الاعجاز العلمي في القرآن

سامي أحمد الموصلي

الاعجاز العلمي في القرآن

المؤلف:

سامي أحمد الموصلي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار النفائس للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ١١١

العلمي في هذا العصر ، الذي لا يعرف إلا لغة العلم والحضارة والطاقة والمادة والنسبية ، ولغة الرقم الحسابي في الكمبيوترات تتحكم في كل مفردات حياته؟

وللجواب على هذه الأسئلة جميعا كان علينا استعراض أفكار وآراء ومضامين الذين يؤيدون التفسير العلمي ، وما يعنيه في العصر الحاضر أمام تصادم الحضارات والأفكار وصراعها بين الشرق والغرب ، وبين المادية والروحية ، وبين معسكرات الإلحاد ومعسكر الإيمان وأسلحة العلم ومختبراته وبحوثه ، التي تخدم أغراض كل معسكر وكل اتجاه. فهل نستطيع أن نقف على الحياد أو نرفض التعامل مع العلم المعاصر وصراع التلسكوبات والأقمار الصناعية تزدحم في الفضاء ، وصراع الميكروسكوبات مع الخلية الحية ومع مفردات الذرة وجسيماتها حتى ضاق العالم من التسميات الجديدة للاكتشافات داخل كل منها ، فاستخدموا الكمبيوترات المتقدّمة لخزن المعلومات عنها بدل الكتب والأوراق التي لا تتسع لها؟ هل نستطيع أن ندّعي أن ديننا وقرآننا صالح لكل زمان ومكان ونحن جالسين على التّلّ لا نبدي رأيا ، وليس لنا رأي في كل هذا لأن قرآننا نزل في غير هذا العصر ولقوم أميين فسّروه عند معطياتهم اللفظية والبلاغية ، واستخرجوا منه الأحكام التي يريدون وعمّموها ، فنحن نطبقها كما هي ونفهم القرآن كما فهموه؟ ألا نكذّب نحن القرآن نفسه حينما نضعه هذا الموضع ، وهو الذي دعا بأكثر من سبعمائة آية للتفكر والتدبّر علميّا بالكون وخلقه وخالقه ، ويتوجه بالخطاب ، في خمسين موضعا ، للذين يعقلون ، ومائة موضع للذين يعلمون ، وثلاثين موضعا للذين يتفكرون ويتفقهون؟ ألا نكون مناقضين للقرآن نفسه وهو الذي يخاطبنا مباشرة بالجواب على كيف لفهم حقيقة الخلق (أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (١٧) وَإِلَى السَّماءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (١٨) وَإِلَى الْجِبالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (١٩) وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ) ... الخ [الغاشية / ١٧ ـ ٢٠] وإذا كان القرآن هو دليل ومعجزة سيدنا محمدصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأنه نبي من عند الله ، فكيف سنحاجج أبناء هذا العصر ، علماء ومثقفين وعوام ، بأن رسولنا مرسل إلى الخلق كلهم حتى قيام الساعة ، ولا نبي بعده لأنه خاتم النبيين ، إذا لم يكن هذا الدليل وهذه المعجزة قائمة بعملها الإعجازي لكل العصور وأبنائها المخاطبين بهذا النداء؟ ولو كانت هذه المعجزة معجزة لأبناء العصر الذي أنزلت عليهم فآمنوا بها في وقتها ، فما الذي يجعل أبناء عصرنا والعصور اللاحقة لا معجزة لديهم سوى الأخبار التاريخية عن هذه المعجزة ، فما الفرق بينها وبين معجزات باقي الأنبياء الذين مضوا مع معجزاتهم

٤١

وليس لهم دليل اليوم على صدق نبوتهم بمعجزاتهم غير أخبار يرويها التاريخ؟

«إن الإيمان بالنبوّة يقتضي وجود المعجزة ، والتصديق الجازم بخوارق العادات يحتاج إلى برهان ، فمعجزة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم هي القرآن ، ولا تزال هذه المعجزة تتحدى منذ أكثر من أربعة عشر قرنا وإلى الآن ، أما معجزة الأنبياء السابقين فإنها غير مدركة ولا محسوسة لنا في الوقت الحاضر» (١). إذن ، فإن المعجزة هي دليل صدق الأنبياء على دعواهم ، ولقد كان القرآن ولا يزال هو المعجزة المثبتة لنبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وفي ذلك يقول وحيد الدين خان ... (٢) : «عن أبي هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : (ما من الأنبياء نبي إلا أعطي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر ، وإنما كان الذي أوتيته وحيا أوحاه الله إلى ، فأرجو أني أكثرهم تابعا ليوم القيامة). إن هذا الحديث النبوي يعين جوانب بحثنا الصحيحة ، فهو يقول إن أهم وسائلنا لمعرفة النبي هو الكتاب الذي جاء به مدّعيا أنه من عند الله ، والقرآن هو رسالة الرسول بين ظهرانينا ، كما أنه يبرهن على صدقه ، فما الخصائص التي تبرهن على أن القرآن من عند الله؟»

ومما يذكره وحيد الدين خان في الإعجاز هو إعجاز القرآن بالتحدي الدائم على أن يأتوا بمثله ونبوءات القرآن الغيبية ، ومن ثم الإعجاز العلمي فيه ويقول عنه (٣) : «إنه رغم نزول القرآن قبل قرون كثيرة من عصر العلوم الحديثة لم يتمكن أحد من إثبات أية أخطاء علمية فيه ، ولو أنه كان كلاما بشريا لكان هذا ضربا من المستحيل» ، ويضيف في موضع آخر (٤) : «فالقرآن الكريم هو المعجزة الدالة على صدق نبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وما عدا القرآن من خوارق العادات التي ظهرت بين يديه فلا تعد من معجزاته لأنها لم تنقل بالتواتر ، فضلا عن كون المعجزة بالنسبة إلى آخر الأنبياء لا بد أن تظل قائمة بالتحدي وتلك الخوارق لم تعد قائمة ، يمكن أن توجد لدى غير المسلمين قناعات بصدق نبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم».

إذن ، فعلى القرآن أن يقول كلمته الإعجازية اليوم لكل العالم ، وأن يتحدّاهم وكأنه نازل اليوم من عند الله ، وأن يبقى متحدّيا إلى يوم القيامة لكل عصر بطابعه الذي يتميز به ، وعصرنا عصر علم وثقافة ، فهل نجابه العالم بإعجاز بلاغي ولفظي وهو فيه من العلوم والمعارف ما لا يحيط به قلم ولا يحصيه رقم ...؟ وإذا ما تكاسلنا عن أن نعطيه دوره فإن العملية لا تبقى في حدود الاختيار لأن معنى هذا تكذيب

__________________

(١) الأصول الفكرية للثقافة الإسلامية ـ د. محمّد الخالدي ، ج ٢ ، ص ٢٤٥.

(٢) المصدر السابق ، ج ٢ ، ص ٢٤٦.

(٣) المصدر السابق ، ج ٢ ، ص ٢٦٦.

(٤) المصدر السابق ، ج ٢ ، ص ٢٨٦.

