الحقيقة المظلومة

محمد علي صالح المعلّم

الحقيقة المظلومة

المؤلف:

محمد علي صالح المعلّم


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: المؤلّف
المطبعة: العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٤٦
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة
 &

وبين علم المخلوق ، فعلم المخلوقين ـ وإن كانوا أنبياء أو أوصياء ـ لا يحيط بما أحاط به علمه تعالى .

وثالثاً : أنّ الاعتقاد بالبداء يوجب انقطاع العبد إلى الله وطلبه إجابة الدعاء منه وكفاية مهماته وتوفيقه للطاعة وإبعاده عن المعصية .

ورابعاً : أنّ في ذلك الردّ على اليهود الذين قالوا إن قلم التقدير والقضاء حينما جرى على الأشياء في الأزل استحال أن تتعلق المشيئة بخلافه ، ولذلك حكى القرآن قولهم وردّ عليهم ( يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ ) ١ .

وخامساً : أنّ انكار البداء والالتزام بأنّ ما جرى به قلم التقدير كائن لا محاله دون استثناء يوقع العبد في اليأس عن اجابة الدعاء وحينئذ فلا ينفع دعاء أو تضرّع إلى الله تعالى .

وسادساً : أنّ انكار البداء يشترك بالنتيجة مع القول بأن الله غير قادر على أن يغيّر ما جرى عليه قلم التقدير .

هذه خلاصة ما قرره علمان من أعلام الشيعة ـ وهما السيد علي الفاني الاصفهاني في كتابه البداء عند الشيعة والسيد أبو القاسم الخوئي في كتابه البيان في تفسير القرآن ـ حول موضوع

__________________

١) سورة المائدة ، الآية ٦٤ .

١٨١
 &

البداء ، وفيه أبحاث عميقة ودقيقة تركنا التعرض لها رغبة في الاختصار ، وبعد فهل في الاعتقاد بالبداء بهذا المعنى منافاة للدين ؟ وهل فيه ما يستلزم الكفر ؟ حتى يقول هذا الكاتب وإنما تتسع الدائرة إلى أبعد ذلك لقولهم (الشيعة) بالبداء .

وأما بالنسبة الى الدعوى الثانية حول قذف نساء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فإن الشيعة تعتقد ـ وهذه كتبهم في متناول الجميع ـ أن نساء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بل نساء الأنبياء قاطبة منزهات عن الفواحش التي تمس الشرف والعرض ، فإنّ ذلك يخدش بمقام النبوّة ، ولكن لا يعني ذلك ان نساء النبيّ معصومات عن سائر الأخطاء بل جاء في القرآن ما يدلّ على أن امرأتين من نساء بعض الانبياء مصيرهما النار وهما امرأة نوح وامرأة لوط ، كما قال الله تعالى : ( ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِّلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ ) ١ وأمّا نساء النبي فهنّ وإن كنّ لسن كسائر النساء كما تحدّث القرآن عنهن لكن لا يعني ذلك العصمة لهنّ وإنما اختلافهن عن سائر النساء في الثواب والعقاب فيضاعف لهن الثواب إذا جئن بالحسنة كما يضاعف لهنّ العقاب إذا جئن بالسيّئة

__________________

١) سورة التحريم ، الآية ١٠ .

١٨٢
 &

قال تعالى : ( يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَن يَأْتِ مِنكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَٰلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا * وَمَن يَقْنُتْ مِنكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُّؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا ) ١ وذلك لمكان قربهن من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وجسامة مسؤليتهنّ عند الله وعند الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ولعلّ الكاتب يشير بقوله : (وقذف نساء النبي) إلى قضية الافك التي تحدّث عنها القرآن الكريم في قوله تعالى : ( إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَّكُم بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُم مَّا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّىٰ كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ ) ٢ و ٣ .

وقد ذكرت القصّة مفصلة في صحيح البخاري وغيره والمراد بالافك هو الكذب العظيم أو البهتان على عائشة أو غيرها من أزواج النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله كما سيأتي بيان ذلك .

وجوابنا عن ذلك .

