهر البحار ـ للنبهاني ج ٢ ، ص ٢٥٤ ، عن روح البيان للبروسوي.

٩٥

ترجع إلى عام ١٩٣٥ م ، أي قبل أن تطرح نظريات الإعجاز العلمي ، وقبل أن يلتقي العلم بالقرآن هذا اللقاء الواسع الشامل ، وهذا يعني أن هذه المعجزة كانت بمقدار ما هي مثيرة للدهشة والتعجّب بمظاهر الإعجاز العديدة فيها ، كانت بنفس المقدار تشغل انتباه العلماء والمفسّرين المعاصرين ، وتقف أمامهم كتحدّ علمي لقدرات الطاقة الإنسانية العلمية في العالم كله ، وإذا ما تذكرنا أن بداية القرن العشرين كانت دعوات النهضة والتحرّر ورفض الخرافات والأفكار القدرية اليائسة التي كانت سائدة في تفاسير القرآن القديمة ، والتي تريد من الإنسان أن يؤمن بكل ما قيل ويقال له ما دام واردا كحاشية على نص القرآن الكريم ، مما طمس المعالم الحقيقية للهداية القرآنية وسط غبار التراكم في اللامعقولات القديمة ، إذا ما تذكّرنا كل هذا فلن نعجب أن تكون محاولة تفسير معجزة الإسراء والمعراج ، على ضوء العلوم الحديثة وقوانينها المعاصرة ، من المحاولات السبّاقة لطرح فكرة التفسير العلمي للقرآن حتى قبل أن يظهر هذا التفسير بالمساحة الكافية المقنعة آنذاك. لقد كان عام ١٩٣٥ م هو عام صدور كتاب محمّد حسين هيكل عن «حياة محمّد» ، الذي حاول فيه أن يكون قريبا جدا من العقلية العلمية السائدة آنذاك في أوروبا ، حتى أن كتابه هذا كان من أدق الكتب وأعمقها وأبعدها عن الغرابة والتغريب التي كانت محشوة بها كتب السيرة النبوية دون تمحيص علمي أو تاريخي ، لذا فقد كان كتابه هذا من أوائل الكتب التي حاولت أن تقدم حياة الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم على ضوء العلوم الاجتماعية والتاريخ وعلم النفس ، وما يسمى آنذاك علم الأرواح والتنويم المغناطيسي والباراسيكولوجي ... إلخ ، إضافة إلى بعض العلوم التطبيقية. فكيف فسّر هيكل معجزة الإسراء والمعراج التي وصف تفسيره لها بأنّه أول من فعل ذلك ، ومدحه عليه المقدم للكتاب محمّد مصطفى المراغي؟

إن المنهج الذي أشار إليه محمّد مصطفى المراغي في محاولة تفسير القرآن على ضوء العلم الحديث لهو جدير بالذكر حيث قال (١) : «يقول بعض علماء الكلام إن الاطلاع على علم تشريح الأفلاك وعلم تشريح الإنسان يدلّ أوضح دلالة على شمول العلم الإلهي لدقائق الوجود ، وأنا أقرّر أيضا أن العلم والكشف عن سنن الوجود وعجائبه سيكون نصير الدين ، وسيقرب إلى العقل الإنساني طريق فهم ما كان غامضا مبهما ، وما كان فوق طاقة العقل وإدراكه من قبل ، مصداقا لقوله تعالى

__________________

(١) حياة محمّد ـ محمّد حسين هيكل ، ص ٧.

٩٦

(سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) [فصلت / ٥٣] ، والكهرباء ، وما نشأ عنها من المخترعات ، قرّبت إلى العقل فهم إمكان تحوّل المادة إلى قوة ، وتحوّل القوة إلى مادة ، وعلم استحضار الأرواح فسّر للناس شيئا كثيرا مما كانوا فيه يختلفون ، وأعان على فهم تجرّد الروح وإمكان انفصالها ، وفهم ما تستطيعه من السرعة في طيّ الأبعاد ، وقد انتفع الدكتور هيكل بشيء من هذا في تقريب قصة الإسراء ، فأتى بشيء طريف».

