الاعجاز العلمي في القرآن

سامي أحمد الموصلي

الاعجاز العلمي في القرآن

المؤلف:

سامي أحمد الموصلي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار النفائس للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ١١١

١

٢

٣
٤

المقدمة

حينما فكّرت بتأليف هذا الكتاب كان في ذهني تساؤل كبير يقول : لو أن محمداصلى‌الله‌عليه‌وسلم أرسل هذا اليوم في هذا العصر ، كيف كان سيتحدّث للبشرية المعاصرة؟ وبأي أسلوب وبأيّة مضامين وبأيّة معجزة؟ وبصياغة أخرى للتساؤل : لو أن القرآن الكريم أنزل هذا اليوم في هذا العصر ، كيف سيكون تحدّيه كمعجزة لهذا العصر؟ وكيف سيتحدث للخلق كلهم بما يجعلهم يسلّمون له تسليما بإعجازه المتناسب مع تطوّر البشرية علميّا اليوم؟

إن هذا السؤال يبدو كبيرا في أول وهلة ، ولكن إذا ما تعمّقنا برسالة الإسلام ، قرآنا وسنة ، وكونها مرسلة إلى البشرية جمعاء حتى يوم القيامة ، وبأن الإعجاز والمعجزة المطلوبة منها موجودة ومتمثلة في الفهم العلمي للقرآن ، على ضوء جميع المكتشفات والنظريات والقوانين العلمية المعاصرة ، بل إن هذه المعجزة العلمية ما زالت مفتوحة على المستقبل لكي تحتوي كل المستجدّات العلمية على مستوى جميع العلوم ، وفي كافة أنواع اختصاصاتها الكونية والذرية والبايولوجية ... الخ. إذا ما تعمّقنا بهذا الفهم للقرآن فسنجد أن الجواب واضح ويسير ، بل وقد أشار إليه القرآن نفسه حينما أكّد على أنه سيظهر صدقه وحقيقته في المستقبل بقوله : (سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُ) [فصلت / ٥٣] أي إن القرآن حق بما سيبرهن عليه الزمن ، وهذا ما حصل ، ويحصل اليوم وسيحصل غدا ، حينما نجد أن القرآن قد أكّد الحقائق العلمية التي ستظهر بعد نزوله بآلاف السنين ، بحيث إذا قرأ العالم المعاصر ، المتسلّح بأحدث نظريات العلوم وقوانينها واكتشافاتها ، القرآن يجده قد أشار إليها إشارات واضحة ، وبعضها في التفصيل والبيان بحيث لا يمكن صرفها إلى غير هذه المفاهيم الجديدة المكتشفة. إذن ، فالقرآن ومعجزته العلمية التي يتحدّى بها العالم المعاصر تشير إلى أن القرآن كأنّه يتنزّل اليوم مواكبا لطبيعة العصر ، بل ومتجاوزا لإمكانياته الحالية والمستقبلية في هذا

٥

الجانب. فعظمة المعجزة القرآنية هذه التي تحدّثت لعرب الجاهلية فأعجزتهم تقف اليوم للتحدث للعقول الألكترونية ، ولعلوم الفضاء والفلك والفيزياء النووية والكونية وللهندسة الوراثية والحيوية ، بل ولكل العلوم والنظريات والقوانين بلغة تعجزهم بنفس قوة الإعجاز البلاغي للعرب الفصحاء شعراء وخطباء. إن عظمة الرسالة الإسلامية تكمن في أن المعجزة التي جاء بها الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم هي نفس كتابه الذي تضمّن شريعته وعقيدته ، وكتابه هو معجزته ، وما دام الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم هو خاتم الأنبياء والرسل ، وما دام قد أرسل إلى الخلق كافة ، من وجدوا في عصره ومن سيوجدون حتى القيامة ، إذن يجب أن تكون له معجزة دائمة بدوام الرسالة لتدلّ كل عصر على نبوّته وصدق رسالته ، فإذا كان المؤمنون السابقون قد آمنوا بالنّبي حينما رأوه ورأوا معجزاته ، فكيف سيؤمن به اللاحقون حتى يوم القيامة إذا لم تكن هناك معجزة حقيقية قائمة تتحدّى كل أحد أن يأتي بمثلها؟ من هنا كان القرآن معجزة دائمة تتحدّى كل عصر وكل زمن وكل جيل ، وبما يتقنه ويتفنّن به ذلك العصر وذلك الجيل ، واليوم ، وعصرنا عصر علوم وثقافة واكتشافات خارقة ، لم يصل إليها جيل سابق بتاريخ البشرية كله ، يقف الإعجاز العلمي للقرآن متحدّيا كل ذلك بما أشار إليه وتحدث عنه من ظواهر علمية سبقت عصره الذي أنزل فيه أوّلا بكثير ، ومن هنا نرى إسلام كثير من علماء الفلك والفضاء والفيزياء والكيمياء وعلوم الحياة .. الخ ، حينما يطّلعون على آيات القرآن التي تخص علومهم ، بل وتتجاوزها إلى مستقبل أرحب ، حتى قام أحدهم بدراسة جميع الكتب المقدسة ، على ضوء آخر اكتشافات العلوم وأحدث القوانين العلمية ، فسقطت جميعها ، لتحريفها عبر الزمن ، وبقي القرآن شامخا صادقا ودليلا وحجة على هؤلاء العلماء وغيرهم ممن يبحثون في أسرار الكون والطبيعة والإنسان.

