آيات الأحكام

محمد بن علي الاسترابادي

آيات الأحكام

المؤلف:

محمد بن علي الاسترابادي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة المعراجي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣٩٢

على عدم جواز المسح بفضلة الوضوء من الندى ، بل بالماء الجديد ، وحملتا على التقيّة لذلك ، وعلى الاضطرار ، وذهب بعض إلى وجوب مسح مقدار ثلاث أصابع ، ولا دليل عليه إلّا مفهوم بعض الاخبار ، وعموم الآية والاخبار بل خصوص كثير منها ينفيه.

د ـ مسح الرّجلين إلى الكعبين بالمسمّى كالرأس ، وهو صريح القرآن ، فإنّ قراءة الجرّ نصّ في ذلك ، لانّه عطف على (بِرُؤُسِكُمْ) لا محتمل غيره ، وهو ظاهر ، وجرّ الجوار مع ضعفه ربما يكون في الشعر لضرورته مع عدم العطف ، وأمن اللبس ، أما في غيره خصوصا مع حرف العطف والاشتباه ، بل صراحته في غيره ، فلا نحمل القرآن العزيز عليه ، مع ذلك كلّه خطأ عظيم ، ولذلك لم يذكره في الكشّاف ، ولا احتمالا لكن ذكر ما هو مثله بل أبعد وهو أنّه لما كان غسلها بصبّ الماء كان مظنّة للإسراف فعطفت على الرؤس الممسوحة لا لتمسح بل لينبّه على ترك الإسراف وقال (إِلَى الْكَعْبَيْنِ) قرينة على ذلك إذا لمسح لم يضرب له غاية في الشريعة.

ولا يخفى أنّ بناء هذا وسياقه على أنّ وجوب غسل الرجلين في الوضوء وكونه مرادا من الآية معلوم شرعا لا يحتمل سواه وكيف يجوز ذلك مع إطباق أهل البيت عليهم‌السلام وإجماع شيعتهم الإماميّة وجميع كثير من الصحابة والتابعين وغيرهم منهم أيضا والاخبار الكثيرة المتواترة خصوصا من طرق أهل البيت عليهم‌السلام على المسح وأنّه المراد بالاية مع صراحتها فيه والاخبار من طرقهم على الغسل غير بالغ حدّ التواتر ولا تفيد علما مع عدم المعارض فكيف في هذا المقام.

ثمّ إنّه لا يتم نكتة بعد الوقوع أيضا ، فان إرادة الغسل المشابه للمسح ينافيها استحباب غسلها ثلاثا وكونها سنّة كما هو مذهبهم ، وأيضا لم يثبت إطلاق المسح بمعنى الغسل الخفيف ، وأما قول العرب تمسّحت للصلاة أو أتمسّح بمعنى الوضوء ، فان صحّ فهو إطلاق لاسم الجزء على الكلّ فإنّه إمّا مسح أو ما يشتمل عليه عادة ، فلم يطلق على

__________________

وروى الأول في المنتقى ج ١ ص ١٢٦ ولم يرو الثاني لما في أحاديث أبي بصير من الكلام وفي الباب حديث آخر أيضا في التهذيب بالرقم ١٦٦ عن أبي عمارة الحارثي قال سألت جعفر بن محمد عليه‌السلام أمسح رأسي ببل يدي قال خذ لرأسك ماء جديدا.

٤١

خصوص الغسل الخفيف ، ثمّ لو صحّ فلا يصحّ في الآية ، فإنّه على هذا التوجيه مقابل للغسل الخفيف ، فان الإسراف في ماء الوضوء ممنوع مطلقا.

ثمّ لا ريب أنّ إرادة غسل مثل غسل الوجه واليدين على وجه لا إسراف فيه مع ذلك إلغاز وتعمية غير جائز في القرآن سيّما مع عدم القرينة على شيء من ذلك لا صارفة ولا معيّنة ولا علاقة مصحّحة ، أما قوله (إِلَى الْكَعْبَيْنِ) فالحقّ أنّه يقتضي خلاف ما ذكره ، لتكون الفقرتان على أبلغ النظم وأحسن النسق من التقابل والتعادل لفظا ومعنى ، كما هو المنقول عن أهل البيت (١) عليهم‌السلام فأين هذا من التنبيه على ما قال.