أولاً : ان هذه القضية وقعت في زمان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وتحدّث عنها القرآن الكريم ، وإذا كان الشيعة لم يوجدوا بعد كما يدّعي هذا

__________________

١) سورة الاحزاب ، الآيتان ٣٠ و ٣١ .

٢) سورة النور ، الآية ١١ .

٣) صحيح البخاري بحاشية السندي : ج ٣ ص ٣٨ ، دار المعرفة ، بيروت ـ لبنان .

١٨٣
 &

الكاتب فأيّ علاقة بين هذه القضية وبين الشيعة .

ثانياً : أنّ بعض الصحابة قد تورّط في هذه القضيّة ومنهم حسّان بن ثابت ذكر ذلك البخاري ١ وابن داود وغيرهما وكان لحسّان في ذلك شعر يعرض فيه بابن المعطّل المتهم في هذه القضية وبمن أسلم من مضر ، فإذا كان الامر كذلك ، فكيف نحكم على أنّ جميع الصحابة كانوا على العدالة والاستقامة الأمر الذي يثبت ويؤكّد أنّ الصحابة حالهم كحال سائر الناس .

ثالثاً : أنّ هذه القضيّة محلّ خلاف بين المؤرّخين ، فذهب بعض السنّة إلى أنّ عائشة هي المتّهمَة ، كما ذكر ذلك البخاري في صحيحه والترمذي والبيهقي وأحمد بن حنبل وغيرهم ، وذهب بعض علماء الشيعة وجمع من علماء السنة أن المتَّهمَ في هذه القضيّة هي مارية القبطيّة جارية رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أمّ إبراهيم ، ويستدلّ الشيعة بروايات وردت عن أئمّتهم عليهم‌السلام وقد ذكر علي بن ابراهيم القمي تلك الروايات في تفسيره لآية الشريفة ٢ وأمّا من

__________________

١) صحيح البخاري : ج ٣ ص ٣٩ .

٢) انظر تفسير القمي ، لعلي بن ابراهيم القمي : ج ٢ ص ٩٩ ، مؤسسة دار الكتاب ، ـ قم ـ ايران .

١٨٤
 &

قال بهذه المقالة من علماء السنة كمسلم في صحيحه ١ ، والحاكم في مستدركه ٢ ، وابن الاثير في كامله ٣ ، وابن سعد في طبقاته ٤ ، والطبراني في اوسطه ٥ ، والسيوطي في دره المنثور ٦ ، وغيرهم ، فقد ذكروا روايات أيضاً تدل على أنّ مارية القبطية هي المتَّهمَة في قضية الافك .

ورابعاً : أنّ من العجيب حقاً والملفت للنظر أن نجد في الروايات السنّية أن ممّن اتّهم مارية القبطيّة عائشة نفسها وانّها قد اصابتها الغيرة الشديدة حتى ان ابن سعد في طبقاته يروي عن عائشة قولها : (ما غرت على امرأة الّا دون ما غرت على مارية . . .) ٧ وهي التي نفت الشبه بين ابراهيم وبين الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله كما ذكر ذلك السيوطي في الدر المنثور ويقول ابن أبي الحديد

__________________

١) صحيح مسلم : ج ٨ ص ١١٩ النسخة المشكولة .

٢) مستدرك الحاكم : ج ٤ ص ٣٩ و ٤٠ .

٣) الكامل في التاريخ لابن الاثير : ج ٢ ص ٣١٣ .

٤) الطبقات الكبرى لابن سعد : ج ٨ ص ١٥٤ و ١٥٥ .

٥) مجمع الزوائد : ج ٩ ص ١٦١ عن الطبراني في الاوسط .

٦) الدر المنثور ، لجلال الدين السيوطي : ج ٦ ص ١٤٠ ـ ١٥٧ .

٧) الطبقات الكبرى لابن سعد : ج ٨ ص ٢١٢ راجع أيضاً انساب الاشراف : ج ١ ص ٤٤٩ .

١٨٥
 &

المعتزلي عن موقف عائشة حين مات ابراهيم عليه‌السلام : (. . . ثم مات ابراهيم فأبطنت شماتة وإن اظهرت كآبة . . .) ١ .

