الإعجاز العلمي في القرآن الكريم

الدكتور حسن حطيط

الإعجاز العلمي في القرآن الكريم

المؤلف:

الدكتور حسن حطيط


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار ومكتبة الهلال للطباعة والنشر
الطبعة: ١
ISBN: 9953-75-031-9
الصفحات: ١٤٤

الامتصاص ، ويتميّز حليب الأمّ بميزات إعجازية أخرى ، نورد منها على سبيل العرض ، العوامل التالية :

أولا : إفراز «اللّبأ» أو «الصمغ» في الأيام الخمسة الأولى ، والذي يحتوي على كمية كبيرة من البروتينيات والدهون ومضادات المناعة (lGA) التي تتكفل بتحصين الوليد الجديد من آثار العوامل الخارجية الضارّة ؛

ثانيا : التكيّف مع النمو التدريجي للطفل وأجهزته العصبية والهضمية والتنفسية ، فالمواد الغذائية لا تفرز إلّا عبر قوانين مبرمجة بدقة شديدة لا تحيد عنها حتى لا يتضرر التسلسل المتصاعد في نمو بعض الأجهزة الفعّالة الحسّاسة ، كالجهاز العصبي مثلا (نسبة إلى إفراز السكريّات الحليبيّةLactose) ؛

ثالثا : القدرة على «تدريب» و«تعليم» و«تهذيب» التغيّرات الكيميائية في الخلايا الحية ، عند الوليد (Metabolism) والتي بها يؤمن الطاقة الضرورية للعمليات والنشاطات الحيوية ، وكأنّ فيه «قوّة» واعية و«طاقة حية» تستطيع التقاط الإشارة تلو الأخرى ومعالجتها شيئا فشيئا بكل صبر وحكمة وروية ، حتى تأخذ العمليات الحيوية مجراها وتتولّد منها الطاقة بشكلها الطبيعي من دون زيادة أو نقصان ، تثبيتا لأحد مضامين الآية الكريمة : (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ*قَدْ جَعَلَ اللهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً) [الطلاق : ٣]. وتعظيما للأسرار الإلهية المكنونة في آيات خلقه تعالى وسننه وشرائعه (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ** وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ) صدق الله العظيم والحمد له في كل حين.

٤١
٤٢

الجهاز اللمفاوي

خطوط دفاع استراتيجية لحماية أجسامنا :

يتميز الجهاز اللمفاوي ووظائفه الأساسية التي تتصدرها المناعة بفروعها وأشكالها المتجددة ، بانتظام وترابط وتناغم بديع أضفى على محاولات اكتشاف أسراره رونقا خاصا وسحرا بديعا. وسنلاحظ من خلال دراستنا للعمليات والردود المباشرة وغير المباشرة للوظائف والخصائص الدقيقة والعجيبة ووظيفته الأساسية المناعة لهذا الجهاز كيف أنه نظم ضمن حلقات مرصوصة وموزونة بدقة متناهية وبإحكام فريد ، جعل الكثير من العلماء يتفكرون ويتأملون ويعتبرون بعوالمه التي لم تكتشف بأكملها إلى الآن ، والتي إن دلت على شيء فإنما تدل على عظمة وإبداع الخالق القدير.

(وَفِي خَلْقِكُمْ وَما يَبُثُّ مِنْ دابَّةٍ آياتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) (٤) [سورة الجاثية : ٤].

(سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) (٥٣) [سورة فصلت : ٥٣].

يقوم الجهاز اللمفاوي بنقل السوائل والخلايا من الأنسجة إلى خارجها (على عكس جهاز الدورة الدموية الذي يوصل السوائل إلى الأنسجة وينقلها منها). ويتألف الجهاز من أوعية وأعضاء لمفاوية تقوم بأداء وظائفها المتعددة وأهمها المناعة بشكل مترابط ومنتظم ومنسق وعبر توزيع «استراتيجي» دقيق وعالي الكفاءة.

٤٣

تتواجد الأوعية اللمفاويةLymphatic Vessels في معظم أنسجة الجسم البشري وتفرغ سوائلها وخلاياها في الدم في منطقتين محددتين في الجسم هي :

الأولى : الوريد تحت الترقوي الأيمن Right Subclavian Vein حيث يصب «المبحري أو الأنبوب اللمفاوي» Lymphtic Duct الذي يتألف من تجمع الأوعية اللمفاوية الآتية في النصف الأيمن للصدر والرأس والرقبة مع الذراع الأيمن ؛

الثانية : الوريد تحت الترقوي الأيسرLeft Subclavian Vein حيث يصب «المبحري الصدري» Thoracic Duct الذي يتألف من تجمع الأوعية اللمفاوية الآتية من النصف الأيسر للصدر والمناطق المتبقية من الجسم.

