الاعجاز العلمي في القرآن

سامي أحمد الموصلي

الاعجاز العلمي في القرآن

المؤلف:

سامي أحمد الموصلي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار النفائس للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ١١١

وإذا كان للعقل الإنساني أن يفهم بعض مدلولات المعراج فإنه ، بالإضافة إلى اطمئنان نفس محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأنس قلبه للبرهان على الخروج من نطاق هذا الكوكب الأرضي الذي يسبح في الفضاء ، ليعرف الذين ينكرون البعث بأنهم غير باقين في هذه الأرض بعد انحلال أجسامهم ، وأنّهم لا شك مبعوثون ، جسدا وروحا ونفسا ، في مكان ما من عوالم الله تعالى التي لا يعلمها إلّا هو سبحانه ، ولكي يتفكّروا في خلق السماوات والأرض وما يحيط بهنّ. فهذه الدلالات تعبّر عن الإسراء ، أي الانتقال من مكان إلى مكان ، بواسطة لا يعرفها البشر ، وعن المعراج بنفس الواسطة التي تتحلّل من قوانين الجاذبية والأبعاد والأعماق والمسافات ، وما إليها من القوانين التي تحكم تصرفات بني البشر ، والتي لا شأن لها عند إرادة الله السنية التي تقول للشيء كن فيكون.

وإذا كانت الإرادة الإلهية قد تجلّت وجعلت من الإسراء والمعراج وسيلة كشف لإحدى وسائل المواصلات التي تفرض على الإنسان الإذعان لها والرضوخ لحكمها فإنها ، وهي إرادة الله ، قد جعلتها فتنة للناس لتثبت في الروع أن الإنسان ، مهما بلغ من العلم والمعرفة ، عاجز عن الوصول إلى علم الله ، ولكنه مدعو في كل وقت للتوجّه نحو هذا العلم ، وإلّا فقد ميزته التي خصّه الله تعالى بها عن سائر المخلوقات قليلا ـ عاجلا أو آجلا ـ ، للبحث عن الوصول لبعض تلك العوالم ليصل إلى معرفة عظيم صنع الله وقدرته ، على أنه وإن قدّر للإنسان أن يفقه سرّ معجزة الإسراء والمعراج أو لم يقدر ، وغالب الظن أن هذا السّر ما زال في جوانب كثيرة منه مغلقا على بني البشر ، فإنّها تظلّ الحدث العظيم الذي لا يمكن إنكاره ولا التنكّر له ما دام القرآن الكريم قد أثبته وأكّده بقوله تعالى (وَالنَّجْمِ إِذا هَوى (١) ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى) (٢) ... [النجم / ١ ، ٢] ، ومن هنا لم تكن حادثة الإسراء والمعراج المعجزة التي أريد منها قهر الناس على الاعتقاد بصدق نبوة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما كان يحدث للأنبياء السابقين ، وإلّا لكانت تلك الحادثة قد حصلت في الظروف الحالكة الصعبة التي كان يعيشها النبيّ والمسلمون معه ، ولا سيما المستضعفون منهم ، بل كانت من أجل التكريم لشخص النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم والإيناس له ، ومن غير أن تعطّل المنهج العقلي الذي اشترعه القرآن».

هكذا فهم السيد سميح عاطف الزين واقعة ومعجزة الإسراء والمعراج ، وهو يضعنا على أبواب التعامل مع مفردات ومكتشفات العلوم ولكن من بعيد ، ولا يدخل إلى التفاصيل الدقيقة للقضايا العلمية.