هذا ما يذكره بعض علماء السنة حول القضيّة وأنّ لعائشة دوراً كبيراً في إثارة التهمة ضد مارية ، كما ذكرت ذلك المصادر السنية ، فقل بربك هل يسوغ اتّهام الشيعة بأنّهم يقذفون نساء رسول الاسلام ؟ الا يقتضي التثبت والتروي أن يبحث الانسان في كتب الروايات والتاريخ عن هذا الأمر ليقف على الحقيقة بنفسه بدلاً من بثّ الدعايات المغرضة التي لا طائل من ورائها غير ايقاع الفتنة بين الناس .

وخامساً : أنّ أحد علماء الشيعة ومن المحقّقين في قضايا التاريخ الاسلامي قد ألّف كتاباً حول هذه القضية واستعرض فيه جميع النصوص الشيعية والسنّية الواردة في هذه الحادثة وناقشها نقاشاً موضوعيّاً توصل من خلاله إلى نتائج مهمّة ونطلب من هذا الكاتب أن يقرأ الكتاب ليرى الحقائق بأمّ عينه واسم الكتاب (حديث الافك) تأليف جعفر مرتضى طبع عام ١٤٠٠ هـ ـ ١٩٨٠ م على مطابع مؤسسة البيادر للطباعة ـ مزرعة ـ الضهر ـ الشوف ونشرته دار التعارف للمطبوعات ـ بيروت ـ لبنان ـ .

__________________

١) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد المعتزلي : ج ٩ ص ١٩٥ .

١٨٦
 &

الأحكام والفتاوي الجائرة

ثمّ ذكر الكاتب جملة من الاحكام قد ذكرها سابقاً وهي : لا يجوز تزوّجهم منّا أو نحن التزوج منهم ، لا يباح لحومهم وذبائحهم للمسلمين على الاطلاق ، لا ينبغي قبول صدقاتهم المقدمة للمساجد ، لا يجوز الصلاة على أمواتهم ، أو دعوتهم للقيام في صلوات أمواتنا ، لا يجوز كلّ ما ذكرناه بل إنّ صلاة الشيعي على أموات أتباع أهل السنّة تكون سبباً للعنة الله وتعذيبه للميّت في قبره .

ونقول : ـ بغضّ النظر على الخلل الواضح في هذه الأحكام الجائرة ـ إنّ ما توصّل إليه من هذه الأحكام لا ينسجم مع ما رتّبه من المقدّمات فإن كلّ ما ذكره مخدوش فيه صغرى وكبرى ، فإنّ الشيعة مسلمون موحّدون يلتزمون بالتعاليم الاسلاميّة في جميع شؤونهم من عبادات ومعاملات وأحكام ولا يخالفون الدين في كل قضاياهم ، وإذا كان هناك اختلاف مع السنة ، فهو يرجع الى فهم الامور وتشخيصها ، ولا يلزم منه ما ذكره من تلك الأحكام الجائرة الظالمة ، وإذا أصرّ هذا الكاتب على مزاعمه فيمكننا القول إنّ الشيعة ليسوا بحاجة الى أن يتزوّجوا من أناس

١٨٧
 &

هم على شاكلة هذا الكاتب أو تزوجه منهم كما أنهم ليسوا بحاجة إلى أن يأكل من ذبائح الشيعة ، وقس على ذلك بقية الأمور .

ومن الغريب المضحك قوله : إن صلاة الشيعي على اموات أتباع أهل السنّة تكون سبباً للعنة الله وتعذيبه للميّت في قبره ، فمن أين جاء بهذا الحكم وكيف يعذب الميّت بفعل غيره ؟ وهل اكتسب ذنباً حتى يعذب في قبره لمجرد صلاة الشيعي عليه ؟ والله تعالى يقول : ( وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ ) ١ أليس في هذا القول من هذا الكاتب نسبة الظلم والجور لله تعالى ؟ تعالى الله عمّا يقول الظالمون علوّاً كبيراً .

قال الكاتب : انّ العلامة ابن عابدين كتب ما يلي : لا يوجد شك وريب في كفر من يلصق التّهم بقذف سيدتنا عائشة (رض) أو ينكر خلافة سيّدنا أبي بكر .

