الاعجاز العلمي في القرآن

سامي أحمد الموصلي

الاعجاز العلمي في القرآن

المؤلف:

سامي أحمد الموصلي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار النفائس للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ١١١

الكريم يطابق العلوم ، أو يوافق العلوم الطبيعية بهذا المعنى الذي تستقيم به العقيدة ولا تتعرّض للنقائض والأظانين كلما تبدلت القواعد العلميّة ، أو تتابعت الكشوف بجديد ينقض القديم أو يقين يبطل التخمين ، وفضيلة الإسلام الكبرى أنه يفتح للمسلمين أبواب المعرفة ويحثهم على ولوجها والتقدم فيها ، وقبول كل مستحدث من العلوم على تقدم الزمن ، وتجدد أدوات الكشف ووسائل التعليم ، وليست فضيلته الكبرى أن يقعدهم عن الطلب وينهاهم عن التوسع في البحث والنظر لأنهم يعتقدون أنهم حاصلون على جميع العلوم». لا شك أن تخوّف العقاد ، ومن معه ، من التفسير العلمي كان بسبب التفسيرات العلمية التي ظهرت في زمنهم ، والتي كانت فعلا منحرفة جدا وغير مستندة على أساس علمي منهجي ، حتى أن الشيخ طنطاوي جوهري كان يؤمن بأن القرآن لا يفسّر إلا بالعلم الحديث ، فكتب تفسيره ومزج فيه الآيات القرآنية بالعجائب الكونية ، ويؤكد أن القرآن سر العلوم.

لقد لخص الدكتور عفت محمد الشرقاوي ، في كتابه «الفكر الديني في مواجهة العصر» ، حجج الذين يعارضون التفسير العلمي بالنقاط التالية (١) :

١) إن الفهم الدقيق للألفاظ يحتم علينا فهمها في حدود الاستعمال الذي نزلت فيه ، وهذا يحول بيننا وبين التوسع في جعلها تدل على معان لم تعرف بها وقت نزول القرآن.

٢) يجب أن نقف بعبارات القرآن عند ما فهمه العرب الخلّص ، ولا نتجاوز ما ألفوه في علومهم وأدركوه من معارفهم ، لأننا نعتقد أن البلاغة هي مراعاة مقتضى الحال.

٣) إن مهمة القرآن دينية اعتقادية وليست علمية.

٤) ينبغي أن لا نقحم النظريات العلمية على القرآن الكريم ، أو نعتبر أن القرآن الكريم مطالب بموافقتها كلما تغيرت من زمن إلى زمن ، ومن تفكير إلى تفكير.

٥) إن إدخال التفسيرات العلميّة على الإشارات القرآنية ، وبالصورة التي جرى عليها بعض الكتاب والعلماء ، لا بد أن يفضي ، عما قريب أو بعيد ، إلى الصراع بين الدين والعلم.

٦) التفسير العلمي يحمل أصحابه على تأويل القرآن تأويلا متكلفا يتنافى مع الإعجاز ولا يسيغه الذوق السليم.

__________________

(١) الفكر الديني في مواجهة العصر ـ د. عفت محمّد شرقاوي ، ص ٤٢٥.

٢١

٧) التفسير العلمي بدعة حمقاء ودفاع فاسد عن إعجاز القرآن من كل وجه.

لا شك أن هذه الملاحظات والحجج قد أثّرت على مسيرة التفسير العلمي للقرآن ، فبعد أن ذهب الانبهار الأول في العلوم عبثا ، كانت تؤخذ بلا مناقشة ولا دراسة بحيث أن تكون نظرية علمية افتراضية ، وأن تكون قاعدة أو قانونا علميا حقيقيا ، أصبح اليوم للتفسير العلمي ، بل والإعجاز العلمي ، مدرسة متشعبة متعمّقة منهجية وضعت لنفسها الضوابط والشروط لهذا التفسير قبل ممارسته ، بل وإنها رجعت إلى بعض الآراء الواردة عن القدامى من علماء وفقهاء لكي تبني رأيها على أرضية ثابتة من القناعة ، ولكي تبقي للقرآن دوره الإعجازي المستمر حتى في هذا العصر ، فما دام هو صالحا لكل زمان ومكان فيجب إذا أن يقول كلمته في كل جديد من العلوم والمعارف الحقيقية ، لكي يستدل من ذلك على أنّه كلام الله ، وأنه معجزة رسول الله ، وإلى جميع العالمين في كل وقت وحين.

٢٢

البعد التاريخي

الإعجاز العلمي من كتب الإعجاز

حتى التفسير العصري

لو حاولنا أن نرجع في التاريخ إلى الوراء إلى زمن النبوّة وما بعدها ، للتعرف على كيفية تصور القرآن عندهم لوجدنا ما يعيننا على التأصيل الفكري للإعجاز العلمي للقرآن ، وأنه كانت هناك بدايات لتفسير القرآن علميّا وضمن مفردات كل عصر ، وما وصل إليه من تطور هذه العلوم آنذاك ، ففي الحديث النبوي عن علي بن أبي طالب ، كرم الله وجهه ، ورد هذا الحديث (١) قال : (أما إني قد سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : ألا إنها ستكون فتنة ، فقلت : ما المخرج منها يا رسول الله؟ قال : كتاب الله ، فيه نبأ ما قبلكم وخبر ما بعدكم وحكم ما بينكم ، هو الفصل ليس بالهزل ، من تركه من جبار قصمه الله ، ومن ابتغى الهدى في غيره أضلّه الله ، وهو حبل الله المتين ، وهو الذكر الحكيم ، وهو الصراط المستقيم ، هو الذي لا تزيغ به الأهواء ، ولا تلتبس به الألسنة ، ولا يشبع منه العلماء ، ولا يخلق على كثرة الرّدّ ، ولا تنقضي عجائبه ، هو الذي لم تنته الجن إذ سمعته أن قالوا (إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ) [الجن / ١ ، ٢] من قال به صدق ، ومن عمل به أجر ، ومن حكم به عدل ، ومن دعا إليه هدي إلى صراط مستقيم ...) ... لعل هذا أقدم أثر لحديث النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن القرآن ، فهو لا يشبع منه العلماء ولا تنقضي عجائبه ... ويروى أيضا عن علي بن أبي طالب في وصفه للقرآن أنه قال (٢) : «القرآن ظاهره أنيق وباطنه عميق ، لا تفنى عجائبه ولا تنقضي غرائبه ولا تكشف الظلمات إلا به ، وهو آمر زاجر وصامت ناطق وحجّة الله على خلقه ، أنزله الله نورا لا تطفأ مصابيحه ، وسراجا لا يخبو توقّده ، وبحرا لا يدرك قعره ، جعله الله ريّا للعلماء وربيعا لقلوب الفقهاء ومحاجّ لطرق الصلحاء ودواء ليس بعده داء ، وهو كتاب الله بين أظهركم ، ناطق لا يعيا لسانه ، وبيت لا تهدم أركانه وعزّ لا تهدم أعوانه».

__________________

(١) التاج الجامع للأصول ـ منصور علي ناصف ، ج ٤ ص ٧.

(٢) تفسير مفردات القرآن ـ سميح عاطف الزين ، ص ٧.

٢٣

ولقد كان هذا التصوّر سائدا عند الصحابة والتابعين ، لذا فإن الإمام الغزالي ينقل في إحياء علوم الدين عن بعض العلماء (١) «أن القرآن يحوي سبعة وسبعين ألف علم ، ومائتي علم ، إذ كل كلمة علم» ، ثم يروي عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال : «من أراد علم الأولين والآخرين فليتدبّر القرآن» ، ثم يقول بعد ذلك : «وبالجملة ، فالعلوم كلها داخلة في أفعال الله عزوجل وصفاته ، وفي القرآن شرح ذاته وأفعاله وصفاته ، وهذه العلوم لا نهاية لها ، وفي القرآن إشارة إلى مجامعها. ثم يزيد في ذلك فيقول : بل كل ما أشكل فهمه على النظّار واختلفت فيه الخلائق في النظريات والمعقولات في القرآن إليه رمز ودلالات عليه يختص أهل الفهم بدركها ، فتفكر في القرآن والتمس غرائبه لتصادف فيه مجامع علم الأولين والآخرين».