لقد قال الله تعالى في كتابه العزيز : (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) [الحجر / ٩] ، ونحن نجد اليوم صدق هذه الآية بلا نقاش أو جدال ، فلم يزد في القرآن أو ينقص منه حرف واحد بعد ألف وأربعمائة سنة على نزوله ، ورغم أنه لم يجمع في حياة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، بل جمع بعد وفاته ، ومع ذلك فقد حفظه الله حفظا ليبقى حجّة ودليلا وهاديا على ساحة الزمن كله ، ألا يكفي أن تكون هذه الآية نفسها دليل صدقه وإعجازه؟ لقد قال هذا القول قبل ألف وأربعمائة سنة ، وها هو اليوم ، كما هو منذ ذلك الزمن حتى الآن ، رغم المحاولات العديدة لتحريفه والزيادة والنقصان فيه. لقد قال تعالى في قرآنه (وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آياتِهِ فَتَعْرِفُونَها وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) [النمل / ٩٣] ، وها نحن اليوم

٦

نرى آيات الله في حقائق وأسرار الكون والحياة مما لم يره من سبقنا ، بل ولم يخطر ببالهم أن يصل العلم البشري إلى هذا المستوى المتقدّم كثيرا جدا مقارنة بما كان عليه علم البشر سابقا! أفلا يصدق القرآن اليوم كصدقه في الأمس ، فيكون معجزة هذا العصر كما كان معجزة العصر العربي الأول في زمن الرسالة؟ ألم تعرف فعلا آيات الله اليوم بما لم يعرفه السابقون؟ أليس هذا بدليل على أن القرآن كأنما يتنزّل اليوم على عصرنا بلغة علمنا ، ويتحدث إلينا بالبيّنة والبرهان ، كما كان يتحدث للسابقين؟ إذن فلو أرسل الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم اليوم فستكون معجزته هي القرآن نفسه كما نجده اليوم ، وكما نفهمه مصداقا لقول القرآن نفسه من أننا سنرى آيات الله فنعرفها ونعرف صدقه بها إعجازا من الله وحجة على الخلق أجمعين.

فما أعظمه من كتاب ، وما أعظمها من معجزة لم يكن مثلها لنبي أو رسول غير خاتم الأنبياء والمرسلين ، وهكذا يحق لأحد الكتّاب والمؤلفين أن يقول : «إن الكتاب الذي يحق له أن يحكم العالم لا بد أن يتّصف بأنه ليس بحاجة إلى تعديل أو إضافة لأن أحكامه يقينية ، بمعنى أن كلّ علاقة يعقدها بينه وبين الحياة لا بدّ أن تكون علاقة تخضع كل تجارب الناس ، وكل علاقاتهم بالحياة للفوز المبين المعقود على نواصي كلماته».

لكلّ ذلك فمهما بالغ المبالغون في وصف القرآن فإنهم لن يبلغوا حقه في وصفه ، أليس هو كلام الله ، والله ليس كمثله شيء ، فكيف يجب أن يكون وهو صفة من صفات الله في كلامه؟ ألم يصفه الرسول الكريم صلى‌الله‌عليه‌وسلم وصفا ما بعده مجال لمبالغ في قول ، ولا لمتحدّث في خطاب حينما قال (كتاب الله تبارك وتعالى فيه نبأ ما قبلكم وخبر ما بعدكم وحكم ما بينكم ، هو الفصل ليس بالهزل ، من تركه من جبار قصمه الله ، ومن ابتغى الهدى في غيره أضلّه الله ، هو حبل الله المتين ونوره المبين والذكر الحكيم وهو الصراط المستقيم ، وهو الذي لا تزيغ فيه الأهواء ولا تلتبس فيه الألسنة ولا تتشعب معه الآراء ، ولا يشبع منه العلماء ولا يملّه الأتقياء ، ولا يخلق على كثرة الرّد ، ولا تنقضي عجائبه ، وهو الذي لم تنته الجن إذ سمعته أن قالوا (إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً) [الجن / ١] من علم علمه سبق ، ومن قال به صدق ، ومن حكم به عدل ، ومن عمل به أجر ، ومن دعا إليه هدى إلى صراط مستقيم).

فمهما حاولنا ، بقصور عقلنا البشري ، أن نصل إلى نهاية إعجازه في كل باب من أبواب الإعجاز العديدة فسنبقى في حدود قول الله تعالى (وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً) [الإسراء / ٨٥]. فإذا كنّا عن فهم حقيقة العالم والطبيعة والكون والحياة

٧

والوجود عاجزين ، وهم من مادة الحياة والوجود نفسها التي نحن منها مخلوقون ، فكيف سنستطيع أن نفهم صفة من صفات الله تعالى حق فهمها وهي كلامه وكتابه ، وهما ليسا من مادة هذا الوجود ولا من طبيعة مادة الحياة والكون الذين قتلناهم بحثا وتعمّقا ، واستعملنا كل المختبرات والتلسكوبات والميكروسكوبات ، وصعدنا إلى أعماق الفضاء بأجهزتنا فضعنا في مداه الواسع اللانهائي ، وتعمقنا في مفردات الذرة وجسيماتها الأولية حتى عجزت وسائلنا ، على عظمتها ، أن تقودنا إلى الحقيقة ، في حين أن القرآن ، وبلغة وحروف البشر العادية نفسها ، يصف لنا نهاية هذه النظريات الكونية والذرّية ، ويصف لنا الحقيقة واضحة بيّنة. إن خالق الكون هو الذي يتحدّث عن كونه ، فهو الذي يعرف ما خلق ومن خلق (أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) [الملك / ١٤] فإذا تحدّث فحديثه الصدق والحق والعدل ، وبذا يكون القرآن قد أجاب على كل الأسئلة التي طرحها العقل البشري على نفسه منذ أعماق الحضارة الإنسانية والفلسفة اليونانية حتى آخر التساؤلات التي يقف العلم المعاصر على عظمته مبهوتا بها. لقد تساءل الإنسان (بكيف) عن كثير من مفردات الطبيعة وظواهرها ، وأجاب القرآن عنها جوابا نهائيا لا لبس فيه ولا ضياع ، والتقى العلم المعاصر في إجابته مع ما قاله القرآن منذ ألف وأربعمائة سنة لقاء مباشرا. كما تساءل الإنسان عن ماهيّة الأشياء وحقيقتها ، وما هو الوهم ، وما هو الصدق فيها ، بعيدا عن هلوسات العقل وخرافاته ، فأجاب القرآن عنها منذ ألف وأربعمائة سنة ، وإذا بالعلم يلتقي مع آخر اكتشافاته ، وبعد جهد كلّف الإنسان كثيرا من حياته وماله وصحته مع ما قاله القرآن.