ثمّ لا يخفى أنّ المراد لو كان هذا المعنى ، لنقل عنه عليه‌السلام بيانا لكونه ممّا يعمّ به ، ولا استدلّ به على عدم الإسراف ، وليس شيء من ذلك ، بل هذا توجيه لم يذكره الصدر الأوّل ولا الثاني ، ولم ينقل عنهم ، وأيضا فإنّ هذا إنّما يتصوّر بأن يراد بقوله (وَامْسَحُوا) حقيقة المسح بالنسبة إلى الرؤس ، ومثل هذا المجاز بالنسبة إلى الأرجل ، ولا ريب أنه أبعد من إرادة معنيي الوجوب والندب في الأمر ، وقد قال في

__________________

(١) روى زرارة في الصحيح عن أبى جعفر عليه‌السلام قال : ألا تخبرني من أين علمت وقلت ان المسح ببعض الرأس وبعض الرجلين؟ فضحك عليه‌السلام ثم قال : يا زرارة قال رسول الله ونزل به الكتاب من الله لان الله يقول «فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ» فعرفنا أن الوجه كله ينبغي أن يغسل ثم قال «وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ».

ثم فصل بين الكلامين فقال (امْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ) فعرفنا حين قال (بِرُؤُسِكُمْ) أن المسح ببعض الرأس لمكان الباء ، ثم وصل الرجلين بالرأس كما وصل اليدين بالوجه ، فقال (وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ) فعرفنا حين وصلهما بالرأس أن المسح ببعضهما ، ثم سن ذلك رسول الله للناس فضيعوه ، منه قدس‌سره. أقول : انظر جامع أحاديث الشيعة ج ١ ص ١١١ الحديث بالرقم المسلسل ٩٥٥ والتهذيب ج ١ ص ٦١ الرقم ١٦٨ والاستبصار ج ١ ص ٦٢ الرقم ١٨٦ والفقيه ج ١ ص ٥٦ الرقم ٢١٢ والكافي ج ١ ص ١٠ باب مسح الرأس والقدمين وهو في المرات ج ٣ ص ١٩ وعلل الشرائع ج ١ ص ٢٦٤ الباب ١٩٠ ط قم والعياشي ج ١ ص ٢٩٩ والبحار ج ١٨ ص ٦٦ وص ٧٠ والبرهان ج ١ ص ٤٥٢ والوسائل الباب ٢٣ من أبواب الوضوء الحديث ١ ج ١ ص ٥٥ ط الأميري وهو في ط الإسلامية ج ٢ ص ٢٩٠ الرقم المسلسل ١٠٧٣ والوافي الجزء الرابع ص ٤٤ وهو في المنتقى ج ١ ص ١٢٥ وص ٢٧٣.

٤٢

اغسلوا أنه إلغاز وتعمية فليتأمل.

وأما قراءة النصب (١) فلأنّه معطوف على محلّ (بِرُؤُسِكُمْ) ومثله معروف شائع كثير في القرآن وغيره ، وعطفه على وجوهكم مع تماميّة ما تقدّم وانقطاع هذا عنه بالفصل بقوله (وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ) والعدول عن العامل والمعطوف عليه القريبين إلى البعيدين في جملة أخرى بعيد جدّا غير معروف ولا مجوّز ، سيّما مع عدم المقتضي كما هنا ، وقد عرفت فتذكّر.

ثمّ ظاهر الآية عدم الترتيب بينهما ، كما عليه أكثر الأصحاب ، ويؤيّده الأصل.

تنبيه : الظاهر أنّه لا يشترط في المسح عدم تحقّق أقلّ الغسل معه أي جريان الماء في إمرار اليد لصدق الاسم المذكور في الكتاب والسنّة والإجماع حينئذ لغة وعرفا وللزوم تأخير البيان عن وقت الحاجة لو كان شرطا ، إذ لم يبين ، ولأنه تكليف شاقّ

__________________

(١) وزبدة المخض في المسئلة أنه اختلف انظار علماء الإسلام في نوع طهارة الأرجل من أعضاء الوضوء فالامامية الاثنا عشرية ذهبوا الى تعين المسح فرضا تبعا لأئمتهم وهو مذهب ابن عباس وأنس بن مالك وعكرمة والشعبي وابى العالية وهو المروي في كتب أهل السنة عن على عليه‌السلام.