٤٢

القرآن الذي قال إنه يتحدى العالم كله أن يأتوا بمثله أو بسورة من مثله ، ونكذب الرسولصلى‌الله‌عليه‌وسلم الذي قال : أرسلت إلى الناس كافّة ، فكيف يصدّقه العالم اليوم دون معجزة؟ فأي كفر بعد هذا؟ وما نفعل بإيماننا إذا كنا نكذب قرآننا ونبينا ، وما الذي يبقى في الإيمان بعد؟ إذن ، فالإعجاز العلمي في القرآن هو معجزة الله ورسوله إلى عصرنا ، فكيف يجب أن نتعامل به؟

٤٣
٤٤

التطبيق العملي

من نظرية المنهج إلى التطبيقات العملية

لقد كانت بعض التجارب الفاشلة ، التي ذكرناها سابقا والتي وقع بها المفسرون للقرآن تفسيرا علميا ، قد دفعت بعض العلماء والفقهاء لأن يقف موقف المعارض للتفسير العلمي ، وذلك كان لا بسبب عدم قبول القرآن للتفسير العلمي وإنما لأن الذين فسّروه آنذاك لم يلتزموا بالضوابط المحددة ، سواء للتفسير بشكل عام وللتفسير العلمي بشكل خاص ، ولذلك وقعوا في أخطاء كثيرة في مقابلة الآية القرآنية للحقيقة العلمية ، ولأن حماستهم الزائدة دفعتهم ، بمناسبة وغير مناسبة ، لحمل آيات القرآن على المكتشفات والقوانين العلمية الحديثة مما جعلها تخرج بالآيات القرآنية عن معانيها اللغوية ومدلولاتها الشرعية ، وتنحرف بها عن الغاية والهدف الساميين اللذين جاءت من أجلهما ، ومما جعلها أيضا تقع في كثير من المتناقضات حتى وصف أحد الكتاب عملهم بأنه (١) «أشبه بالعبث منه بالدفاع عن القرآن أو إظهار إعجازه ، بل ربما أوقع القرآن في تناقض خطير بسبب تأييده لنظريتين متناقضتين بدون ضابط أو قانون من لغة أو شرع». وبعد أن حددنا شروط التفسير العلمي وضوابطه ، فلنأخذ نموذجا جيدا من التفسيرات العلمية التي التزمت بالضوابط المحددة لمثل هذا التفسير ، بل ووضع هذا النموذج تحت عنوان (المعجزة القرآنية) للدلالة على مدى الثقة التي يوليها لهذا الجانب من التفسير للقرآن.

يبدأ الدكتور محمد حسن هيتو كتابه المعجزة القرآنية (الإعجاز العلمي والغيبي) بمقدمة يبني عليها الكتاب ومنهج الكتاب ، وهي عن علاقة النبوة بالمعجزة وعلاقة شمولية الرسالة بختم النبوة فيقول (٢) : «إن نبينا عليه الصلاة والسلام هو النبي الخاتم للنبوة ، ورسالته هي الخاتمة للرسالات ، وأنها باقية إلى يوم القيامة ، وعامة لكل الأمم في كل زمان ومكان ، ولذلك كان لا بد للمعجزة من البقاء ليعاينها كل من آمن أو دعي إلى الإيمان إلى يوم القيامة». وبعد أن يذكر أن هناك أنواعا متعددة من

__________________

(١) المعجزة القرآنية ـ د. محمّد حسن هيتو ، ص ١٥٢.

(٢) المصدر السابق ، ص ٩٠٧.

٤٥

الإعجاز ، كالإعجاز الغيبي والإعجاز اللغوي والإعجاز العلمي ، وبعد أن يشخص طابع العصر وسيادة المعارف العلمية وبناء فلاسفة الإلحاد إلحادهم على هذه الاكتشافات ، من خلال ادعائهم أنهم عرفوا السبب والمسبب والعلة والمعلول عن طريق العلم اليقين ، فلم يعودوا بحاجة اليوم إلى عزو هذه الظواهر ، التي كنا نراها ، إلى قدرة الله ، وبالتالي وقع التناقض بين الكنيسة والعلم والدين المسيحي والعلم ، لأن الكنيسة بدينها ، كما تعرضه ، يتعارض مع العلم المعاصر. ثم ظهر الهجوم على جميع الأديان ، ومنها الإسلام ، عن طريق ضعاف الإيمان في ديار الإسلام ، وبسبب ضعف المسلمين وغفلتهم وسيطرة أعدائهم عليهم ، بعد كل هذا يقول المؤلف : «وهنا ظهرت المعجزة القرآنية كالمارد الجبار الذي لا يقف في وجهه شيء إلا حطّمه ، لتهتز الأبراج الوهمية التي بناها فلاسفة الإلحاد بالتمويه والتدليس على غفلة من دعاة الدين الحق وبعد عنهم ، ولتقول للناس جميعا ، من مؤمن وملحد : مهلا أيها الناس ، فإن هذا الذي وصلتم إليه لن يكون سببا للجحود والإلحاد ، وإنما هو من أعظم دعائم الإيمان والإذعان ... فتنبه كثير من علماء المسلمين إلى آيات الإعجاز العلمي في القرآن».

إذن ، فالإعجاز العلمي كان دعوة للإيمان ضد الإلحاد في بدء ظهوره ، وزاد إيمان المؤمن إيمانا وصار يعاين المعجزة القرآنية ، كما عاينها العرب الأوائل تماما ولكن بلغة العلم لا بأساليب البلاغة والبيان ، لأن غاية هذه المعجزة هو الدلالة على أن القرآن كلام الله لا من كلام البشر مما يصدق نبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ورسالة الإسلام. ولا يدري المؤلف إلى أي مدى سيصل الإنسان في المستقبل من حيث العلوم والمكتشفات ، ولكنه يؤكد أنه (١) «على يقين بأنه كلما تقدمت به العلوم سيضع يده على معجزة جديدة في كتاب الله ، كان في غفلة تامة عنها ، ليعيش الإنسان ، في كل زمان ومكان ، مع المعجزة القرآنية آية بينة لا لبس فيها ولا غموض» ، وهو يرى ، في هذا الإعجاز ، لكل إنسان وفي كل زمان ومكان معنى قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (ما من الأنبياء نبي إلا أعطي ما مثله آمن عليه البشر ، وإنما كان الذي أوتيته وحيا أوحاه الله إلي ، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة).

لقد أكد المؤلف ، منذ البداية ، على سلامة منطلقه الفكري لهذا العمل ، من خلال ربطه بين شمولية الرسالة وختم النبوة وضرورة وجود المعجزة المصدّقة لهما ،

__________________

(١) المعجزة القرآنية ـ د. محمّد محسن هيتو ، ص ١٠.

٤٦

واستمرارية هذه المعجزة عبر كل زمان ومكان ، وإلا فإن الرسالة ليست شاملة لكل الناس حتى يوم القيامة ، وأن النبوة يجب أن تستمر ما دام هناك أجيال ليس لله عليهم حجة بدون رسول أو نبي ذي معجزة قاهرة لما تعارفوا عليه ، وكانت سلامة منطلقه الفكري أيضا حينما اعتبر التحدّي المعرفي المعاصر الذي أسس الملحدون دعوتهم عليه لصرف النظر عن الإيمان والدين ، يجب أن يجابه بمعجزة تناسب هذا العصر من معرفة وعلوم ومكتشفات ، حيث أن القرآن كتاب هداية وإرشاد ، وليس كتاب علم ، ولكن بإعجازه جاء لكل العلوم والمعارف بنفس لغاتها ومن خلالها ، ليصل إلى الإيمان والدين الحق. وقبل أن يمارس المؤلف تفسيراته العلمية أو ظواهر الإعجاز العلمي القرآني حدّد منهجه الصحيح لذلك العمل فوصفه بأنه منهج (١) «دون غلو تحمل به آيات القرآن ما لا تحمله من المعاني والاحتمالات ، أو تفريط تعرض به عن كثير من الحقائق الكونية والعملية التي لا يجوز الإعراض عنها لجمود التفكير أو قصور في العلم والمعرفة».

