الإعجاز العلمي في القرآن الكريم

الدكتور حسن حطيط

الإعجاز العلمي في القرآن الكريم

المؤلف:

الدكتور حسن حطيط


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار ومكتبة الهلال للطباعة والنشر
الطبعة: ١
ISBN: 9953-75-031-9
الصفحات: ١٤٤

الْحُبُكِ) (٧) [الذاريات : ٧]. (وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى) [الرعد : ٢]. (وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً) (١٦) [نوح : ١٦].

٦ ـ مبادئ تكوّن الأرض وبيئتها وظواهرها الطبيعية كالرياح والجبال والبحار والمياه والتوازن البيئي بين المخلوقات الحية وغير الحية :

(وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها (٣٠) أَخْرَجَ مِنْها ماءَها وَمَرْعاها) (٣١) [النازعات :

٣٠ ـ ٣١]. (وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهاراً وَسُبُلاً) [النحل : ١٥]. (وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ) [الحجر : ١٩]. (وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً) [الفرقان : ٢]. (وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ) [الأنعام : ٣٨]. (وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ) [المؤمنون : ١٨].

العلم والإيمان .. إلى أين؟

شهدت الفترة الأخيرة من عصرنا الحالي تطورا سريعا في شتى العلوم والمعارف ، ونموا هائلا في الصناعات العملية والتكنولوجية ، وظهرت تقنيات علمية جديدة ومتطورة لم تكن تخطر على بال العقل البشري ، وأهم وأبرز ما حصل ، التطور العظيم في المجالات التالية :

ـ علوم الاتصالات ؛

ـ علوم الفضاء ؛

ـ علوم الوراثة والجينات وتطبيقاتها ؛

ـ علوم التصنيع العسكري ، أو ما يسمّى بالحرب الإلكترونية تحديدا.

وبرزت في الوقت نفسه مشاكل عديدة جراء التلوث البيئي بسبب النمو

٢١

الصناعي الهائل ، جراء الخلل المخيف في التوازن المناخي بسبب الإشعاعات الصناعية المتصاعدة والأبخرة السامة. كما برزت أسئلة كبيرة وإشكالات صعبة من جراء التطبيقات القائمة والمتوقعة والمحتملة مستقبلا لبعض التقنيات الحديثة كتقنية الاستنساخ الحيواني والبشري أو كتقنيات الاتصالات المفتوحة والخارقة لكل الحدود والحواجز أو كالتقنيات الجديدة لما يسمّى بالحرب الإلكترونية أو حرب النجوم.

وفي المدة الأخيرة ، بدأت الحكومات الغربية والشرقية تبدي قلقها من حصول بعض المؤسسات غير الحكومية أو بعض الدول الصغيرة غير المراقبة على تلك التقنيات واستعمالها في حقول ، وعلى أسس غير أخلاقية ، أو على الأقل لتحقيق مصالحها الخاصة. ثم أخذت تعلو أصوات المؤسسات الدينية المطالبة بعدم تعريض الجنس البشري ، وخاصة الأجنة للهتك والعبث لتحقيق مآرب شركات الأبحاث العلمية والتكنولوجية.

وهكذا أخذت تطفو على السطح أسئلة ما زالت تبحث عن إجابات لها للحاضر وللمستقبل منها على سبيل المثال لا الحصر :

ـ من سيتمكن من مراقبة معاهد الأبحاث. ومن سيقدر على منعها من المغامرة والتهور في تطبيق تقنياتها؟

ـ ما هي المعايير الأخلاقية في تطور العلم وما هي حدود ذلك وضوابطه؟

ـ من هو الذي سيخوّل أية سلطة كانت القدرة على المراقبة والمحاسبة لضبط الانحرافات في الأبحاث والتطبيقات؟

٢٢

ـ ما هو المستقبل المحتمل والمتوقع لهكذا تطور ، وإلى أين يمضي ركب الأبحاث والتجارب؟

ـ هل لهذه الأبحاث نهاية ما أو مرحلة نهائية ، وما الذي يضمن عدم حصول الكارثة قبل استكمالها؟

على كل حال وفي نهاية النفق المخيف نجد أن التاريخ الإنساني بمراحله المتعددة كشف لنا أنه لا يمكن لحضارة ما مهما كانت عظيمة وقوية أن تستمر وتدوم معتمدة على قواها الحضارية والثقافية والعلمية فقط ، كما عرفنا أنه لا يمكن لمعرفة ما أن تتكشف وتبلغ مداها وأهدافها إلا إذا اقترنت بالخير والضمير الحقيقي والسعي إلى الكمال والتكامل. فلا يمكن لحضارة أن تعيش فقط على فتات معارفها وتطور علومها كما لا يمكن لها أن تنمو فقط على أجوائها الروحانية الداخلية من دون سعي حثيث للمعرفة والعلم وسبر أغوار الحقيقة.