أما الأعضاء اللمفاوية فهي تتألف من الأنسجة اللمفاوية التي تحتوي بدورها على الخلايا اللمفاويةLYMPHOCYTES وخلايا أخرى مجتمعة في شبكة دقيقة من الألياف الكولاجينية. وهي على التوالي :

١ ـ اللوزتان : TONSILS وتتألف من ثلاث مجموعات :

الأولى : الحنكيةPALATINE TONSILS ;

الثانية : البلعوميةPHARYNGEAL TONSILS ;

الثالثة : اللسانيةLINGUAL TONSILS.

٢ ـ العقد اللمفاوية أو الدرن LYMPH NODES : تتواجد في جسم أنحاء الجسم. ولكن تتجمع في ثلاث مناطق خاصة هي :

الأولى : العقد الأربية (في أصل الفخذ): INGUINAL NODES ;

٤٤

الثانية : العقد الإبطية (في أصل الكتف): AXILLARY NODES ;

الثالثة : العقد العنقية (في الرقبة): CERVICAL NODES.

٣ ـ الطحال SPLEEN : يقع في الجانب الأعلى للنصف الأيسر من البطن ويتألف من نوعين من الأنسجة :

ـ اللب الأبيض WHITE PULP : الذي يحيط بالشرايين الداخلة إلى الطحال ؛

ـ اللب الأحمرREDPULP : الذي يحيط بالأوردة ؛

٤ ـ الغدة الصعتريةTHYMUS : وهي غدة مثلثة الشكل وذات فلقين تقع في المنطقة العليا للصدر ويتناقص حجمها شيئا فشيئا منذ الولادة ، وحتى البلوغ.

ونلاحظ كيف أن هذه الأعضاء قد وزعت على أنحاء الجسم بشكل متناسق واستراتيجي لكي تقوم بعملها ووظائفها من دون أي خلل أو تأخير ، خاصة حينما يتعلق الأمر بالوظيفة الأساسية : المناعة.

المناعةIMMUNITY : هي المقدرة على مقاومة الإضرار الناتجة عن المواد والعناصر الخارجية التي تدخل الجسم كالميكروبات وإفرازتها.

وتنقسم المناعة إلى نوعين متكاملين ومتتابعين كل له خصائصه ونتائجه :

الأول : المقاومة العامة أو الرد الشامل NONSPECIFIC RESISTANCE.

الثاني : المناعة المتخصصة أو الرد الخاص : SPECIFIC IMMUNITY.

٤٥

المناعة العامة أو الشاملة : تتميز بإصدار رد شامل ودائم ومتشابه في كل مراحل تطوره ومتنوع العناصر. وكأنما يبتغي من وراء ذلك إحاطة العناصر الغريبة من كل جانب ومحاصرتها والقضاء عليها عبر عدة طرق وأساليب أكثر ما تشبه في بعضها الاستراتيجيات العسكرية للجيوش في مقاومة أعدائها. ومن هذه الأساليب نذكر :

أ ـ العناصر الميكانيكية أو الحواجز الهندسية : كالجلد والأغشية المخاطية والدموع واللعاب والبول. التي إما تستطيع منع الجراثيم من الدخول بشكل كامل عبر الحواجز الموضوعة أمامها ، وإما تقوم بطردها وجرفها بشكل دائم عبر عمليات غسل وتنظيف وطرد من الأماكن الحساسة ؛

ب ـ المواد أو العناصر الكيميائية : وهي عديدة وتتميز بقدرتها على القضاء مباشرة على الميكروبات ومن دون سابق إنذار ، ونذكر منها :

ـ LYSOZYME (الليزوزيم) : وتتجمع في الدموع واللعاب وفي الإفرازات الشمعية الجلدية.