إذن ، فالمؤلف بدأ بمقدمة سليمة ، علميا وشرعيا ، واستخدم منهجا لا تفريط فيه ولا إفراط ، لا يخلو من الحماسة للعلوم ولا تقصير عن الحقيقة العلمية أن تلحق بالحقيقة القرآنية ، وكل هذا من شروط وضوابط التفسير العلمي المطلوب. بعد ذلك ينتقل المؤلف للحديث عن الملاءمة والمناسبة بين الإعجاز العلمي وطابع المثقفين ، عربا وأجانب ، المخاطبين بهذا الموضوع (٢) «كما نجد المثقفين أكثر تمايلا وطربا عند ما نعرض عليهم وجها من وجوه الإعجاز العلمي في القرآن الكريم ، لا سيما إذا كان هذا الوجه قطعي الدلالة ، بيّنا ظاهرا لا يحتاج إلى الاستنباط والاستنتاج ، وذلك لأن هذا الوجه ملائم للثقافة التي يحملها أبناء العصر الحاضر ، والتي أصبحت قاسما مشتركا بينهم جميعا ، وإذا كان هذا شأن مجتمعنا العربي ، فمن باب أولى أن يكون هذا شأن غيره من المجتمعات».

بل إن المؤلف يجد أنه لما كان القرآن نفسه يحث الناس على النظر في ملكوت السماوات والأرض ومجال الكون والنفس ، ويضرب للناس الأمثال ليلفت نظرهم إلى عظمة الخالق من خلال عظمة المخلوق ، لذا فإنه يرى واجبا علينا أن نبحث كل علم يكشف عن سر من أسرار القرآن ويثبت إعجازه ، كما أنه يصل إلى التأكيد على اعتقاده بأن (٣) «هذا الوجه من وجوه الإعجاز هو أبلغ هذه الوجوه ، إذ يستطيع

__________________

(١) المعجزة القرآنية ـ د. محمّد حسن هيتو ، ص ١٤٧.

(٢) المصدر السابق ، ص ١٤٨.

(٣) المصدر السابق ، ص ١٤٩.

٤٧

الإنسان ، في كل عصر من العصور ، أن يجد بغيته في كتاب الله من الإيمان بأن هذا الكلام ليس من كلام البشر وإنما هو من كلام الله ، فكلما تقدمت العلوم الإنسانية كشفت لنا عن سر جديد لم نكن قد اطلعنا عليه من قبل ، وهذا وحده كاف ليدل على أن القرآن ليس من صنع البشر ، إذ يستحيل على البشر ، ولو كانوا على قلب رجل واحد ، وبتفكير رجل واحد ، أن يوجدوا مثل هذا الكتاب الذي لم تتخلف آية واحدة من آياته على توالي الأيام وكدّ السنين والأعوام».

إن المؤلف يدرك حقيقة أن القرآن لم ينزل على أنه كتاب جيولوجيا أو فلك أو غيرهما من العلوم ، وإنما هو كتاب هداية وإرشاد للبشرية الحائرة ودستور أو نظام حياة للإنسانية (١) «يجب علينا أن لا ننسى الوظيفة الأساسية التي جاء من أجلها ، ألا وهي هداية البشر ورسم المنهاج القويم ، فلا يجوز لنا بعد أن ننحرف عن الوظيفة الأساسية لكتاب الله ، وتحميل الآيات ما لا تطيق من المعاني العلمية التي لم تسق الآية من أجلها ولا نزلت لبيانها ، وإنما هي من أوهام القارئ ، وربما انقلبت إلى ضرب من التأويل الباطني الباطل ، كما لا يجوز لنا ، في نفس الوقت ، أن نجمد على معارفنا القديمة الضيقة وتفسيراتنا الجزئية المحدودة المبنية على تلك المعلومات القديمة ..... مما يؤدي في النتيجة إلى فهم القرآن فهما غير سليم في ضوء المعارف الحديثة ، وفي الآيات التي لها مساس بالعلوم».

لذا ، يعرض المؤلف الفئات الثلاث التي انقسم عليها الناس في هذا المجال ، فئة المحافظين المعارضين للتفسير العلمي ، وفئة مبالغة في هذا التفسير العلمي حتى تفسر الآيات على قبول المفاهيم العلمية ، وفئة وسطى بين هذا الإفراط وذاك التفريط ، وهو يرد على الفئة الأولى المعارضة للعلوم بقوله (٢) : «إننا ، نحن المسلمين ، مدعوون في كل زمان ومكان وبنص الشرع إلى الاستفادة من كل حقيقة علمية ، لأن ديننا ، دين العلم والمعرفة ، لم ولن يتعارض في يوم من الأيام مع حقائق العلم في الكون والحياة» ، ويعتبر موقفها تفريطا في حق القرآن وإعراضا عن الفهم الحقيقي للآيات المتعلقة بالكون والحياة ، وقد تقود لإيجاد فجوة بين الدين والعلم مما قد يؤدي إلى ما لا تحمد عقابه ، كما حدث للكنيسة.

كما يرد على الفئة الثانية ، في غلوها ومبالغاتها ، بأنها تحمل آيات القرآن ـ بمناسبة وغير مناسبة ـ على المكتشفات أو القوانين العلمية الحديثة ، مما جعلها

__________________

(١) المعجزة القرآنية ـ د. محمّد حسن هيتو ، ص ١٥٠.

(٢) المصدر السابق ، ص ١٥٢.

٤٨

تخرج بالآيات القرآنية عن معانيها اللغوية ومدلولاتها الشرعية ، وهي التي وصفها بالبعث كما قدمنا. أما الفئة الثالثة ، فئة التوسط بين جانبي الإفراط والتفريط ، فهي لم تتجمد جمود الفئة الأولى ، ولم تتهور تهور الفئة الثانية ، وهذه الفئة قامت بما يلي :

١) أخذت الآيات التي لها مساس بالعلوم وفهمتها بناء على ضوء المعارف الحديثة اليقينية لا الظنية ، وفي نطاق قوانين الشرع العامة وقواعد اللغة الثابتة ، فرأت فيها كل ما يدل كل ذي عقل على أن هذا القرآن ليس من عند البشر وإنما من عند الله.

٢) وقفت عند ظاهرة النص القرآني إذا كانت دلالته قطعية ، وإن كان يتعارض مع بعض النظريات العلمية الرائجة ، جازمة بأن الخطأ في النظرية العلمية ، وأن على أصحابها أن يبحثوا عن وجه الصواب في موضوعها مستندة على أن العلم لا يتناقض مع الدين ، أو القرآن مع القوانين اليقينية الثابتة.

هكذا ، يعرض الدكتور محمد حسن هيتو منهجه في الإعجاز القرآني في كتابه «المعجزة القرآنية» ، متسلّحا بكل الضوابط التي وضعها العلماء ، فكان كتابه خير نموذج للتفسير العلمي للقرآن ، حيث فسّر فيه اثني وعشرين آية قرآنية بضوء مفردات العلم الحديث ، كما أنه رد على مفهوم الإعجاز العددي في القرآن ، كما ورد عن رشاد خليفة ، وربطه بالتفسير الباطني اليهودي ، فهو يرفض أن يضع في القرآن ما ليس فيه بحجة التفسير العلمي ، كما فعل رشاد خليفة. إن كتاب «المعجزة القرآنية» هو خير نموذج للتفسير العلمي للقرآن ، مبدأ ومنهجا وتطبيقا ، وبمقدار ما نقرأ فيه من علوم ومعارف نجد فيه وظيفة القرآن في الدعوة والإرشاد والهداية متحققة ، فلا نضيع وسط معلومات عن أنظمة الخلق والمخلوقات وننسى رب الخلق ورب المخلوقات وأنظمتها وقوانينها.