وكذلك بحث الإنسان عن نفس الإنسان وأعماقها ومشاعرها ، وألّف كتبا ووضع علوما لكل ذلك ، ومع أنه ما زال خاطئا وعاد خاسرا حيث تبخّرت حقائق النفس المفترضة لديه لم يجده البحث شيئا ، ولو عاد للقرآن لوجد الجواب الشافي عن كل أسئلته وتساؤلاته التي جعلته يضيع حياته وعمره سدى في هذا المجال ، في حين أن حكمة الله من خلقه كانت (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) [الذاريات / ٥٦] ، فلو عبده بما علّمه لأعطاه الله علم ما لم يعلم ، فهو قد كلّفه بالعبادة وأعطاه علمها ، فلو أدّى ما كلّف به لأعطاه الله حقيقة كل شيء من خلال هذه العبادة ، ولعلم أن علم الله أكبر من خلق الله ، ولا يحيط بعلمه شيء وهو يحيط بكل شيء ، وهكذا نرجع إلى ما قاله الله تعالى واصفا علمه بكلامه وكلامه بعلمه (وَلَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللهِ) [لقمان / ٢٧]. فليكفّ الإنسان عن أن يكون أكثر شيء جدلا ، ويسلّم أمره إلى الله فسيجد ربه بانتظاره حيث

٨

يعطيه علما من علمه حتى يبطل مفعول السؤال في نفسه ، فلا يسأل بعد أن علم ، ولا يتجاهل بعد أن أسلم ، ويرى حقيقة ما قاله أحد الباحثين في القرآن : «في العالم كله كتاب واحد قدّم للناس جميعا حقائق العلم قبل أن تثبت في معارك العلاقات بين الوعي البشري وبين مادة الكون ، ذلكم هو القرآن» ، وعند ذلك سيعجب كما عجب عقلاء العالم «إن عقلاء العالم ليعجبون كيف يكون في عالم الناس القرآن ولا يجعلونه قبلتهم جميعا لفهم الحياة وتفسيرها ومعرفة الحقيقة والعمل بها».

إن هدف هذا الكتاب هو الجواب على هذه الأسئلة من خلال المحاولات التي تمّت في مؤلفات العلماء لتحقيق هذا الجواب ، فهل استطاعوا الجواب حقّا ، ففهموا القرآن كمعجزة علمية معاصرة وكما يجب أن تكون حجة الله على خلقه في هذا العصر؟ وكأنما الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم أرسل هذا اليوم به ، وكأنما القرآن ينزل الآن بيننا ولا زال بكرا لم تتعمّق به العلوم كما يجب ، رغم كل محاولات القدماء ومبالغاتهم العقلية واللغوية التي وقفوا عندها ، وقد جاء عصر المختبرات العلمية الفضائية والنووية لكي يقول كلمته في هذا المجال ، فهل وصل إلى الجواب الحق! وإلى الفهم الحق لكلام الله وقرآنه الذي بيّنه الله بيانا واضحا مفصّلا لكل شيء ، وفيه علم كل شيء؟.

٩
١٠

المقدمة الفكرية

ضرورة المعجزة بين مفهوم

شمولية الرسالة وخاتم النبيين

حينما نراجع بعض خصائص نبوّة سيدنا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم الذي أظهره الله على الدين كلّه وأكّد الله سبحانه وتعالى في قرآنه الحكيم أنه أكمل له الدين (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً) [المائدة / ٣] ، نجد أن هناك تفرّدا وتميزا لهذه النبوة لم يكن مثلها لأحد من الأنبياء السابقين على كثرتهم ، هذا التفرد والتميز يظهران من خلال خصوصيتين اثنتين أكدهما الله سبحانه وتعالى في قرآنه المجيد ، وتحدّث عنهما الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم في عدة أحاديث. أما الخصوصية الأولى فهي في كونه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أرسل إلى الناس كافة (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) [سبأ / ٢٨] ، ويقول الرسول الكريم في حديثه (١) (أعطيت خمسا لم يعطهن نبي قبلي ، نصرت بالرعب مسيرة شهر ، وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا ، فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصلّ ، وأحلّت لي الغنائم ولم تحل لنبيّ قبلي ، وبعثت إلى الناس كافة ، وأعطيت الشفاعة) ، ومعنى هذه الخصوصية أن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، دون غيره من الأنبياء ، أرسل إلى الخلق كلهم ، سواء كانوا إنسا أو جنّا ، وسواء كانوا عربا أم عجما ، في حين كان الرسول حين يرسل قبله يرسل إلى قومه فقط. والخصوصية الثانية من خصائص نبوته هي كونه خاتم النبيين ، فلا نبوّة ولا نبي ، بعده ، قال تعالى (ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ وَلكِنْ رَسُولَ اللهِ وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ) [الأحزاب / ٤٠] ، ويقول الرسول الكريم في حديثه (٢) (مثلي ومثل الأنبياء كمثل رجل بنى دارا فأكملها وأحسنها إلا موضع لبنة ، فكان كل من دخلها فنظر إليها قال ما أحسنها إلا موضع هذه اللبنة ، فأنا موضع هذه اللبنة ، ختم بي الأنبياء) ، ويقول في حديث آخر (٣) (أنه سيكون من أمتي كذابون ثلاثون كلّهم يزعم

__________________

(١) الشفا بتعريف حقوق المصطفى ـ القاضي عياض ، ج ١ ، ص ٣٢٩.

(٢) مختصر تفسير ابن كثير ـ محمّد علي الصابوني ، ج ٣ ، ص ١٠٠.

(٣) الدر المنثور في التفسير بالمأثور ـ السيوطي ، ج ٣ ، ص ١٠٠.