١٠١

أما التفسير الأكثر قبولا منه ، والذي يلمس الجوانب العلمية أكثر ، إضافة إلى الجوانب العقلية والمنطقية ، هو ما طرحه الشيخ محمّد متولي شعراوي ، وسنحاول تلخيص رأيه بشكل دقيق ، مع مقتطفات من نصوص أقواله وكلماته العميقة. وقبل أن يبدأ شعراوي في تفسيره لآية الإسراء ، يعرض لموقع هذا الحدث وأثره في الدعوة الإسلامية ، لكي يزنه بميزان الحدث التاريخي ، فهو يؤكد «أن حدث الإسراء والمعراج يعتبر حدثا ضخما من أحداث الدعوة الإسلامية ، سبقته البعثة وجاءت بعده الهجرة». إذن فهو يزنه بميزان البعثة والهجرة ، وبعد أن يتحدّث عن أهمية كون هذه المعجزة كانت «نتيجة لجفوة الأرض لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ونتيجة لفقد النصير ، ونتيجة لفقد الحامي ، فالله سبحانه وتعالى شاء أن يجعل لرسول الله هذه الرحلة العلوية حتى يثبت له تكريمه ، وحتى يثبت له أن في الله عوضا عن كل فاقد ، وأن الملكوت سيحتفي به حفاوة ، ويمسح عنه كل عناء هذه المتاعب ، وسيعطيه شحنة قوية لتكون أداته في منطلقه الجديد بإذن الله».

بعد ذلك يبدأ شعراوي بتفسير آية الإسراء بتفسير كلمة (سُبْحانَ) ويقول (١) : إن معنى سبحان الله أن الله منزّه في ذاته وفي صفاته وفي أفعاله ، فإذا صدر فعل قال الله إنه صدر منّي ، فيجب أن أنزهه أنا عن قوانين البشرية ، وألا أخضع فعل الله إلى قانون فعلي ، ولذلك استهل السورة بقوله (سُبْحانَ) حتى يكون أول ما يقرع الإنسان لهذا الحدث العجيب الغريب ، الذي تقف فيه العقول (سُبْحانَ) أي تنزيه ، فإذا قال الله (سُبْحانَ) أي تنزيه لفعلي عن أفعالكم ، معنى ذلك أن قانون الله في الفعل ليس كقانوننا في الفعل ، ثم بعد ذلك (أَسْرى) به ، فالله هو الذي أسرى ومحمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم هو الذي أسري به ، لما ذا (لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا) أي الإسراء كان لعلة دافعة هي ليريه الآيات ، ولما ذا يريه الآيات لأنه (هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ). وهكذا ، يستنتج شعراوي أن الله سمع الإيذاء الذي أوذي به رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقد رأى الله ما تعرّض له من الجفاء والاستهزاء ، ومن السخرية ومن الإهانة ، كل ذلك برؤية ومسمع من الله ، فحين رأى الله ذلك وسمع أراد أن يريه الآيات ، فأسرى به.

ثم يأتي شعراوي إلى ما أسماه قانون الفاعل ، حيث يقول بأن الله بقانونه أسرى بعبده إليه ، فلا يصحّ أن نؤاخذ محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم بفعل فعله الله به ، لأن محمّدا لم يقل أنا سريت ، لكي نقول له كيف سريت بهذه السرعة ونحن نضرب أكباد الإبل شهرا

__________________

(١) القرآن الكريم معجزة ومنهج ـ محمّد متولي شعراوي ، ص ١٤٥.

١٠٢

وتفعلها أنت بليلة. إذن فالاعتراض على الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم خطأ ، فليس هو الفاعل ، وإنما هو الله ، وفعل الله يكون حسب قوة الله ، وقوة الله تلغي قانون فعل وقوة البشر المحدودة. وهكذا بنى شعراوي سرعة الإسراء بقوة الله على القول (١) «المسافة تتناسب مع القوة تناسبا عكسيا ، فكلما زادت القوة قلّت المسافة» ، والقوة التي فعلت هي قوة الله تعالى ، لذا نجد النتيجة (لا زمن).