أما السيوطي (٢) فيعتبر احتواءه على علوم ومعارف لم يجمعها كتاب من الكتب ، ولا أحاط بعلمها أحد في كلمات قليلة ، وأحرف معدودة ، أول وجه من وجوه إعجاز القرآن ، ويروي أحاديث وآثار كثيرة في هذا الصدد ، منها ما رواه البيهقي عن الحسن قال : أنزل الله مائة كتاب وأربعة كتب أودع علومها أربعة منها التوراة والإنجيل والزبور والفرقان ، ثم أودع علوم الثلاثة في الفرقان. ويروى عن ابن مجاهد أنه قال : ما شيء في العالم إلا وهو في كتاب الله عزوجل. ويروى عن ابن أبي الفضل المرسي قوله : جمع القرآن علوم الأولين والآخرين بحيث لم يحط بها علما إلا واهبها والمتكلم بها ، ثم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خلا ما استأثر به سبحانه ، ثم ورث عنه معظم ذلك سادات الصحابة وأعلامهم ، مثل الخلفاء الأربعة وابن مسعود وابن عباس ، حتى قال لو ضاع لي عقال بعير لوجدته في كتاب الله. ثم يستعرض السيوطي جميع العلوم النابعة من القرآن ، فيجمع كل العلوم الموجودة في عصره ويصل إلى القول (٣) : «وقد احتوى على علوم أخر من علوم الأوائل ، مثل الطب والجدل والهيئة والهندسة والجبر والمقابلة والنجامة وغير ذلك» ، وينقل عن الراغب قوله «إن الله تعالى كما جعل نبوءة النبيين بنبينا ومولانا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم مختتمة ، وشرائعهم بشرعته من وجه منتسخة ومن وجه متمّمة مكملة جعل كتابه المنزل عليه متضمنا لثمرة كتبه التي أولها (٤) (أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [البقرة / ٥] وقوله (يَتْلُوا

__________________

(١) أصول التفسير وقواعده ـ خالد عبد الرحمن العك ، ص ٢٢٠.

(٢) معترك الأقران في إعجاز القرآن ـ السيوطي ـ ج ١ ص ١٢.

(٣) المصدر السابق ، ص ١٧.

(٤) المصدر السابق ، ص ١٩.

٢٤

صُحُفاً مُطَهَّرَةً* فِيها كُتُبٌ قَيِّمَةٌ) [البينة / ٢ ، ٣] ، وجعل من معجزة هذا الكتاب أنه مع قلة الحجم متضمن للمعنى الجم بحيث تقصر الألباب البشرية عن إحصائه والآلات الدنيوية عن استيفائه ، كما نبّه عليه بقوله (وَلَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللهِ) [لقمان / ٢٧]». وأخيرا يروي السيوطي قول القاضي أبي بكر بن العربي في قانون التأويل : علوم القرآن خمسون علما ، وأربعمائة علم ، وسبعة آلاف علم ، وسبعون ألف علم ، على عدد كلم القرآن مضروبة في أربعة ، إذ لكل كلمة ظهر وبطن وحد ومطلع ، وهذا مطلق دون اعتبار تركيب وما بينهما من روابط ، وهذا مما لا يحصى ولا يعلمه إلا الله. ويروي السيوطي حديثا عن أبي هريرة أنه قال : فال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (إن الله لو أغفل شيئا لأغفل الذرة والخردلة والبعوضة).

وممن تابع مفردات التفسير العلمي الدكتور محسن عبد الحميد ، حيث يرجع بداياته إلى الإمام الغزالي (١) في كتاب جواهر القرآن ، الذي دعا فيه إلى أن هذه العلوم المعروفة ليست أوائلها (أصولها) بخارجة عن القرآن ، لأن جميعها مغترفة من بحار معرفة الله تعالى. فالعلماء بهذه العلوم هم الذين يعرفون الأسرار والسنن الكامنة وراء الآيات الكونية في القرآن الكريم ، والتي تمثل بحار أفعال الله تعالى في الوجود. ويرى الدكتور عبد الحميد أن الغزالي لا يعتقد بوجود هذه العلوم جميعها بتفاصيلها في القرآن ، وإنما كان يعتقد أن موازينها ومفاتيحها هي الموجودة فيه ، ولعل أكثر من تعامل بمفردات العلوم من تفاسير القرآن هو الفخر الرازي في تفسيره الكبير الذي آمن بمقولة الغزالي وأكثر من استخدامها في تفسيره.

إلا أن الدكتور عبد الحميد ، في دراسته عن تفسير الرازي ، يقول عنه (٢) «إنه لم يذكر أن في القرآن كل العلوم والمعارف الإنسانية بالفعل ، بل إنه مشى على أساس أن القرآن يجلب نظرنا إلى القوانين المتنوعة المنشورة في الكون ، ولن نستطيع أن نفهمه حق الفهم إن لم نطّلع على العلوم والمعارف ، إذ أن في ضوئها نفهم كثيرا من أسرار القرآن» ... إذن فالقدامى من العلماء والباحثين ، ومن الصحابة والتابعين كانوا يعتقدون أن كل العلوم في القرآن ، سواء عرفوا هذه العلوم التي كانت في عصرهم أو لم يعرفوها ، وأن فيه علم الأولين والآخرين ، ولمعرفتنا بحدود علومهم في ذلك الزمان واختلاط بعضها ببعض فإننا لا نستغرب منهم ذلك ، فأين كتاب الله من كتب

__________________

(١) تطور تفسير القرآن ـ د. محسن عبد الحميد ، ص ٢٢٥.

(٢) المصدر السابق نفسه.

٢٥

البشر؟ وأين علم الله من علم البشر؟ فالأساس الذي اعتمدوه في أحاديثهم عن القرآن ، وما استخرجوه واستنبطوه منه يعود إلى هذا اليقين والإيمان بصدقه قبل البرهنة عليه ، وذلك لأنه من الله ومن علم الله ومن كلام الله ، فخالق الكون والخلق أدرى بما خلق (أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) [الملك / ١٤] ولعل خير ما يستشهدون به على جميع ما يذكروه من علوم القرآن أنه هو نفسه قال : (وَلَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللهِ) [لقمان / ٢٧]. فمن يؤمن بالقرآن يؤمن بهذه الآية ، ومن يؤمن بهذه الآية فليبالغ ما شاء ، فلن يصل إلى حدود علم الله ، لأن علم الله مطلق وجميع المبالغات المفهومة وغير المفهومة هي نسبية لعقل الإنسان المحدود ، ولا شك أن المعترضين والمحتجين على تفسير القرآن علميا هم ناس مؤمنون أيضا ولا يختلفون عن أن علم الله هو فوق البشر ، وأن كلام الله المعبر عن علمه في القرآن هو أبعد من أن يحيط به عقل ، إلا أن الاختلاف بينهم وبين المؤيدين للتفسير العلمي يكمن حول المناسبة والالتقاء الحقيقي بين كل آية وكل علم ، فهل هذه الآية قصد منها كذا ، وتدل على كذا حقيقة علمية ، أم أنها لا تدل على ذلك! وهل القرآن فيه ما يشير إلى أبواب ومبادئ العلوم في كذا آية ، أم أن هذه الآية تفسيرها أسباب النزول والمعاني المحددة والمشخصة فيها ، كما فسّرها الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو بعض الصحابة والتابعين؟ هنا مكمن الخلاف ، وهذه مسألة قادت إلى سؤال كبير طرحه العقاد على نفسه فيقول (١) «هل معنى ذلك أن الكتب المقدسة لا تفهم إلا كما فهمها المخاطبون بها لأول مرة؟ أو معناه أنها تفهم في كل عصر حسب النظريات العلمية التي انتهى إليها أبناؤه؟ ورغم أن العقاد من المعارضين للتفسير العلمي للقرآن إلا أنه حينما يجابه هذا السؤال يقول بأنه لا محل للخلاف في أن الإنسان العصري مطالب بفهم كتبه المقدسة ، وفهم ما توجبه على ضميره من الفرائض والشعائر والواجبات ، والفهم المطلوب من المكلف المخاطب يقتضي أن المسلم مأمور في القرآن بالتفكير والتأمل والتدبّر والاستقلال بذلك عن الآباء والأجداد ، وأخبار الزمن القديم وأئمة الدين ، وليس الخطاب مقصورا على العرب الأميين ، ولا هو مقصور على أبناء القرن العشرين ، ولكنه عام مطلق لكل عصر وكل زمان ، إذ ليس من المعقول أن يفكر الإنسان على نسق واحد في جميع العصور. ومع هذا فالعقاد يؤكد أن التفكير