١١

أنه نبي ، وأنا خاتم النبيين ، لا نبي بعدي).

إذن ، فمن معاني شمولية الرسالة الإسلامية للخلق كلهم منذ بعث الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى قيام الساعة أن تكون هذه الرسالة هي خاتمة الرسالات ، وبالتالي يجب أن تكون كاملة لا تحتاج إلى نبي آخر يرسل ليستدرك على رسولنا الكريم ما فاته ، كما هي حال جميع الرسل السابقين الذين كان النبي اللاحق يستدرك على النبي السابق فينسخ من شريعته ما ينسخ بأمر الله ، كما أنّ من معاني خاتم النبيين أن يكون مرسلا وداعيا جميع الخلق ، حتى بعد وفاته ، إلى طريق الله ، وأن يكون دليل صدق نبوّته قائم على الأجيال اللاحقة حتى قيام الساعة ، ولا يكون هذا إلا بأن تكون له معجزة قائمة دائمة تبرهن على صدقه وصدق رسالته إلى هذه الأجيال ، وتتحدى ، كمعجزة ، كل العصور والأزمان حتى قيام الساعة.

لقد دعا الرسول الكريم في حياته جميع الخلق الذين عاصروه في حياته إلى الإيمان بالله ، وآمن به من آمن من الإنس والجن كما هو مذكور في القرآن (وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ) [الأحقاف / ٢٩]. فقد أدى الأمانة كما أمره الله بها ، وتوفي الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وارتد من العرب من ارتدّ ، ثم بعد حروب الردة رجع إلى الإسلام من رجع ، وكانت معجزة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم هي القرآن ، وكانت تتحدّى العالم كله إنسا وجنا منذ نزولها وستبقى حتى قيام الساعة ، تقوم بعملية التحدي لأن يؤتى بمثلها ، وهكذا فإن الرسول الكريم بصفته خاتم الأنبياء ، جاء بمعجزة قائمة دائمة مستمرة في تحدّيها ، ولا تنتهي عجائبها حتى يرث الله الأرض ومن عليها.

إذن ، فالقرآن العظيم هو المعجزة الدائمة للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهو الذي عليه أن يتعامل مع مختلف الأجيال الإنسانية ومختلف الحضارات اللاحقة لعصر النبوّة ومختلف المستجدات التي تحصل للإنسان والكائنات عموما ، ومهما توصّل الإنسان في أبحاثه وعلومه واكتشافاته فعلى القرآن أن يبقى معجزا في كل هذه الأحوال والأماكن والموضوعات ، فكيف يكون ذلك الإعجاز والقرآن كلمات معدودة لمعاني فسّرها المفسرون القدامى وأشبعوها بحثا؟ كيف يكون ذلك الإعجاز وقد ذهبت الفصاحة والبلاغة مع أهلها في ذلك الزمان ، وذهب التحدي القائم عليها ، والذي كان أساس الإعجاز في نزول القرآن أوّلا عليهم؟ كيف سيكون الإعجاز وهو دليل صدق نبوة النبي ، ودليل كون القرآن من الله معا إذا كان العصر ، مثل عصرنا ، عصر معرفة وعلوم وتكنولوجيا واكتشافات في الفضاء والذرة والحياة؟ أليست المعجزة وكل معجزات

١٢

الأنبياء السابقين كانت كذلك ، عليها أن تتحدى كل عصر بما يتقنه ذلك العصر ويتفنن فيه ويحس بعظمته وكبريائه من خلاله؟ ألم يتحدّ موسى عليه‌السلام سحرة فرعون بعصاه لأن العصر كان عصر سحر وسحرة؟ ألم يتحدّ عيسى عليه‌السلام طب اليونان وأطباء عصره حينما جاءهم بشفاء وإحياء لم يكن ولن يكون مثله أبدا؟

وأخيرا ، ألم يتحدّ نبينا عليه الصلاة والسلام شعراء وخطباء قريش والعرب جميعا حينما جاء ببلاغة القرآن بنفس لغتهم ، ونفس حروفها وكلماتها ولكن بإعجاز جعل أشعر الشعراء وأخطب الخطباء إذا سمعه بهت وأعلن عجزه وآمن بأنه من عند الله! لقد أدى القرآن العظيم وظيفته خير أداء في تعجيز كل العرب الذين حضروه وعاصروه عن أن يأتوا بسورة من مثله ، وهم أهل اللغة والفصاحة والبلاغة التي لم يلحقهم بها أحدا!

وعلى القرآن وظيفة أخرى الآن لكي لا يتم الحديث عن أن المعجزة انتهت بانتهاء عصر من خاطبتهم بلغتها ، وتحدّتهم آنذاك وأصبحت الآن خبرا يروى كباقي معجزات الأنبياء مع أقوامهم ، هذه الوظيفة تأتيه من كونه جاء معجزا لكل من الإنس والجن ، ولكل زمان ومكان ، لأنه لا نبي بعد خاتم الأنبياء ، ولا معجزة ولا وحي ولا رسالة ، وعليه هو ، باعتباره معجزة خاتم الأنبياء الذي أرسل للخلق كافة ، أن يقوم بهذه المهمة وأن يكون حجّة الله البالغة على العالمين في كل عصر وحين وحتى قيام الساعة!

لقد مضت أجيال وأجيال ، وجاءت وتجيء أجيال أخر تطالب بحجتها وبرسولها ومعجزتها (وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ) [فاطر / ٢٤] وإلا فما ذنبهم أن يكونوا متأخرين عن عصر الرسل وختمت النبوة قبلهم؟ أيعذب الله الناس يوم القيامة قبل قيام الحجة عليهم؟ حاشالله.