وإذا ما أخذنا نموذجا تطبيقيا لمنهج الدكتور محمد حسن هيتو ، فإننا سنرى مقدار وضوح الإعجاز العلمي في الآيات القرآنية التي يختارها منه. ففي تفسيره العلمي للآية الثامنة عشرة ، والتي وضعها تحت عنوان (وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) [الذاريات / ٤٩] وشعار (علماء الكون والحياة في قانون الزوجية اليقيني) يقول : «لقد تكرر ذكر الأزواج في القرآن الكريم من أوله إلى آخره مرات كثيرة ، وفي جوانب متعددة من جوانب الحياة ، بل نصت بعض الآيات على أن كل شيء خلق في هذا الكون خلق على قانون الزوجية ، فقال تعالى (وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ) [الحج / ٥] ، وقال تعالى

٤٩

(وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ جَعَلَ فِيها زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ) [الرعد / ٣] ، وقال (أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ) [الشعراء / ٧] ، وقال جل وعلا (وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) [الذاريات / ٤٩] ، وقال (وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى) [النجم / ٤٥] ، وقال (وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعامِ ما تَرْكَبُونَ) [الزخرف / ١٢] ، ثم قال تعالى : (سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ) [يس / ٣٦] ، إلى آيات كثيرة في القرآن الكريم ، تتكلم عن الأزواج وعن خلقها ، وأن هذه الأزواج موجودة في جميع معالم الكون والحياة (وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ).

إذن ، فالزوجية لا بد أن تكون موجودة في كل شيء يمكن للإنسان أن يضع يده عليه ، وليست مقصورة على ما يكون من الذكر والأنثى في النبات والحيوان ، أو على ما يمكن أن يتصف بالذكورة والأنوثة ولو مجازا ، لأن الصيغة التي وردت من أبلغ صيغ العموم وأكملها (وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ).

وحينما يستعرض الدكتور هيتو رأي علماء السلف وأقوالهم في الزوجين يقول بأن فهمهم لهذه الآية كان ضمن طاقاتهم وإمكانياتهم ومعارفهم ، فيما وضعوا عليه أيديهم من معالم الكون والحياة ، حيث فسرها الطبري ، عن مجاهد ، بأنها بمعنى الكفر والإيمان والشقاوة والسعادة والهدى والضلالة والليل والنهار والسماء والأرض والإنس والجن ، وروي عن الحسن البصري أنه قال في هذه الآية : الزوجان هما الشمس والقمر ، وروي عن ابن زيد أنه قال فيهما هما الذكر والأنثى ... ثم قال الطبري : وأولى الأقوال في ذلك قول مجاهد ، وهو أن الله تبارك وتعالى خلق لكل ما خلق من خلقه ثانيا له مخالفا في معناه ، فكل واحد منهما زوج للآخر ولذلك قيل زوجين ، وإنما نبّه جل ثناؤه خلقه على قدرته على خلق ما يشاء خلقه من شيء ، وأنه ليس كالأشياء التي شأنها فعل نوع واحد دون خلافه ، إذ كل ما صنعته فعل نوع واحد دون ما عداه ، كالنار التي شأنها التسخين ولا تصلح للتبريد ، وكالثلج الذي شأنه التبريد ولا يصلح للتسخين ، فلا يجوز أن يوصف بالكمال وإنما كمال المدح للقادر على فعل كل ما يشاء من الأشياء المختلفة والمتفقة ....

ولو أننا تتبعنا كتب المفسرين على اختلاف مناهجهم ، من السلف والخلف إلى عصر النهضة العلمية ، لوجدناها متفقة تقريبا على هذا الذي قاله الإمام الطبري رحمه‌الله تعالى ، مع توسّع بعضهم في تعداد الأنواع التي لها ضد أو نقيض أو ندّ ، أو شبيه ، واختصار بعضهم الآخر والتقائه بذكر الذكر والأنثى ، وهذا هو الذي كانوا يشاهدونه

٥٠

أو يعلمونه رضي الله عنهم. ولكن هل هذا الذي ذكروه هو كل ما نستفيده من هذه الآيات التي تتحدث عن خلق الزوجين؟ الجواب وبكل تأكيد : لا ، وهذا الذي يشير إليه تعالى في سورة يس (سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ) [يس / ٣٦].

إذن ، فليس الأمر في خلق الزوجين مقصورا على ما كان معروفا للناس في القديم ، وإنما هناك أشياء أخرى خلقها الله زوجين زوجين مما لم يعرفه الإنسان القديم ، وكشفت عنه العلوم الحديثة ، بوسائلها العلمية الدقيقة المذهلة المعاصرة ، التي أعطت الإنسان من القدرة على الإدراك أضعاف ما كان يملكه الإنسان القديم آلاف المرات ، من المجاهر الألكترونية والمقاييس الدقيقة الحساسية ، وسفن الفضاء والقوانين العلمية. فلقد توصل العلماء في العصر الحديث إلى إدراك الكثير والكثير من خلق الأزواج مما كان مجهولا في الماضي ، ومما نفهم به معنى جديدا في قوله تعالى (وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ) بل لنفهم ما هذه الآية وما في معناها أنها يستحيل أن تكون من قول البشر ، وإنما هي من قول خالق الأرض والسماء وعالم السّرّ والعلن ، إذ أخبرت عن الزوجية في أشياء لم يكن أهل العصر الأول يعرفونها ، وإنما هي من معارف هذا العصر ، كما أخبرت الآيات التي معناها بأن الزوجية في كل شيء يمكن للإنسان أن يضع يده عليه ، فإن أدرك الزوجية به فبها ونعمت ، وإلا فسيدركها الجيل والأجيال القادمة بما يمكن أن يتوصلوا إليه من معارف ووسائل ، ولذلك فإنه يجب عليه أن يتابع البحث عنها.

بعد هذا التقديم ، يقوم الدكتور هيتو بعقد فصول الزوجية في كل شيء كما كشفتها العلوم المعاصرة ، فيعقد فصلا حول الزوجية في الإلكترون أو الكون والكون النقيض ، وفصل حول الزوجية في الخلية الجنسية ، وفصل حول الزوجية في الكروموسومات ، وفصل حول الزوجية في الكروموسومات في الخلية الجنسية ، وفصل حول الزوجية في الجينات وراء الزوجية في الكروموسومات ، وفصل حول الزوجية في تكوين الجينة نفسها وراء سر مجيئها أزواجا ، وفصل حول الزوجية في تركيب أشرطة الجينة وراء سر الزوجية ، وهو بهذا يجعل اكتشافات العلم في جميع هذه المفردات العلمية تتحدث عن الزوجية مصداقا لقول الله سبحانه وتعالى في الآيات المذكورة سابقا ، بل يصل إلى حد أن العلم بعد هذه الاكتشافات للزوجية في كل شيء ، بدأ يبني كل افتراضاته ، حتى النظرية ، على هذا الأساس ، ومن ثم يأتي العلم بتجاربه مؤكدا لهذه الافتراضات ومصدقا.