ونقول : أمّا قضية اتّهام السيّدة عائشة فقد مرّ الكلام حولها .

وأمّا انكار خلافة أبي بكر ، فقد أنكرها بعض الصحابة إلى أن مات ، ولم يعترف بخلافة أبي بكر وهو سعد بن عبادة

__________________

١) سورة فاطر ، الآية ١٨ .

١٨٨
 &

سيّد الخزرج وهو من كبار الصحابة فإنه لم يبايع أبا بكر إلى أن قتل في الشام ١ ، كما تذكر ذلك المصادر التاريخيّة ، فإذا كان كلّ من أنكر خلافة أبي بكر يحكم عليه بالكفر ، فيكون سعد بن عبادة كافراً في نظر ابن عابدين ، فيا هؤلاء كيف تتّهمون الشيعة بأنّهم يكفرون الصحابة وعلماؤكم أيّها السنة هم يكفرونهم .

ثمّ لنا أن نتساءل هل أنّ خلافة أبي بكر وحي منزل أو أنّها وردت في نصّ من نصوص القرآن أو أنها كما يقول عمر بن الخطاب : فلتة وقى الله المسلمين شرها فمن عاد إلى مثلها فاقتلوه ٢

__________________

١) الملل والنحل لأبي الفتح محمد بن عبدالكريم الشهرستاني : ج ١ ص ٣٢ ، الطبعة الرابعة دار المعرفة ـ بيروت .

وراجع أيضاً الكامل في التاريخ لابن الأثير : ج ٢ ص ٢٢٢ .

وسعد بن عبادة بن دليم بن حارثة الخزرجي كان سيّداً جواداً ، وهو صاحب راية الأنصار في المشاهد كلها ، وكان وجيهاً في الأنصار ذا رياسة وسيادة يعترف قومه له بها ، وموقفه يوم السقيفة معروف مدون في كتب الاخبار والسير ، امتنع عن بيعة أبي بكر وسار إلى الشام فأقام بحوران إلى أن قتل .

رماه خالد بن الوليد وآخر بسهام وألقياه في بئر ، وقيل : رماه المغيرة بن شعبة ، وقيل قتلته الجن .

راجع شرح نهج البلاغة : ج ١٧ ص ٢٢٣ دار إحياء الكتب العربية وغيره من الكتب التي تناولت ترجمته وموقفه من خلافة أبي بكر .

٢) شرح نهج البلاغة : ج ٢ ص ٢٦ وراجع تلخيص الشافي : ج ٢ ص ١٠٤ وج ٣ ص ١٥٩ .

١٨٩
 &

أليس في قول ابن عابدين تعريض بقول عمر ١ .

ونحن وإن ذكرنا فيما تقدم أنّ الكاتب ذكر أنّ علماء الإسلام يحتاطون في إطلاق الكفر على من نطق بالشهادتين ، وأن أبا حنيفة يذهب إلى التّحذير من إطلاق الكفر على كل من اتّجه إلى قبلة الإسلام ، الّا أننا نضيف هنا أنّ علماء السنة قد اتفقت فتاواهم على عدم جواز تكفير المسلمين ، حتى أن بعضهم ذهب إلى عدم جواز تكفير الخوارج الذين يستحلّون دماء المسلمين وأموالهم ويكفّرون الصحابة ، هذا مع أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله نصّ على أنّهم يمرقون من الدّين كما يمرق السّهم من الرميّة ، وأنّهم شرّ الخلق والخليقة ، وأنّهم ليسوا من الله في شيء ، وأنّ طوبى لمن قتلهم أو قتلوه ٢ .

يقول السيّد شرف الدين رحمه الله معلقاً على ذلك : وإذا كان هؤلاء مسلمين بالاجماع ، فما ظنّك بمن دخل باب حطّة ، وركب سفينة النجاة ، واعتصم بحبل الله ، وتمسّك بثقلي رسول الله ، ودخل مدينة علمه من بابها ، ولجأ إلى أمان أمّته من اختلافها وعذابها ، وإذا كان الخوارج مسلمين فمن غيرهم من أهل القبلة

__________________

١) سورة الكهف ، الآية ٥ .