هكذا نرى أن العلم والحقيقة المعرفية لن يحققا أهدافهما إلا إذا اقترنا بالحق الصادر عن علة العلل ومسبّب الأسباب ، كما أنه لا يمكن أن يكون للعلم والتقدم العلمي ضابط ومراقب ومحاسب غير الإيمان الحقيقي المبني على أسس القيم والأخلاق وحب الخير ومحبة الآخرين ، والضمير الحي والسعي إلى الكمال المطلق. ولا يمكن للمعايير البشرية الوضعية أن تتصدى لهكذا مسئولية لما ينقصها من رادع ملزم وضمير كامل وأمر بالخير والمعروف والجميل ، ونهي عن المنكر والشر والقبيح لما يشوبها من إخفاء لحقيقة الكون وسر خلقه ومعرفة خالقه. ولهذا كله فالأمور جلية جلاء الشمس ؛ والخلاصة أنه إذا ظلّت المادية غير الإيمانية وعقلية العلم من أجل العلم والمغامرات العلمية المتسمة بالفوضى متحكمة بالأمور البشرية

٢٣

وبمستقبل عالمها المهدد ، فإن النتيجة النهائية آتية لا محالة ، وهي بلا شك الهلاك والفناء والدمار والخراب والقضاء على الجنس البشري بعد تشويهه والعبث به.

ومن هنا يجب على العلماء المتنورين وعلى المؤمنين العالمين في مجالات العلم وتقنياته الحديثة ، وعلى كل مخلص ومؤمن بتخليص الإنسانية من أمراضها الفتاكة ، أن يبرزوا آراءهم ويطرحوا أفكارهم وينشروا معتقداتهم الحضارية ، ويحثوا المجتمعات البشرية الواعية على الأخذ بعبر التاريخ ودروسه واستشعار المستقبل والتنبيه لأهواله المحتملة إذا لم يأخذ الإنسان بوصفة الخلاص من الجمود والعدم والفناء والدماء الحتمي : توحيد الإيمان والعلم في خط نوراني واع للتاريخ وللمستقبل مرتبط بالأصل والفروع وبالميزان وبالقسط وبالحسبان وبالتقدير الذي أسس للخلق وقدره تقديرا.

٢٤

المحور الأوّل :

إضاءات على الإعجاز العلمي

في الخلق والتقويم

ـ الجينوم البشري ... أو خريطة الجينات الوراثية للإنسان ؛

ـ عالم التكوين البشري ؛

ـ الجهاز اللمفاوي .. خطوط دفاع استراتيجية.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ (١٢) ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ (١٣) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ) (١٤)

[المؤمنون : ١٢ و ١٣ و ١٤]

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيم

(لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ)

[التين : ٤]

٢٥
٢٦

«الجينوم البشري ... أو خريطة

الجينات الوراثية للإنسان»

مقدمة :

ظهرت في الثمانينات فكرة إعداد خريطة للجينات الوراثية للإنسان وذلك لمعرفة صفات الإنسان المرضية وتمكينه من الوقاية منها. بدأ تنفيذ المشروع في أوائل التسعينات وحددت له ١٥ سنة للانتهاء من جمعه واستكماله. ويهدف إلى اكتشاف ٨٠ إلى ١٠٠ ألف جين يعتقد أنها كل جينات الإنسان أو بصماته الوراثية. كما يهدف المشروع إلى اكتشاف كل الحلقات المتتابعة لمجموعات القواعد النيتروجينية (حوالي ال ٣ بلايين زوج) التي تشكل شريطي الحمض النووي المعروف بال «د. ن. أ» والذي يحدد بدوره الصفات الوراثية لكل كائن حي.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ :

(وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ (١٢) ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ (١٣) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ) (١٤) [المؤمنون : الآيات ١٢ ، ١٣ ، ١٤).

أجمع علماء اللغة والتفسير على أن كلمة «سلالة» هي من سللت الشيء من الشيء أي استخرجته منه وهو خلاصته. وهذه الكلمة التي تعني استخراج الشيء من الشيء أو الخلاصة المستلة من الشيء والتي أتى ذكرها قبل ذكر كلمة «النطفة» ، تدل فيما تدل على وجود مرحلة ما في الخلق تحدث قبل

٢٧

مرحلة «جعل النطفة في القرار المكين» وبعد فعل «الخلق» مباشرة أو أثنائه (ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين) ويحصل فيها فعل الاستخراج (أو السل) لتكون فيها خلاصة الشيء (أو السلالة بعد سلها واستلاها).