٥١

الزوجية في الإلكترون ، أو الكون والكون النقيض

إن الإنسان ، أو أي كائن حي آخر ، يتكون من أعضاء ، وهذه الأعضاء تتكون من أنسجة ، والأنسجة تتكون من خلايا ، والخلايا تتكون من جزئيات ، والجزئيات تتكون من ذرات ، والذرات تتكون من جسيمات ، وهذه الجسميات تعتبر أصغر وحدة من وحدات المادة.

فجسيمات الذرة الأولية هي : البروتون والنيوترون والإلكترون ، أو بمعنى الموجب والمتعادل والسالب ، ولقد كنا نسمع من أساتذتنا أن الله خلق من كل شيء زوجين ، حتى الذرة خلقها الله من زوجين هما النواة والإلكترون الذي يدور حولها ، أو هما السالب والموجب فيهما ، إلا أن هذه المعارف أصبحت بديهية وبدائية ، وليست هي مما أريد الكلام عنه ، وإنما هو أمر وراء الذرة ، إنه أمر تكوين جسيماتها ، في أصل خلقه الأول ، لنضع أيدينا على سر جديد من أسرار الإعجاز الإلهي في خلقه وآياته.

في عام ١٩٢٨ خرج العالم الرياضي الشاب بول ديراك ، الإنجليزي ، خرج على الملأ بنبإ غريب مضمونه معادلة رياضية أصلية تتناول طبيعة الكون. تنبأت هذه المعادلة بأن خلق الإلكترون لن يتأتى إلا عن طريق خلق الزوجين ، وهو ما يعرف ، بالأوساط العلمية الفيزيائية ، بهذا المعنى أيضا (Procreation) ، أي خلق الأزواج أو الزوجين. ولم يكن المراد بهذا أن الخلق يكون عن طريق إعطاء إلكترونين أو بروتونين أو نيوترونين ، وإنما كان بمعنى خلق الإلكترون والإلكترون النقيض ، علما أن هذه النقائض المادية لا يمكن أن يجتمع بعضها لا في الزمان ولا في المكان. فبمجرد خلق الزوجين في عالمنا لا بد أن يهلك أحدها الآخر ويفنيه حين التقائه إياه ، هذه هي المعادلة التي أتى بها بول ديراك ، والتي تحمل هذا النبأ الغريب ، مما جعل الناس لا يلقون لها بالا ، إذ لم تكن عقولهم تهيأت لهذا بعد. ولكن هل تحقق ما تنبأ به ديراك؟ لقد كان العلماء في الماضي يطلقون إلى الجو أجهزة علمية داخل بالونات لتسجيل سر الأشعة الكونية التي تأتي من السماء ، وفي عام ١٩٢٣ استقبل أحد العلماء الأمريكيين ، المهتمين بدراسة الأشعة الكونية ، وهو كارل أندرسون ، استقبل مسارات هذه الأشعة على ألواح حساسة ، وهذه المسارات بمثابة البصمات عند الإنسان ، تحدد للعلماء صفات تلك الأشعة وطبيعتها وشحنتها وشخصيتها. لقد لفت نظره من بين المسارات الكثيرة المسجلة مسيرة غريبة ، ففي لحظة واحدة خاطفة ظهر على لوحه الحساس ولادة جسمين من نقطة واحدة ، انطلق أحدهما إلى

٥٢

جهة اليمين وانطلق الآخر إلى جهة اليسار ، مما جعل أندرسون حائرا في هذا المشهد ، إذ أن المسارين لألكترونين يقينا ، ولكن ما هو السبب الذي جعلهما يبتعدان ويفترقان أحدهما عن الآخر وكأن أحدهما عدو لقرينه؟ لم يتمكن أندرسون من معرفة السبب ، وذلك لأنه لم يكن قد اطلع ، وقت مشاهدته لهذه الظاهرة ، على معادلة ديراك الرياضية التي أشرنا إليها ، والتي كان قد نشرها قبل ثلاث سنوات في إحدى المجلات العلمية البريطانية ، إذ لو كان قد اطلع عليها لما تحيّر تلك الحيرة فيما رأى وشاهد. وجاء بعد أندرسون الأمريكي عالمان بريطانيان عرفا ما توصل إليه أندرسون عمليا بألواحه الحساسة ، كما عرفا المعادلة التي أشار إليها ديراك قبله نظريا ، وبجمعهما ، بين نتيجة أندرسون العملية ومعادلة ديراك الرياضية النظرية ، أدركا السر العظيم في مسار الإلكترونين ، وأشارا إلى أن معادلة ديراك التي تنبأت بخلق الزوجين صحيحة تماما ، على ما أثبته أندرسون بألواحه.

لقد كان ذلك اليوم الذي توصل فيه العلماء إلى تسجيل بداية خلق أصغر وأبسط زوجين في العالم ، كان يوما مشهودا في تاريخ العلم. ومن أجل هذا الاكتشاف المثير الذي توصل إليه ديراك ، من خلال معادلته العلمية الرياضية ، حصل على جائزة نوبل في العام التالي لتحقق ما تنبأت به معادلته ، وهو بالنسبة لنا نحن المسلمين يعتبر يوما مشهودا ، إذ أثبت فيه العلم الحديث ، في أدق مباحثه وأبدع اكتشافاته ، ما أخبر به القرآن الذي سبقت آياته معادلة ديراك بأربعة عشر قرنا ، إذ قال تعالى (وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) [الذاريات / ٤٩] ، وقال (سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ) [يس / ٣٦].

نعم ، ... إنه ليوم مشهود لنا نحن المسلمين ، إذ ثبت للعالم أجمع أن هذا القرآن لم يكن من صنع البشر ، وإنما هو الآية القاطعة الناطقة بأنه من صنع خالق الكون والإنسان والحياة ، والعالم بكل صغيرة وكبيرة مما خلق على أبدع نظام وأتم تقدير ، وهل هذا كل ما في الأمر بالنسبة للأزواج؟ .. الجواب ، لا. لم يقف الأمر عند هذا الحد الذي ذكرناه ، وذلك لأنه وضع أيدينا على سر جديد وهو أن هذا الكون ، في أرضه وسمائه وجزئياته وذراته ، ليس في الحقيقة إلا طاقة اتخذت صورة المادة بجسيماتها وذراتها ، وأن هذه الجسيمات حينما تجسدت تجسّدت على شكل زوجين ولم تتشكل مفردة. فمولد أو خلق الزوجين اللذين ظهرا على لوح أندرسون لم يظهرا من عدم ، بل كان من وراء تخليقهما طاقة ، أو ومضة ضوئية ، وهذه الومضة تنطلق على هيئة موجة ، وتجري في الكون بسرعة الضوء ، ١٨٦ ألف ميل في الثانية ،

٥٣

والواقع أن هذا الكون ـ على قدر ما نعرفه الآن ـ له مظهران ، فهو أحيانا ندركه أو يظهر لنا على شكل موجة ، وهذه الموجة لا زمان لها ولا مكان ، أي في المقاييس الرياضية الحسية ، وأحيانا أخرى قد تتخلى الموجة أو الطاقة عن صفتها الطليقة المتحررة ، وتتجسّد على هيئة مادة كجسيمات ذرية ، وهي في هذه الحالة تأتي على قانون الله الأزلي في الخلق زوجين زوجين .. وفي المفاعلات النووية الجبارة يعيش العلماء مع خلق الأزواج ليل نهار ، وفيها يسجلون تجسيد الطاقات أو الموجات على هيئة جسيمات كثيرة وعلى الألواح الحساسة ، أو في غرف الغيوم التي توضح بداية خلق الأزواج ، يسجل العلماء مولد الإلكترون ونقيضه أو البروتون ونقيضه أو النيوترون ونقيضه ، ثم إن هناك جسيمات ذرية أخرى كثيرة ، وهي غير الجسيمات الأساسية الأولية الثلاثة ، التي ذكرناها ، فما من جسيم منها يتجسّد ـ صغر شأنه أو كبر ـ إلا ويظهر معه في نفس اللحظة نقيضه ، ثم إنه في كل حالة من هذه الحالات يظهر الزوجان ويتخلقان أمام أعين العلماء ، لكن الشيء المثير هو أن النقيض لا يمكن أن يعيش في مكان واحد مع نقيضه.