٢) الفصول المهمة للسيد شرف الدين : ص ٦٦ ، عن التاج الجامع .

١٩٠
 &

يكون كافراً ؟

وأيّ ذي نحلة من أهل الإسلام ليس له كشبهتهم ؟ ١ .

وقد عقد السيّد شرف الدّين رحمه الله في كتابه الفذ (الفصول المهمّة في تأليف الأمّة) فصلاً تحت عنوان الفتوى بنجاة أهل الشّهادتين ذكر فيه لمعة مما أفتى به علماء السنة من إيمان أهل التوحيد مطلقاً ، ونجاة أصحاب الشهادتين جميعاً فقال : ذكر العارف الشعراني في البحث ٥٨ من اليواقيت والجواهر أنّه رأى بخطّ الشيخ شهاب الدّين الأذرعي صاحب القوت ، سؤالاً قدّمه إلى شيخ الإسلام تقي الدّين السّبكي وصورته : ما يقول سيّدنا ومولانا شيخ الإسلام في تكفير أهل الأهواء والبدع ؟

قال : فكتب إليه اعلم يا أخي أنّ الإقدام على تكفير المؤمنين عسر جداً ، وكل من في قلبه إيمان يستعظم القول بتكفير أهل الأهواء والبدع ، مع قولهم « لا إله الّا الله محمداً رسول الله » فإنّ التّكفير أمر هائل عظيم الخطر ، إلى آخر كلامه ، وقد أطال في تعظيم التّكفير وتفظيع خطره ٢ .

ونقل عن ابن العربي في باب الوصايا من فتوحاته

__________________

١) الفصول المهمّة : ص ٦٦ ، الطبعة المحققة .

٢) الفصول المهمّة : ص ٥٨ ، الطبعة المحققة .

١٩١
 &

قوله إيّاكم ومعاداة أهل لا إله إلّا الله ، فإنّ لهم الولاية العامّة فهم أولياء الله ولو أخطأوا وجاءوا بقراب الأرض من الخطايا وهم لا يشركون بالله شيئاً فإنّ الله يتلقى جميعهم بمثلها مغفرة ، ومن ثبتت ولايته حرمت محاربته ١ .

ونقل عن صاحب المنار قوله : إنّ من أعظم ما بُليت به الفرق الإسلاميّة رمي بعضهم بعضاً بالفسق والكفر ، مع أن قصد كلٍ الوصول إلى الحق بما بذلوا جهدهم لتأييده واعتقاده والدّعوة إليه ، فالمجتهد وإن أخطأ معذور ٢ .

وقال رحمه الله : ونقل جماعة كثيرون منهم الشّعراني في المبحث المتقدم ذكره عن أبي المحاسن الرّوياني وغيره من علماء بغداد قاطبة ، أنهم كانوا يقولون : لا يكفر أحد من المذاهب الإسلامية لأنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : من صلّى صلاتنا ، واستقبل قبلتنا ، وأكل ذبيحتنا ، فله ما لنا وعليه ما علينا .

قال : وأطال في إثبات الإيمان لكل مصدّق بالشهادتين من أهل الأهواء والبدع كالمعتزلة ، والنّجاريّة والرّوافض ، والخوارج ، والمشبّهة ، ونحوهم ، وحكم بنجاة الجميع يوم القيامة .

__________________

١) الفصول المهمة : ص ٥٩ .

٢) الفصول المهمة : ٦٠ .

١٩٢
 &

ونقل القول بإسلام الجميع عن جمهور العلماء والخلفاء من أيام الصّحابة إلى زمنه .

قال : وهم من أهل الإجابة بلا شك ، فمن سمّاهم كفرة فقد ظلم وتعدّى ١ .

وقال رحمه الله : وأجمع الشّافعيّة على عدم تكفير الخوارج واعتذروا عنهم ـ كما في خاتمة الصواعق بأنّهم تأوّلوا ، فلهم شبهة غير قطعيّة البطلان ٢ .