شهد القرن الماضي تطورا بارزا ومنقطع النظير في العلوم الطبيعة ، وحصلت إنجازات وسجلت اختراعات عديدة في ميادين مختلفة ، كان أهمها على الإطلاق الاكتشافات المذهلة في علوم الوارثة وبيولوجيا الخلايا والكيمياء الجزئية. ولعل الدراسات والأبحاث التي تناولت مواضيع الجينات الوراثية والجينوم البشري والحمض النووي المعروف بال «د. ن. أ» هي أكثر الاكتشافات الحديثة تماسا وتقاربا مع مفهوم الخلق ومراحله المذكورة أعلاه ، في الآيات القرآنية الإعجازية من سورة المؤمنون ، وخاصة الآية رقم ١٢ التي تصف مرحلة «السلالة».

لمحاولة تقصي هذه الاكتشافات ولمعرفة خصائصها وآثارها ونتائجها ولاستشراف آفاقها المستقبلية ، علينا أن نفهم أولا الحلقات الأساسية لهذه الشبكة المتتابعة من العوامل المعقدة والمرتبطة ببعضها البعض ، والتي أسهم اكتشافها التدريجي في بناء هذه المنظومة المذهلة من المشاريع العلمية والإنجازات المكتملة والمتوقعة. أهم هذه الحلقات الأساسية وأعظمها دورا في تأليف الأسس العلمية للاكتشافات الجديدة خاصة في ميادين العلوم الوراثية هي التالية :

ـ ال «د. ن. أ.» أو الحمض النووي الديوكسي الريبوزي : يتألف من سلسلة حلزونية من شريطين ملتفين حول بعضهما البعض على شكل سلم ملفوف له درجات. تتكون جوانبه من جزئيات السكر والفوسفات وتتألف درجاته من مجموعات من القواعد النيتروجينية المتتابعة والمختلفة ، والموزعة على شكل وحدات من أربع قواعد هي : الثيمين ، الأدينين ، الجوانين ، السيتوزين. الغريب في الأمر هو أنه بينما تأكد أن التركيبة هي

٢٨

واحدة في الإنسان والكائنات الراقية ، تأكد أيضا أن تتابع واختلاف هذه القواعد هو الذي يحدد التعليمات الوراثية والصفات الوراثية لكل كائن حي. أما المذهل في الموضوع فهو تقارب وتشابه كلمة «سلسلة» مع التعبير القرآني «سلالة» والتي هي أشد إيحاء بالخلق والنسب والوراثة.

ـ الجينات أو حاملات الصفات الوراثية : الجين هو عبارة عن تتابع معين للقواعد النيتروجينية في السلسلة الحلزونية لل «د. ن. أ.» ، ويلعب دورا أساسيا في إرسال التعليمات لتخليق البروتينات التي تكون الأنسجة والأنزيمات العاملة على تسهيل وظائف الجسم وتفاعلاته. يعتقد حاليا أن عدد الجينات في الإنسان يتراوح ما بين ٠٠٠ ، ٨٠ إلى ٠٠٠ ، ١٠٠ ، تشكل بمجموعها الجينوم البشري أو خريطة العوامل الوراثية.

ـ البروتينيات : تتكون الكائنات الحية من جزيئات كبيرة ومعقدة ومكونة من سلاسل طويلة تسمى البروتينيات. تتكون هذه السلاسل من وحدات فرعية أولية تسمى الأحماض الأمينية ولها ٢٠ نوعا مختلفا.

ـ ال «ر. ن. أ.» أو الحمض النووي الريبوزي الرسول : هو عبارة عن شريط مفرد يتكون في النواة كشريط مكمل للحمض النووي الديوكسي الريبوزي ويعمل كقالب لاستنساخ البروتينيات. وعلى هذا الأساس ، تمكن العلماء منذ سنوات ، من فصل نسخة مكملة من الحمض النووي الديوكسي الريبوزي لاستخدامها في تحديد الجين المقابل في خريطة الكروموسومات.