إذن ، كلما كانت قوة الفاعل ، إذا كان بشريا ـ سيارة طائرة أو صاروخ ـ فإن المسافة تتناسب عكسيا مع هذه القوة ، وتختصر الزمن حسب قوة الناقل ، فأما إذا كانت هذه القوة خارقة ، وهي قوة الله ، إذن فإن المسافات تلغى ويلغى معها الزمن اللازم لقطعها. هكذا يفسّر شعراوي قدرة الله في الإسراء بتعاملها مع الزمن ، كما أنه يستنتج ، من اعتراض الكافرين على إمكانية الإسراء ، أنّه كان حقيقة وبالجسد لا بالمنام بقوله «فالكافرون بتعنّتهم أمام رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم خدمونا خدمة كبيرة الآن ، لأننا نقول لو كانت رؤيا منامية لما ناقش فيها أحد ، لأن أي واحد يقص عليك رؤيا ، فقانون المرائي فوق قانون المادة اليقظة ، فما دام قد ناقشوا فيها ووقفوا فيها هذه الوقفة فهم قد فهموا أنّها يقظة وبالجسم والروح».

وإذا كان الغالب على تحليل شعراوي الجانب الروحي ، ويعتمد على تحليل مفردات اللغة القرآنية وما يمكن أن تعنيه في منتهى الاحتمال للمعنى ، إلّا أن الإسراء والمعراج بقي غامضا خاصة في جانب السرعة والمسافة أو الزمن والمكان ، ولما كان القرآن العشرون قد وصل إلى مفاهيم جديدة جدا وغير مطروقة لدى القدماء والمحدثين ، فلنحاول أن نأخذ آخر مفردات العلم المعاصر حول هذه المفاهيم ، لنرى إمكانية تفسير معجزة الإسراء والمعراج على ضوء النظرية النسبية لأنشتاين ، وخاصة في مجال السرعة والزمن والمادة ، فكيف تفهم هذه الرحلة الإلهية على ضوء هذه المفردات العلمية؟

وحينما نصل إلى الحديث عن أكبر سرعة معروفة في العلم الحديث ، لكي نقيس بها سرعة حركة انتقال الرّسول الكريم صلى‌الله‌عليه‌وسلم على أحدث الاكتشافات العلمية المعاصرة ، فإننا نجد أن سرعة الضوء ، البالغة ثلاثمائة ألف كيلومتر في الثانية ، هي المقياس المستخدم والمكتشف في فضاء السرعة ، أما ما توصل الإنسان إلى تحقيقه الآن من سرعة في سفن الفضاء الحالية فإنّها لا تزيد على أربعين ألف كيلومتر في

__________________

(١) القرآن الكريم معجزة ومنهج ـ محمّد متولي شعراوي ، ص ١٤٧.

١٠٣

الساعة ، فأين هذه السرعة من السرعة التي انطلق بها جبريل عليه‌السلام ، ومعه محمّد عليه الصّلاة والسلام فوق السفينة الكونية العظمى ليلة الإسراء والمعراج؟

هكذا يبدأ الدكتور عبد العليم عبد الرّحمن خضر في كتابه «الإنسان في الكون بين القرآن والعلم» في الحديث عن معجزة الإسراء والمعراج ، على ضوء النظرية النسبية لأنشتاين ، وسنستعرض آخر ما توصّل إليه ، علما أنه يعتمد عدّة مصادر حديثة علمية ، ويستشهد بأقوال علماء مسلمين وأجانب في هذا الإطار.

وحينما ينطلق الدكتور عبد العليم من مفردة أن الناس عادة (١) «حينما يتحدّثون عن معجزة الإسراء والمعراج يتحدّثون عن جانبها الذي يتعلّق بقطع المسافات وطي الزمان والعروج من سماء إلى سماء في لحظات لا تعادل بالأيام والشهور ، وإنما بالساعات والدقائق» ، ليصل إلى القول «إذن ، فالرحلة رحلة كونية تفوق كل المقاييس التي عرفها أو سيعرفها البشر» فكيف فسّر ، على ضوء العلم الحديث ، هذه المعطيات؟