وقال رحمه الله أيضاً : ورأيت كلاماً في هذا المعنى ناجعاً لشيخ السّادة الحنفيّة محمّد أمين المعروف بابن عابدين في باب المرتدّ من كتاب الجهاد من الجزء الثالث من ردّ المحتار يحكم فيه قاطعاً بإسلام من يتأوّل في سبّ الصحابة ، مصرّحاً بأنّ القول بتكفير المتأوّلين بذلك مخالف لإجماع الفقهاء مناقضاً لما في متونهم وشروحهم ، وأنّ ما وقع في كلام أهل المذهب من تكفيرهم ليس من كلام الفقهاء الذين هم المجتهدون ، بل من غيرهم قال : ولا عبرة بغير الفقهاء والمنقول عن الفقهاء ما ذكرناه . . . إلى آخر كلامه وقد اشتمل على أدلّة وافية ، وشواهد

__________________

١) الفصول المهمة : ص ٦١ ، الطبعة المحققة .

٢) الفصول المهمة : ص ٦٥ .

١٩٣
 &

كافية ، فليطلبه من أراده ، وله كلام آخر في هذا المعنى أبسط ممّا أشرنا اليه نلفت الطّالبين له إلى كتابه (تنبيه الولاة والحكّام) على أنّ ما في ردّ المختار مقنع لأولي الأبصار ١ .

وإنّما أطلنا في النقل عن هذا العالم العظيم السيّد شرف الدين (رحمه الله) لنؤكّد على أنّ هذا الكاتب يرمي عن غير قوسه ، ويتكلّم بغير لسانه ، ويكتب بغير قلمه ، وهو خالي الوفاض من كل علم ومعرفة .

وقد ذكر السيد شرف الدين في كتابه في فصول سابقة ولاحقة الكثير ممّا هو جدير بالمراجعة ، ولا يخفى أنّ هذا السيّد الجليل هو أبرز المنافحين عن حريم التشيّع ، وقد رهن حياته للدفاع عن مذهب أهل البيت عليهم‌السلام وقد أشرنا في مطلع الكتاب الى بعض مؤلفاته ، ويعجبني أن أنقل هنا ما ذكره في كتابه المراجعات عن الشيخ سليم البشري ـ شيخ الجامع الأزهر في زمانه ـ وهو قوله في المراجعة رقم (١١١) : قال : ـ مخاطباً السيّد شرف الدين ـ : أشهد أنكم في الفروع والأصول على ما كان عليه الأئمّة من آل الرسول ، وقد أوضحت الأمر فجعلته جليّاً وأظهرت من مكنونه ما كان خافيا ، فالشكّ فيه خبال ، والتشكيك تضليل ، وقد

__________________

١) الفصول المهمة : ص ٦٧ ، الطبعة المحققة .

١٩٤
 &

استشففته فراقني إلى الغاية ، وتمخّرت ريحه الطيبة فأنعشني قدسي مهبّها بشذاه الفيّاح ؛ وكنت ـ قبل أن أتصّل بسببك ـ على لبس فيكم لما كنت أسمع من إرجاف المرجفين وإجحاف المجحفين ، فلما يسّر الله اجتماعنا أويت منك إلى علم هدى ، ومصباح دجى ، وانصرفت عنك مفلحاً منجحاً ، فما أعظم نعمة الله بك علي ، وما أحسن عائدتك لدي ، والحمد لله ربّ العالمين ١ .

ونقول لهذا الكاتب : إذا كان الشيعة الإمامية هكذا في الأصول والفروع بشهادة شيخ الأزهر ، وإذا كان الشيعة الإمامية مسلمون موحدون ومن أهل القبلة ويشهدون الشّهادتين ، وهم ناجون بشهادة علماء السنة ، فهل يسوغ بعد ذلك رميهم بالكفر والخروج عن الدّين وهدر دمائهم ؟

( رَبِّ احْكُم بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمَٰنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَىٰ مَا تَصِفُونَ ) ٢ .

قال الكاتب : وكتب أيضاً في مورد آخر : إنّ الشيعة مرتدّون بلا إشكال ، وليس لهم حكم الّا الاعدام والقتل .

__________________

١) المراجعات : ص ٥٣٧ ، المراجعة رقم ١١١ .

٢) سورة الأنبياء ، الآية ١١٢ .