وجمهور فقهاء أهل السنة على وجوب الغسل فرضا على التعيين وعليه الأئمة الأربعة منهم.

ورب قائل بالتخيير بينهما كما نقل عن الحسن البصري والطبري والجبائي وأوجب داود بن على الظاهري والناصر للحق من أئمة الزيدية الجمع بين الغسل والمسح وكأنهما وقعا في حيرة فالتبس الأمر عليهما بسبب التعارض بين الآية والاخبار فأوجبا الجمع.

والذي تقتضيه الآية قطعا انما هو تعين المسح كما عليه الإمامية ولتوضيح ذلك نقول أنه قد نقل القرائتان في وأرجلكم نصب اللفظ وجرة عن السبعة المدعى تواترها لم ينقل غيرهما الا شاذا كما في شواذ القرآن لابن خالويه ص ٣١ نقل قراءة الرفع عن الحسن ، وكذا في الكشاف ج ١ ص ٦١١ وسنتكلم في تلك القراءة أيضا ، وعلى القراءتين المشهورتين اما ان نقول : القرائتان متواترتان وبكلتيهما نزل القرآن ونزله روح الأمين على قلب النبي كما عليه أكثر أهل السنة أو نقول ان النازل انما هو احدى القرائتين والتبس الأمر علينا ولم نعلم أيهما عين ما نزل

٤٣

منفيّ خصوصا هنا ، فإيجابه بعيد ، نعم هو أحوط وقد تكون المقابلة باعتبار النيّة أو باعتبار غالب الأفراد.

وقوله (وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا) في حيّز (إِذا قُمْتُمْ) كما عرفت ، ونقيضه ما بعده ، فلا يلزم وجوب غسل الجنابة لنفسه ، بل هو كباقي الطهارات للصلاة ونحوها كما هو الظاهر ، ونقيضه بعض الأخبار وظاهر السياق كما قدّمنا.

وتبيّن في السنّة أنّ المراد بالمرض ما يستلزم الوضوء أو الغسل معه حرجا

__________________

به القرآن وانما أمرنا بمتابعة ما قرأته الناس حتى يظهر الإمام القائم (ع) ونعلم انه بأيهما نزل الروح الأمين على قلب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله.

فلنفرض أولا كون المنزل إحديهما فلا محالة اما أن يكون الجر أو النصب أو الرفع على فرض شاذ نقل عن الحسن فان كان الجر فمقتضاه كون الأرجل معطوفة على الرؤس وكون الواجب فيهما المسح كما وجب في الرأس.

واحتمال كون الجر على الجوار مع ضعف العطف على الجوار حتى عده كثير من أهل الأدب في اللحن واشتراطه بأمن اللبس كما في جحر ضب خرب إذ لا يحتمل أحد كون الخرب نعتا للضب مضافا الى اشتراط كونه بدون حرف العطف وعدم تكلم العرب به مع العطف حكم بكون منزل القرآن عاجزا عن أن يأتي بما هو مقبول عند كل أحد ويورد الكلام بوجه مغسول مرذول لا يقبله الطبع.

ثم لنفرض ثانيا ان الذي نزل به الروح الأمين هو النصب فقط فنقول مقتضاه أيضا وجوب المسح وذلك لأنه على هذه القراءة يكون المعنى وجوب مسح الرؤس مع الأرجل وكون الواو بمعنى مع ونصب الاسم بعد واو المعية مما لا ينكره أحد من أهل الأدب ولم يشترطوا في ذلك الا تقدم الفعل وشبهه وهو موجود في الآية.

ولتحقيق البحث في واو المعية انظر الكتاب لسيبويه ج ١ من ص ١٥٠ الى ص ١٥٦ والإنصاف لابن الأنباري المسئلة ٣٠ من مسائل الخلاف من ص ٢٤٨ الى ص ٢٥٠ والاشمونى بتحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد ج ٢ من ص ٣٩٥ الى ص ٤٣٠ وكذا ج ٤ من ص ٦٣٥ الى ص ٦٣٧ والاشمونى بحاشية الصبان ج ٢ من ص ١٣٤ الى ص ١٤١ وشرح الرضى على الكافية ط اسلامبول ج ١ من ص ١٩٤ الى ص ١٩٨ والتصريح للأزهري ج ١ من ص ٣٥٣ الى ص ٣٥٥ والخصائص لابن جنى ج ١ ص ٣١٢ وص ٣١٣ وج ٣ ص ٣٨٣.