يبدأ الدكتور من مفردة أن البراق كان يسير بسرعة البرق ـ وقد يكون سمّي براقا لهذه الخاصية ـ فيرى أن البرق ضوء ، وسرعة الضوء ١٠٨٠ مليون كيلومتر في الساعة ، فهل كانت سرعة البراق تساوي سرعة الضوء فقط؟ وهل تكفي عدة ساعات للسفر إلى سدرة المنتهى ثم العودة إلى الأرض؟. وبعد أن يورد الدكتور تفسير قوله تعالى (فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ (١٦) وَاللَّيْلِ وَما وَسَقَ (١٧) وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ (١٨) لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ) (١٩) [الانشقاق / ١٦ ـ ١٩] بمعنى «لتركبن يا محمّد سماء بعد سماء» ، كما فسّرها الطبري وابن كثير ، يقول (٢) : «وكان ركوب السماء بعد السماء ليلة الإسراء والمعراج ، ولا بد أن الطبق الذي ركبه الرسول الكريم ومعه جبريل كان أسرع من الضوء نفسه ، نظرا لضخامة الكون الذي تمثّله السموات ، سماء بعد سماء ، تتمثّل بتلك الضخامة في قوله تعالى (تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ) [المعارج / ٤]. وهكذا يعود الدكتور إلى القول (٣) : «إن آية الإسراء لم تذكر أن الرسول الكريم محمدا ، عليه الصّلاة والسّلام ، كان محمولا على شيء ، إنّه كان يسبح في الفضاء بقدرة الله تعالى التي لا حدود لها ، بعد أن أصبح حقيقة كونية في غير حالتها الأرضية الناقصة. فإن كان قد قيل إنه ركب البراق ، فقد يكون المقصود البرق أو أيّة

__________________

(١) الإنسان في الكون بين القرآن والعلم ـ د. عبد العليم عبد الرّحمن خضر ، ص ٣٢٢.

(٢) المصدر السابق ، ص ٣٢٤.

(٣) المصدر السابق ، ص ٣٢٦.

١٠٤

قوة كهربية ، ولا يمكن في حالة إسراء الله بعبده أن تجري أحكام الحواس ولا أحكام المادة».

وبعد أن يستشهد الدكتور بوجهة نظر الدكتور عبد الحليم محمود في كتابه دلائل النبوة ، ورفضه لمفهوم السلالم للعروج إلى السماء ، مستندا إلى أن العلم الحديث أثبت «أن المادة الصلبة مجرّد كهارب في رتبة اهتزاز معينة» ، وأن الذين يريدون أن يفسّروا الإسراء والمعراج بالتصوّر المادي بالمطيّة للإسراء والسلالم للمعراج بسبب جهلهم هذه الحقيقة التي لو عرفوها «لما خدعتهم حقيقة المادة الصلبة التي تشبّثوا بها في الإسراء على البراق والمعراج على السلالم ، ولأمكنهم أن يتصوّروا إمكان الإسراء بلا مطية والصعود إلى السماء بلا سلالم».

بعد هذا ، يعود الدكتور عبد العليم ليناقش مسألة الزمن التي أنكر المشركون حدوث الإسراء بناء عليها ، فيقول «إننا إذا تخلّصنا من هذه الأرض المادية واحتللنا مكانا مستقلا لا يربطنا بجاذبيتها ولا بقوانينها ، فسوف لا نشعر بالزمن الذي تعوّدنا عليه ولا يصبح للعمر لدينا أي معنى ، لأننا لن نعرف سوى اللازمن ، أي الخلود ، لا ماضي ، لا مستقبل ، ولكن الحاضر وحده هو الذي نعيش فيه» ، ويستنتج الدكتور بأن رحلة الإسراء والمعراج في واقعها إنما هي «رحلة كونية إلهية لا يمكن حسابها زمنا أو بعدا أو وسيلة بحسابات البشر ، إنها رحلة فضائية كاملة تخطّت أبعاد الزمان والمكان من مكّة إلى بيت المقدس ، وتمّت الرحلة إلى السماوات العلى وبقايا دفء فراش الرّسول موجودة». وبعد أن يقارن الدكتور بين رحلة الإنسان إلى القمر وغزوه للفضاء بسفن فضائية تحمل أجهزة إلكترونية للدراسات العلمية عن المريخ والزهرة والمشتري ، ومسألة الإسراء والمعراج ، يصل إلى أن كل هذه الاكتشافات لا تفسّر روعة السرعة التي تمّت بها رحلة الإسراء والمعراج ، لذا نراه يعتقد «أن السفينة الإلهية ، التي حملت محمّدا عليه الصلاة والسّلام وجبريل ، قد اخترقت دوائر بلايين المجرات حتى تصل إلى السماوات العلى وسدرة المنتهى».