١٩٥
 &

ونقول : نحن نطالب ابن عابدين بالدليل على ارتداد الشيعة ، وعلى أيّ أساس بنى حكمه الجائر ضدّ الشيعة ، فإنّ الاسلام وضع الضابطة للحكم على الشخص بأنّه مرتدّ ، فهل تنطبق هذه الضابطة على الشيعة ليحكم ابن عابدين بارتداد الشيعة ويحكم عليهم بالقتل والاعدام ( كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ ) ١ إنّ اصدار الاحكام والفتاوى بلا رادع من دين ولا وازع من ضمير ولا خوف من الله ولا بينة ودليل في القول انما هو إثارة للفتن وإفساد في الأرض ونصرة للظلم والظالمين . وقد نقلنا جملة من فتاوى علماء السنة في نجاة الشيعة وأنهم على منهاج عترة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله .

ثمّ ذكر الكاتب ما كتبه رضي الدين مفتي دار العلوم من أنّ الشيعة يقولون بتحريف القرآن وأمرهم كأمر اليهود والنصارى ولا يجوز التزاوج منّا ومنهم ، أو التعامل والتعاطف معهم في أيّ أمر كان ، وختم كلمته بقوله فإنّ الشيعة الذين عندهم مثل هذه الأفكار والنظريات لا يتصفون بالكفر فقط بل هم أشدّ قبحاً وانحرافاً من الكفار .

ونقول : إنّ مشكلة هؤلاء الكتّاب والمفتين سريعوا المبادرة

__________________

١) سورة الكهف ، الآية ٥ .

١٩٦
 &

الى التكفير من دون أن يذكروا مستنداً ، أو أنهم إذا ذكروا مستنداً لحكمهم يغفلون عمّا ملئت به كتبهم ، ونحن نتعجب كيف يكون مثل هذا مفتياً والافتاء يقتضي الاحاطة بالأدلّة والمعرفة الدقيقة لاُصول الدين وأحكامه ، والوقوف على موارد الاختلاف ، فهل علم هذا المفتي أنّ القول بالتحريف موجود عند السنة ورواه علماؤهم في كتبهم كما بينا ذلك مفصلاً ، ثمّ إنّ مجرد الاختلاف في النظريّات والأفكار هل هو سبب كاف للحكم بالكفر ؟ أليس من اللائق هو عرض الأدلّة ومناقشتها مناقشة علميّة وبيان مواضع الخطأ منها ـ على فرض وجود الخطأ فيها ـ والسعي إلى فهم مرادات الشيعة بدلاً من تكفيرهم ؟ أليس من اللائق بهذا المفتي أن يتثبت في فتاواه وفي حكمه أنّ الشيعة كاليهود والنصارى ؟ فعلى أيّ أساس بنى حكمه ؟ وما هو دليله على ذلك ؟؟ أليس من الجدير بهذا المفتي أن يتّقي الله ويخشاه ويخاف ربّه ولا يكون لمجرمين ظهيراً

ثمّ ذكر الكاتب ما كتبه محمّد مرتضى الحسن نازم ـ دار العلوم ـ الهند ـ حيث قال : إنّ الأمر الجوهري في المسألة هو كونهم رافضة ومعنى الرافضة : انّهم منكرون ورافضون لخلافة أبي بكر وعمر وعثمان إنّهم لا يرتدّون صفة الكفر والارتداد وخروجهم عن حوزة الاسلام مجردة بل عليها صفات زائدة

١٩٧
 &

تتمثل في عدائهم للاسلام .

ونقول :

اولاً : إذا كان الرفض لخلافة أبي بكر وعمر وعثمان دليلاً على الكفر ، فهذا لا يختص بالشيعة بل يشمل بعض الصحابة ، كما ذكرنا أن سعد بن عبادة قد رفض بيعة أبي بكر وخلافته الى أن قتل .

وثانياً : أنّ الخلافة في نظر علماء السّنة ليست وحياً ولم يرد فيها نصّ قرآني ، وإنّما هي من اختيار الناس أنفسهم وهم غير معصومين .