ـ الكروموسومات : هي عبارة عن وحدات ميكروسكوبية موجودة في نواة الخلية تتكون من البروتينيات وتتراص الجينات طوليا عليها. تحتوي خلية الإنسان على مجموعتين من الكروموسومات تتكون كل مجموعة من ٢٣ كروموسوما يمكن التعرف عليها عن طريق اختلاف أحجامها. وطبقا لهذه الظاهرة ، تشخص الأمراض الوراثية عبر ضبط وتحديد التغيرات الطفيفة في الكروموسومات والجينات.

٢٩

إذا وبعد استعراض حلقات هذه المنظومة الوراثية الدقيقة والمتراصة يمكن فهم أبعاد اكتشاف كل جينات الإنسان وجعلها محددة ومحصاة ومدروسة بشكل كامل ، ومعرضة لأية أبحاث ممكنة في المستقبل. فالهدف الأهم من هذا المشروع هو فهم بيولوجية الإنسان واكتشاف الوظائف المختلفة للجينات والتعرف على الجينات المختصة بالأمراض المختلفة ، كالسرطان وداء السكري وأمراض الأوعية الدموية والأمراض العصبية والعقلية. كما يهدف المشروع لمعرفة عوامل وأسباب التطور البيولوجي والعمليات الكيميائية والوظائف الفسيولوجية المختلفة.

وهكذا وعند استكمال المشروع سيكون للإنسان القدرة على معرفة المرض ومنعه قبل حصوله وعلاج الخلل الوراثي قبل ظهور أعراضه. ولكن الأمر لن يكون النهاية فالأمراض والعوامل الوراثية تتحكم بها العوامل البيئية والجين المسئول عن أي خلل أو مرض يبدأ نشاطه مع تعرض الإنسان لمثيرات معينة عادة ما تكون بيئية كالتعرض للإشعاعات والمبيدات والتدخين والتلوث ، وقد يحدث التفاعل في مرحلة عمرية مبكرة أو متأخرة.

خلق الله الإنسان وعلمه ما لم يعلم وكشف له الحجب شيئا فشيئا ، حتى صار يكتشف أسرار الخلق ويسعى في فهمها والتبحر بعوالمها وآفاقها. ولم يقف الإنسان المكتشف لأسرار الأشياء موقف المتفرج المشاهد المتأمل ؛ بل راح يسعى في تفكيك الرموز والحلقات وتتبع المراحل والدرجات المتسلسلة في تفاعلات الأشياء ومكنوناتها ، وصار يخطط لتفادي الحوادث والاختلالات الطارئة فيرصدها ويحددها ويبحث عن علاجها. وما الجينوم البشري والدراسات المتعاقبة خلفه وقبله والمشاريع المخططة والمرصودة حوله وبعده إلا خطوة متقدمة على هذا الطريق الطويل المليء بالأسرار والأسئلة.

٣٠

عالم التكوين البشري

(وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ (١٢) ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ (١٣) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ) (١٤) [المؤمنون : ١٢ و ١٣ و ١٤].

يمر التكوين الجنيني للإنسان عبر ثلاث مراحل أوّلية أساس هي التالية :

١ ـ مرحلة النطفة أو ما يقابلها علميا : مرحلة التلقيح Fertilization.

٢ ـ مرحلة العلقة أو ما يقابلها علميا : مرحلة الانغراز lmplantation.

٣ ـ مرحلة المضغة أو ما يقابلها علميا : مرحلة التشيّم Placentation.

١ ـ مرحلة النطفة : Fertilization

(وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (٤٥) مِنْ نُطْفَةٍ إِذا تُمْنى) (٤٦) [النجم : ٤٥ ـ ٤٦].

يساهم في تكوين النطفة في الجنس البشري ، كلّ من الحيوان المنوي من جهة الذكر ، والبويضة من جهة الأنثى. لكن الذكورة والأنوثة يحددها الحيوان المنوي الذي إمّا أن يكون حاملا لعلامة الذكورة (y) أو يكون حاملا لعلامة الأنوثة (x) ، أما البويضة فتحمل دائما علامة الأنوثة (x).

يتكوّن الحيوان المنوي في الخصية ، فيما تتكوّن البويضة في المبيض.