ـ INTERFERON (الإنترفرون) : يقوم بقتل الفيروسات بطريقة عجيبة فيها من الإبداع ما يعجز عن وصفه الواصفون. إذ إن الفيروسات نفسها وبذاتها تقوم عند دخولها الجسم بالمساعدة والإسهام المباشر في إفراز مادة الإنترفرون التي تقوم بدورها بقتلها وإعدامها. ويحار العقل كيف ومن وضع هذه الخاصية العجيبة في جسم الإنسان؟ وما هي بالضبط رموزها وأسرارها؟ وكيف ومن وضع هذه الخاصية العجيبة أيضا في جسم هذه الفيروسات المتناهية الصغر لتقوم بالمساعدة على القضاء على أجسامها عند اقترابها من المخلوق البشري.

٤٦

(وَفِي خَلْقِكُمْ وَما يَبُثُّ مِنْ دابَّةٍ آياتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) (٤) [سورة الجاثية : ٤].

ج ـ الخلايا الآكلة أو القاتلة : PHAGOCYTIC CELLS :

وتتكون إما من خلايا كبيرةMACRO PHAGES تقوم بابتلاع البكتيريا وقتلها في داخلها بكل براعة ودقة. وإما من خلايا صغيرةNEUTROPHILS تتميز (وتختلف عن الأولى) بسرعتها الفائقة في مواجهة العناصر الضارة وسرعة تحركها نحو مصدر الغدد ومواقع هجومه. كما تتميز بعنصر كثير الغرابة ، إذ تقوم بقتل نفسها بعد قتل البكتيريا لتساهم في حصر الأذى ومحاصرة المنطقة المجتاحة ببقايا جثثها ومنع الأعداء من النفاذ إلى مناطق أخرى (غير المنطقة المصابة) بطريقة «استشهادية» استحقت عبرها اسم «الخلايا الشهيدة».

د ـ الرد الالتهابي INFLAMATORY RESPONSE :

يبدأ بظهور مواد كيميائية محددة تقوم بجذب وجلب الخلايا الآكلة إلى المنطقة المجتاحة من قبل الميكروبات. ولهذه المواد «الجالبة» أوCHEMOTACTIC تتنوع مهامها وطرق عملها وأساليبها في مواجهة الميكروبات حسب أنواعها المتعددة وهي :

١ ـ الهيستامين : HISTAMINE ؛

٢ ـ الكينين : KININS ؛

٣ ـ الكومبلمنت : COMPLEMENT ؛

٤ ـ اللويكوترينز : LEUCOTRIENES.

وأشهر هذه المواد على الإطلاق هي الكومبلمنت وسلسلته المكونة من

٤٧

البروتينيات التي تتواجد في الأحوال الطبيعية في الدم بشكل غير ناشط وفعال. ولكن حين تلتقي بالأجسام الغريبة تبدأ بالعمل وينشط كل بروتيين في السلسلة البروتيين التالي حتى يتم القضاء على الميكروبات بشكل مباشر أو غير مباشر. وتصاحب هذه العملية المعقدة عمليات مساندة تقوم بتسهيل المهمة الأساسية ، أي قتل الميكروبات وهي توسيع الأوعية الدموية وازدياد نفاذ الخلايا القاتلة عبر جدران الأوعية ، مما يسرع ويسهل وصول خلايا المناعة إلى المنطقة المصابة.

المناعة المتخصصة : SPECIFIC IMMUNITY.

يتميز هذا النوع من الرد بمقدرته على معرفة وتحليل ورصد وتذكر المواد المؤذية للجسم وكيانه الفيزيولوجي عبر عمليات معقدة ودقيقة جدا لم تكتشف جميع أسرارها إلى الآن ، خاصة فيما يتعلق بسلاح «الذاكرة» الذي يتميز به هذا الرد ويستعمله في مواجهة العناصر الضارة إذا أعادت محاولاتها في الاعتداء على الجسم في المرات القادمة أو التالية لأول اعتداء.