وثالثاً : أنّ الشيعة تعتقد بأنّ الخلافة بعد النبي لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه‌السلام وتملك على ذلك الأدلّة والبراهين والعقليّة والنقلية وبإمكانها أن تثبت عقيدتها من كتب السنّة أنفسهم ، وإذا قام الدليل عندهم على أمر فلا مجال للعدول عنه إلى أمر آخر .

وأما قوله أن هناك صفات زائدة تتمثل في عدائهم للاسلام ، فهذا زور وبهتان ، ولنا ان نتساءل ما هو هذا العداء ؟ وما هي تلك الصفات الزائدة ؟ وليته بيّنها لنقف على مقصوده ، أما أنّه يأتي بالكلام مجملاً مبهماً فهذا خلاف العلم والعدل والانصاف .

١٩٨
 &

قال الكاتب : فعلى المسلمين أن يجتنبوا عن أيّة معاملة اسلامية معهم كالتزاوج معهم إلى أن قال : ولو عاش الزوجان في العلقة الزوجيّة هذه فانّهما يعتبران زانيان خارجان عن حدود الله . . .

ونقول : عجيب أمر هؤلاء إنّهم لا يكادون يفقهون حديثاً ، وإنهم ليجرؤن على مخالفة مذاهبهم وأقوال علمائهم الامر الذي يؤكد ما ذكرناه من أنّ هؤلاء الكتّاب ليسوا من أهل العلم ولا يقرأون ما كتبه علماؤهم ونريد في الجواب عن هذه السخافة الاكتفاء بطرح السؤال التالي : لو أن رجلاً وامرأة متزوّجان وهما كافران ثمّ أسلما ، فهل نحكم عليهما بأنّهما كانا زانيين ونقيم الحدّ عليهما لارتكابهما الزنا أيّام كفرهما ؟ أم أنّ الدين الاسلامي يمضي ما كانا عليه إذ لكلّ أمة نكاح كما قرّر ذلك في الفقه الاسلامي ؟ ؟ ؟

ثمّ نقول : هكذا يكون التلاعب بأحكام الله إذا كانت الكلمة لهؤلاء الجهّال وأضرابهم ولا حول ولا قوّة الّا بالله العليّ العظيم وإنا لله وإنا إليه راجعون .

ثمّ نقل الكاتب ما كتبه محمّد فزاز علي مدرس الأدب والفقه حيث قال : توجد فرق متعددة عند الشيعة ومعتقداتها وإن

١٩٩
 &

لم تتفق في نقطة معينة فهي باطلة بالنسبة لبعضها وكفرها واضح على كل حال ويأتي الاثنا عشرية في مقدمتها وعلى هذا الاساس لا يجوز التزاوج منا ومنهم او إجراء المعاملة الاسلامية معهم .

ونقول : أهذا هو الأدب الذي تدرّسه لطلّابك ؟ وهذا هو الفقه الذي يتلقّاه المتعلمون منك ؟ كيف تبني أحكامك على أساس واه لا قرار له ولا ثبات ؟ وكيف ساغ لك الحكم بتكفير المسلمين من دون بينة وبرهان ؟ هلّا وقفت على أقوالهم وأدلّتهم وناقشتها وحاكمتها على أساس العلم والأدب والفقه ؟ أليس من الأدب أن تكون باحثاً موضوعياً تطرح الدليل الذي يقيمه خصمك وتبين مواضع الخطأ فيه ؟ أليس من الفقه ان تطلع على ما يقوله الشيعة في التوحيد والنبوة والامامة والمعاد والعبادات والمعاملات وترى كيف يستدلّون على عقائدهم وأحكامهم ؟ .

يا مدرّس الأدب والفقه أنت في دار العلوم في الهند وفيها أكثر من أربعين مليوناً من الشيعة وفيهم العلماء ألا يأمرك أدبك وفقهك ان تسعى لطلب الحقيقة والنقاش العلمي الموضوعي مع علمائهم لتقف على حقيقة الشيعة ومعتقداتها بدلاً من أن تبادر للتكفير والتهجّم بلا دليل لإثارة الفتن بين المسلمين ، ولكن ما أصدق قول القائل فاقد الشيء لا يعطيه وإن منح أفخم الألقاب .

٢٠٠