وللدلالة على استحالة تفسير هذه الرحلة الكونية الإلهية يتعرّض الدكتور لشرح مساحة الكون الكبير كما اكتشفه علم الفضاء والفلك حديثا ، والذي حتى الضوء بسرعته الخرافية يحتاج إلى ملايين السنين الضوئية لكي يقطعه ، فكيف قطعه الرّسول الكريم في ساعات معدودة؟

إن الإعجاز الحقيقي للإسراء والمعراج يظهر في العلم الحديث حينما نعرف مساحة الكون اللانهائية كما اكتشفها العلم الحديث. فإذا كان الكفار قد اعترضوا

١٠٥

على الإسراء ، وهو مسيرة ساعة في الطيارة الآن ، فكيف سيكون إنكارهم لو عرفوا أبعاد السنين الضوئية لمساحة الكون الممتد عبر مجراته وسدمه ونجومه؟ لذا فإن الدكتور يشرح هذا الحجم الرهيب للسماوات بقوله «ويكفي دلالة على حجم السماوات الرهيب أن نقول إن العلماء ، خلال نصف القرن الأخير ، ابتكروا مناظير كبيرة كشفت آلافا من المجموعات الكونية ، تتكوّن كل مجموعة من آلاف السدم ، كل سديم يضم عشرات الملايين من النجوم والأجرام السماوية» ، ويرى علماء الفضاء أن نصف هذه السدم التي تسبح في الكون إنما هي أعضاء في مجموعات تشبه الكرة يبلغ قطرها مليونين من السنين الضوئية ، فإذا كان الضوء يسافر خلال ساعة مسافة قدرها ١٠٨٠ مليون كيلومتر ، فكم تكون المسافة التي يقطعها في اليوم والشهر ثم السنة الواحدة؟ ثم كم هو رهيب حجم مجموعة السدم التي يبلغ قطرها مليوني سنة ضوئية؟ إن هذه المجموعة واحدة من بلايين السدم التي تنتشر في أرجاء الكون الفسيح ، ومن هذه المجموعات مجموعة تسمى (كوما) تبعد عن سديمنا بحوالي ٤٠٠ مليون سنة ضوئية ، وهي مجموعة ضخمة من السدم في مركزها ، وهي تسبح جميعا في صورة تشبه الكرة ويقول الفلكيون (١) ، إن سدما جديدة دائمة التكوّن قرب المركز ، أو إن شئت قل إن الكون في تمدد مستمر واتساع دائم ، وهناك حشود كروية تظهر في المناظير ككرات ضخمة هائلة تشبه المجرات ولكنها أضخم منها حجما ، واكتشف عدد أقربها إلينا اثنتان هما سحابتا ماجلان الصغرى ، قطرها يخترقه الضوء بسرعة ١٠٨٠ مليون كيلومتر في الساعة لمدة خمس وعشرين ألف سنة ضوئية ، والكبرى يخترقه الضوء (أي سفينة تسير بسرعة الضوء) في مدة اثنين وثلاثين ألف سنة ضوئية ... وإذا كانت هذه صفحة من مساحة الكون المكتشف حتى الآن وهو يتسع في كل لحظة ويتمدد ويخلق مجرات جديدة ، لذا فإن الدكتور يعتقد «أن الأحسن احتمالا لتصور سرعة السفينة الإلهية ، التي قامت بتلك الرحلة الكونية الرهيبة خلال جزء من الليل ، هو تسخير قانون النسبية لحمل وإطلاق وعودة المركبة الفضائية الإلهية البراق» ، أي أنه لما كان قد ثبت من نتائج قانون النسبية الرياضية ما معناه أنّه لو أتيحت لكائن أو جسم ما سرعة أكبر من سرعة الضوء لانمحت أمامه المسافات ، مهما عظمت ، ويقطعها في زمن لا يذكر.