إنّه فعلا شيء طريف ، ولكنه ليس من العلم في شيء في ضوء ما توصلنا إليه اليوم. يقول هيكل واصفا محاولته تلك : «ولصاحب هذا الرأي ، أكثر من غيره ، أن يسأل عن حكمة الإسراء والمعراج ما هي؟ وهنا موضع الرأي الذي نريد أن نبديه ولا ندري أسبقنا إليه أم لم نسبق؟». وهكذا يبدأ هيكل فصلا خاصا بعنوان «الإسراء ووحدة الوجود» جاء فيه ما يلي (١) «ففي الإسراء والمعراج في حياة محمّد الروحية معنى سام غاية السمو ، معنى أكبر من هذا الذي يصوّرون ، والذي قد يشوب بعضه من خيال المتكلمة الخصب حظ غير قليل. فهذا الروح القوي قد اجتمعت فيه ، في ساعة الإسراء والمعراج ، وحدة هذا الوجود بالغة غاية كمالها ، لم يقف أمام ذهن محمّد وروحه ، في تلك الساعة ، حجاب من الزمان أو المكان أو غيرهما من الحجب ، التي تجعل حكمنا نحن في الحياة نسبيا محدودا بحدود قوانا المحسّة والمدبّرة والعاقلة ، تداعت في هذه الساعة كل الحدود أمام بصيرة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، واجتمع الكون كله في روحه فوعاه منذ أزله إلى أبده ، وصوّره في تطوّر وحدته إلى الكمال عن طريق الخير والفضل والجمال والحق في مغالبتها وتغلّبها على الشر والنقص والقبح والباطل بفضل من الله ومغفرة ، وليس يستطيع هذا السموّ إلّا قوة فوق ما تعرف الطبائع الإنسانية ، فإذا جاء بعد ذلك ممّن اتّبعوا محمّدا من عجز عن متابعته في سموّ فكرته وقوة إحاطته بوحدة الكون في كماله ، وفي جهاده لبلوغ هذا الكمال ، فلا عجب في ذلك ولا عيب فيه ، والممتازون من الناس والموهوبون منهم درجات ، وبلوغنا الحقيقة معرّض دائما لهذه الحدود التي تعجز قوانا عن تخطّيها .. وإذا كان القياس مع الفارق أن نذكر ، لمناسبة ما نحن الآن بصدده ، قصة أولئك المكفوفين الذين أرادوا أن يعرّفوا الفيل ما هو ، فقال أحدهم : إنه حبل طويل ، لأنه صادف ذنبه ، وقال الآخر : إنه غليظ كالشجرة ، لأنه صادف رجله ، وقال ثالث : إنه

__________________

(١) حياة محمّد ـ محمّد حسين هيكل ، ص ١٣١.

٩٧

مدبّب كالرمح ، لأنه صادف سنّه ، وقال رابع : إنه مستدير ملتو كثير الحركة ، لأنه صادف خرطومه ، فإن هذا المثل ، مقرونا إلى الصورة التي تتكون لدى المبصر من الفيل لأول ما يراه ، يسمح لنا بالموازنة بين إدراك محمّد كنه وحدة الكون والوجود وتصويره في الإسراء والمعراج ، حيث يتصل بأول الزّمن من قبل آدم إلى آخره يوم البعث ، وحيث تنعدم نهائية المكان ، إذ يطل بعين البصيرة من لدن سدرة المنتهى إلى هذا المكان يصبح أمامه سديما ، وبين ما يستطيع الكثيرون إدراكه من حكمة هذا الإسراء والمعراج ، إذ يقفون عند تفاصيل ليست من وحدة الكون وحياته إلّا كذرات الجسم ، بل كالذرات العالقة به من غير أن يتأثّر بها نظامه. أين الواحدة من هذه الذرّات من حياة هذا الجسم ومن نبض قلبه وإشراق روحه وضياء ذهنه وامتلائه بالحياة التي لا تعرف حدا ، لأنّها تتصل من الوجود بكل حياة الوجود؟ والإسراء بالروح هو في معناه كالإسراء والمعراج بالروح جميعا سموّا وجمالا وجلالا ، فهو تصوير قويّ للوحدة الرّوحية من أزل الوجود إلى أبده ، فهذا التعريج على جبل سيناء ، حيث كلّم الله موسى تكليما ، وعلى بيت لحم ، حيث ولد عيسى ، وهذا الاجتماع الروحي ضمّت الصّلاة فيه محمّدا وعيسى وموسى وإبراهيم مظهر قوي لوحدة الحياة الدينية على أنّها من قوام وحدة الكون في موره الدائم إلى الكمال».