٣١

وكلا هذين المصدرين (الخصية والمبيض) يتكوّنان في مراحلهما الجنينيّة في المنطقة المسماة عند الجنين بالتناسلية ، وتقع ما بين ما بين العمود الفقري والأضلاع. وفيما تنزل الخصية تدريجيا لتصل إلى مستقرها في «كيس الصفن». ينزل المبيض وبشكل تدريجي أيضا ليستقر في حوض المرأة ويلتصق برحمها. ومن هنا يتمثل لذوي الألباب الإعجاز القرآني العظيم الوارد في سورة الطارق ، الآيات من ٥ إلى ٧ (فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ (٥) خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ) (٦) (ماء المني أو ماء البويضة) (يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرائِبِ) (العمود الفقري) (وَالتَّرائِبِ) (الأضلاع). يبلغ قطر البويضة ١٢٠ ـ ١٥٠ ميكرون ، ويبلغ عددها في مبيض الطفلة المولودة حديثا ، حوالي ال ٣٠٠ مليون بويضة ، يتناقص عددها بعد ذلك بشكل تنازلي حادّ ، ليصل إلى ما بين ٢٠٠ ـ ٣٠٠ بويضة عند البلوغ ، ولتخرج واحدة منها فقط ، كل شهر وحتى سنّ اليأس.

أما الحيوان المنوي فيبلغ طوله حوالي ٦٥ ميكرون وقطره حوالي ال ٥ ميكرون ، ويتألف من خمسة أجزاء رئيسة : الرأس ، العنق ، المنطقة الوسطى ، المنطقة الأساس ، المنطقة النهائية أو الذيل. يبلغ عدد الحيوانات المنوية في كل سنتمتر مكعب واحد من السائل المنوي البشري ، حوالي ال ١٠٠ مليون ، لكن ما يصل إلى البويضة لا يتعدّى ال ٥٠٠ حيوان منوي ، وذلك بعد أن تموت الملايين منها في الطريق إليها ، ثم تتحلل هذه الحيوانات المنوية ال ٥٠٠ حول البويضة لتذيب جدارها السميك وتسمح لواحد منها فقط ، بالدخول والاتحاد معها ، لتكوين النطفة ، الأمشاج المذكورة في الآية رقم ٢ من سورة الإنسان : (إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً) (٢) [الإنسان : ٢].

٣٢

٢ ـ مرحلة العلقة أو مرحلة الانغراز : lmplantation

تعلق النطفة الملقحة في جدار الرحم ، بعد أن تمرّ بحقبتين من الانقسام النواتي : الحقبة التوتية (Morule) والحقبة الجرثومية (Blastocyst). وتبدأ العملية الهرمونية التي يساهم فيها المبيض بشكل فعّال ، بإفرازه هرمون الحمل (البروجسترون) ، الذي ينمي الرحم ويزيد من تغذيته بالمواد المنشطة وبالدماء ، كما يدفع كل أجهزة المرأة الأمّ ، إلى الاستعداد للحمل ومتطلباته. وهكذا تأخذ العلقة بالانغراز شيئا فشيئا بجدار الرحم السميك وتبدأ جذورها بالامتداد تحتها لتثبت أكثر ولتنطلق عملية النمو المعقدة ، بشكل ثابت ومضمون.

٣ ـ مرحلة المضغة أو التشيّم : Placentation

تبلغ العلقة «مقدار ما يمضغ عادة» ، وتبدأ مرحلة التشيّم ، حيث تنطلق الطبقة الخارجية «للمضغة» بامتداداتها وجذورها ، بقضم خلايا الرحم والتشعّب والامتداد عبر فراغاتها ، للاتصال بالأوعية الدموية الرحمية واستحصال الغذاء منها. وتبدأ في داخل المضغة عملية تكوين الأغشية والأنسجة الجنينية وتقسيمها وتوزيعها عبر عملية شديدة التعقيد والتشابك ، ما زالت بعض تفاصيلها مجهولة الأسباب إلى الآن. وأهمّ الأنسجة العاملة على الإطلاق في هذه المرحلة هو النسيج الترفوبلاستي (Trophoblast) الذي يؤمن للجنين غذاءه من أنسجة الأمّ الرحمية وأوعيتها الدموية ، ويسهّل عملية الامتداد و«الزحف» النسيجيّ للمضغة نحو الطبقات الرحمية المتعددة ، كما يفرز الهرمونات والبروتينيات الأساسية لتسهيل هاتين العمليتين. وعبر هذا النسيج تبدأ المشيمة (Placenta) بالتبرعم والنمو والامتداد لتكون صلة الوصل الأساس ما بين الأمّ وجنينها ، والمفصل الهام في استمرارية حياة الجنين وتكامله.