وبعد أن يشرح الدكتور مفهوم أنشتاين للزمن ، الذي يعتبره ليس حقيقة قائمة

__________________

(١) الإنسان في الكون بين القرآن والعلم ـ د. عبد العليم عبد الرّحمن خضر ، ص ٣٣٠.

١٠٦

بذاتها وإنما هو من خواص المادة ، وأن المستقبل قد يتصل بالحاضر ، وقد يلحق بالماضي ، لأنه في كل لحظة نحن نقتطع من المستقبل ونضمه إلى الماضي ، فلا ينقص هذا ولا يزيد هذا ، لأن كلا منهما لا نهائي ، وأن المستقبل يلتف على شكل دائرة ، وبذا يدخل في الماضي ، إذ أن الدائرة علامة أبدية. وبناء على هذه النظرية تكون الظواهر التي تمر بنا بسرعة الضوء هي تلك التي اعتدنا أن نسميها إشعاعا ، أما الأحداث المجسّمة التي تسير ببطء شديد فقد اعتدنا أن نسميها مادة ، أو بحسب تعبير أنشتاين إن المادة هي عقل أو فراغ أو فضاء نقصت سرعته عن السرعة الطبيعية للضوء وهي ٣٠٠ ألف كيلومتر في الثانية ، ولو أن هذه المادة عادت تتذبذب بسرعة الضوء لاختلفت ولم تعد تدركها حواسنا.

وهكذا نرى أنه في نظرية النسبية أن الأشياء تبدو لراصد يسير بسرعة الضوء ، إذا كانت تسير معه تبدو مادة صلبة ، أن الأشياء التي تمر به بسرعة الضوء فتكون شعاعا إذا كان هو واقفا.

من خلال جميع هذه المفاهيم والمعلومات العلمية نرى أن رحلة «كهذه أخذ فيها جبريل (وهو من نور) بيد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعرج به إلى السماء الدنيا ، ثم الثانية ثم الثالثة فالرابعة فالخامسة فالسادسة ثم السابعة ثم إلى سدرة المنتهى ، رحلة كهذه قطع فيها جبريل وصحبه بلايين البلايين من السنين الضوئية في بضع ساعات من الليل ، حسب مقاييسنا الأرضية ، لا بدّ أن تكون السرعة والوسيلة غير ما يعرف البشر ، ومعنى ذلك أن الرسول الكريم عليه الصّلاة والسّلام ، ومعه ملك الوحي جبريل عليه‌السلام ، قد عرج بهما في زمن لا يذكر بسرعة أعظم من سرعة الضوء ، والتي لم يتوصّل إليها البشر بعد ، بل لا يستطيعون مجرد التفكير في كنهها رغم أن العلم والعلماء عرفوا أنّها موجودة فحسب». إذن ، فعلم البشر مهما تقدم فلن يصل إلى سر السرعة الرهيبة التي انطلقت بها سفينة الفضاء الإلهية. إنها رحلة المعراج حيث تجاوز الرّسول الكريم صلى‌الله‌عليه‌وسلم الكون كله ، وكان عند سدرة المنتهى عندها جنة المأوى.

هكذا يصل الدكتور عبد العليم إلى أن كل العلوم المعاصرة تعجز عن تفسير الإسراء والمعراج ، ولعل آخر ما يكتشفه الدكتور من هذه الرحلة هو «إنه لمن المذهل حقا أن يذكر القرآن الكريم أسفار الفضاء كلها على أنّها تتم في مسارات منحنية وليست في خطوط مباشرة مستقيمة ، يتضح ذلك في جميع آيات (العروج)

١٠٧

التي ذكرها الله سبحانه وتعالى في القرآن الكريم ، نجد دائما أن الله سبحانه قد عبّر في كتابه الكريم عن السبح في الفضاء أو الارتفاع في السماء بكلمة معراج أو عرج ، وفي ذلك كشف هام».