وبعد هذا الوصف اللطيف والمعاني الإنسانية والروحية ، ينتقل الدكتور هيكل للعلم كما يفهمه ، فيقول (١) : «والعلم في عصرنا يقرّ هذا الإسراء بالرّوح ، ويقرّ المعراج بالروح ، فحيث تتقابل القوى السليمة يشعّ ضياء الحقيقة ، كما أن تقابل قوى الكون في صورة معينة قد طوع (لماركوني) ، إذ سلّط تيارا كهربائيا خاصا من سفينته التي كانت راسية بالبندقية ، أن يضيء بقوة الأثير مدينة سدني في أستراليا. وفي عصرنا هذا يقرّ العلم نظريات قراءة الأفكار ومعرفة ما تنطوي عليه ، كما يقرّ انتقال الأصوات على الأثير بالراديو وانتقال الصور والمكتوبات كذلك ، مما كان يعتبر فيما مضى بعض أفانين الخيال. وما تزال القوى الكمينة في الكون تتكشّف لعلمنا كل يوم عن جديد ، فإذا بلغ روح من القوّة ومن السلطان ما بلغت نفس محمّد ، فأسرى به الله ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي بارك حوله ليريه من آياته ، كان ذلك مما يقرّ العلم ، وكانت حكمة ذلك هذه المعاني القوية السامية في جمالها وجلالها ، والتي تصوّر الوحدة الروحية ، ووحدة الكون في نفس محمّد تصويرا

__________________

(١) حياة محمّد ـ محمّد حسين هيكل ، ص ١٣١.

٩٨

صريحا يستطيع الإنسان أن يصل إلى إدراكه إذا هو حاول السموّ بنفسه عن أوهام العاجلة في الحياة ، وحاول الوصول إلى كنه الحقيقة ليعرف مكانه ومكان العالم كله منها».

هكذا يفسّر هيكل الإسراء والمعراج بالروح في إطار علومه وعلوم عصره ، أما إذا قيل له إن الإسراء كان بالجسد والروح فلا يجيب إلّا بالعبارات الغامضة نفسها فيقول (١) : «وأحسبك لو سألت الذين يقولون بالإسراء بالروح في هذا ، لما رأوا فيه عجبا بعد الذي عرف العلم في وقتنا الحاضر من إمكان التنويم المغناطيسي للتحدّث عن أشياء واقعة في جهات نائية ، فما بالك بروح يجمع وحدة الحياة الروحية في الكون كله ، ويستطيع بما حباه الله من قوّة أن يتصل بسرّ الحياة من أزل الكون إلى أبده». وهكذا نخرج من هذه المحاولة المسمّاة «علمية» بأيدي فارغة ، والأسهل تفسير الإسراء والمعراج بالرّوح عن طريق المتصوّفة المسلمين ، من الأنفس ، ولكني أرى أن محاولات تفسير الإسراء والمعراج بالجسد ، التي ذكرها الفخر الرازي في تفسيره ، أكثر قوة وإقناعا ، بل وعلميّة ، ممّا ذكره الدكتور هيكل في محاولته ، علما أنّ علم الأرواح والتنويم المغناطيسي ، بعد هذا الزمن اليسير من عمرهما ، كشف الزيف والكذب عنهما وعن مصداقيتهما.

على أن هذه المفاهيم والمعاني لم تقف عند هذه الحدود الساذجة ، بل كل يوم تأتينا تحليلات جديدة ومعان جديدة ومحاولات تفسير علمية أو شبه علمية ، وسنقتصر على ثلاثة نماذج ممن حاول أن يفهم معجزة الإسراء والمعراج في إطار المفاهيم والمعاني التي يمكن استنتاجها منها.

