الإعجاز العلمي في القرآن الكريم

الدكتور حسن حطيط

الإعجاز العلمي في القرآن الكريم

المؤلف:

الدكتور حسن حطيط


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار ومكتبة الهلال للطباعة والنشر
الطبعة: ١
ISBN: 9953-75-031-9
الصفحات: ١٤٤

وهكذا نرى كيف أن المعايير التي يعتمدها الغرب في مواجهة مشاكله الداخلية والخارجية ، تؤدي به في كثير من الأحيان وعلى المدى البعيد إلى مواجهة مشاكل جديدة أعمق وأعظم بكثير من سابقاتها ، التي اعتقد بأنه قادر على التغلب عليها. فمعايير المصلحة السياسية الآنية والجدوى الاقتصادية الذاتية واتباع الهوى والدوافع الخاصة وحبّ الاستعمار والتسلط والتحكم والتزام مبدأ «الغاية تبرر الوسيلة» ، وعدم التزام أي مبدأ أخلاقي ومعنوي وروحي سام ، كل ذلك أدى إلى تحطيم الأسس الاجتماعية الهشّة التي يحاول الغرب دائما أمام الآخرين إظهار صورة لها مغايرة للواقع والحقيقة.

(أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى تَقْوى مِنَ اللهِ وَرِضْوانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى شَفا جُرُفٍ هارٍ فَانْهارَ بِهِ فِي نارِ جَهَنَّمَ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) (١٠٩) [التوبة : ١٠٩].

١٠١
١٠٢

المحور الرابع :

إضاءات على الإعجاز العلمي

في المقادير والآجال

ـ الوراثة وأسرارها ؛

ـ موت الخلايا المبرمج أو الأجل المسمى.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ)

الرعد : ٨

(قَدْ جَعَلَ اللهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً)

الطلاق : ٣

(يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (٦) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (٧) فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ) (٨)

الانفطار ٦ ، ٧ ، ٨

(ما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى)

الأحقاف : ٣

١٠٣
١٠٤

الوارثة وأسرارها

تضج المحافل والأوساط العلمية والإعلامية ـ في الوقت الحاضر ـ بالحديث عن الاستكشاف والاكتشافات العلميّة الحديثة في عالم الوراثة. فقد فاجأنا العلم الحديث بمبادئ ونظريات وأسس جديدة لما يمكن أن يمهّد لقنبلة وراثية أو جينيّة هائلة ، ستغيّر الكثير من حقائق العلم الحديث ومعالمه ، وستؤدي إلى الكثير من النتائج والانعكاسات الكبيرة والحاسمة على جميع الصعد العلمية والاجتماعية والاقتصادية. ومن أهم هذه النظريات الجديدة ، الاستنساخ ونظرية الخارطة أو المخزون الجيني. وبدأت المحافل السياسية والاقتصادية والاجتماعية الاهتمام بشكل جدّي بنتائج وانعكاسات الاكتشافات الجديدة ، وبدأت تتعاطى معها على أساس أنها واحدة من معالم المستقبل القريب ، وأنها إحدى أسلحة الدولة الحديثة والمتقدمة على صعيد التطوّر العلمي والاجتماعي والاقتصادي. وبدأ يحتدم النقاش حول إيجابيّات وسلبيّات هذه الأسلحة ، والمحاذير الأخلاقية في تطبيقها ، والمخاوف من أخطار اجتماعية وبيئية وسياسية آتية ، إن طبّقت هذه النظريات الجديدة بشكل غير مدروس ومقنّن. وصارت كل الأوساط المهتمّة بالأمر تستقرئ الكوارث القادمة التي يمكن أن تهزّ المجتمعات البشرية بسبب سوء استخدام تلك النظريات ، كالتفرقة العنصرية والإنجاب تحت الطلب ، وإنشاء «نماذج» عضوية أو جسميّة بشرية مشوّهة ، أو لأغراض تجارية أو عسكرية أو سياسية خبيثة.

١٠٥

وسنحاول قدر الإمكان الدخول شيئا فشيئا إلى عالم الوراثة وأسراره المتعددة ، لنفهم ما يحصل وما يمكن أن يحصل في مجالات الاكتشاف العلمي وتطبيقاته ومبادئه ونظرياته المختلفة والمتشابكة ، علّنا نفكّ بعض الرموز المعقدة ونسهّل الوصول إلى فهم مبسط لأسرار الوراثة ومبادئها المعقدة.