من كل ما تقدم ، نجد أن القرآن هو المعجزة الخالدة التي تبقى عاملة عملها كما نزلت في حياة الرسول الكريم صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وبنفس القوّة المتحدّية لكل عصر ، ويفخر بما يقول أحد الباحثين (١) : «إذا قدر أن يبحث العلم الأديان عن طريق بحث ظاهرة النبوّة ، فسيجد أن العقبة في سبيله هي أن معجزاتها قد مرّت وانقضت ، فهو لا يجد سبيلا إلى بحث شيء منها إلا معجزة واحدة لرسول واحد على دين واحد ، إلا القرآن معجزة الإسلام على يد محمد بن عبد الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ... لقد ذهبت المعجزات كلها

__________________

(١) الإيمان والعلم الحديث ، ص ١٤٠.

١٣

وبقي ، وتغيرت الكتب وحرّفت ولم يتغير هو ولم يتحرّف ، فلو قدر للإنسانية أن تفحص الأديان بعقلية علمية لما وجدت غير الإسلام دينا يثبت للفحص العلمي ، إذ ليس غير الإسلام دينا بقيت معجزته إلى اليوم وتبقى إلى ما شاء الله ، لتكون موضوع بحث وامتحان له يهتدي البشر بفحصها إلى الله ، ولعلموا عن طريقها أن الإسلام هو دين الله فاطر الفطرة وخالق الناس». إذن ، فالقرآن هو معجزة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهو بنفس الوقت كتاب رسالته ذاتها «لقد جعل كتابه عين معجزته ، ومعجزته عين كتابه ليكون حفظ الدين وحفظ معجزته أمرا واحدا سواء ، ولتدوم حجة الله على الناس».

على أنه يجب أن يتضح إعجاز القرآن لكل إنسان لتلزمه حجة الله إن هو أبى الإسلام ، لذا فإن معجزة القرآن ليست من تلك الناحية التي يتوقف تقديرها والتسليم بها على معرفة لغة لا يتيسر معرفتها لكل أحد ، وتلك الناحية الإعجازية هي الناحية العلمية في القرآن ... أي أن الحقيقة العلمية التي لم تعرفها البشرية إلا في القرن التاسع عشر أو العشرين مثلا ، والتي ذكرها القرآن لا بد أن تقوم عند كل ذي عقل دليلا محسوسا على أن خالق الحقيقة هو منزّل القرآن ...

إن موقف القرآن ، كمعجزة اليوم لعصرنا ، هو نفس موقفه كمعجزة في عصر النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولا يتوقف كمعجزة إلا إذا استطاع العصر أن يتجاوزه فيما جاء به من صور الإعجاز العديدة ، عند ذلك تتوقف حجة الله على العالمين ، فإما أن يرسل رسولا آخر ، وهو قد قال إنه ليس هناك رسول بعد خاتم النبيين ، أو يرسل معجزة تتحدّى من لا يؤمن بها ، وهو ما لم يحصل. إذن ، فالقرآن كان وما زال وسيبقى حجة الله على العالمين ، ولكن علينا نحن أن نعرف مواضع ومواقع إعجازه لعصرنا لكي تستمر الرسالة وكأنها جاءت اليوم. لننظر إلى منطق علماء الإسلام السابقين في طريقه فهمهم لنبوة النبي ومعجزة القرآن ، وكيف كانت تعمل عندهم ، ونقارنها بمنطق علماء اليوم في نظرتهم وفهمهم لنبوّة النبي ومعجزة القرآن؟

يقول الباقلاني في إعجاز القرآن إن نبوّة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم معجزتها القرآن (١) : «الذي يوجب الاهتمام التام بمعرفة إعجاز القرآن أن نبوّة نبينا عليه الصلاة والسلام بنيت على هذه المعجزة» ، ويصف هذه المعجزة بقوله «فأما دلالة القرآن فهي عن معجزة عامة عمّت الثقلين ، وبقيت بقاء العصرين ، ولزوم الحجة بها في أول وقت ورودها إلى يوم القيامة على حد واحد». ولكن هل يمكن إدراك الإعجاز بسهولة حتى وإن

__________________

(١) إعجاز القرآن ـ الباقلاني ، ص ٣١.

١٤

كان إعجازا لغويا فقط كما كانوا يظهرون؟ يقول الباقلاني (١) : «يجب أن تعلم أن من حكم المعجزات إذا ظهرت على الأنبياء أن يدّعوا فيها أنها من دلالاتهم وآياتهم ، لأنه لا يصح بعثة النبي من غير أن يؤتى دلالة ويؤيّد بآية ، لأن النبي لا يتميز من الكاذب بصورته ولا بقول نفسه ولا بشيء آخر سوى البرهان الذي يظهر عليه ، فيستدل به على صدقه ، فإذا ذكر لهم أن هذه آيتي وكانوا عاجزين عنها صحّ له به ما ادّعاه ، ولو كانوا غير عاجزين عنها لم يصح أن يكون برهانا له ، وليس يكون معجزا إلا بأن يتحداهم إلى أن يأتوا بمثله ، فإذا تحدّاهم وبان عجزهم صار ذلك معجزا ، وإنما احتيج من باب القرآن إلى التحدي لأن من الناس من لا يعرف كونه معجزا ، فإنما يعرف إعجازه بطريق ، لأن الكلام المعجز لا يتميز من غيره بحروفه وصوته ، وإنما يحتاج إلى علم وطريق يتوصل به إلى معرفة كونه معجزا ، فإن كان لا يعرف بعضهم إعجازه فيجب أن يعرف حتى يمكنه أن يستدل به».