__________________

(١) الفكر الديني في مواجهة العصر ـ د. عفت محمّد شرقاوي ، ص ٤٢٧.

٢٦

العصري شيء وإقرار النظريات العلمية المتجددة شيء آخر».

ونفس السؤال يطرحه الأستاذ محمد الصادق عرجون في كتابه «نحو منهج لتفسير القرآن» ، مع العلم أنه يعارض معارضة شديدة لما وقع من تفسيرات علمية للقرآن ، يقول (١) : «إذا كان أسلافنا من أعلام العلماء وحكماء الإسلام قد خاضوا بحار العلوم ولجج المعارف ، واقتحموا حصون الأفكار في أزمانهم ، ولم يتركوا منها مشرعا إلا وردوه ، واتخذوا من كافة معارفهم وأفكارهم معينا لفهم كتاب الله فهما يقوم على حقائق العلم الصحيح لتبين هدايته وإقامة محبته ، فما موقفنا نحن من عصرنا ومعارفه ووسائله وأفكاره ومذاهبه؟ هل نقف من آيات الله عند مبلغ ما وصل إليه أسلافنا في أعصرهم ، وهو نهاية احترام العقول في بيئاتهم وأزمانهم ومجتمعهم؟ أو نتقدم في شجاعة كما تقدموا إلى البحث بوسائل عصرنا ، ونغوص في بحار معارفه بعقولنا التي ربّاها القرآن الحكيم وحديثه وبراعة أسلوبه ولطف مدخله ودقة تصويره ، ورائع تناوله لقضايا الحياة والكون مع عنايته بتثبيت قواعد الإيمان في قلوب دارسيه من المؤمنين».

ورغم معارضته للتفسيرات العلمية التي وقعت للقرآن ، نراه يجيب بضرورة ذلك ولكن بشروط هي أن لا نخضع القرآن لنظريات علمية لا تزال في مهبّ التجارب ، وقد تعصف بها فتصبح من قبل الأساطير ، كما فعل بعض المتحمسين وبعض المخدوعين ببريق العلم التجريبي ، وأن نحذر أشد الحذر من الشطحات القرمطية التي تقصد إلى تحريف آيات الله عن مواضعها ، ويخلص إلى القول (٢) «والنظر في تفسير الآيات الكونية يجب أن يقصد أولا إلى تبيين هداية القرآن تبيينا علميا ، لا على أساس أن نجعل النظريات العلمية التجريبية هي تفسير الآيات القرآنية ومعانيها التي قصدها القرآن الكريم ، ولكن على أساس أن القرآن الكريم لا يصادم علما ثبت بالبرهان القطعي ثبوتا لا يحتمل الارتياب والشكوك ، والراسخون في العلم من المؤمنين تزيدهم النظريات العلمية في حقائق الكون وخواطر الطبيعة إيمانا بجلال الله وعظمة الخلاق العليم» ...

إن جميع المعارضين لتفسير القرآن علميا ، تنصب ملاحظاتهم على ممارسات بعض المفسرين وانحرافاتهم فيها ، ولم أجد من يعترض مبدئيا أو فكريا أو يعطي قانونا عاما يبرّر به سبب رفضه للاستفادة من العلوم والمعارف الحديثة في تفسير القرآن. فالدكتورة عائشة عبد الرحمن ، حينما تتحدث عن سلبيات التفسير العلمي ،

__________________

(١) نحو منهج لتفسير القرآن ـ محمّد الصادق عرجون ، ص ٦١.

(٢) المصدر السابق ، ص ٦٣.

٢٧

تضع أمامها تفسيرات مصطفى محمود المبتسرة والتي لا تصمد كثيرا أمام النقد ، حتى كتب أكثر من واحد كتابا كاملا في الرد عليه ، منهم الدكتور عبد المتعال الجبري في كتاب «شطحات مصطفى محمود في تفسيراته العصرية للقرآن الكريم» ، أما كتاب الدكتورة عائشة «القرآن والتفسير العصري» فهي تؤكد فيه أننا نتورط ، من هذا المنهج في التفسير ، إلى المزلق الخطر يتسلل إلى عقول أبناء هذا الزمان وضمائرهم ، فيرسخ فيها أن القرآن إذا لم يقدم لهم علوم الطب والتشريح والرياضيات والفلك وأسرار البيولوجيا والإلكترون والذرة ليس صالحا لزماننا ، ولا جديرا بأن تسيغه عقليتنا العلمية ويقبله منطقنا العصري. وهكذا تصل إلى القول بأن مثل هؤلاء الذين يلحون على التفسير العصري للقرآن يغرون أبناءنا بأن يرفضوا القرآن كما فهمه الصحابة في عصر البعث ومدرسة النبوة ، ليفهموه في تفسير عصر من بدع هذا الزمان.

أما الدكتور عبد المتعال فإنه يفترض على المفسر ، قبل أن يدخل في مجال التفسير ، ضوابط عدة منها دراسة العلوم الكونية والاجتماعية ، لأنها كما يقول تزيدنا يقينا بنسب القرآن إلى عالم الغيب والشهادة الحكيم العليم ، ويعتقد أن حقائق العلوم المنوعة التي سبق القرآن بتبيانها ولم تكن موجودة عند نزول القرآن ، تزيدنا يقينا بأن القرآن من عند الله ، إذ هي تؤكد لنا علم الله بالغيبيات وهيمنته على المخلوقات (أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) [الملك / ١٤](إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ) [القمر / ٤٩] وهي برأيه ظلال من المعرفة تساعدنا على تصور عظمة الله في كتابه المسطور ، وأنه على النحو الذي تجد عظمته في كتابه المنشور كتاب الوجود ، فنقف أمامه سبحانه خاشعين مسلمين مؤمنين قانتين.

ويستنتج الدكتور من ذلك ضابطا أو شرطا للتعامل معها من خلال قوله (١) «وأبحاثنا العلمية ـ معشر البشر ـ ينعكس عليها قصور مداركنا وقدراتنا ، ومن ثم فهي أقل من أن نفهم في ضوئها كتاب الله ، وإنما الصواب والمنطقي أن نفهمها في ضوء كتاب الله ، فإن الكامل هو الذي يحكم على الناقص» ، إلا أن الكاتب ، ورغم كون كتابه محصورا بشطحات مصطفى محمود في تفسيراته العصرية ، يطرح حكما قاسيا حينما يؤكد على (٢) «إن الإلحاح على صوغ المفاهيم الإسلامية ونصوص الشريعة

__________________

(١) شطحات مصطفى محمود في تفسيراته العصرية للقرآن الكريم ـ د. عبد المتعال الجبري ، ص ٢٣.