الخلايا والكروموسومات والجينات :

(لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ) (٤) [التين : ٤].

خلق الله الإنسان في أحسن تقويم ، وجعل في بدنه عدة أجهزة متراصة متشابكة مترابطة ، منها ، الجهاز العصبي والتنفسي والهضمي والغددي واللمفاوي والعضلي والعظمي. وهي بدورها تتألف من عدة أعضاء أساسية وأعضاء أصغر جانبيّة ، وزوائد وحواجز وسواند وفواصل وصلات وصل. تشكّل هذه الأعضاء مجموعة أنسجة متراصة ومتماسكة ، لها أدوار وظيفية متعددة ومتخصصة ، منها ما هو متعلق بالعضو نفسه ووظيفته ، ومنها ما هو متعلق بحماية العضو ومساندته والدفاع عن وظائفه.

تتألف هذه الأنسجة من بلايين الخلايا بأنواع متعددة ومختلفة ومتنوعة ، حسب الوظيفة الخاصة والعامة ، وحسب المراحل المتعددة التي تمرّ بها ، وحسب الظروف العادية أو الطارئة المحيطة بها. وهذه الخلايا مقدرة تقديرا بارعا ، إذ أنها تختلف بعضها عن بعض في التركيب والوظيفة ، وتعيش وتموت ، ثم يتمّ تعويضها حسب الحاجات والظروف والأحوال.

(وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ) [الرعد : ٨] (قَدْ جَعَلَ اللهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً) [الطلاق : ٣].

١٠٦

تعمل الخلايا بنظام بديع فيه من الإعجاز والإبداع والبراعة ما يحيّر عقول ذوي الألباب ، إذ تتألف كل خلية من قسمين رئيسيين ، هما : النواة ، أو مركز المعلومات والإدارة ، واللبّ ، أو السيتوبلازم ، وتسبح فيه مجموعة من الأنظمة والأجهزة الدقيقة الشديدة الإتقان ، منها الميتوكوندريات ، وهي مصانع الطاقة ، ومعقد غولجي ، وهو مركز التجميع ، والأجسام الحالة (لايسوسومات) وهي وحدات التنظيف ، والشبكة الأندوبلازمية أو مراكز تصنيع البروتينيات.

توجد في النواة معظم الأسرار الوراثية التي دأب العلماء والباحثون على محاولة استكشافها وكشف بواطنها وعلائقها وميزاتها. وما زالت الأبحاث والدراسات إلى الآن ، تطرق باب هذه النواة بجميع الوسائل المتاحة لاستجلاء أجهزتها ومحتوياتها ونظمها المعقدة والمركبة تركيبا بديعا ، فيها من الإتقان ما يعجز اللسان عن وصف ما اكتشف منها إلى الآن في عصرنا الحاضر ، وهو القليل القليل مما يراهن على اكتشافه العلماء من آفاق ، في العصور القادمة.

تكمن أهمية النواة في أنها ـ بالإضافة إلى كونها مركز إدارة أعمال الخلية ، وأنها المسيطرة على كل أعمال الخلية وفعالياتها ـ تحتوي على النسخة الأصلية أو «الشيفرة» السرية للمعلومات الحيوية المتوارثة من الآباء والأجداد.

تتركب النواة من خيوط طويلة ودقيقة ومعقدة تسمّى «الكروموسومات» ، تتركب بدورها من أحماض نووية تنتظم وتتشكل عبر تشكيلات وجزئيات ووحدات تتكرر بشكل منتظم وهندسي بديع ، يؤدي إلى نشوء مجمّعات من الوحدات المتكررة والمتسلسلة والمرتبطة هندسيا بعضها ببعض ، تدعى الجينات ، التي بدورها تعتبر الوحدة السرية الخاصة بتحديد الصفات والمزايا الوراثية ، ونقلها.

١٠٧

كل خلية من خلايا الجسم البشري تحتوي على عدد محدّد من الكروموسومات هو ستة وأربعون أو ثلاثة وعشرون زوجا ، إلّا الخلايا التناسلية (الحيامن والبويضات) ، فهي تحتوي على النصف أي على ثلاثة وعشرين فردا فقط.