وتنقسم المناعة المتخصصة إلى نوعين متكاملين يتميز كل منهما بطرق وأساليب وأسرار خاصة :

١ ـ المناعة الخلطيةHUMORAC IMMUNITY :

تعمل بإشراف وإدارة «مضادات الأجسام» أوANTI ـ BODIES التي تفرزها الخلايا اللمفاوية التابعة للغدة (ب) B ـ LYMPHOID CELLS ، ويطلق عليها في معظم الأحيان اسم «بروتينيات الغلوبلين المناعية» أوIMMUNOGLOBULINS. تتوزع هذه البروتينيات المعقدة والدقيقة والتي

٤٨

تتكون من جذع ثابت وأطراف عليا متغيرة (على شكل الحرف اللاتيني ـ Y) على جميع أنحاء الجسم بنسب مختلفة وبأنواع متعددة ، اكتشف منها إلى الآن خمسة هي : ج. م. أ. ي. د. ؛ لكل منها مهمته الخاصة ودوره المتكامل مع أدوار ومهمات غيرها من الأنواع ومن الميزات المشهورة لبعض الأنواع ، والمكتشفة حتى الآن الخواص التي عرفت بها الأنواع التالية :

ـ النوع ج : يعبر المشيمة ويحقن الجنين لمواجهة العناصر الضارة.

ـ النوع أ : يظهر ويستطيع العمل في الإفرازات كاللعاب والدموع والأغشية المخاطية ، وغيرها من الخطوط الدفاعية الأولى. كما وينشط في حليب الأم وخاصة في الفترات الأولى للرضاعة ليساعد على تقوية وتنمية الجهاز المناعي للوليد الجديد.

ـ النوع م : يتميز بسرعة ظهوره على ساحة المعركة مع العناصر الضارة ، وبكونه في معظم الأحيان النوع الأول والسلاح المستعمل في بدايات المواجهة مع العوامل الغريبة.

أ ـ المناعة الخليويةCELLULAR IMMUNITY :

تعمل بإشراف وإدارة الخلايا اللمفاوية من فئة «ت» T ـ lYMPHOID CEllS التي تتميز بفعالية خاصة بمواجهة الميكروبات التي تنمو وتتكاثر داخل خلايا الجسم ، كالفيروس وبعض أنواع البكتيريا ، حيث تقوم هذه الخلايا اللمفاوية المتخصصة بإفراز مواد قاتلة تقوم بتسميم الميكروبات CYTO TOXIC وإعدامها مباشرة. وفي نفس الوقت ، تقوم خلايا متخصصة أخرى ـ T MEMORY CELLS بجمع المعلومات وتخزينها في ذاكرة دقيقة يعجز العقل عن استيعاب الكثير من أسرارها ودقائقها. خاصة عند كيفية رصدها

٤٩

وتحليلها وتخزينها لخصائص كل مادة ضارة ، لتقوم بعدها بتحضير برامج متخصصة فائقة الدقة ومتناهية الفعالية لمواجهة محتملة أخرى مع كل من هذه المواد المتنوعة والعناصر الضارة. كل حسب خصائصه ومميزاته ونقاط ضعفه وقوته. وكأنما كل شيء مهم صغيرا كان أم متناهيا في الصغر ، ومهما كان دقيقا ومتناهيا في الدقة ، مخلوق ومقدر بإبداع لا يفوقه إبداع وبإعجاز لا يفوقه شيء ولا يبلغه وصف :

(وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً) [سورة الفرقان : ٢].

(إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ) (٤٩) [سورة القمر : ٤٩].

٥٠

المحور الثاني :

إضاءات على الإعجاز العلمي في الأمر والتقدير

ـ الحمل يقي من السرطان ؛

ـ الرضاعة ... آية من آيات الخالق ؛

ـ القواعد الذهبية في الوقاية من الأمراض السرطانية.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ)

البقرة : ٢٣٣

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلى وَهْنٍ وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ)

لقمان : ١٤

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ)

الأعراف : ٣١

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيم

(إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ)

القمر : ٤٩

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيم

(وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً)

الفرقان : ٢

٥١
٥٢

الحمل ... يقي من السرطان

طالما تساءل الإنسان ، منذ القدم ، عن السر المكمون في عملية الحمل والحكمة الدفينة في أطوارها المتعددة ومراحلها المختلفة ، والمصحوبة بالتغيرات الجسدية والنفسية المتنوعة والصعوبات والإشكالات المحتملة والآثار الناتجة عنها.

لقد ظل الإنسان يبحث عن الأسباب الكامنة وراء الكيفية التي تجري بها هذه العملية والأشكال المتبعة في فسيولوجيتها المعقدة ، حيث تتفاعل وتتداخل معظم أجهزة الجسم ووظائفه المتعددة ، بأساليب بالغة الدقة والتناسق والانسجام وأنماط متناهية الإبداع والإعجاز ، لتحقق الهدف المنشود والأخير ، ألا وهو الولادة الطبيعية بالصورة السليمة وعلى الوجه الصحيح وفي الطريق الأمثل.