(٢) المصدر السابق ، ص ١٢.

٢٨

في قوالب النظريات العلمية المعاصرة ، له خطره على الإسلام ذاته في المدى البعيد لحركة الحرب ضد الإسلام» ، ويضرب مثلا على ذلك العلاقة التي قامت بين المسيحية والعلم حينما حاولت أن تدخل شروح الإنجيل كدراسات في الطبيعة والفلك والرياضة والطب وشتى العلوم ، ودرست هذه بقوانينها على أنها وحي مقدس ، فلما سقطت هذه العلوم بالتطور سقطت المسيحية معها ، وكذلك الحال مع الديانة الزرادشتية عند ما وضع علماء الدين ومدارسهم ، التي كانت تهيمن على الثقافة ، ما ليس من الدين من علوم الفلك والطبيعة وغيرها ، فلما جاءت الفلسفات اليونانية والسوريانية سقطت الديانة الزرادشتية مع علومها ، وكذلك بعض الأديان الأخرى. ثم يطرح الكاتب سؤالا خطرا أكثر (١) «هل تشجيع المستعمر لهذا النمط من التفاسير أولا ... ثم انسياق المخلصين في هذا التيار دون سوء قصد ثانيا ، يسلمنا إلى المأساة التي تحطمت المسيحية على صخرتها؟ إنها محاولات ـ لا شك ـ خير منها عدمها وأولى ألا تسمى تفسيرا للقرآن ، ومع ذلك فلن تنال من الإسلام شيئا (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) [الحجر / ٩]» ، وكم سبقت في كيده محاولات فباءت بالفشل :

كناطح صخرة يوما ليوهنها* لم يضرها وأوهى قرنه الوعل إذن ، فالمسألة أخطر من أن نمرّ عليها مرور الكرام ، حيث دخل الاستعمار فيها بشكل غير مباشر ، ولو عدنا قليلا إلى قصة تفسير القرآن عبر التاريخ ، وما دخل عليها من انحرافات سنجد أن هذا الانحراف في التفسير العلمي ـ إذا صح الادعاء به ـ يكون ليس جديدا على محاولات تفسير القرآن بأشكال وأساليب مختلفة ، فما ذكره الشيخ خالد عبد الرحمن العك في كتابه «أصول التفسير وقواعده» عن الاتجاهات المنحرفة في التفسير عبر التاريخ قوله (٢) «إن مما لا شك فيه أن إخضاع تفسير القرآن الكريم لميول شخصية ، ومذاهب ذات مفاهيم مغالية ، فتح على المسلمين باب شرّ خطير ، ولج منه أعداء الإسلام للدّس فيه وتشويه صورته وإفساد عقائده ، كما أنه دلف منه أصحاب البدع إلى ترويج بدعهم متسترين بآيات الله تعالى ، كما مني التفسير بأصحاب الميول المختلفة والنزعات المنحرفة حين وضعوا أقوالا في التفسير نسبوها إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو إلى بعض أصحابه زورا وبهتانا ...».

__________________

(١) شطحات مصطفى محمود في تفسيراته العلمية للقرآن الكريم ـ د. عبد المتعال الجبري ، ص ١٣.

(٢) أصول التفسير وقواعده ـ خالد عبد الرحمن العك ، ص ٢٢٧ ـ ٢٢٨.

٢٩

إذن ، فالانحرافات التي دخلت على تفسيرات القرآن كثيرة ومتنوعة ، ولكن كل هذا ما كان ليضر القرآن شيئا ، فأخطاء التفسير لا تقدح في القرآن ، وإنما بالمفسرين أنفسهم ، فهم الذين أخطئوا ، قصدا أو بلا قصد. ويرجع الشيخ خالد العك عوامل هذا الانحراف إلى ثلاثة عوامل : أولها : فساد نوايا المفسرين لتحقيق غايات نكرة أو مشبوهة ، وثانيها : أن يعتقد المفسر معنى من المعاني ثم يريد أن يحمل ألفاظ القرآن الكريم على ذلك المعنى الذي يميل إليه ويعتقده ، وثالثها : أن يفسر القرآن بمجرد ما يسوغ أن يريده بكلامه ممن كان من الناطقين بلغة العرب ، وذلك بدون نظر إلى غاية المتكلم بالقرآن وهو الله تعالى ، وإلى المنزّل عليه ، وهو رسول الله ، والمخاطب به وهم الناس جميعا. ويظهر انحراف التفسير في العامل الأول بسوء النية ، والثاني في حمل الألفاظ القرآنية على المعنى الذي يميل إليه ، ويعتقده من غير نظر إلى ما تحمله الألفاظ من المعاني الواضحة ومن الدلالة والبيان ، والعامل الثالث إثبات المعنى الذي يراه المفسر ، من غير نظر إلى ما يصلح للمتكلم بالقرآن ، وهو الله تعالى والمخاطب به وسياق الكلام.

إن صور الخطأ في العامل الثاني يظهر من خلال كون المعنى الذي يريده المفسر صوابا ، غير أن لفظ القرآن لا يدل عليه ولا يراد منه ، كتفاسير بعض الصوفية والوعاظ الذين يفسرون القرآن بمعان صحيحة في ذاتها لكنها غير مرادة في النص وإن كان المعنى الظاهر لا ينافيها ، وقد تظهر صورة الخطأ بأن يكون المعنى الذي يريده المفسر صحيحا لكن ظاهر النص لا يحتمله ، كتفاسير بعض الصوفية الذين يفسرون القرآن بمعان إشارية صحيحة في حد ذاتها ، ولكنهم يقولون إن المعاني الظاهرية للآية غير مرادة ، وهو أقرب ما يكون إلى تفسير الباطنية ، وقد تظهر صور الانحراف بأن يكون المعنى الذي يريده المفسر خطأ ، وهو مع هذا يحمل عليه لفظ القرآن مع أنه لا يدل عليه ولا يراد منه. وقد تظهر هذه الصور بأن يكون المعنى الذي يريد المفسر نفيه أو إثباته خطأ بيّنا ، وهو مع هذا يسلب لفظ القرآن ما يدل عليه ويراد به ويحمله على ذلك الخطأ تعمدا ، وهذه الصورة تنطبق على أهل البدع والمذاهب الباطلة من الغلاة والمتعصبين.

أما صور الانحراف ، التي تظهر في العامل الثالث ، فتظهر من خلال أن يكون اللفظ محتملا للمعنى الذي ذكره المفسّر لغة ، ولكنه غير مراد ، وذلك كاللفظ الذي يطلق في اللغة على معنيين أو أكثر والمراد منهما واحد بعينه حسب السياق ، فيأتي المفسّر فيحمله على معنى آخر من معانيه غير المعنى المراد. أو قد يظهر بأن يكون

٣٠

اللفظ موضوعا لمعنى بعينه ولكنه غير مراد في الآية ، وإنما المراد معنى آخر غير ما وضع له اللفظ بقرينة السياق مثلا ، فيخطئ المفسّر في تعيين المراد لأنه اكتفى بظاهر اللغة فيفسر اللفظ على معناه الوضعي.

إذن ، هذه هي الاحتمالات والانحرافات التي كشف عنها تاريخ تفسير القرآن في الماضي ، ويمكن من خلالها معرفة كثير من الأخطاء التي وقع بها المفسرون في السابق لعدم تقيدهم بشروط التفسير الموضوعة له ، ولأن السبب الأساسي الذي كان يحرّكهم هو البدع الباطلة التي دعتهم إلى تحريف الكلم عن مواضعه ، وفسروا كلام الله تعالى وسنة رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بغير ما أريد به ، وتأولوه على غير تأويله.