تنتظم الكروموسومات داخل النواة على شكل أزواج متقابلة ومتماثلة ، يأتي فرد من هذه الأزواج من جهة الأب ويأتي الفرد الآخر من جهة الأم ، ويوجد في كل خلية زوج خاص متميز من الكروموسومات المتخصصة ، يعرف بكروموسوم الجنس ، وهو المسئول عن تحديد الجنس. هذا الزوج المتميّز والفريد يحتوي عند الأنثى على فردين متشابهين مثيلين هما «س س» (أو باللاتينيةxx). أما في الذكر فيختلف الفردان ليصبحا «س ص» (أو باللاتينيةyx). وهكذا نلحظ أن جنس الوليد يحدّده نوع الحيمن المخصب للبويضة ، فهو إما يكون «س» ويخصب بويضة (بالضرورة س) فيأتي الوليد أنثى (س س) ، وإما يكون ذكرا (ص) ، ويخصب بويضة (بالضرورة س) ، ويأتي الوليد ذكرا (س ص) ، لأنه كما سبق وذكرنا ، كل بويضة تحتوي على نصف المجموعة الكروموسومية ، أي على الكروموسوم «س» ، بالإضافة إلى الاثنين والعشرين كروموسوما جسميا ، بينما تكون الحيامن على نوعين ، إما «س» ، أو «ص» ، بالإضافة إلى الاثنين والعشرين كروموسوما جسميا.

ومن هنا يبرز الإعجاز القرآني العظيم الذي علق عليه الكثير من العلماء والأطباء المسلمين وغير المسلمين ، في الآية السابعة والثلاثين وما بعدها من سورة القيامة ، والتي وردت فيها إشارة لطيفة في مسئولية الذكر في تحديد جنس الوليد.

١٠٨

(أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى (٣٧) ثُمَّ كانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى (٣٨) فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى) (٣٩) [القيامة : ٣٧ ، ٣٨ ، ٣٩].

فالإعجاز يكمن في عبارتين ، مني يمني ، المتعلقة على أكثر الأحوال والتفاسير بالذكورة ، فجعل منه ، المشيرة بشكل واضح إلى مسئولية الذكر في تحديد النسل ذكرا أم أنثى.

يتميّز كل كروموسوم عن آخر بواسطة الحجم أو الشكل ، واعتمدت بعض التقنيات الحديثة في علم الخلايا الوراثي ، على هذه الميزة لتحاول كشف هذا الاختلاف الخاص والتغيرات الدقيقة والواضحة من كروموسوم إلى آخر ، ولتقدر على رصد كل تغيير ثابت مرتبط بتشوه خلقي معين أو مرض معين أو أورام سرطانية محددة. وهنا يكمن السر الجديد الذي اعتمد العلماء المعاصرون في كشفه عن نظرية الهوية أو الخريطة أو المخزون الجيني ، بحيث أنهم عبر تشخيص التغيّرات الحاصلة في الوحدات المتكررة أو المكونة من أربعة عناصر من البروتينيات :

١ ـ الأدينين A) Adenine) ؛

٢ ـ السيتوزين C) Cytosine) ؛ ٣

ـ الغوانين G) Guanine) ؛ ٤

ـ التايمين (Thymine) T.

يستطيعون تحديد أمراض معينة والتعرّف إلى الأشخاص المعرّضين لها في المستقبل ، ومن ثم مقاومتها أو الوقاية منها.

١٠٩

القوانين والمبادئ والنظم الوراثية :

وضع المولى العزيز في الكون وفي المخلوقات قوانين ومبادئ ونظم شديدة الدقة ، ومتناهية الكمال ، جعلها آيات باهرة وهادية لجميع أبناء البشر ، وفي جميع الآفاق المحيطة بهم ، وفي جميع الأشياء الكائنة معهم ، وفي بواطن أنفسهم. وقد أمر الخالق تعالى الإنسان بالرؤية والمشاهدة والتأمّل والتبصّر والاعتبار أمام كل شيء في هذا الكون ، وحثّه على السّير في الآفاق والأعماق والبواطن ، مستهديا مستنيرا متقصّيا عن كل صغيرة وكبيرة في الأشياء وقوانينها ونظمها الدقيقة المذهلة ، ووعده بأن يكشف له كل الحقائق والأسرار الدفينة إذا سار في هذا الطريق وسعى له ، (سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ) ، وأعانه على تحقيق بعض الاكتشافات التي فتحت له آفاقا جديدة في مجال العلم والبحث والمعرفة. ومن هذه القوانين والمبادئ والنظم الكونية الدقيقة ، تعرّف الإنسان إلى بعض من قوانين الوراثة الباهرة ، التي أعانته على تطبيق بعض النظريات في مجالات عدة. ولدقة هذه المبادئ المتناهية التعقيد وصعوبتها وترابطها ، نكتفي بعرضها واستعراضها بطريقة مختصرة على الشكل التالي:

قانون تكاثر الخلايا : بعد مرحلة التلقيح ، تجري سلسلة متعاقبة من الانقسامات تدعى بالانقسامات الخيطية ، تستلم عبرها كلتا الخليتين الناتجتين ، العدد الكروموسومي نفسه للخليّة الأصلية. ويتألف الانقسام الخيطي من أربع مراحل أو أطوار ، هي : الطور التمهيدي ، والطور المتوسط ، وطور الانفصال ، والطور النهائي.

أمّا الانقسام الاختزالي ، فإنه يتضمن انقسامين متتاليين يتمّ فيهما اختزال العدد الزوجي الوراثي إلى عدد فردي وراثي عبر أطوار متتابعة تعاني خلالها النواة من تغيّرات مستمرة :

١١٠

ـ الطور التمهيدي ، وفيه عدة أطوار ثانوية ، الطور القلادي ، الطور التزاوجي ، الطور الضامّ ، الطور الانفراجي ، الطور التشتتي ؛

ـ الطور المتوسط ؛

ـ الطور الانفصالي ؛

ـ الطور النهائي.

قانون تصنيع البروتيين ، أو مصادر الطاقة ، الذي يمرّ بعدة مراحل هي :

ـ استنساخ المعلومات الوراثية بواسطة الحامض النووي الرسول (ر ن أ) أو (R.N.A) ؛

ـ انتقال الرسول إلى الرايبوزومات أو مراكز التجميع لترجمة المعلومات المستنسخة ؛

ـ إنجاز ترتيب سلسلة الأحماض الأمينية ؛

ـ تشكيل الهيكل الأساس للبروتيين.

قانون تخزين المعلومات الوراثية :

تخزن كل معلومة وراثية على شكل ثلاث درجات متسلسلة من درجات السلم الحلزوني للحامض النووي (د. ن. أأوD.N.A) ، ويطلق عليها اسم «الشفرة الوراثية». وعند ما تحتاج الخلية إلى إنتاج مادة معينة يطلق الحامض النووي بداخل النواة مجموعة من التعليمات ، وكأن في داخل النواة مجمّعا صناعيا متكاملا مبرمجا بشكل تلقائي عالي الدقة ، وبمنتهى الذكاء والإعجاز ، ويحار المرء ويعجز لسانه وعقله وفكره عند ما يحاول فكّ

١١١

رموز هذا المعمل التكنولوجي الضخم الذي وضعه الخالق القدير في أصغر شيء في الوجود لا يمكن رؤيته إلا عبر مجهر إلكتروني عظيم ذي مقدرة تكبيرية عظيمة.

قانون وراثة الصفات : وفيه ثلاثة مبادئ ونظم مختلفة :

١ ـ وراثة الصفات المتغلبة ، عند ما نرث جينات أقوى من غيرها ، تنتقل بقوة من جيل إلى جيل ، ناقلة الصفات أو الأمراض ؛

٢ ـ وراثة الصفات المتنحّية ، عند ما نرث جينات «عاطلة» أي ليس لها تأثير في الجسم ، فهي مشوّهة لكنها تنتقل «متخفية» من جيل إلى آخر حتى تجتمع بشركاء لها من الزوج الآخر ، فتسبب الخلل أو المرض في الوليد المشترك ؛

٣ ـ وراثة الصفات المرتبطة بالجنس ، عند ما ينتقل الجين المشوه عبر الإناث ليصيب الذكور كمرض نزيف الدم الوراثي ، فالمرأة تنقل المرض إلى أولادها الذكور ليصابوا به من دون أن تعاني هي منه (إلا في الحالات النادرة).