إذن ، فالسابقون كانوا يحتاجون لمعرفة الإعجاز إلى دراسة وعلم ، رغم أن الإعجاز كان عندهم لغويا أكثر منه علميا ونظريات علمية ، فكيف الحال عندنا في الإعجاز العلمي؟

مما تقدم ، نرى أن الأقدمين لم يكونوا يعرفون الإعجاز بداهة بعد أن مضى عصر النبوة وبدأت الأبحاث في علوم القرآن تنتشر ، ودخل كثير من غير العرب في الإسلام ، وهم لهم ثقافات وعلوم ليست للعرب ، كما أنّ الفصاحة والبلاغة دخلها ضعف كثير ، من هنا كان يجب أن تقوم المؤلفات الكبيرة لمعرفة إعجاز القرآن ، فالذي لا يعرف إعجاز القرآن لا يصدّق أنه من الله ، وقد يعتبره كتابا من الكتب لأنه مؤلّف من حروف وكلمات وموضوع بين دفتي ورقة ، أما من يعرف إعجازه فإن إيمانه يتكامل مع القرآن على أنه كلام الله ومعجزة رسول الله ، وأنّ فيه اليقين الحق الذي لا يقين غيره ، ومن هنا أيضا تعددت أوجه إعجاز القرآن حتى عند القدماء أنفسهم الذين كان التحدي الأول لهم بلغته وبلاغته ومعانيه ، ولكن من أعجب العجب في هذا القرآن العظيم ، الذي جاء من ربّ العالمين لهداية الناس أجمعين ، أنه يدلّل على صدقه بنفسه في كل عصر وحين ، ويقول إنه سيفعل ذلك حتى يذعن له كل عقل سليم ، وكل عالم وحكيم ، بل ويزيد على ذلك بأن يعطي وعودا مستقبلية لما يحققه من إعجاز عبر كل زمن وعصر ، بما يحمله ذلك العصر والزمن من

__________________

(١) إعجاز القرآن ـ الباقلاني ، ص ٢٥٨.

١٥

اختصاص وتقدم في مجاله الذي يبدع فيه ويفخر ، يقول ابن تيمية (١) : «لما كان محمدصلى‌الله‌عليه‌وسلم رسولا إلى جميع الثقلين جنّهم وإنسهم ، عربهم وعجمهم ، وهو خاتم الأنبياء لا نبي بعده ، كان من نعمة الله على عباده ، ومن تمام حجته على خلقه ، أن تكون آيات نبوّته وبراهين رسالته معلومة لكل الخلق الذين بعث إليهم ، وقد يكون عند هؤلاء من الآيات والبراهين على نبوته ما ليس عند هؤلاء ، وكان يظهر لكل قوم من الآيات النفسية والأفقية ما يبين به أن القرآن حق ، كما قال تعالى (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقاقٍ بَعِيدٍ (٥٢) سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) [فصلت / ٥٢ ، ٥٣]. أخبر سبحانه أنه سيري العباد الآيات في أنفسهم وفي الآفاق حتى يتبين لهم أن القرآن حق ، فإن الضمير عائد إليه ، إذ هو الذي تقدم ذكره كما قال (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقاقٍ بَعِيدٍ) [فصلت / ٥٢]. ورغم أن التحدي الذي جاء به القرآن أن نزل إلى حدود أن طلب منهم أن يأتوا بسورة من مثله ، وقد تكون السورة ثلاث آيات فقط ، مثل (إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ) [الكوثر / ١] ، ورغم أنه كانت دواعي العرب وغيرهم على المعارضة تامة ، رغم كل هذا فقد انتفت المعارضة ، وعلم عجز جميع الأمم عن معارضته ، وهذا برهان آخر يعلم به صدق هذا الخبر الذي هو بنفس الوقت آية لنبوة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم».

أما تعدد وجوه إعجازه عند الأقدمين فيظهر بأشكال مختلفة ومتعدّدة ومتنوعة ، وكل شكل له وجه إعجازي قائم بنفسه ، ولكي لا نطيل نشير إلى هذه إشارة عابرة وإلا فكتب الإعجاز كثيرة ، من ذلك ما ذكره ابن تيمية من أن (٢) «كونه معجزا يعلم بأدلّة متعدّدة ، والإعجاز فيه من وجوه متعدّدة ، فتنوّعت دلائل إعجازه ، وتنوّعت وجوه إعجازه ، وكل وجه من الوجوه ، فهو دليل إعجازه وهذه جمل لبسطها تفصيل طويل ، ولهذا قال تعالى : (وَقالُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آياتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللهِ وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (٥٠) أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) [العنكبوت / ٥٠ ، ٥١] فهو كاف في الدّعوة والبيان وهو كاف في الحجج والبرهان».

إذن ، فمجرد إنزال القرآن على الرسول هو معجزة ، لأن ما في القرآن من مضامين

__________________

(١) تفسير ابن تيمية ـ ج ٢ ، ص ١٣٩.

(٢) المصدر السابق ، ج ٢ ، ص ١٤٢.

١٦

تكفي للرد على كل الحجج والاعتراضات ، كما أنها تكفي لتدلّ وتوضح وتبرهن على حقيقة الدعوة وأنها من الله ، وتعطي لكل عصر دليلا يناسبه ، وتتحدث لكل قوم باللغة التي يفهمونها علما وفقها وحجة وبيانا.

وإذا ما جئنا إلى البحوث المعاصرة والعلماء المحدثين نجد أن قوّة الدليل لديهم في الإعجاز القرآني ، وبما يناسب العصر الحاضر ، هي بنفس القوّة التي كانت لدى القدماء السابقين من العلماء ، ورغم اختلاف طبيعة دليل كل منهم ، يقول شعراوي (١) : «أما الإسلام فلأنه دين خاتم وشامل للبشرية كلها ، فلا يمكن أن تكون معجزته حسّية تنتهي كسابقاتها ، فخص الله رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بمعجزة تماثل قدر رسالته علو زمان وعلو مكان ، بحيث أن أي إنسان يؤمن على مرّ الزمن بمحمد يستطيع أن يقول أنا أؤمن بمحمد وهذه معجزته ، وتابع عيسى لا يستطيع أن يقولها لأن التاريخ هو الذي حدثنا عن معجزة عيسى».