٤٤

وعسرا في الحال أو المآل وكذلك السفر ، لكن قد يتحقّق مثل أعذار السفر في الحضر ويوجب التيمّم كما هو مبيّن في السنّة وينبّه عليه عجز الآية ، فلا يبعد دخوله تحت قوله (أَوْ عَلى سَفَرٍ) على أنّ المراد به مطلق الأحوال الّتي يشقّ معها الوضوء والغسل غير المرض ، وعدم وجدان الماء ، ولو على طريق الاستتباع منبّها على ذلك بعجز الآية معتمدا على البيان النبوّي ، مع احتمال كون غير السفر معلوما حكمه عن محض السنّة أو العجز.

__________________

وقد ورد في التنزيل مثله أيضا وهو الآية ٧١ من سورة يونس عند قصة نوح (فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكاءَكُمْ) على قراءة شركائكم بالنصب وعليه رسم المصاحف انظر نثر المرجان ج ٣ ص ٦٤ وقد ذكروا للنصب وجوها كثيره لا يقبلها الذوق السليم الا كونه مفعولا معه لضمير الفاعل في فاجمعوا ويكون معناه مطابقا لقراءة يعقوب وان لم يوافقه رسم المصحف فإنه قرء بالرفع عطفا على الضمير المرفوع المتصل من غير تأكيد بالمنفصل لوقوع الفاصلة.

وقد صرح ابن جنى بأنه كلما جاز استعمال الواو عاطفة يجوز استعمالها بمعنى مع فلا يلزم من كون الواو بمعنى مع وجوب كون مسح الرؤس مع الأرجل في زمان واحد كما توهمه الالوسى ج ٦ ص ٦٩ بل ترى هذا الجواز مصرحا في كلمات كثير من الأدباء وان أبيت فكون الأرجل في قراءة النصب معطوفا على محل برؤسكم خال عن كل خلل والعطف على المحل شائع ذائع في استعمال العرب لا نريد هنا الإطالة بذكر الأمثلة.

واما احتمال كون الأرجل على قراءة النصب عطفا على الأيدي فهو رد الكلام الى وجه مرذول مغسول يراه كل أحد في كل لغة قبيحا أترى ان قال أحد بالفارسية (زيد را بزن وبعمر إحسان نما وبكر را يعنى بزن بكر را) وكذا لو قال بالعربية اضرب زيدا وأحسن إلى عمرو وبكرا أى اضربه أيقبله أحد أو يستهزئه في هذا التعبير وينسب المتكلم الى العجز أو الجهل تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.

واما احتمال كونه مفعولا لفعل مقدر مثل علفتها تبنا وماء باردا فهو أيضا وجه لا يحتاج اليه ويعود الكلام إلى إرادة معنى لا يدل عليه أصل الكلام ولا يصدر الا عن العاجز الجاهل بكيفية إيراد الكلام.

ثم لنفرض ثالثا كون القرآن بالقرائتين منزلا على النبي (ص) فنقول حيث ان مقتضى كل من القرائتين وجوب المسح فرضا بالتعيين فكونه متعينا في هذا الفرض أيضا أوضح من ان يحتاج الى البيان.

واما ما روى شاذا من قراءة الحسن البصري وأرجلكم بالرفع فهو مبتدأ محذوف الخبر معناه كما قاله ابن خالويه «مسحه الى الكعبين» إذ هو المناسب لكونه محذوفا مقرونا بالقرينة

٤٥

وقريب من ذلك الأمر في (أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ) فإنّه يحتمل أن يكون المراد مطلق الحدث الأصغر ومطلق الجنابة بقرينة ما تقدّم كما نبّهنا ـ وأن يكون الغائط أو ما يخرج من السبيلين من البول والغائط بل الريح ومجامعة النساء كما قاله كثير من المفسّرين فتأمّل.

__________________

كما احتمل في الكشاف فقال ممسوحة أو مغسولة ولا ان غسلها الكعبين مع عدم ذكر غسل لها من قبل الا مع فصل طويل ومع ذلك فالقراءة شاذة.