التطبيقات العلمية الحديثة في عالم الوراثة :

اكتشف الإنسان بعضا من أسرار هذا العلم الواسع الدفين في أصغر الأشياء على الإطلاق ، وأخذ يطبق ما يكتشفه في مجالات الطب الحديث كالمناعة وأمراض الدم والأمراض النسائية والتوليد والبحث التشخيصي للسرطان وغيرها.

ومن أبرز الأبواب والمواضيع التي دخلها الإنسان في العصر الحديث معتمدا على بعض قوانين ومبادئ وأنظمة هي :

١١٢

ـ المعالجة الكيميائية للجينات أو الهندسة الوراثية ، حيث تمكن العلماء من نقل قطع من مواد وراثية معينة ، إلى عناصر بكتيرية وزرعها وتحقيق مضاعفتها وتكاثرها ، لصنع وإنتاج بروتينيات معينة كالهرمونات والمضادات الحيوية واللقاحات ؛

ـ علم تحسين الأنواع ، حيث تمكن العلماء من زراعة نبات كامل من خلية خضرية واحدة بعد زراعتها في وسط غذائي اصطناعي ملائم ؛

ـ التلقيح الاصطناعي أو أطفال الأنابيب ، حيث تمكن العلماء من تخصيب بويضة الأم في أنبوبة اختبار ، ومن ثم زراعة بويضة الأم المخصّبة في رحمها ، لتنمو بعدها وتصبح جنينا ؛ ـ

الاستنساخ ، حيث تمكن الباحثون من إنتاج نماذج وعينات من الأجناس الحيوانية عبر استنساخ جينات وراثية لفصيلة حيوانية معينة ومحددة بهدف إنتاج فصائل متكاملة ومتشابهة تفي بالأغراض الاستهلاكية (ككثرة الشحوم واللحوم وغزارة الحليب في الحيوان المستنسخ) ؛ ـ

الخارطة الجينية ، حيث تمكن الباحثون من رصد التغيّرات الحاصلة في الجينات الوراثية والمرتبطة ببعض الأمراض والعاهات ، إذ تمكنوا من تأليف خارطة جينية ، فيها كل الدلائل والبينات والإشارات لجميع الأمراض ، كالسرطان والتشوّهات الخلقية وأمراض الغدد وغيرها ، وذلك بهدف الوقاية المبكرة والمعالجة الفعالة وإصلاح الخلل قبل انطلاق المرض وتفاقمه.

١١٣

المحاذير الأخلاقية والاجتماعية والمخاطر المحتملة لسوء استخدام واستغلال هذه التطبيقات :

عهد الخالق القدير إلى الإنسان الأمانة ، وحثّه على الاستزادة من المعرفة والتبحّر في دراسة الأشياء التي وضع فيها آياته الباهرة ودلائل إعجازه ، وأمره بالتعرّف إلى نفسه وإلى ما يحيط به من موجودات وكائنات ليستشفّ منها النظم الخلاقة البديعة ، والقوانين والأسباب الظاهرة والخفية ، والمبادئ والأسس التي وضعت وجبلت وعملت عليها الأشياء ، بهدف الوصول إلى اليقين والسعادة والكمال. كل ذلك مع تذكيره دوما بالأمانة والوفاء وحفظ العهد ومسئوليته في ذلك ، والحفاظ على الموجودات والكائنات واحترام وجودها وعدم العبث بقوانينها ونظمها. فحينما يبدأ الإنسان بعد اكتشافه سرا عظيما أو كنزا دفينا ، بالتفريط به والعبث بموجوداته واستغلاله في أمور غير محسوبة ، أو ذات نوايا سيئة ، حتما ستنقلب القوانين عليه ، وتحل عليه اللعنة ، ويخسر كل شيء. فكما حصل للإنسان بعد اكتشافه السرّ النووي واستخدامه في تدمير الآخرين وسوء استغلاله في الصناعات والتكنولوجيا ، وتسبّبه بكوارث كثيرة مميتة ، حدثت وما زالت تحدث بسبب الإشعاعات النووية ، يمكن للإنسان أن يواجه كوارث أعظم وأعمّ ، إذا أساء استغلال القوانين الوراثية ، وأخذ عن جهل أو عن سوء نية في استغلالها ، في صنع أسلحة جرثومية فتاكة ، أو في إنتاج «جيوش» من جنس بشري «مهندس» وراثيا على أساس عنصري خبيث ، أو في إنشاء موجودات أو كائنات مشوّهة لمجرد اللعب والعبث وإثراء الخيال ، كدمج المخلوقات بعضها ببعض ، أو اقتطاع أجزاء منها أو تجميعها في كائنات مشوّهة وغير طبيعية.