إذن ، فالإسراء والمعراج سيبقى المعجزة الخالدة التي تتحدّى علم العلماء واكتشاف المكتشفين ، لأنها منتهى الاحتمال العقلي والنظري ، وستبقى تتحدث للعالم بمعطياتها الخارقة حتى تقوم الساعة ، كما ستبقى «آيتان من آيات الله في الآفاق ، وإشارة إلى قدرته المطلقة وانفراده وحده سبحانه بالخلق ، ولمس لجوانب الحقيقة العلمية التي تؤكّد ركوب الإنسان طبقا بعد طبق ، أو أطباقا متعددة المراحل ، وعلى البشر جميعا أن يعلموا أن كل ما وصل إليه الإنسان من وسائل الركوب ، ابتداء من الناقة إلى الطبق ، من صنع الله تعالى ، يتمثّل في قوله تعالى (وَخَلَقْنا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ ما يَرْكَبُونَ) ، فإذا كانت الفلك تسبح في البحار فإن الأطباق والطائرات تسبح في الهواء ، وفوق المادة الكونية التي تتخلل الأجرام السماوية ، وبالقياس يمكن القول إن الفلك «السفن» ومثلها الطائرات وسفن الفضاء ، إنّها فلك هوائية تسبح في الهواء والفضاء سبحا هادئا كأنّها تطفو على صفحة الماء».

وهكذا تبقى المعجزة الخاصة الفردية للرّسول الكريم صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، تتحدّث لهذا العصر المغرور بمعلوماته ، وتكنولوجيته وفرضياته العلمية بمنطق الخارقية التي لا تصل إلى حافاتها أي قدرة إنسانية مهما وصلت في التقدم العلمي ، ومهما تطوّرت وسائل مواصلاتها وانتقالها ، وهذا يعني أن عصرنا له معجزته أيضا ، وله إعجازه ، وأن خاتم النبيين لم يمض ويدع العالم عند حدود معجزاته في زمنه ، بل لا زال يتحدث إليهم داعيا إلى الله بمعجزاته ، وسيبقى ما دام لا نبيّ بعده ، دليل الخلق إلى الله حتى قيام الساعة.

١٠٨

المصادر والمراجع

١ ـ الشفا في أحوال المصطفى : القاضي عياض الأندلسي ، ط ١٩٨٦ ، دار الفيحاء ، الأردن.

٢ ـ مختصر تفسير ابن كثير : محمد علي الصابوني ، ط ١ ، مكتبة جدة.

٣ ـ الدر المنثور في التفسير بالمأثور : السيوطي ، ط ١٩٨٣ ، دار الفكر ، بيروت.

٤ ـ الإيمان والعلم الحديث : محمد حسين الأديب ، ط ١٩٥٥ ، النجف.

٥ ـ إعجاز القرآن : الباقلاني ، ط ١٩٨٦ ، مؤسسة الكتب الثقافية ، بيروت.

٦ ـ تفسير ابن تيمية ـ التفسير الكبير : ابن تيمية ، ط ١٩٨٨ ، دار الكتب العلمية ، بيروت.

٧ ـ القرآن معجزة ومنهج : محمد متولي شعراوي ، ط ١٩٨٤ ، دار الندوة ، بيروت.

٨ ـ المعجزة القرآنية : د. محمد حسن هيتو ، ١٩٨٩ ، مؤسسة الرسالة ، بيروت.

٩ ـ علم أصول الفقه : عبد الله خلاف ، ط ٨ ، دار القلم.

١٠ ـ هذا هو الإسلام : محمد متولي شعراوي ، ط ١٩٨٧ ، الدار المصرية للنشر ، مصر.

١١ ـ تطور تفسير القرآن : د. محسن عبد الحميد ، ط ١٤٠٨ ، بغداد.