٣٣

بعد ستة أيام من مرحلة التلقيح (خلق النطفة) تبدأ مرحلة الانغراز في جدار الرحم (خلق العلقة) ، وفي اليوم الخامس عشر بعد التلقيح ، تبدأ مرحلة التشيّم (خلق المضغة) ، وفي اليوم السابع عشر بالذات تنعقد «الجذور» الأولى لعظام العمود الفقري (فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً) ثم تظهر حولها وبشكل تسلسلي وتدريجي «البراعم» الأولى للأعضاء والأجهزة العضوية (فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً).

بعد اليوم السابع عشر بالتحديد ـ أي بعد ظهور خلايا عظام العمود الفقري ـ وبعد بلوغ المضغة «المخلوقة عظاما» حجما يساوي ٥ ، ١ مليمتر ، تبدأ بالظهور سلسلة من التحولات التدريجيّة والمتتابعة يوما بعد يوم ، حتى بلوغ الجنين حجما يساوي ٣٠ مليمترا ، بعد انفصال أصابع رجليه ويديه.

ونستطيع عرض هذا المسلسل «الخلقي» المنظّم والحكيم ، عبر ما استطاعت كشفه واكتشافه علومنا الحديثة إلى الآن ، على الشكل التالي :

ـ اليوم الثامن عشر : ظهور الجذور الأولى للأجهزة العصبيّة والسمعيّة ؛ ـ

اليوم الواحد والعشرون : يتضاعف حجم «المضغة» إلى ٥ ، ٢ مليمتر ؛

ـ اليوم الرابع والعشرون : ظهور الأوعية الدموية والأعصاب الأولى ؛

ـ اليوم السادس والعشرون : ظهور الأطراف العليا ؛

ـ اليوم الثامن والعشرون : ظهور الرئتين والبنكرياس والأطراف السفلى والجهاز الأوّلي لحاسة البصر ؛ ـ

اليوم الثلاثون : يبلغ حجم الجنين ٥ ، ٤ مليمتر ، ويظهر جهاز حاسّة الشم ؛

٣٤

ـ اليوم الثاني والثلاثون : ظهور الدماغ ؛ ـ

اليوم الثاني والأربعون : ظهور اليدين ؛ ـ

اليوم الخامس والأربعون : يبلغ حجم الجنين ١٧ مليمترا ؛

ـ اليوم التاسع والأربعون : ظهور «التجاويف» أو «الغرف» الأربع في القلب ؛

ـ اليوم السادس والخمسون : انفصال الأصابع في اليدين والرجلين ؛ ـ

اليوم الستون : يبلغ حجم الجنين ٣٠ مليمترا.

في الشهر الثاني تكتمل فصول هذا المسلسل التكويني وتجتمع كل العناصر العضوية والأجهزة ، وتبدأ بإطلاق وتسيير وظائفها شيئا فشيئا ، عبر الأشهر السبعة المتبقية. وهكذا نرى أنّ النموّ الخلقي للجنين هو مجموعة نتائج النموّ التكويني لكل جهاز وعضو ووظيفة ، عبر كل مرحلة من المراحل الأولى التي ذكرناها ، وحتى اكتمال فصول هذا المسلسل المحكم التفاصيل ، حينما تكتمل العملية الخلقية الجنينيّة ، وتنتهي بابتداء مرحلة «الخلق الآخر» السويّ المتكامل الكامل : (ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ).

وتحار العقول والقلوب وتخشع عند ما يكتشف المرء أنّ التسلسل التكويني التدريجيّ الذي ورد في هذه الآية الإعجازية الكريمة ، هو عينه الموجود حاليا في الجداول الزمنية للمراحل الجنينيّة الواردة في معظم مراحل العلم الجنينيّ الحديث :

جعل النطفة / التلقيح ، خلق العلقة / الانغراز ، خلق المضغة / التشيّم ، خلق العظام / ظهور الفقرات الأولى ، كسو العظم باللحم / ظهور العضلات

٣٥

والأعصاب والأعضاء والأجهزة ، إنشاء الخلق الآخر / اكتمال العملية الخلقية وتكاملها.

وما أروع وأعظم وأسمى الآيات الإعجازية التي وردت أيضا ، وفي نفس السياق ، في سورة السجدة : (الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ (٧) ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ (٨) ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ) (٩) صدق الله العلي العظيم ، [الآيات : ٧ ـ ٨ ـ ٩].

وإذا تأملنا مليّا بالآية رقم ٩ ، لوجدنا فيها انطباقا وانسجاما وتناغما عجيبا مع الجدول الزمني الوارد سابقا ، إذ نلحظ أن السمع سبق الأبصار في الآية ، والأبصار سبقت الأفئدة فيها ، وهكذا أيضا نلحظ أن الجهاز الأولي للسمع تبدأ انطلاقته في اليوم الثامن عشر ، بينما تبدأ انطلاقة الجهاز البصري في اليوم الثامن والعشرين ، أي قبل اكتمال نمو القلب والدماغ (إذا كانت الأفئدة تحتمل المعنيين).