فإذا تقابل إلكترون مع إلكترون نقيض ، فلا بد أن يزولا ويتخلّيا عن تجسّدهما المادي ويعودا إلى سيرتهما الأولى ، أي إلى موجات متحررة. والشيء الذي يعتبر أكثر إثارة ودهشة أن لكل شيء في هذا الكون نقيضا ما عدا شيئا واحدا ألا وهو الطاقة أو الموجة المتحررة أو النور ، فلا نقيض له ، وإنما تظهر النقائض فقط عند ما تتجسّد هذه الموجة أو هذا النور أو تلك الطاقة ، ويؤدي إلى خلق الزوجين. لما ذا وكيف؟ لا أحد يدري.

فطبيعة الكون تضع أمامنا حقائق الوجود بصورة مثيرة ، فبداية الخلق أزواج ، والأزواج جسيمات أو هي تجسيد لطاقة أو ومضة أو نور ، خذ منها ما تشاء ، فلا أحد يستطيع هنا أن يؤكد أمرا أو يحدّد شيئا ، كما يقول الدكتور عبد الحسن صالح في بحثه عن الأزواج ، وكلما تعمّقنا في طبائع الأشياء ، وظننا أنا قد وصلنا فيها إلى قرار أشاحت الحقيقة بوجهها وتجلّت لنا أكثر إثارة ووضعتنا في مآزق فكرية جديدة ... إن الذي نعرفه حقا أن المادة تجسيد لطاقة أو قوّة ، وهذه الطاقة وراء حدود العقل والخيال ، وأن هذه الطاقة المتجسّدة تتجسّد أمام أعيننا أزواجا أزواجا ، ولكن ما ذا يعني هذا ...؟ إنه يعني ، وبكل ثقة ، ما أخبر الله عنه قبل قرون طويلة مما يدلّ على عظمته وعلمه وقدرته ، ومما يدلّنا دلالة قاطعة على أن هذا القرآن كلامه ووحيه ، إنه يعني قوله تعالى : (وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) [الذاريات / ٤٩] ، كما

٥٤

يعني قوله (سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ) [يس / ٣٦]. ولكن هل هذا كل ما في الأمر؟ .... وهل اقتصرت المكتشفات العلمية على اكتشاف الزوجين في الجسيمات الذريّة من الإلكترون ونقيضه أو البروتون ونقيضه أو النيوترون ونقيضه ، أم أنهم وضعوا أيديهم على أمور أخرى ربما كانت أكثر إثارة ودهشة في هذا الكون ....؟

لا شك أن ما ذكرناه لم يكن كل ما في الأمر مما يتعلّق بالآية ، فقد قال تعالى (وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ). إذن ، فلا بد أن تكون هناك أمور أخرى عرفها الإنسان المعاصر مما لم يكن يعلمه الناس قديما ، وفيه الإثارة والدهشة مما يذهل عقل الإنسان ، ومما يدل دلالة قاطعة على إعجاز القرآن.

الكون والكون النقيض

لقد سيطرت فكرة الخلق أزواجا ، بعد معادلة ديراك وألواح أندرسون وتجارب العلماء في المعامل الذريّة الضخمة ، لقد سيطرت فكرة الخلق أزواجا على عقول العلماء ، وصار من البديهية اليقينية عندهم أنه من تمام انتظام الكون وتعادله وتوازنه أن يكون الخلق في كل شيء على طريقة الأزواج ، وكأنهم اتخذوا من قوله تعالى (وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) ، كأنهم اتخذوا من هذه الآية دستورا لمباحثهم العلمية ، فكل شيء في هذا الكون يجب أن يكون على نظام الزوجية ، فخلق الإلكترون لا بد أن يصحبه خلق الإلكترون النقيض ، أو البوزيترون ، كما بيناه في الفقرة السابقة ، وخلق النيوترون لا بد أن يصاحبه خلق النيوترون النقيض .... هكذا ...

ولكن صفات الإلكترون تخالف وتناقض تماما صفات البوزيترون أو الإلكترون النقيض ، فإذا دار الإلكترون حول نفسه من اليمين إلى اليسار دار الإلكترون النقيض من اليسار إلى اليمين ، وإذا حمل الإلكترون شحنة كهربائية سالبة حمل البوزيترون شحنة موجبة ، وإذا كان المجال المغناطيسي للألكترون يتّجه إلى الأعلى ، كان المجال لنقيضه يتجه إلى الأسفل ، من أجل هذا كان من المستحيل أن يجتمعا ، فإذا ما قدّر اجتماعهما كان لا بد أن يفني أحدهما الآخر ، وهذا الصراع العنيف الذي يؤدي إلى الفناء يشهده العلماء في معاملهم وفي طبقات الجو العليا وفي الفضاء الخارجي ، إذ كثيرا ما تتجسّد الطاقة ، وعند ذلك تظهر الجسيمات الذرية أزواجا ، فأما الذي في عالمنا فيبقى ، وأما الذي جاء نقيضا لجسيمات عالمنا فلا بد أن يتخلّى عن تجسّده ويفنى ، ويعود ومضة سائحة في هذا الكون الرهيب.

٥٥

وبهذه الحقائق اليقينية ، التي وضع العلماء أيديهم عليها وآمنوا بها ، أصبحوا يتساءلون : ما دام الأمر كذلك ، فهل يمكن أن يكون هناك ذرة وذرة نقيض لها ، أو مادة ومادة نقيض لها ، أو كون وكون نقيض له ، إذ لا بد لكل شيء أن يكون زوجين ...؟ ...

وبمواصلة البحث توصل العلماء إلى تخليق ذرة هيدروجين نقيضة ، إلا أن تخليقها لم يدم لأكثر من لحظة واحدة خاطفة ، إذ جاء كل ما فيها معاكسا لذرة الهيدروجين المعروفة ، ولا يمكن أن تعيش إلا في عالم آخر غير عالمنا ، وهذا الأمر مستحيل في عالمنا ، إذ لا بد لها أن تصطدم في لحظة خاطفة ، بجزئي من جزئيات الهواء ، أو أي شيء فيه نقيضها لتحطمه ويحطمها ، وتعود إلى طاقة سابحة في هذا الكون. بعد هذه التجربة وهذا الاكتشاف تطورت معارف العلماء وأصبحوا يوقنون أن فكرة خلق الأزواج ليست قاصرة على الجسيمات الذرية ، بل تعدّتها إلى أنه لكل ذرة في هذا الكون ذرة نقيضة لها ، وهذا يعني أن خلق الأزواج لا بد أن يمتدّ إلى جزئيات الخلية ، بل إلى الكون بأسره من الأرض والنجوم والكواكب والمجرات ، إذ لا بد لها أن تكون أزواجا (ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ) [الملك / ٣].