١٢ ـ الفلسفة القرآنية : عباس محمود العقاد ، المكتبة العصرية ، بيروت.

١٣ ـ الفكر الديني في مواجهة العصر : د. محمد عفت الشرقاوي ، ط ١٩٧٩ ، دار العودة ، بيروت.

١٤ ـ التاج الجامع للأصول : منصور علي ناصف ، ط ١٩٦٢ ، دار إحياء التراث العربي.

١٥ ـ تفسير مفردات القرآن : سميح عاطف الزين ، ط ١٩٨٤ ، دار الكتاب اللبناني ، بيروت.

١٦ ـ أصول التفسير وقواعده : خالد عبد الرحمن العك ، ط ١٩٨٦ ، دار النفائس ، بيروت.

١٠٩

١٧ ـ معترك الأقران في إعجاز القرآن ، السيوطي ، ط ١٩٨٨ ، دار الكتب العلمية ، بيروت.

١٨ ـ نحو منهج لتفسير القرآن : محمد الصادق عرجون ، ط ١٩٧٧ ، الدار السعودية للنشر والتوزيع ، جدة.

١٩ ـ شطحات مصطفى محمود في تفسيراته العصرية للقرآن الكريم : د. عبد المتعال الجيري ، ط دار الاعتصام.

٢٠ ـ الإنسان في الكون بين القرآن والعلم : د. عبد العليم عبد الرحمن خضر ، ط ١٩٨٣ ، عالم المعرفة ، السعودية.

٢١ ـ القرآن تفسير الكون والحياة : محمد العفيفي ، ط ١٩٨٦ ، ذات السّلاسل ، الكويت.

٢٢ ـ معالم القرآن في عوالم الأكوان : أحمد محيي الدين العجوز ، ط ١٩٨٧ ، دار الندوة الجديدة ، بيروت.

٢٣ ـ محمد رسول الله : محمد رشيد رضا ، ط ١٩٧٥ ، بيروت.

٢٤ ـ زاد المعاد في هدي خير العباد : ابن قيم الجوزية ، ط ١٩٨٦ ، مؤسسة الرسالة ، بيروت.

٢٥ ـ تفسير الفخر الرازي : ط ١٩٨٥ ، دار الفكر ، بيروت.

٢٦ ـ حياة محمد ، محمد حسين هيكل ، ط مصر.

٢٧ ـ جواهر البحار : النهباني ، ط ١٩٦٠ ، مصطفى البابي الحلبي مصر.

٢٨ ـ خاتم النبيين محمد : سميح عاطف الزين ، ط ١٩٨٦ ، دار الكتاب اللبناني ، بيروت.

٢٩ ـ تفسير روح المعاني : الآلوسي ، ط ١٩٨٧ ، دار الفكر ، بيروت.

٣٠ ـ مناهل العرفان في علوم القرآن : محمد عبد العظيم الزرقاني ، ط ١ ، دار الكتب اللبناني ، بيروت.

٣١ ـ الأصول الفكرية للثقافة الإسلامية : د. محمود الخالدي ، ط ١٩٨٤ ، دار الفكر للنشر والتوزيع ، عمان.

١١٠

الفهرس

المقدمة.......................................................................... ٥

المقدمة الفكرية : ضرورة المعجزة بين مفهوم شمولية الرسالة وخاتم النبيين................. ١١

البعد التاريخي : الإعجاز العلمي من كتب الإعجاز حتى التفسير العصري.............. ٢٣

التطبيق العملي : من نظرية المنهج إلى التطبيقات العملية............................. ٤٥

الإعجاز العلمي في الإسراء والمعراج................................................ ٨٦

١ ـ معجزة الإسراء والمعراج وتفسيرها لدى القدامى...................................

أ ـ التفسير العقلي......................................................... ٩١

ب ـ التفسير الصوفي....................................................... ٩٤

٢ ـ معجزة الإسراء والمعراج والتفسير العلمي الحديث............................... ٩٥

المصادر والمراجع.............................................................. ١٠٩

١١١