وما أجمل الكلمات التي أرسلها أمير المؤمنين علي عليه‌السلام في إحدى خطبه ، حينما قال مستوحيا الآيات الإعجازية السابقة :

«أيها المخلوق السويّ المنشأ ، المرعيّ في ظلمات الأرحام ، ومضاعفات الأستار ، بدئت من سلالة من طين ، ووضعت في قرار مكين إلى قدر معلوم ، تمور في بطن أمّك جنينا لا تحير دعاء ، ولا تسمع نداء ، ثم أخرجك من مقرك إلى دار لم تشهدها ، ولم تعرف سبل منافعها ، فمن هداك لاجترار الغذاء من ثدي أمّك ، وعرّفك عند الحاجة مواضع طلبك وإرادتك؟».

٣٦

وفي الختام ، نستطيع القول أنّ المعجزة الإلهية «الحية» التي نقرأها كل يوم ، ونعتبر بآياتها الإعجازية الرائعة ، وهي القرآن الكريم ، هي خير دليل على أنّ النبوة والرسالة الخاتمة المحمدية أتحفت ورصعت وزوّدت بخير وأعظم وأرقى معجزة ربّانية على الإطلاق ، حازها نبيّ أو مرسل قبلها ، إذ أنّ العلوم التي حوتها والروائع التي اكتنزتها ، لم يستطع العلم الحديث اكتشافها إلا بعد اكتشاف الوسائل العلمية التقنية الراقية ، كالمجهر البصري والإلكتروني وغيرها من الآلات المعقدة ، وبعد إجراء الدراسات والبحوث الطويلة التي امتدت واستمرت عبر السنين والقرون.

عجائب الخلق الأولى : الأغشية الثلاثة والمشيمة والرضاعة

الظلمات الثلاث :

قال الله العزيز في كتابه الكريم في سورة الزمر [الآية رقم ٦] : (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ* خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ).

أجمع المفسّرون في كتب التفسير القرآني على أن المقصود من تعبير الظلمات الثلاث هي ظلمة البطن وظلمة الرحم وظلمة المشيمة ، وهذا المعنى الإجمالي صحيح ومعتبر ومقارب للتشريخ العلمي المعروف والمتداول على أساس أنّ لجدار البطن ظلمة تليها ظلمة جدار الرحم الذي يحتوي بدوره على ظلمة أغشية المشيمة وجذورها المتشابكة والمحيطة بالجنين. وفي المدة الأخيرة حدد بعض العلماء (ومنهم الدكتور محمد علي

٣٧

البار في كتابه «خلق الإنسان بين الطب والقرآن») مفهوم «الظلمات الثلاث» بموضوع الأغشية الثلاثة المحيطة بالجنين : غشاء السلى أو الأمنيون (Amnion) ، والغشاء المشيمي أو الكوروين (Chorion) ، والغشاء الساقط أو الدسيدوا (Decidua).

واللطيف في الأمر والملفت للإعجاب والإعجاز أنّ الآية الكريمة حدّدت وحصرت مكان «الظلمات الثلاث» في «بطون الأمهات» ، وبالتحديد في مكان «الخلق» في «البطون» يخلقكم / في بطون أمهاتكم / في لمات ثلاث ، وذلك لا يكون إلا في الرحم حصرا وواقعا وتحديدا. وإذا عدنا إلى التشريح الجنيني الحديث ، نجد أن هذه الأغشية الثلاث تحيط بالجنين منذ أوّل مراحل تكونه ، وتبقى محيطة به إلى ما قبل خروجه إلى النور ، أثناء الولادة.

تتميّز هذه الأغشية الثلاث بعدة خصائص هامّة وأساسية في نمو الجنين وانتقاله من مرحلة إلى أخرى ، حتى اكتماله وولادته ، ومن أهمّها :

أولا : حماية الجنين ووقايته من الصدمات المفاجئة والحركات العنيفة والسقطات والحوادث التي يمكن أن تتعرض لها الأمّ في فترة حملها ؛

ثانيا : تغذية الجنين وتسهيل عملية انتقال الأوكسجين والمواد الغذائية إليه ، وعملية نقل غاز ثاني أوكسيد الكربون من دمه إلى دم الأم ؛

ثالثا : تسهيل عملية الولادة عبر تكوين «جيب المياه» (من غشاء السّلى) الذي يوسع عنق الرحم ويعقم الطريق للجنين ويمهّده له.