فأصحاب المنهج الفلسفي الكلامي خاضوا في تفسير الآيات المتشابهات وتأويل الصفات على مقتضى العقل فقط ، وأرادوا من الآيات أن تكون أدلة شاهدة على أفكارهم ، فأخذوا في تأويلها بشتى الوجوه حتى يطابقوها على ما يريدون ، وإذا ما وجدوا آيات تقف ضد أفكارهم أخذوا في تأويلها لتطابق أصولهم. وأما أصحاب المنهج الصوفي فقد استخدموا المنهج الإشاري الرمزي لآيات القرآن ، لاعتقادهم أن كل آية في القرآن تخفي وراءها معنى باطنا مقصودا لا يكشفه الله إلا للخاصة منهم ، وأن المعرفة الحقة اليقينية لا تدرك إلا بالتأويل الباطني العميق والمجاهدة النفسية في حالات الكشف العليا ، وأن الوقوف على ظواهر النصوص القرآنية حجاب يمنع من الوصول إلى معرفة حقائق الأمور ، وأن علم الظواهر يدخله الظن والشك ، والكشف الباطن يرفع الظن ويزيل الشك. وأما أصحاب الغلو والمتعصبين فقد دأبوا على حمل الآيات القرآنية بشكل متكلّف لتأييد آرائهم وتثبيت أفكارهم ، فالخوارج والجبرية والمعتزلة ... هم أصحاب هذا المنهج ، ومن هنا أيضا يمكن وصف تدخل السياسة في تفسير القرآن حينما أخذ بعض المفسرين يشير إلى طوائف الحرورية والخوارج ، بل وحرب علي ومعاوية وغيرها على أن لها إشارات دالة في القرآن الكريم ، وقد كان للشيعة تفاسير خاصة أيضا في هذا المجال.

وإذا عرفنا أن كل هذه الانحرافات قد دخلت في التفاسير عبر التاريخ ، رغم ادعاء كل فئة إلى أنها هي الصواب وغيرها الخطأ ، حتى عادت حركة التفسير من جديد إلى الوراء لتنقية تفاسير القرآن من الأغاليط ، فاتجه بعض المتأخرين إلى الوقوف عند حدود تفسير الرسول والصحابة والتابعين له وقوفا حادا ، ومع هذا فقد كان للإسرائيليات نصيب كبير في بعض هذه التفاسير لم يستطع أن يتخلص منها كليا ..

لقد كانت الصورة الكئيبة ، التي عاشتها الأمة الإسلامية حتى القرن التاسع عشر ،

٣١

صورة تعكس وقف النشاط الفكري والعلمي وسيادة الخرافات ، واصطبغت العقلية الإسلامية بصيغة القعود والتواكل وانتشار الجهل ، ولما كان الدافع الأساسي لحركة هذه الأمة وانبعاثها هو القرآن الكريم فكان يجب أن يقع اللوم على المفسّرين ، الذين أقعدوا القرآن بتفاسيرهم وخرافاتهم على أن يقوم بفاعليته الأساسية في بعث الأمة ، وأن يبقى منارا قائدا لها في كل زمن وحين ، ولهذا نرى أن بدايات حركة النهضة العربية انطلقت من إعادة النظر إلى القرآن وإعطائه دوره في بعث الأمة ، وذلك من خلال فهمه الفهم الصحيح ، وتجاوز كل التفسيرات المشوّهة التي طرحت كل شيء في أقوالها إلا القرآن ، وقد تجمد القرآن في كتبهم في أحسن أحواله بدراسات لغوية ولفظية وبلاغية ونحوية ومعان جامدة تسودها الإسرائيليات والخرافات الباطنية ، حتى غطت بغبارها على روح القرآن الحقيقية التي كانت أساس بعث أمة أميّة قادت العالم في أنصع وأنضج حضارة في تاريخ العالم ، من هنا كانت دعوة جمال الدين الأفغاني إلى النهضة واليقظة بإعادة النظر في تفسيراتنا للقرآن. يقول الدكتور محسن عبد الحميد وهو يبحث المدرسة الحديثة في تفسير القرآن (١) : «هاجم الأفغاني بشدة المناهج التفسيرية التي أقحمت علوما ومصطلحات غريبة عقلية ولغوية ونقلية في تفسير الآيات ، فحجبت حقائقه عن الناس ، وصنعت من تفسير آياته أحاجي معقدة لا يستطيع إلا العالم الخبير أن يقترب منها ، وتحوّلت كتب التفسير إلى ميادين تعبيرية بالغة الصعوبة يستعرض فيها العالم قوته كلها لإغلاق العبارات ، فحرم المسلم من تذوق القرآن وفهم آياته والانفعال بروحه. ودعا الأفغاني إلى فهم القرآن والسنة النبوية الصحيحة وأعمال السلف الصالح ، أما ما تراكم عليه وتجمّع حواليه من آراء الرجال واستنباطاتهم ونظراتهم فينبغي ألا نعوّل عليها وحيا ، وإنما نعوّل عليها رأيا ، ولا نحملها على أكفنا مع القرآن في الدعوة إليه وإرشاد الأمم إلى تعاليمه ... وكان يدعو إلى منهج في التفسير يقلع ما رسخ في عقول العوام ومعظم الخواص من فهم بعض العقائد الدينية والنصوص الشرعية على غير أوجهها ، مثل حمل نصوص القضاء والقدر على معنى يوجب عليهم ألا يتحرّكوا إلى طلب مجد أو تخلص من ذل».

وهكذا نرى أن الدكتور محسن عبد الحميد يعتقد أن الأفغاني ومحمد عبده ، ورشيد رضا أعادوا للقرآن صورته الحقيقية بعد نزع كل الخرافات والتأويلات

__________________

(١) تطور تفسير القرآن ـ د. محسن عبد الحميد ، ص ٢١٠.

٣٢

والتفسيرات اللغوية واللفظية ، وكل ما حجب حقيقة القرآن وروحه عن المسلمين ، وكان تفسيرهم المشترك «المنار» هو خير التفاسير التي قدمت لبداية التفسيرات الحديثة للقرآن (١) : «إن ما يؤاخذ صاحب المنار المفسرين عليه هو إخضاعهم النصوص القرآنية الواضحة للمصطلحات العلمية والفلسفية والأصولية الحادثة ، دون أن ينطلقوا من ضوابط صحيحة في التفسير اتفق عليها المحققون من علماء القرآن وفقهاء الأمة ، في تحديدهم مفاهيم الألفاظ واستنباطهم الأحكام من مدلولات التراكيب ، وبناء الأفكار الإسلامية على اتجاهات متينة متفقة مع تلكم الضوابط».