وانسجاما مع البحث الدءوب من قبل الأوساط العلمية والطبية لاكتشاف المعالم المتشابكة والآثار المتعددة للحمل ومراحله وأطواره المختلفة ، ظهرت في الآونة الأخيرة دراسات وأبحاث تناولت موضوع العلاقة بين الحمل والوقاية من سرطان المبيض وسرطان الثدي وسرطان بطانة الرحم ، والتي تمثل أهم أنواع السرطان الخاصة بالنساء وأعلاها نسبة فيها وأكثرها فتكا. وأظهرت النتائج معلومات دامغة وبراهين ساطعة أثارت دهشة الباحثين في هذا المجال ؛ حيث تبين وبشكل قاطع أن الحمل

٥٣

ولأسباب مختلفة وبطرق متنوعة ، يقي من أخبث أنواع السرطان عند النساء ، ويساهم بشكل فعال في تقليص خطر الإصابة بها.

الحمل والوقاية من السرطان :

أجمعت الدراسات على أن أهم عوامل الوقاية من أخطر وأكثر أنواع السرطان عند النساء في العالم ، وهي سرطان المبيض وسرطان الثدي وسرطان بطانة الرحم ، تكمن في بلوغ الاكتمال الفيسيولوجي الطبيعي المتمثل في التفاعلات الهرمونية للحمل والتعرض لآثارها الخصبة ونتائجها الإيجابية المتعددة الأوجه والمتشابكة ببعضها البعض. ولقد ثبت مؤخرا أن أحد أهم هذه التفاعلات الطبيعية وأكثرها جلاء هو ازدياد نسبة وكمية إفرازات هرمون «البروجسترون» الذي يساعد وبشكل فعال في تقليص الإصابة بسرطان المبيض والثدي وبطانة الرحم عبر أساليب وطرق مختلفة ، أهمها «نقض» و«إلغاء» مفاعيل ازدياد وتراكم إفرازات هرمون «الإستروجين» الذي يلقي بظله المريب خلف معظم أنواع السرطان عند النساء والعديد من الأمراض والإشكالات المتنوعة.

كما أظهرت الدراسات شروطا وظروفا وسنن محتملة لاكتمال هذه العملية وبلوغ هدفها المنشود ، أهمها على الإطلاق عدم تأخير الحمل إلى سن متأخرة وعدم التعرض خلال الحمل لمسببات السرطان عند النساء كالتدخين والكحول والإفراط الغذائي ، والتي يمكن أن تؤدي إلى نتيجة عكسية مأساوية تصيب المرأة الحامل وجنينها على السواء. وفي هذا الصدد برهنت الأبحاث والإحصائيات الأخيرة أن المرأة الحامل التي تتعرض لتأثيرات التدخين والكحول والإفراط الغذائي (بالأطعمة المشبعة بالدهون) تعرض جنينها بالأخص الأنثى للإصابة مستقبلا بسرطان الثدي بشكل شبه مؤكد ومحدد.

٥٤

الحمل والوقاية من سرطان المبيض :

يعتبر أكثر أنواع السرطان عند النساء خبثا وأقلها احتمالا للشفاء ، وبالتالي أصعبها علاجا. ويكمن ذلك في عدم ظهور أعراض المرض إلا بعد تمكن الورم من السيطرة على المنطقة المصابة و«اجتياح» المناطق المحيطة ، ومن ثم «الزحف» السريع إلى مناطق أبعد فأبعد ، حتى يستحيل التمكن من استئصاله والإحاطة به للقضاء عليه.

يصيب هذا النوع من السرطان النساء في أعمار متقدمة ، وعلى الأخص ، النساء اللواتي تجاوزن سن اليأس ولم يولد لهن ولد أو لم يرضعن في حياتهن لمدة سنة أو أكثر. ولهذا يتكاثر هذا النوع بالتحديد وبشكل جلي في المجتمعات الغريبة حيث تزداد بشكل مطرد نسب العانسات أو الممتنعات عن الحمل الطبيعي (والتي ستزداد أعدادهن خاصة بعد ظهور بدعة الأرحام المستأجرة وظاهرة أطفال الأنابيب وصرعة المستقبل الداهمة المعروفة بأطفال الاستنساخ) ، أو اللواتي يتأخر زواجهن أو حملهن إلى أعمار متقدمة.