النموذج الأول ، هو السيد سميح عاطف الزين في كتابه «خاتم النبيين محمّد» ، والذي يعتبر أن معجزة الإسراء والمعراج (٢) «جاءت لتكون ثاني حدثين اثنين في تاريخ الأنبياء والمرسلين الذين يحملون رسالات السماء إلى الأرض ، حيث تم الاتصال المباشر من الخالق سبحانه وتعالى مع اثنين من هذه النخبة المختارة ، حيث كان الاتصال الأول عند ما كلّم الله تعالى نبيه موسى عليه‌السلام على جبل الطور في سيناء ، وهذا هو الاتصال الثاني عند ما أسرى الله سبحانه وتعالى بمحمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى بلغ سدرة المنتهى ليكون على قاب قوسين أو أدنى ، وليرى ويسمع ويتحدّث في عروجه بما لم يره ولم يسمع به أو يتحدث عنه غيره من الخلق أجمعين». وبعد أن

__________________

(١) حياة محمّد ـ محمّد حسين هيكل ، ص ١٣٢.

(٢) خاتم النبيين محمّد ـ سميح عاطف الزين ، ج ٢ ص ٦٣٧.

٩٩

يؤكد سميح الزين على أن الإسراء والمعراج كان بالروح والجسد ، ولا مجال لتأويل النص القرآني الصريح بما ينافيه ، أو بما هو خرافة ، بعد كل هذا يفسّر قناعته تلك بقوله (١) : «إن القدرة الإلهية قد أثبتت لبني الإنسان ، في أكثر من زمان وفي حياة الناس العاديين ، أن في حياة النبيين والمرسلين لا شأن للقوانين والنّظم التي يعرفها أبناء البشر ، لأنّها تقول للشيء (كن فيكون) ، وهذه الإرادة المطلقة التي خلقت هذا الكون العظيم ، بما فيه من عوالم وآفاق ، هي نفسها ووحدها التي نفّذت الإسراء والمعراج ، ولا يمكن للعقل البشري أن يستغرب وقوع هذا الحدث العظيم عند ما يتذكّر بأن الإرادة الإلهية قد أعطت للنبي سليمان عليه‌السلام ملكا لم يعط لأحد من قبله ولا من بعده ، فقد سخّرت له الرياح ذلولا يمتطيها على بساط فتحمله حيث أراد في جوانب الكرة الأرضية ، وقد جعلت له الجن خدما وعبيدا يأتمرون بمشيئته».

وبعد أن يقارن الزين بين هذه المعجزة ومعجزات الأنبياء سليمان وموسى وعيسى وإبراهيم ونوح ، يعود إلى الاستنتاج (٢) «فما العروج بالشكل الذي سمعت إلّا للدلالة على إمكان الخروج من نطاق هذه الكرة الأرضية ، التي تسبح في الفضاء الذي يضمّ الملايين من أمثالها من الكواكب والشموس والمجرّات الهائلة التي تكبرها بملايين ملايين المرات ، وما هو أيضا إلّا إشارة إلى قدرة الله الخارقة لإيقاظ الغافلين ، ولجعلهم يتفكّرون في خلق السموات والأرض وفي أنفسهم ، يحيون عليها بتعاقب الليل والنهار ، إن هي إلّا آية صغرى من آيات الله العظمى ، وما هو أخيرا إلّا بمثابة إعجاز وإلفات نظر العالمين ـ سائر العالمين ـ بالأمس واليوم وفي المستقبل ، إلى أنه إذا تطورت وسائل السفر والانتقال فإن الناس سيجترحون العجائب ، لأن الإسراء والمعراج تم بواسطة نقل إلهية اخترقت جاذبية الأرض وطبقات الأثير ، وطوت المسافات فانعدمت أمامها المسافات ، وطوت الزمن فانعدم أمامها الزمن ، الذي لا دليل عليه إلّا تعاقب الليل والنهار وطلوع القمر هلالا في يوم سميناه أول الشهر ، واختفاؤه في يوم سمّيناه آخر الشهر ، ولا دليل عليه إلّا تقسيم فترات بياض النهار إلى ساعات تتحدّد بطلوع الشمس ومغيبها. هذا وقد حققت معجزة الله العظيم لنبيه الكريم في رحلة عظيمة كانت بالأمس القريب غريبة عجيبة ، وصارت اليوم ـ وبعد غزو القمر مرارا وتكرارا ـ أقرب إلى الذهن والمعقول ، وإن كانت تجد ذاتها وواقعها مدهشة مذهلة كأكثر معجزات الأنبياء والرسل في عالم التقدير والاعتبار.

__________________

(١) خاتم النبيين محمّد ـ سميح عاطف الزين ، ج ٢ ص ٦٣٨.

(٢) المصدر السابق ، ج ٢ ص ٦٣٩.

١٠٠