لقد رد تفسير المنار على المفسرين بالرأي وعلى الصوفية وعلى الباطنية وأهل البدع ، ثم قام بتنقية التفاسير من الإسرائيليات الكثيرة والأخبار الواهية التي أفسدت ، على كثير من المسلمين ، حقائق الدين وقوانين الحياة ، فكوّنت عندهم عقلية خرافية تصدق كل خبر دون تمحيص أو تدقيق مما يصطدم أساسا مع الإسلام الذي دعا إلى التفكير والنظر. على أن الملاحظ على هذا المنهج التفسيري العقلي ، ونتيجة لموقعه بين ضغط الخرافة من جهة وضغط الفتنة بالعلم من جهة أخرى ، مما جعله يميل إلى جعل مألوف السنن الكونية هي القاعدة الكلية لسنة الله ، فردّوا الكثير من الخوارق إلى مألوف سنة الله دون الخارق منها ، وإلى تأويل بعضها بحيث يلائم المعقول ، وإلى الحذر والاحتراس الشديد من الغيبيات ، وهو ما ذكره سيد قطب في ملاحظاته عليه. إن هذا المنهج العقلي في التفسير هو الذي قاد لأن ينص ، فيما ينص عليه من ضوابط ، على (٢) «المبدأ القائل كلما ازددنا معرفة بما في الوجود من الأسرار والقوانين ازددنا علما بما في كتاب الله ، ذلك لأن الكون المنظور أعظم وأدق تفسيرا للكون المقروء ، فلا بد إذن من الاستفادة من العلوم المتنوعة والثقافات الإنسانية المتعددة الحديثة في تفسير القرآن في داخل الضوابط الأصولية المعروفة بين علماء الإسلام ، التي تضبط الاتجاه لحركة تفسير القرآن في كل عصر ، وقد تكون هذه هي النافذة التي بدأ منها دخول التفسير العلمي إلى القرآن بالمفهوم المعاصر ، خاصة وأنه تاريخيا بدأ فيما يبدو بعدها بقليل ، وإن كان لم يلتزم في بداياته بالضوابط الأصولية الخاصة بالتفسير فانحرف إلى ما انحرف إليه».

لا شك أن التطرف في التفسير العلمي هو الذي جعله ينحرف عن مساره كتفسير ، إضافة إلى عدم تقيده بالضوابط المعمول بها للتفاسير ، وقد لخص الشيخ خالد العك

__________________

(١) تطور تفسير القرآن ـ د. محسن عبد الحميد ، ص ٢١٣.

(٢) المصدر السابق ، ص ٢٢١.

٣٣

انحراف تفسير الشيخ طنطاوي جوهري بالصور التالية (١) :

١) يفسّر الآيات القرآنية تفسيرا لفظيا مختصرا ، ثم سرعان ما ينطلق لذكر أبحاث علمية مستفيضة يسميها «لطائف أو جواهر» ، وتلك الأبحاث المستفيضة بطبيعة الحال أفكار علماء الشرق والغرب في عصره ، وهو بهذا جعل تفسيره يخرج عن موضوعه الأساس ألا «وهو إظهار معاني القرآن بالطريقة الشرعية» حتى قال بعض نقاده «فيه من كل شيء سوى التفسير».

٢) إيداعه في تفسيره صور النباتات والحيوانات والمناظر الطبيعية وتجارب العلوم ، وهذا ما لا يعهده المسلمون في تفسير القرآن العزيز.

٣) اعتماده في تفسير كثير من الحقائق الدينية التي جاء بها القرآن نقية صافية ، على ما جاء عن أفلاطون في نظريته ، وهذا ما لا يجوز شرعا لأن القرآن بحقائقه الثابتة الناصعة بغنى عن أوهام الفلسفة الأفلاطونية.

٤) ركونه إلى تفسيرات الباطنية الباطلة في رسائل إخوان الصفا ، فهو حين ينقلها يبدي رضاه عنها وتصديقه بها مع أنها تخالف الثابت من نصوص الكتاب والسنة.

٥) استخراجه علوما مزعومة بواسطة حساب الجمل الذي لا يوصل إلى حقيقة ثابتة ، وهذه طريقة أخذت عن اليهود ، كما أنه يعتمد أوهام تحضير الأرواح التي يقول بها الخرّاصون.

هذه هي مجمل الأمور التي جعلت تفسيره يخرج عن منهج علمائنا الثقات الأثبات في تفسير القرآن الكريم.

أما مدّعي التجديد ، كما يسميهم خالد العك ، فيذكر ثلاثة منهم ، هم مصطفى محمود في «تفسيراته العصرية للقرآن الكريم» ، والشيخ أبو زيد الدمنهوري في «الهداية والعرفان في تفسير القرآن» ، والأستاذ عبد الودود يوسف في تفسيره «تفسير المؤمنين» ، ويذكر أن انحرافات مصطفى محمود نشأت من النقاط التالية (٢) :

١) تصويره أن القرآن الكريم إذا لم يقدّم للناس علوم الطب والتشريح والرياضيات والفلك وأسرار البيولوجيا والإلكترون والذرة ، فليس صالحا لزماننا ولا جديرا بأن تسيغه عقليتنا العلمية ويقبله منطقنا العصري.

٢) تفلّته من قيود الآداب الإسلامية في التعبير في التفسير ، فوقع في أسر الانفعال والرغبة في التعبير المتحرر من الألفاظ الرصينة الهادفة لأسمى

__________________

(١) أصول التفسير وقواعده ـ د. خالد عبد الرحمن العك ، ص ٢٥٣.

(٢) المصدر السابق ، ص ٢٥٥.

٣٤

المعاني التي تليق أن يؤتى بها في تفسير كلام الله تعالى ، حيث لم يهذّب عباراته بالتأدب في حق الله تعالى وحق كلامه الكريم ، كما لم يهذب ألفاظه مع علماء الإسلام فقدح بهم على لسان المتصوفة النظريين.

٣) تمثله في كتابته بصورة المتلهّف الظمآن إلى آفاق روحية مندفعة اندفاع من أتخمه الشبع المادي حتى أحس بثقل أغلاله ، فانطلق وراء سراب للخلاص ، غير عابئ بأي شيء ، فوقع في شطحات الصوفية النظرية ، كما وقع في تأويلات الباطنية.

٤) وفي ضجيج العصرنة (الطنانة الرنانة) ، يقدم تفسيره العصري في صورة «العجائب والغرائب» التي تبهر بصر العامة فلا تعد ترى الرؤية الصحيحة التي تميز الحق من الباطل ، ولا تقدر أن تفصل بين منطق التفكير العلمي الصحيح وجرأة الادعاء.

هذه هي مجمل الأسباب التي جعلت رجل العصر والعلم ينحرف في تفسيراته العصرية للقرآن الكريم.

أما الشيخ أبو زيد الدمنهوري فقد أحدث ضجّة كبرى في أوساط علماء الأزهر ، حيث أنكروا عليه منهجه المنحرف في تفسيره ، وانتهى الأمر بمصادرة الكتاب والحكم على صاحبه بالزيغ والضلال.

أما «تفسير المؤمنين» ، لعبد الودود يوسف ، فيكفي أن البوطي قال عنه «أعتقد أن جميع العلماء يتفقون على أن هذا التفسير يحوي بين دفّتيه أخطاء كثيرة جدا جدا ، حتى لو تجاوزنا الأخطاء الشكلية التي تكون في العبارة بسبب الركّة أو عدم جلاء المعنى ، لأن الكاتب ربما لم يستطع أن يوضح فكرته. لو تجاوزنا هذا .... فإن هناك أخطاء أخرى في الصميم ، يعني في الأحكام في تفسير جوهر الآيات ، وهذه الأخطاء ، كما وكيفا ، مهمة جدا».

من كل ما تقدم ، نرى أن الأخطاء والانحرافات ، التي وقعت في بعض التفسيرات العلمية والمعاصرة ، لم تقم على أساس مبدئي أو تأصيلي ، وإنما قامت ووقعت بسبب عدم التزام الضوابط العامة لأي تفسير ، وكل تفسير لا يلتزم بالضوابط العامة الموضوعة من قبل علماء الإسلام لكل تفسير ، فإنه سينحرف عن مسيرته سواء كان تفسيرا علميا أو صوفيا أو باطنيا أو كلاميا ، لذا فإن جميع الملاحظات الواردة على النماذج المذكورة ، في جانب التفسير العلمي والعصري ، لا تختص بتفسير دون تفسير ، فهي ملاحظات منهجية يخطئ بها كل من يتجاوزها ويقوم بالتفسير ، لذا فلن

٣٥

تكون حجة أو دليلا حاكما لإهمال وترك التفسير العلمي للقرآن ، بل والإعجاز العلمي الجديد له. إن الأخطاء في التفاسير موجودة ، كما ذكرنا سابقا ، فلا يعني هذا أن نترك كل التفاسير لهذه الحجة ، ونحن نرى أن الدكتور محسن عبد الحميد ، بعد استعراضه للتفاسير عبر التاريخ ، يقول عن هذا الاتجاه العلمي (١) : «الذي أعتقده أن من الضروري أن نستفيد من تطور العلوم والمعارف في فهم كثير من الآيات الكونية في القرآن الكريم ، والخطأ في التفسير حينئذ لا يكون خطأ فيه ، إذ من المسلمات عند العقلاء أنه ليس كل ما يذكره المفسرون ، في تفاسيرهم في تفسير القرآن صحيح».