ولما كان طابع العصر ، الذي نعيش فيه اليوم ، هو طابع البحوث والاكتشافات العلمية المتعددة في كافة جوانب الكون والحياة ، ولما كان كبرياء العالم وقوته اليوم يقوم أساسا على مقدار التقدم الذي توصلت إليه البشرية في هذا الجانب ، كان على القرآن ، باعتباره معجزة لكل زمان ومكان ، أن يظهر إعجازه في هذا الجانب ليكشف للعالم تقدّمه وسبقه في الإشارة والتوضيح إلى الحقائق العلمية التي توصّل إليها العلم اليوم ، بعد أن كان هو قد ذكرها قبل أربعة عشر قرنا ، ومن هذا كان ما يسمى بالإعجاز العلمي للقرآن كلغة معاصرة يتحدث بها القرآن إلى الإنسانية جمعاء ، ليدلل على صدقه وصدق نبوّة رسولنا الكريم من خلاله ، وليتحدث للإنسانية اليوم بلغتها ليقيم الحجّة عليها بنفس قوة الحجة التي أقامها على العرب أيام نزوله الأولى ، يقول الدكتور محمد حسن هيتو (٢) : «فإننا حين نتكلّم عن إعجاز القرآن لا نريد بذلك إقناع العرب فحسب ، وإنما نريد إقناع العالم بأسره ، من عربي وغيره ، فإن هذا القرآن أنزل للبشر جميعا وتحدّى به البشر جميعا في كل زمان ومكان ، ولذلك يجب علينا أن نخاطب البشر بما تستوعبه عقولهم ، وأن الجوانب العلمية اليوم من أهمّ ما يستهوي عقول الناس في الشرق والغرب ، فإذا ما رأوا ما يدل على الإعجاز في كتاب الله في جانب العلوم التي يتقنونها ، هان عليهم الإيمان والتسليم. إذن فالذي دفع العلماء والمفكرين المسلمين للبحث والتحقيق في جوانب الإعجاز العلمي في القرآن هو الواقع الذي يعيش فيه

__________________

(١) القرآن معجزة ومنهج ـ محمّد متولي شعراوي ، ج ٢ ، ص ٢٧٩.

(٢) المعجزة القرآنية ـ د. محمّد حسن هيتو ، ص ١٤٨.

١٧

الناس ، والذي صارت فيه العلوم أساس الحياة والحضارة الإنسانية».

إن همّ البشرية اليوم هو همّ علمي ، فقد انكشف الغطاء للعقل الإنساني في هذا العصر ما لم يتكشف له منه في أيّ عصر مضى من تاريخ الإنسانية ، وإحساس الإنسان بموقعه المتميز في الكون والحياة جاءه اليوم من خلال الاكتشافات العلمية ، وتوظيف النظرية العلمية في الصناعات والتكنولوجيا ، التي استطاع من خلالها أن يصل إلى القمر فيمشي عليه متبخترا ، كما استطاع أن يسبر أعماق الذرة والكون والمجرات والسدم مستخدما لحسابه السنين الضوئية ، كما استطاع أن يسبر أعماق الذرة ليصل إلى أخطر قانون علمي اكتشف حتى الآن وهو تحول الطاقة إلى مادة ، والمادة إلى طاقة ، وفي علوم الحياة بحث أسرار الخلية الحية حتى تعرّف على اللغة الكيميائية في أعماق الخلية ، وبدأ يدرس الهندسة الحيوية والوراثية ويتحكم في صفات الجنس البشري.

لقد أصبح العالم كمادة في يد العالم المعاصر كالعجينة في يد الخباز يدوّرها ويمطّها كما يشاء ، هكذا العالم الذي تتلاعب به قوانين الكتلة والطاقة والسرعة حتى حطمته وكشفت مجهولاته التي كانت في السابق تحكمها الأساطير والخرافات والمعقولات الساذجة والفجّة ، بل إن الإنسان أخذ يتحدّث عن تاريخ العالم والكون بداية ونهاية ، ويحسب دوران الفلك والفضاء وانتهاءه إلى أمده أو عمره الكيمياوي والفيزياوي ، وقد غابت المستحيلات العقلية التي كانت تحجم الفكر عند حدود ضيقة ، وهكذا طار الإنسان في الفضاء يلاحق النجوم والكواكب والمجرات ، ويطلق الأقمار الصناعية والمركبات الفضائية إلى أعماق الكون علّه أن يجد حافّة الكون ليبحث وراءه عمّا يكون هناك ، وتعمّق في الذرة تحليلا حتى بلغ اللامنظور ، وتبخّرت تسميات المادة التي تحوّلت إلى طاقة شعاعية فحسب ، مما قضى على مفهوم المادة والجسمية بالمعاني القديمة ليدخل بدلها مفهوم الضوء والطاقة.

إذن ، حتى اللغة العلمية ومصطلحاتها اليوم أصبحت تختلف اختلافا كبيرا جدا ، بل ومتناقضا مع مفردات اللغة القديمة ومفاهيمها ، فكيف استطاع القرآن ، في هذا العصر الذي كل ما فيه علم في علم ، أن يفرض إعجازه علميا على هذا العصر ذي اللغة المختلفة كليا؟ بل وكيف يمكن للقرآن أن يدخل مجال هذه العلوم ليتجاوزها وهو أصلا كتاب هداية واعتبار وليس كتاب علم واختبار ، كما أجمع عليه السلف والخلف؟ يقول عبد الله خلاف عن ذلك في كتابه «علم أصول الفقه» (١) : «القرآن

__________________

(١) علم أصول الفقه ـ عبد الله خلاف ، ص ٢٩.

١٨

أنزله الله على رسوله ليكون حجة له ودستورا للناس ، ليس من مقاصده الأصلية أن يقرّر نظريات علميّة في خلق السموات والأرض وخلق الإنسان وحركات الكواكب وغيرها من الكائنات ، ولكنه في مقام الاستدلال على وجود الله ووحدانيته وتذكير الناس بآلائه ونعمه ، ونحو هذا في الأغراض ، جاء بآيات نفهم منها سننا كونية ونواميس طبيعية كشف العلم الحديث ، في كل عصر ، براهينها ، ودل على أن الآيات التي لفتت إليها من عند الله ، لأن الناس ما كان لهم بها من علم وما وصلوا إلى حقائقها ، وإنما كان استدلالهم بظواهرها ، فلما كشف البحث العلمي سنّة كونية ، وظهر أنّ آية في القرآن أشارت إلى هذه السنة قام برهان جديد على أن القرآن من عند الله ، وإلى هذا الوجه من وجوه الإعجاز أرشد الله سبحانه بقوله في سورة فصلت : (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقاقٍ بَعِيدٍ (٥٢) سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) [فصلت / ٥٢ ، ٥٣]».