أما المذهب في هذه العلاقة المباشرة بين الحمل والوقاية من سرطان المبيض فهو وجود ترابط تصاعدي إضافي حيث أن نسبة حدوث هذا الورم الخبيث تتدنى وتتقلص مع كل حمل إضافي يحدث بعد الحمل الأول.

فالنساء اللواتي يلدن ولدا واحدا تتناقص نسبة الإصابة بينهن ٤٥ خ ثم تتدنى النسبة مع كل ولد إضافي بمقدار ١٥ خ.

الحمل والوقاية من سرطان الثدي .... علاقة مباشرة ، ولكن بشروط! :

يعتبر سرطان الثدي ، وعلى نطاق واسع ، أكثر الأورام الخبيثة نسبة وتكاثرا وفتكا عند النساء بشكل عام. فهو صاحب المركز الأول في سلم

٥٥

الأورام الخبيثة في أهم مناطق العالم وأكثرها تقدما ، مثل الولايات المتحدة الأمريكية وشمال أوروبا.

تتميز العلاقة بين الحمل وسرطان الثدي بوجود مستويات وشروط عدة أهمها :

١ ـ تدني الإصابة بالورم الخبيث ، إذا كان الحمل في سن غير متأخرة (ما قبل سن الثلاثين) ؛

٢ ـ تتناقص نسبة الإصابة مع كل حمل جديد ؛

٣ ـ هبوط نسبة الإصابة إلى أدنى المستويات في مجموعات النساء اللواتي يحملن قبل سن الثلاثين وينجبن عدة أولاد ؛

٤ ـ الحمل المبكر يكسب نسيج الثديين مناعة قوية ضد تشكل الأورام ويمنحه «نضجا» خلويا دائما يحفظه على مر السنين من الإصابة بالسرطان ، بشرط أن لا يكون هنالك عوامل وراثية مصاحبة أو تغيرات جينية طارئة ؛

٥ ـ المرأة الحامل التي تسيء إلى حملها بتناول الكحول أو بالتدخين أو بالإفراط الغذائي (ذي الأطعمة المشبعة بالدهون) تزيد من احتمال إصابة جنينها الأنثى بسرطان الثدي في المستقبل ؛

٦ ـ يتميز الحمل الطبيعي بظهور إفراز متزايد لهرمون «الأسترول» الذي يتكون في الجنين وينتقل إلى الحامل ليسبب فيما يسبب وقاية مذهلة من نشوء تغيرات سرطانية في خلايا نسيجها الثديي ؛

٧ ـ تحمي الرضاعة الطبيعية الثدي من خطر السرطان وخاصة إذا كانت المدة أكثر من ستة أشهر وحتى لو كان هناك عامل وراثي قوي في العائلة.

٥٦

الحمل والوقاية من سرطان بطانة الرحم :

يطلق في الغرب على هذا النوع من السرطان النسائي لقب «سرطان الراهبات» لتكاثره في مجموعة النسوة اللواتي يمتنعن عن الزواج لسبب أو لآخر ، بالمقارنة مع سرطان عنق الرحم الذي يطلق عليه لقب «سرطان بائعات الهوى» لإصابته النساء «المتعددات الشركاء» ، واللواتي يتعرضن للالتهابات الفيروسية المتناقلة جنسيا.

يصيب هذا النوع من السرطان النساء المتقدمات في السن واللواتي لم يتزوجن أو لم يلدن ، أو تعرضن لعوامل إضافية أخرى كالسمنة المفرطة أو داء السكري أو تناول هرمون الإستروجين (من دون الهرمون «المعاكس» أو المضاد : البروجسترون).