١١٤

ومن المعروف أيضا ، ومن الثابت تاريخيا ، أن هنالك علماء سوء وأنظمة سوء وشركات سوء ، يمكن أن تبدأ (ومن الممكن أن تكون قد بدأت فعلا) في استغلال هذه القوانين البديعة ، والأسرار المبهرة ، والآيات الرائعة في تحقيق أهدافها الخبيثة ، عسكرية كانت أم سياسية ، استهلاكية أم اقتصادية ، والكارثة القادمة ، إذا حصل فعلا الاستغلال الخبيث ، لن تكون جانبية أو ثانوية ، ونتائج الإفساد لن تكون مرحلية ، بل ستعمّ الطامّة الجميع لأن الضرر والتدمير والفتك سيشمل الكلّ ، ولن توفر نتائجه أحدا.

(يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (٦) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (٧) فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ (٨)) [الانفطار : ٦ ، ٧ ، ٨].

(قُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ (١٧) مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (١٨) مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ (١٩) ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ (٢٠) ثُمَّ أَماتَهُ فَأَقْبَرَهُ (٢١) ثُمَّ إِذا شاءَ أَنْشَرَهُ (٢٢) كَلَّا لَمَّا يَقْضِ ما أَمَرَهُ) (٢٣) [عبس : من ١٧ إلى ٢٣].

١١٥
١١٦

موت الخلايا المبرمج أو الأجل المسمى

مقدمة :

شهدت الأوساط العلمية مؤخرا اهتماما متزايدا باكتشاف علمي بارز طغى على معظم المؤتمرات العلمية المتخصصة خاصة في علوم الخلايا والبيولوجيا الجزيئية والأورام والباتولوجيا والأجنة وغيرها من العلوم الدقيقة. وقد لاقت الأبحاث المقدمة حول الموضوع رواجا متزايدا لما طرحته من نظريات وشروح ومفاهيم مفترضة تتناول أمورا شديدة الأهمية ، كتشخيص وعلاج الأورام أو سبر أغوار العوالم الفسيولوجية لمراحل تشكل الجنين وأسباب الشيخوخة وعمل أجهزة المناعة والغدد والهرمونات وغيرها من العوامل الأساسية في حياة الإنسان.

تعريف :

انطلاقا من المبدأ العلمي المشهور القائل بأن لكل خلية وقتا محددا لحياتها ووقتا محددا لمماتها ، فإن المعروف علميا وحتى وقتنا الحالي أن الخلايا تموت بعد تعرضها لعاملين محددين:

أولا : تلقي ضربات خارجية أو عوامل ضارة تقتل الخلية ؛

ثانيا : تلقي أوامر داخلية بالموت أو بالانتحار المبرمج.

١١٧

تواجه الخلية الموت في هاتين الحالتين بشكل مختلف تماما وبطريقة مغايرة جدا ، ففي الحالة الأولى تمر الخلية بتغيرات تتضخم فيها شيئا فشيئا حتى تنفجر ويتسبب انفجارها بجر خلايا المناعة الآكلة إلى مكان تواجدها والقضاء عليها وعلى بقاياها.

أما في الحالة الثانية وهي الأكثر غرابة ودقة وإعجازا ، يصغر حجم الخلية بشكل بارز وتتراكم مكونات نواتها على بعضها البعض ، ثم تظهر فيها شقوق تتحول إلى أجسام صغيرة ميتة مبعثرة لا تشد إليها خلايا المناعة لتتولى القضاء عليها كما في الحالة الأولى بل تقوم هي بإماتة نفسها أو بما يصفه الباحثون بالانتحار المبرمج للخلايا.

أسباب موت الخلايا المبرمج :

تحدث ظاهرة الموت الخلوي المبرمج في كثير من الحالات والأوضاع الحساسة التي يحتاج فيها الجسم إلى تغيرات كبيرة وحاسمة في النمو العضوي أو في عمل الأنسجة وعمليات الأجهزة الدقيقة ، إما لإحداث تسريع أو تكثيف في عملها وإما لإحداث تراجع أو ضمور فيها حسب ما تستدعيه الظروف والأوضاع.