على أن الحجة الأقوى ، التي يذكرها المعترضون على مثل هذا التفسير ، تتلخص ، كما رأينا ، عند العقاد وعند محمد الصادق عرجون وغيرهم كثير ، هو الخوف من تسمية الحقيقة القرآنية الحقيقة العلمية ، ثم يمضي زمن فنكتشف علميا أن هذه الحقيقة ليست علمية ، وبالتالي ينتج أن نخطّئ القرآن أو نغير تفسيره عند كل مستجد من الحقائق العلمية ، خاصة وأن العلوم تتطور وبشكل سريع يجعلها قد تنقلب من النقيض إلى نقيضه أحيانا ، وبذلك نكون قد نزعنا عن القرآن يقينه المطلق المشخص ، وسلّمنا أمره إلى التجارب العلمية الاحتمالية أو النظريات العلمية الافتراضية. وهنا يذكر الأستاد عبد الوهاب خلاف نصا واضحا لا لبس فيه ، يدافع فيه عن هذا السلوك والرأي فيقول (٢) : «وبعض الباحثين لا يرتضون الاتجاه إلى تفسير آيات القرآن بما يقرره العلم من نظريات ونواميس ، وحجّتهم أن آيات القرآن لها مدلولات ثابتة مستقرة لا تتبدّل ، والنظريات العلمية قد تتغير وتتبدل ، وقد يكشف البحث الجديد خطأ نظرية قديمة ، ولكن لا أرى هذا الرأي ، لأن تفسير آية قرآنية بما كشفه العلم من سنن كونية ما هو إلا فهم للآية بوجه من وجوه الدلالة على ضوء العلم ، وليس معنى هذا أن الآية لا تفهم إلا بهذا الوجه من الوجوه ، فإذا ظهر خطأ النظرية ظهر خطأ فهم الآية على ذلك لا خطأ الآية نفسها ، كما يفهم حكم من آية ويتبيّن خطأ فهمه بظهور دليل على هذا الخطأ».

وإذا كان هذا الجواب لا يكفي لأنه يترك فكرة التغيّر على العلم قائمة وبالتالي يتغير التفسير معها ، فإننا نجد تتمة الجواب الأوفى عند شعراوي الذي يقول ، في كتابه «هذا هو الإسلام» ، وفي حديثه عن علاقة الحقيقة العلمية والقرآن ، وتأكيده أن الحقيقة العلمية يجب أن تلتقي مع القرآن لأن القرآن كلام الله وحقائق الكون خلق

__________________

(١) تطور تفسير القرآن ـ د. محسن عبد الحميد ، ص ٢٢٦.

(٢) علم أصول الفقه ـ عبد الله خلاف ، ص ٣٠.

٣٦

الله ، فلا بد أن ينسجما يقول (١) : «إن الناس لا يفطنون إلى أهمية تحديد ما هو العلم؟ لا يقال علم إلا إذا كانت قضية وأنت تجزم بها وهي واقعة وعليها دليل ، بغير ذلك لا يكون علما ، والعلم من أجل اكتشاف حقائق الكون مفهوم أن يبدأ بالملاحظة ثم التجربة ثم النظرية ثم الحقيقة العلمية ، فلا يقال حقيقة علمية إلا في نهاية المطاف بأن تسلم ، وكل الجزئيات تنطبق على هذه الحقيقة ولا تشذ عنها حقيقة ، فإذا جئت لتخضع القرآن لملاحظة علمية نقول لك هذا غلط ، لأنه من الجائز ألا تنجح الملاحظة بالتجربة ، وإذا جئت لتخضع القرآن لتجربة علمية نقول أيضا هذا غلط ، لأنه من الجائز ألا تنفع التجربة ، وإذا أردت أن تخضع القرآن لنظرية نقول هذا غلط أيضا ، لأن النظرية يمكن أن تخطئ ، لكن إذا وصلت إلى حقيقة علمية نقول لك : إن لم يكن في القرآن ما يؤيدها فليس فيه قطعا ما يعارضها ، لكن نحن نقول أيضا إن العلم لا يعرف الكلمة الأخيرة باستمرار ، ما يسمى بالحقائق العلمية اليوم يخضع للتغيير والتبديل غدا ، هنا لا تكون حقيقة». ويضيف شعراوي أيضا : «إذن ، فالذين يمنعون أن القرآن قد يلتقي ببعض الحقائق العلمية نقول لهم لا ، لكن حققوا أولا أنها حقيقة علمية ، فإذا وصلت مسألة إلى مرتبة الحقيقة العلمية فالقرآن لا يعارضها ، بل يمكن أن يؤيدها».

إذن ، فالخطأ ليس خطأ الحقيقة العلمية وإنما خطأنا نحن في طريقة قراءتنا لها في القرآن. يجب إذن أن نضع ضوابط لطريقة فهمنا وتفسيرنا للقرآن على ضوء العلم بهذه الدقة لكي لا تشتبه علينا الأمور ، لأن أكثر الملاحظات الواردة على التفسير العلمي جاءت من أسلوب التعامل بين الحقيقة العلمية والقرآن ، وعلى هذا الأسلوب ، سليما أو خاطئا ، كانت الأحكام تطلق على التفسير العلمي للقرآن رضا وقبولا ، أو رفضا واحتجاجا ، على أن من الملاحظات التي ذكرت على هذا التفسير أيضا أنها قد تطغى تلك المباحث عن المقصود الأول في القرآن ، وهو الهداية والإعجاز ، وهو ما وصف به تفسير طنطاوي أن فيه كل شيء إلا التفسير ، لأن إسراف المفسّر من هذا يجعل التفسير ليس بتفسير ، حيث يكون أشبه بكتب العلوم والفنون منه بكتب التفسير. لقد ذكر الأستاذ محمد عبد العظيم الزرقاني في كتابه «مناهل العرفان في علوم القرآن» أن من آثار امتزاج العلوم الكونية بالتفسير ما يلي (٢) :

__________________

(١) هذا هو الإسلام ـ محمّد متولي شعراوي ، ص ٢٥.

(٢) مناهل العرفان في علوم القرآن ـ محمّد عبد العظيم الزرقاني ، ج ٢ ص ١٠٠.

٣٧

١) مسايرة أفكار الناس ومعارفهم ، وتفسير القرآن لهم تفسيرا يشبع حاجاتهم من الثقافة الكونية.

٢) إدراك وجوه جديدة للإعجاز في القرآن من ناحية ما يحويه أو يرمز إليه من علوم الكون والاجتماع.

٣) دفع مزاعم القائلين بأن هناك عداوة بين العلم والدين.

٤) استمالة غير المسلمين إلى الإسلام من هذا الطريق العلمي الذي يخضعون له دون سواه في هذه الأيام.

٥) الحث على الانتفاع بقوى الكون ومواهبه.

٦) امتلاء النفس إيمانا بعظمة الله وقدرته ، حينما يقف الإنسان في تفسير كلام الله على خواصّ الأشياء ودقائق المخلوقات حسب ما تصوّرها علوم الكون.