الحمل ... معجزة الخلق ومنحة الخالق :

أجرى الله تعالى الأمور بأسبابها وأخضع الأشياء لقوانين وسنن وشرائع ومبادئ ، وجعل حكمته ولطفه ورحمته فيها لتظهر في مكنوناتها ونتائجها وآثارها ؛ فيهتدي المهتدون ويعتبر أولو الألباب والعالمون. وكان الحمل ، كغيره من الظواهر الخلقية الفطرية الأصيلة ، أحد مصاديق هذه الحكمة الربانية المتناهية اللطف والإعجاز وأحد براهين الرحمة الإلهية المستديمة ، والتي تنطق بمكنوناتها وأسرارها كلما تقدم علم ما أو ظهر أثر ما أو استجد حدث ما. ولطالما تساءل الإنسان عن سر الحمل وماهية أسبابه والحكمة من زمنه المحدد وكيفيته المحددة ونمطيته المحددة ، ولطالما فكر وتفكر في إيجاد بدائل محتملة وأساليب مغايرة تسهل له التوالد والتكاثر على ذوقه وكيف ما يحب وعند ما يحب بعيدا عما يعتقده هو من تعب وألم ومشقة ، متغافلا عما أودعه الخالق في كل شيء خلقه من منح وهبات وهدايا تتفتح

٥٧

نعما دائمة لتخلص الإنسان من أخطار ظاهرة وباطنة ومصاعب معروفة وغير معروفة ، حسب تقدم الإدراك الإنساني وتطور فهمه لأسرار الأشياء والظواهر على مر العصور والأزمنة.

٥٨

الرضاعة .. آية من آيات الخالق وهديته الكبرى

إلى الأم ورضيعها

تعتبر خصائص الرضاعة الطبيعية المتنوعة وميزات حليب الأم العديدة واحدة من أهم معجزات الخلق على الإطلاق ، وأعظمها تجليا عبر العصور ، فبالرغم من التقدم المتسارع في العلوم الصناعية والطبية ، فإنه لم تظهر أية بدائل مماثلة أو حتى متقاربة في مستوى الجودة والنوعية ، وفي فرادة النتائج والفعالية.

كثرت الدراسات النفسية والطبية التي تناولت آثار الرضاعة الطبيعية على صحة المرأة المرضعة ، النفسية منها والجسدية ، على عدة صعد وبعدة أشكال.

أما الدراسات النفسية فقد تناولت حالات الاسترخاء العصبي والشعور بالنشوة والهناء والسعادة والراحة الجسدية العارمة التي تعيشها المرضعة خلال عملية الرضاعة. كما تناولت حالات التقارب المتبادل والحنان الفياض والترابط العضوي ـ النفسي بين الأم ووليدها الملتصق بكيانها النفسي والجسدي بكل مشاعره وجوارحه.

من جهة أخرى ، تناولت الدراسات الطبية بشكل خاص ، دور الرضاعة

٥٩

الطبيعية في التغيرات والتحولات الجسدية التي تعيشها المرضعة خلال فترة الرضاعة وبعدها ، وخاصة فيما يتعلق بإفراز هرمون البرولاكتين الذي يعمل كعامل منع طبيعي عبر نزول البويضة وتأخير العادة الشهرية ، ما يؤدي إلى إعطاء الأم راحة واستقرارا جسديا وتفرغا كاملا لمهمتها الموكولة بها. وقد تناولت بعض الأبحاث أيضا دور الرضاعة الطبيعية في إعادة الرحم وملحقاته إلى حالته الأولى قبل الحمل ، ودورها في المساهمة بشكل فعال في سحب الدهون التي يختزنها الجسم خلال فترة الحمل ، واستعادة المرأة لرشاقتها ونشاطها الطبيعي.

أما أهم الدراسات الطبية على الإطلاق فهي التي تعرضت إلى موضوع العلاقة بين الرضاعة الطبيعية وتدني الإصابة بسرطان الثدي ، حيث تبين أن كل سنة إرضاع تمضيها الأم مع رضيعها تقلل من نسبة إصابتها بسرطان الثدي بنحو ٣ ، ٤ خ ، هذا بالإضافة إلى زيادة ٧ خ ، وهي النسبة المتمثلة بمعدل تراجع التعرض لسرطان الثدي عند كل أم ولكل طفل تنجبه.

كما ثبت بالمقابل أن نسبة سرطان الثدي تزداد في الحالات التي تنجب فيها المرأة عددا أقل من الأطفال ، وتقوم بإرضاعهم لفترات قصيرة.

وهكذا يتبين أن الأمهات يمكن أن يتجنبن الكثير من المشاكل الصحية وخاصة سرطان الثدي ، إذا قمن بإطالة مدة الإرضاع ، على عكس ما هو شائع حاليا من تقصير وتحديد لهذه المدة.

بسم الله الرحمن الرحيم : (وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ) [البقرة : ٢٣٣].

(وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلى وَهْنٍ وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ) [لقمان : ١٤].

٦٠