وهذا يعني أيضا أن بناء الكون النقيض في ذراته لا بد أن يكون معكوسا أو نقيضا لبناء عالمنا الذرّي ، بما فيه من شموس وأقمار وكواكب ، ونحن لا يمكننا أن ندرك هذا ، ولا يمكننا أن نفرّق مثلا بين النجم ونقيضه لأننا نراهما بواسطة الضوء الواصل إلينا منهما ، وقد ذكرنا أن النور لا نقيض له ، وإنما يظهر الزوج أو الجسم ونقيضه عند تجسّد النور أو الطاقة ، ولكننا يمكننا أن ندرك النجم ونقيضه مثلا عند ما يقترب أحدهما من الآخر ويتلاحمان ، ويبدأ كل منهما بإفناء الآخر وتحويله إلى موجات ضوئية لا قبل للعقل بتصورها ، بل لا قبل للخيال بذلك ، وذلك ، كما يقول العلماء ، لو تقابل مثلا إنسان من عالمنا مع إنسان من العالم النقيض سيتحولان في لحظة خاطفة إلى طاقة ناتجة عن انفجار كوني جبار لا يقل عن الطاقة المتحررة من تفجير مائة ألف قنبلة من القنابل الهيدروجينية ، فكيف لو تقابل نجمان أو مجرتان ... إنه لا يمكن للعقل أن يتصوّر ما ذا سيحدث.

ومن أجل هذا كان هذا التباعد الهائل في الفضاء بين المجرّات وعوالم هذا الكون الرهيب الرحيب ، فالمسافة بين المجرات لا تقاس بالأميال ولا بملايين الأميال وإنما بملايين السنين الضوئية. إن الذي دفع العلماء إلى هذا التفكير المثير في خلق الكون والكون النقيض إنما هو الواقع الذي رأوه في تجسيد الإلكترون

٥٦

والإلكترون النقيض ، وما قاموا به من تخليق ذرة الهيدروجين النقيضة ، وما إلى ذلك مما ذكرنا ، مع ما أصبح يقينا عندهم من الوحدة في الخلق على كل المستويات ، والتي تستلزم وجود المادة والمادة النقيضة ، أو بعبارة أخرى أوضح في موضوعنا ألا وهي أنها تستلزم وجود الخلق أزواجا.

لقد عكف العالم السويدي الشهير (أوسكار كلاين) سنوات طويلة على دراسة هذا الموضوع وخرج برأي يقول : «إن المادة والمادة النقيضة لا بد أن تكونا قد ظهرتا في وقت واحد ، ولا بد أن تتساويا تماما ، بمعنى أن نصف الأجرام السماوية قد جاء وظهر من مادة عادية ونصفها الآخر قد خلق من مادة نقيضة» .. وذهب عالم البلازما النووية «هانز ألفين» إلى أبعد من هذا ، فنشر بحثا بعنوان «نقيض المادة والكون» شرح فيه فكرة ظهور الكون والكون النقيض وكيف ظهرا ، ثم بوعد بينهما وعزلا حتى أمكن أن يعيشا إلى اليوم المعلوم».

ولا يسعنا ، نحن الناظرين إلى هذه النتائج العلمية التي لا تحتاج إلى تعليق ، إلا أن نردد قوله تعالى (سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ) [يس / ٣٦] ، كما أننا لنتمايل طربا ونهتز نشوة عند ما نعرف أن العالم الحديث ، بعلومه ومعارفه وفي أدق مباحثه ونظرياته ، قد اتخذ من آيات القرآن دستورا له يبني عليه حضارته وتطلعاته وطموحاته ، ويردد كما يردد كل مؤمن (وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) [الذاريات / ٤٩].

أيها القارئ الكريم : قل لي بربك ... من الذي علّم ذلك الأمّي في شعاب مكة وأوديتها ، من الذي علمه أسرار الكون والحياة والذرة والخلية مما لم يكن الإنسان يعلمه لا بعقله الظاهر ولا بعقله الباطن ، ومما لم يصل إليه ولا حام حوله ...؟

لا شك أنه الله ، الذي خلق فسوى والذي قدر فهدى ، وإني لعلى يقين بأنه ما من منصف يقع نظره على هذه الآية وهذه النتائج العلمية المذهلة إلا ويجد نفسه مضطرا لأن يحني رأسه تواضعا للحقيقة ، وتعظيما للخالق واعترافا بأن هذا الكتاب المعجز ليس من قول البشر.

بعد أن ينتهي الدكتور هيتو من البرهنة ، في علم الذرة والفضاء والفلك ، على وجود الزوجية في كل تركيباتها ، ووجودها المادي ، يعود للبرهنة على الزوجية في علم الحياة ، وسنحاول اختصار ما قاله في هذا الصدد ، حيث يدلل على الإعجاز القرآني في حديثه عن الزوجية من خلال الخلية الحية ، ومن خلال الزوجية في الخلية الجنسية ، ومن ثم في الكروموسومات ، ومن ثم في الجينات ، ومن ثم في

٥٧

أشرطة الجينة الداخلية نفسها حتى يصل إلى أن كل الوجود ، سواء كان ذرة مادية أو خلية حية أو كونا كاملا أو جسما كاملا ، إنما يقوم على أساس الزوجية في كل بنيانه.

ففي حديثه عن الزوجية في الخلية الجنسية كنموذج للخلية الحية عموما ، يجد الدكتور هيتو أن العلم الحديث قد توصل ليس إلى الزوجية في وجود الكائن الحي من خلال نطفة الذكر وبويضة الأنثى ، كما هو معلوم في الظاهر فقط ، وإنما وصل العلم إلى أن في كل نطفة للذكر زوجين أيضا ، ففيها نطفة ذكرية وأنثوية بنفس الوقت ، فنطفة الرجل فيها الذكر والأنثى ، وحينما تلقح البويضة لدى المرأة فإن كانت الملقّحة صفات ذكرية جاء الولد الذكر منها ، وإن كانت الملقحة صفات أنثوية كانت الأنثى منها ، ويؤكد هذا بالآية القرآنية (أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً (٣٦) أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى (٣٧) ثُمَّ كانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى (٣٨) فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى) [القيامة / ٣٦ ـ ٣٩] ، أي فجعل من نطفة الرجل الذكر والأنثى ، وتفسره الآية الأخرى (وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (٤٥) مِنْ نُطْفَةٍ إِذا تُمْنى) [النجم / ٤٥ ، ٤٦]. فالآية صريحة في أن الذكر والأنثى من نطفة الرجل ومنيه ، وأن هذا المني يحمل الذكور إلى جانب الإناث أزواجا أزواجا.