تتجلى ظاهرة الموت الخلوي المبرمج بكل مظاهرها المتعددة في مشاهد متنوعة ومختلفة ، تتعدد فيها الأسباب من حالة إلى حالة ومن ظرف إلى ظرف حتى تتحقق الأهداف الكامنة من ورائها ، وأكثر ما يبرز فيه عمل الظاهرة وأسبابها وأهدافها هو في الأمور والظروف التالية :

ـ إزالة الأنسجة والخلايا الزائدة في أطراف وأعضاء الجنين لإعطائها الشكل النهائي المعروف ، كاندثار الأنسجة والخلايا الزائدة بين أصابع

١١٨

اليدين والرجلين عند الجنين قبل ظهور شكلها المعروف وأعدادها الخماسية النهائية ؛

ـ إزالة الأنسجة التابعة لغشاء بطانة الرحم الداخلية عند وصول المرأة البالغة إلى مرحلة الطمث من الدورة الشهرية ؛

ـ إزالة الحواجز الناشئة عن وجود خلايا زائدة بين الخلايا العصبية في الدماغ لتسهيل عمليات الاتصال فيما بينها ؛

ـ تحفيز ضمور الغدد الثديية عند الأم المرضع بعد بلوغ مرحلة الفطام والحاجة لعودة الأنسجة لحالتها الأولى وحجمها الطبيعي ؛

ـ ظاهرة الموت المبرمج أو الانتحار الخلوي الذي يصيب أحيانا الخلايا السرطانية في بعض حالات الأورام ؛

ـ إصدار الأوامر الداخلية بالانتحار أو الموت المبرمج لخلايا المناعة بعد تأدية مهماتها الوظيفية أو لمنع بعضها البعض من مهاجمة أجهزة وأنسجة الجسم الداخلية ؛

ـ الإسهام في ضبط عمليات تسريع تكاثر الخلايا في الأنسجة حسب الظروف والحاجيات وحسب تطلبات الجسم ، خاصة في المناطق الخاضعة لسيطرة الهرمونات ؛

ـ ظاهرة انتحار الخلايا المصابة ببعض أنواع التلوث الفيروسي وذلك للحد من انتشار المرض ؛

ـ موت الخلايا المصابة بآثار رفض الأنسجة المزروعة وذلك لمنع التلف الناتج عن انتشارها ؛

١١٩

ـ موت بعض أنواع الخلايا المصابة بتأثيرات مرضية معينة كالتأثيرات السرطانية وذلك بعد تعرضها لبعض الإشعاعات أو الأدوية الخاصة أو بعض درجات الحرارة ؛

ـ موت الخلايا المصابة بأعطال أو أضرار في أحماضها النووية لتفادي حصول تشوهات خلقية وتكاثر سرطاني.

السؤال الكبير :

الحري بنا وبعد وصف هذه الظاهرة ببعض من جوانبها وأشكالها ومهماتها وأهدافها المعروفة والمكتشفة حتى الآن أن نسأل وبشكل بديهي عن المسئول الأول عن وضع هذه البرامج العجيبة داخل كل خلية لتصدر لها الأمر بالموت أو الانتحار عند حصول أي طارئ وحسب الظروف الملائمة التي تقتضي ذلك.

من الذي أبدع خلق هذه البرامج ووضع الخطط المناسبة لها ولمحيطها ، والمهمات الملائمة للظروف والأحوال ، والأهداف المعقدة الشديدة التعقيد بجميع أشكالها المتعددة والمختلفة؟

من الذي وضع هذه البرامج الدقيقة والمتنوعة في كل خلية على صغر حجمها المتناهي في الصغر ، وعظم عددها المتناهي في الكبر ، وعلى تنوع مشاربها واختلاف وظائفها وتعدد طرق توزيعها وتكاثرها وانتشارها؟

من هو المهندس الأعظم الذي صمم وصنع ونظم ونسق هذه البرامج لتكون في كل خلية ، وجعل لها وقتا معلوما وهدفا معلوما وظرفا معلوما وسببا معلوما وأجلا مسمى تماما كما هو الأجل المسمى الذي وضعه الخالق البديع لكل شيء خلقه ، صغيرا كان في الكون كالإنسان ، عظيما كان في الكون كالسماوات والأرض وما بينهما؟

١٢٠