المشيمة (Placenta) :

تعتبر المشيمة أهم «عضو» في حياة الجنين ، يساهم في تكوينه الجنين

٣٨

نفسه عبر نسيج «التروفوبلاست» (Trophoblast) الذي يبدأ بالظهور في اليوم الخامس من حياته ، والأمّ نفسها عبر نسيج الغشاء المخاطي الذي يغطي الحجرة الرحمية التي تستقبل البويضة الملقحة.

تظهر المشيمة بحدودها وتأخذ شكلها المعهود في الشهر الثالث ثم تقوم بالنمو التدريجي شيئا فشيئا ، والامتداد حسب نمو الجنين إلى أن تبلغ حجما دائريا بقياس ٢٠ سنتم وبثخانة ٣ سنتيمترات وبوزن ٥٠٠ غرام ، عند اكتمال نمو الجنين وقرب ولادته.

تشكل المشيمة مجموعة جذور متفرعة وأوعية دموية متشابكة ومعقدة التواصل والتقاطع فيما بينها بشكل يصعب وصفه وملاحقته جزئيا من طرف إلى طرف ، وكأنما هو مجموعة متاهات متقاطعة ومتشابكة إلى أبعد حدود!. وفي هذا التشابك والتقاطع الشديد التعقيد بين الأوعية والجذور المشيمية تكمن أسرار الوظائف التي يتميز بها هذا العضو الأساسيّ لحياة الطفل والذي يساعد في نموّه وتكامله ، إلى أن تنتهي مهمته وحياته بولادة الطفل وخروجه إلى العالم «مستغنيا» عن رفيق دربه الرحميّ ، «متخليا» عن خدماته!

تتعدّد وظائف المشيمة وتتنوع وتزداد أهمية كلما مرّ الجنين من مرحلة إلى أخرى متقدمة ، وأهمها على الإطلاق :

أولا : تشكيل حاجز فاصل بين الأمّ وجنينها يكون بنفس الوقت معبرا بينهما لنقل المواد والرسائل ؛

ثانيا : تأمين كل احتياجات الجنين الغذائية من مصادرها في دم الأمّ عبر عمليات النقل المتنوعة التي تجري في شبكات الأوعية المشيمية كالماء

٣٩

والغلوكوز والدهون والبروتينيات والفيتامينات وبعض الأدوية والمواد الهامة كالمضادات المناعية (IGA) ؛

ثالثا : تسهيل الوظيفة التنفسية بنقل الأوكسجين من دم الأم إلى دم الجنين وأخذ ثاني أوكسيد الكربون من دم الجنين إلى دم الأمّ ؛

رابعا : تولّي بعض المهمّات الباطنية عبر فرز الهرمونات أو نقلها أو المساهمة في إنتاجها.

وتتواصل هذه المهمات وتكتمل لتتوّج عند الولادة بظهور الإعجاز الخلقي الآخر المتمثل بالرضاعة عبر حليب الأمّ الذي تتجلّى فيه ذروة العظمة المكنونة في أسرار الخلق.

الإرضاع وحليب الأم (الرضاعة الطبيعية):

قبل الولادة ، يتحضّر الجهاز الهضمي للجنين لتلقي غذاءه الذي سيهبه له الخالق الكريم بعد الولادة ومغادرة البيت الأول (الرحم) ورفيق العمر الأول (المشيمة). ويتعاظم هذا الكرم الإلهي عند ما يعطي الخالق هذا الغذاء الجديد ، القدرة على التكيّف مع حاجات الطفل وظروفه وقدراته ، فإذا كان ضعيفا لسبب ما كخروجه إلى النور قبل وقته المحدّد ، يتفاعل حليب الأم مع حاجة طفلها ويتكيّف لها بكل دقة وبراعة. وتبرز العظمة الإلهية أكثر فأكثر عند ما تتكيّف الرضاعة الطبيعية مع حاجات الطفل في كل مرة من المرات ، بل في كل مرحلة جزئية في كل «حصّة» من الحصص اليوميّة : فبداية «الحصّة» تكون «مائية» أكثر ولا تحتوي على الكثير من الدهون لكي يشعر الوليد بالجوع ويمتصّ حليب أمّه بكمية أكبر ، بينما تكون النهاية «زبديّة» أكثر مع كمية أكبر من الدهون لكي يشعر الوليد بالشبع ويترك عملية

٤٠