كما أن لامتزاج العلوم الكونية والآدمية بالتفسير آثارا أخرى مشتركة بينهما فيما يأتي :

أ) زيادة الثقة بالقرآن وعروبته ومعارفه وإعجازه.

ب) الإيمان بأنه كتاب غني بكل ما يحتاجه إليه البشر من ألوان السعادة.

ج) الإيمان بأنه كتاب الساعة ودستور الناس إلى يوم القيامة ، يصلح لكل زمان ومكان ، ولا يستغني عن كنوزه وذخائره إنسان.

إن أكثر الملاحظات والتفسيرات الخاطئة المستشهد بها لدى المعترضين تقوم على كيفية وأسلوب تعامل القرآن مع الحقيقة كما ذكرنا ، وأحيانا نجد أن المؤيدين والمعارضين في التفسير على ذات الآية القرآنية وذات الحقيقة العلمية ، ولكن أسلوب أحدهما يقود إلى بينة للمعارضين وأسلوب الآخر يقود إلى بيّنة للمؤيدين ، فالاختلاف إذن ينصب على طريقة تعامل وتعبير كل منهما عن هدفه ، وإذا ما اتفقنا على أسلوب موحّد فإن كثيرا من ضجيج وبراهين المحتجين والمعترضين على التفسير العلمي تسقط ولا تصلح للاحتجاج بها ، لذا فإن الدكتور محسن عبد الحميد يضرب مثلا على المظهرين اللذين يجب أن يتخذهما التفسير العلمي في نظره ، فيقول (١) :

«أولهما : تسخير الحقائق العلمية في كشف مدلول الآية القرآنية ، فاحتمال الخطأ هنا غير قائم ، على سبيل المثال قوله تعالى (قالَ فَمَنْ رَبُّكُما يا مُوسى (٤٩) قالَ رَبُّنَا الَّذِي

__________________

(١) تطور تفسير القرآن ـ د. محسن عبد الحميد ، ص ٢٢٦.

٣٨

أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى) [طه / ٤٩ ، ٥٠] ، فإذا جئنا فسخّرنا علم الحياة كلها في تفسير هذه الآية وبيان عظمة الخلق الإلهي ودقته كان حسنا ومفيدا جدا ، لأننا سنبين هنا سر الإعجاز في هذه الآية الكريمة. فنحن هنا نتحدث فقط عن تفاصيل خلق الكائنات وسبل الهداية المتنوعة الدقيقة والعجيبة التي زوّد الله بها تعالى تلك الكائنات ، ولم ندّع أن القرآن فيه تفاصيل علم الكائنات ، لأنه من المعلوم أن تلك التفاصيل متروكة للعقل يكتشف فيها قوانين الحياة الدقيقة المتنوعة عبر الزمان والمكان.

وثانيهما : تفسير آية قرآنية بحقيقة علمية أو نظرية علمية محدّدة المعالم ، ففي قوله تعالى (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها) [الرعد / ٤١] لا يمكن أن نقطع بأن الآية تدلّ دلالة قطعية على كروية الأرض ، أو هي المعنى المقصود في الآية ، لعدم قيام الدليل القطعي على ذلك لا من منطوق الآية ولا مفهومها ، ولكن نستطيع أن نقول إنه من الاحتمال أن تكون كروية الأرض ضمن معنى الآية الكريمة ، وكذلك قوله تعالى (أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ) [الأنبياء / ٣٠].

فالنظريات العلمية في نشأة الكون تذهب إلى أن النجوم والكواكب كانت ، في مبدأ نشوئها ، كتلة سديمية كبيرة جدا تكونت منها تلك النجوم والكواكب بفعل قوانين طبيعية فيزيائية معينة ، فإذا جاء المفسّر فادّعى أن المقصود بمعنى الآية تلك النظريات أخطأ في مدّعاه ، وإذا قال ليس بعيدا أن يكون ذلك المعنى هو المراد كان الاحتمال في صدق مدّعاه قائما ، وحينئذ لم يفعل شيئا إلا أنه استأنس بتلك النظريات في إلقاء الضوء على معنى الآية ، فإذا أخطأ في التفسير ، لبطلان تلك النظريات في يوم من الأيام ، كان الخطأ خطأ التفسير وليس بطلانا لمعنى القرآن الكريم في آية من آياته».

إن جميع هذه المحاولات التوفيقية ، بين مؤيدي التفسير العلمي ومعارضيه ، استدعت أن يوضع للتفسير العلمي ضوابط محددة للمفسرين حتى لا يقع أحد في التقول على الله بغير علم ، فمن تقيد بها عصمته من الخطأ والخطل.

ومجمل هذه الشروط التي وضعها العلماء هي (١) :

١) مراعاة شروط التفسير العامة لكل تفسير والمقرة من قبل الأصوليين.

__________________

(١) أصول التفسير وقواعده ـ د. خالد عبد الرحمن العك ، ص ٢٢٤.

٣٩

٢) أن يكون التفسير للآيات الكونية مطابقا لمعنى النظم القرآني.

٣) ألا يخرج حد التفسير إلى عرض النظريات العلمية المتضاربة.

٤) أن يتثبت المفسر من النظريات العلمية التي يفسر بها الإشارات القرآنية الكونية.

٥) ألا يحمل الآيات القرآنية على النظرية العلمية حملا ، فإن كانت النظرية مطابقة للمعنى فبها ونعمت ، وإلا ... فلا.

٦) أن يجعل مضمون الآيات القرآنية الكونية أصلا للمعنى الذي يدور حوله الإيضاح والتفسير.

٧) أن يلتزم بالمعاني اللغوية في اللغة العربية للآيات التي يريد إيضاح إشاراتها العلمية ، لأن القرآن عربي.

٨) ألا يخالف مضمونا شرعيا في تفسيره.

٩) أن يكون تفسيره مطابقا للمفسّر من غير نقص لما يحتاج إليه من إيضاح المعنى ، ولا زيادة لا تليق بالغرض ولا تناسب المقام.

١٠) أن يكون مراعيا للتأليف بين الآيات وتناسبها ومؤاخاتها ، فيربط بينها لتكون وحدة موضوعية متكاملة.

ويبقى السؤال مطروحا عن مدى الحاجة والضرورة التي تجعلنا نطرق تفسير القرآن علميا في هذا العصر ، ألا يكفي في دعاية البشر إلى الهداية المضامين والأفكار التي فهمها العرب والمسلمون من القرآن في القديم؟

ولما ذا ندخل هذا الباب الذي كثر فيه الخطأ حتى خشينا على القرآن أن يزداد تفسيرا باطنيا جديدا؟

ثم هل من القرآن نفسه ما يدعونا إلى طرق هذا الباب ويأمرنا به لكي نكون مأمورين شرعا به؟ ولو افترضنا أننا لم نطرق هذا الباب فهل نكون بهذا قد حجّمنا القرآن وقيّدناه بعصر دون عصره؟ وقللنا من صلاحيته لكل زمان ومكان؟ وإذا كان القرآن طالبنا بالتدبّر والتفكّر ، ألا يكفي سلاح العقل وما قدّمه المتكلمون والفلاسفة المسلمون لاستيعاب عملية التدبّر والتفكر القرآني؟ ولا نحتاج إلى تجارب العلماء وبحث المختبرات التي تخرج كل يوم علينا بنظريات علمية جديدة وقوانين عن الكون والطبيعة والحياة ، تنقض فيها ما سبق من نظريات وقوانين كانت تسميها هي نفسها علمية فتجاوزتها إلى غيرها ، ولم تتوقف الحياة على شكل دون شكل من هذه النظريات والقوانين؟

وأخيرا ، هل نستطيع مثلا أن نستغني عن التفسير العلمي للقرآن والإعجاز

٤٠