أما الزوجية في الكروموسومات فيتحدث عنها العلم ، كما يذكر الدكتور هيتو ، من خلال عدد هذه الكروموسومات التي جميعها زوجيا ، فهي في خلية الإنسان في نواتها ستة وأربعين كروموسوما ، وفي البقر ستون كروموسوما ، وهكذا نجد أن نوع الكائن الحي يختلف باختلاف عدد الكروموسومات فيه. ولما كانت هذه الكروموسومات دائمة الانقسام بسبب انقسام الخلية لتعويض الجسم عن الخلايا التي تموت باستمرار ، والتي تقدر بالملايين ، فإن انقسامها نفسه يحمل نفس الزوجية في الكروموسومات الأصلية ، وأي تغير في عدد الكروموسومات يعني تغير جنس الحيوان ، وحينما تنقسم هذه الكروموسومات إلى أزواجها فإن كل زوج يعطي منها زوجا آخر شبيها له مائة بالمائة استعدادا للانقسام والتكاثر ، فيصير في الخلية ستة وأربعون زوجا ، ليعود العدد بعد الانقسام إلى ثلاثة وعشرين زوجا ، ولتستمر مسيرة الحياة ويستمر الحفاظ على الأنواع (سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ) [يس / ٣٦]. ولكن هل هذا هو كل ما في الأمر من أسرار الأزواج؟ كلا ، فحتى حينما تنقسم الخلية الجنسية إلى ثلاثة وعشرين زوجا ، لتكون بعد التلقيح مع بويضة المرأة المنقسمة أيضا إلى ثلاثة وعشرين زوجا ، ليعود العدد إلى ستة وأربعين زوجا لتكوين الإنسان ذاته ، فالخلية الجنسية في

٥٨

انقسامها إلى نصف العدد الزوجي في كل من النطفة والبويضة إنما هي أعظم دليل على الزوجية حتى في عملية التلقيح الجنسية. ويقول الدكتور هيتو : «ولكن أين سر الأزواج في هذا؟ ألسنا نتكلم عن الأزواج؟ بلى .. إننا نتكلم عن الأزواج ، والسر هنا يكمن في أن الحيوان المنوي الذي يحمل ، كما ذكرنا ، نصف عدد الأزواج التي كانت تحملها الخلية الجنسية من الكروموسومات ، إن هذا الحيوان عند ما يلقح البويضة في رحم المرأة ، وتتكون الخلية الأولى ، نجد أن كل كروموسوم من الكروموسومات الثلاثة والعشرين تندفع في هذه الخلية الجديدة وكأنها تبحث عن شيء مفقود ، وإذا بكل واحد منها يبحث عن زوجه وقرينه الذي انفصل عنه في الخلية الأساسية ، فإذا ما التقيا تلاصقا ، كما يتم التلاصق بين كل زوجين في حياتنا الظاهرة ، وكأن أحدهما يدلي للآخر بأسراره ويطلعه على باطنه ويتبادل معه المعلومات السرية التي لا يعلمها إلا خالقه ، والتي سيتكوّن منها المولود الجديد».

على أن الزوجية في العلم لم تقف عند حدود الزوجية في عدد الكروموسومات ، بل إن العلم ، بعد بحث دقيق عميق في هذه الكروموسومات ، وبعد استخدام العلم مجاهر كبيرة للنظر إليها ، وجدها تتكون من جينات صغيرة متراصّة يبلغ عددها على الكروموسوم الواحد عشرات الآلاف ، وهي تقوم بمهمة حفظ السجلات الوراثية للإنسان. فبناء على هذه الجينات تتحدد صفات الإنسان ولونه وشكله وصوته وطبيعته وطوله ولون شعره ولون عينيه وكل ما يتعلق بأوصاف الإنسان ، وبسبب هذه الجينات أيضا تنتقل الصفات الوراثية من الجد إلى الآباء ، ومن الآباء إلى الأبناء ، واكتشف العلم أن هذه الجينات تتكوّن ، هي أيضا ، من أزواج ولم تأت فرادى ، ولهذا كان الشبه بين الولد وأبيه ، والأب وجده من جهة ، وبين والدته وجدته من جهة أخرى ، وحيثما تفوّقت جينة أحدهما على الآخر ظهر التعبير في شبه الولد بأحدهما. إذن ، حتى في هذه الجينات وجدت الزوجية ، فلو افترضنا جدلا أن الخلية تحتوي على أربعين ألفا من الجينات ، فمعنى هذا أن عشرين ألفا منها جاءت من الأب ، والعشرين ألف الأخرى جاءت من الأم ، فهي تحمل عشرين ألف زوج من الجينات المشتركة التي تحمل صفات الأم والأب معا.

ولكن هل تقف الزوجية عند هذا الحد لمعرفتنا بالجينات؟ لا. فالعلم بدأ يبحث في سر هذه الجينة وكيفية حفظها للصفات البشرية ، بل وكيفية التأثير عليها ، فما ذا وجد؟ وجد العلم أن الجينة الواحدة قد حملت سرا من الأسرار التي أدى اكتشافها إلى إثبات إعجاز القرآن وإظهار عظمة الخالق ، إذ ثبت أنها تتكون من الأزواج أيضا ،

٥٩

وذلك أن كل جينة من هذه الجينات تعتبر معلومة مستقلة تعمل لتوريث الكائن الحي صفة محددة ، وبعد التعمق في تكوينها وجد أن هذه الجينة تتكون من شريط قد يفرد وقد يطوى ، فإذا أريد من الشريط أن يقوم بمهمته وينفذ خطته الوراثية المرسومة له انفرد واستقام ، وهو لدقته لا يكاد يرى ، إذ أن عرضه لا يزيد عن جزءين اثنين من مليون جزء من المليمتر ، فإذا ما انتهى من عمله طوى نفسه وعاد إلى ما كان عليه على الكروموسوم كحبّة ، أو عقدة صغيرة ، لكن هذه الجينة لم تتكون من شريط واحد وإنما تبين ، بالفحص والتدقيق ، أنها على هيئة شريطين اثنين يلتفّ أحدهما على الآخر ويحتضنه كالضفائر المجدولة ، وحتى هذه الضفائر كثيرا ما تأتي أزواجا على شكل زوجين اثنين ، ويلتف كل زوجين منها بالزوجين الآخرين ، على أنه قد تتكرر هذه العملية مرة ثالثة في زوج ثالث ... وهكذا نرى أن هذا الأمر قد فاق التصوّر ، وتجاوز حدود الخيال ، وكأن كل شيء في هذا الكون يقول (سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ) [يس / ٣٦].

إن هذه الشرائط التي تتكون منها الجينة ، والتي جاءت على شكل شريطين مجدولين ، هي التي سجلت عليها الملايين والملايين من الصفات السرية للكائن الحي ، وكأنها كلمة السر فيه ، وهي التي حيّرت المفكرين والعباقرة وعلماء الحياة ، فما هو سر هذه الشرائط التي سجلت عليها ملايين الصفات ، والتي جاءت أزواجا ، وما هي حقيقتها ، وهل هي أيضا احتوت على سر آخر من الأزواج في تركيبها جاء وراء ظهورها أزواجا؟ .. الجواب نعم ، وبكل تأكيد طبقا لقانون الله الأزلي (وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) [الذاريات / ٤٩] ... وهنا يصل العلم إلى خاتمة المطاف الذي ما بعده مطاف ألا وهو الزوجية في سر التركيب الأساسي لأشرطة الجين الزوجية ، وهو التركيب الأولي لوجودها الحيوي.

لقد تابع العلماء جهودهم في البحث عن حقيقة الجينة ومكوناتها إلى أن جاء العالمان (جيمس واتسون) ، المتخصص في علم البيولوجيا ، و (فرنسيس كريك) ، المتخصص في علم الفيزياء الكيميائية ، وتمكّنا عام ١٩٥٢ من اكتشاف حقيقة الأشرطة التي تتكوّن منها الجينة التي جاءت على شكل أزواج على شكل ضفائر مجدولة أو سلالم حلزونية ذات درجات متتابعة بعضها فوق بعض ، والتي تحتوي على أسرار الحياة بالنسبة للكائن الحي ، وبهذا الكشف وضعا أيديهما على أعظم سر من الأسرار التي تحمل صفات هذا الكائن الحي العجيب الغريب المعجز المذهل ، واستحقا بناء على ذلك جائزة نوبل.

٦٠