وهنا إعجاز آخر لم يطرأ على البال. فإذا كان القرآن هو كتاب هداية واعتبار قد أشار في مضامينه عرضا إلى سنن الكون ، فجاءت كل اكتشافات العالم المعاصر تؤيدها وتدعمها ، فكيف لو اتجه حقا لأن يكون كتاب علم واختبار؟ لا شك أنه سيكون أكبر من أن يسعه العقل البشري ، ولأعطى اليقين والحقيقة في كل شيء مباشرة دونما حاجة إلى توسطات التجارب ووسائل الاحتمالات والإحصاءات ، وسيكون هو مقياس الحقائق ذاتها لأنه أعرف بها منها بنفسها ، لما ذا؟ لأن قائل القرآن هو خالق الأكوان مجال العلم والمعرفة. يقول شعراوي (١) : «إن القرآن كلام الله ، والكون خلق الله ، وحقائق الكون الموجودة فيه والتي خلقها الله لا بد أن تنسجم مع كلام الله فلا يكون هناك تضارب ، فإن حصل ما ظاهره التضارب فإما إنك فهمت حقيقة قرآنية وهي ليست حقيقة قرآنية ، وليس هذا المراد من الحقيقة القرآنية ، وإما أنك أتيت بشيء ليس حقيقة علمية وقلت هو حقيقة علمية ، ولكن إذا تأكدنا أن هذه حقيقة قرآنية ـ وهذا هو الفرق ـ وهذه حقيقة علمية ، فلا بد أن يلتقيا لأن قائل القرآن هو خالق الكون».

بل إن بعض المفسرين والباحثين يوحّدون في المعنى بين الكون المنظور ، وهو الوجود ، والكون المقروء ، وهو القرآن ، ويعتبرون أن الكون المنظور هو أدق تفسير للكون المقروء وليس العكس ، يقول د. محسن عبد الحميد ، متحدثا عن

__________________

(١) هذا هو الإسلام ـ محمّد متولي شعراوي ، ص ٢٠٤.

١٩

مدرسة الأفغاني ومحمد عبده ورشيد رضا في التفسير العلمي ، أنه يجب (١) «الانطلاق من المبدأ القائل كلما ازددنا معرفة بما في الوجود من الأسرار والقوانين ازددنا علما بما في كتاب الله ، ذلك لأن الكون المنظور أعظم وأدق تفسير للكون المقروء ، فلا بد إذن من الاستفادة من العلوم المتنوّعة ، والثقافات الإنسانية المتعددة الحديثة في تفسير القرآن الكريم في داخل الضوابط الأصولية المعروفة بين علماء الإسلام التي تضبط الاتجاه لحركة تفسير القرآن في كل عصر».

ولكن أليس في البحث عن الحقائق العلمية في القرآن ، أو تفسير القرآن تفسيرا علميا معاصرا ما يقود إلى ربط العقيدة بمفاهيم العلوم وحقائقها ، التي قد تتغير مع الزمن ومع الاكتشافات الجديدة ، مما يجعل القول في القرآن خاطئا علميا على التفسير القديم مما يضطرّنا لأن نغير التفسير مع كل حقيقة جديدة للعلوم؟ وبذلك نكون كمن قال في القرآن برأيه ، وهو أخطر التفاسير وأسوؤها؟ لا شك أن هذه المقولة حقيقية عبّر بها بعض الكتاب والمؤلفين ، كالعقاد وبنت الشاطئ وأمين الخولي ، عن ملاحظاتهم على محاولات التفسير القسرية التي تمت في بعض الأقطار العربية ، وبعد أن يؤكد العقاد في كتابه عن الفلسفة القرآنية من أن العلوم الإنسانية (٢) «تتجدد مع الزمن على سنّة التقدّم فلا تزال بين نقص يتم وغامض يتّضح وموزّع يتجمّع ، وخطأ يقترب من الصواب ، وتخمين يترقّى إلى يقين ، ولا يندر في القواعد العليمية أن تتقوّض بعد رسوخ أو تتزعزع بعد ثبوت ، ويستأنف الباحثون تجاربهم فيها بعد أن حسبوها من الحقائق المفروغ منها عدّة قرون ، فلا يطلب من العقيدة أن تطابق مسائل العلم كلما ظهرت مسألة منها لجيل من أجيال البشر ، ولا يطلب من معتقديها أن يستخرجوا من كتبهم تفصيلات تلك العلوم ... الخ» ، لذا يستنتج العقاد من ذلك (٣) «كلا لا حاجة بالقرآن لمثل هذا الادعاء لأنه كتاب عقيدة يخاطب الضمير ، وخير ما يطلب من كتاب العقيدة في مجال العلم أن يحث على التفكير ، ولا يتضمن حكما من الأحكام يشل حركة العقل في تفكيره أو يحول بينه وبين الاستزادة من العلوم ما استطاع وحيثما استطاع».

ولكن ألا يقود هذا إلى تعجيز القرآن أمام العلم ، أو على الأقل إثبات اختلافه معه وهو من أخطر قضايا الاختلاف بين الدين والعلم ، يعود العقاد قائلا (٤) : «فالقرآن

__________________

(١) تطور تفسير القرآن ـ د. محسن عبد الحميد ، ص ٢٢١.

(٢) الفلسفة القرآنية ـ عباس محمود العقاد ، ص ١٨.

(٣) المصدر السابق ، ص ١٩.

(٤) المصدر السابق ، ص ٢٠.

٢٠