فثبت أن الذي عليه التنزيل هو تعين وجوب المسح فرضا واعترف به ابن حزم في المحلى ص ٢٦٦ ج ١ المسئلة ٢٠٠ وقال ان القرآن نزل بالمسح سواء قرئ بخفض اللام أو بفتحها هي على كل حال عطف على الرؤس اما على اللفظ واما على الموضع لا يجوز غير ذلك ثم اختار وجوب الغسل لمكان نسخ الآية بالأخبار واعترف بدلالة الآية غير واحد من أهل السنة كما يستفاد من مراجعة التفاسير والكتب الفقهية منهم.

هذا ما يستفاد من الكتاب واما السنة فنقول حيث ثبت تعين المسح فرضا لا يكون اجازة الغسل تعيينا أو تخييرا الا نسخا للقرآن ولا يكون تخصيصا أو تقييدا فلا يمكن إثباته إلا بالسنة المتواترة إذ لا يجوز نسخ الكتاب بالآحاد ولم يتواتر السنة بالغسل بل المتواتر الواصل عن أئمة الهدى الذين فيهم نزل القرآن وهم اولى بفهم القرآن تعين المسح.

سلمنا وفرضنا إمكان نسخ القرآن بالآحاد أو فرضنا اجازة الغسل تعيينا أو تخييرا تخصيصا أو تقييدا وفرضنا صحة أحاديث وردت في كتب أهل السنة لكن نقول انه كما ورد الغسل في ـ أحاديثهم فكذلك تعين المسح أيضا وارد في أحاديثهم والقاعدة في المتعارضين انما هو التساقط.

فان قال بعض أعلام الشيعة في المتعارضين بالتخيير فلأخبار لهم جعل العلاج فيها في ـ المتعارضين الأخذ بالتخيير وليس في اخبار أهل السنة ما يوجب هذا العلاج والحكم بالأخذ بالتخيير وحكم العقل في الدليلين المتعارضين المتكافئين انما هو التساقط وليس في اخبار الغسل ترجيح وان شئت ملاحظة اخبارهم فراجع ما في فهرس مصادر كتاب الوضوء في الكتاب والسنة لسماحة الآية نجم الدين العسكري مد ظله ثم راجع أصل المصادر لا نطيل الكلام وعندئذ نقول :

بعد تعارض الاخبار لا يكون المرجع الا الكتاب الكريم وليس مفاده الا تعين المسح فما عليه الإمامية هو المطابق للقرآن وبيان أهل البيت الذين هم أدرى بما في البيت فالحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لو لا ان هدانا الله.

٤٦

فيدلّ على أنّ الغائط أو البول بل الريح أيضا أحداث موجبة للوضوء والتيمّم وكون الجماع حدثا أكبر موجبا للغسل والتيمّم ، وعدم اشتراط حصول المني في الجنابة فيكفي غيبوبة الحشفة لصدق الملامسة.

وفي قوله (فَلَمْ تَجِدُوا ماءً) دلالة على أنّ الغسل والوضوء إنّما يكون بالماء لا غير ، وعلى طلب الماء في مثل رحله وحواليه مع اجتهاد ما من غير حرج ، وأما غلوة سهم في الحزنة وغلوتين في السهلة كما قيل (١) ، فلا دلالة عليه فيها ، ولا في الخبر بل سياق بعض الأخبار كالأصل ينفيه. نعم لا بأس بمراعاة ذلك على حسب الاحتياط.

ويدلّ أيضا على وجوب الشراء مع التمكّن من غير حرج لأنّه واجد بل على قبول بذله كذلك ، ونحوه بذل قيمته فتأمل.

وفي قوله (فَتَيَمَّمُوا) إلخ دليل على وجوب التيمّم مع العذر واشتراطه وعدم جواز التيمّم بغير الأرض ، واشتراط طهارته بل إباحته أيضا ، وأنّ المسح ببعض الوجه وبعض الأيدي ، لأنّ الباء للإلصاق أو التبعيض ، وعلى التقديرين يصدق بمسح البعض ، ويشعر بأنّ مسح الوجه أوّل أفعال التيمّم إلّا أن يريد بتيمّم الصعيد وضع اليد عليه أيضا ، أمّا الترتيب والموالاة فنحو ما تقدّم في الوضوء ومراعاة العلوق أحوط وربما كان في الروايات إشارة إليه (٢) وإلى عدمه ، فليتأمل.

وفيها دلالة أيضا على أنّ تيمّما واحدا يكفي مع اجتماع الحدث والجنابة وأنّ التيمّم عن الجنابة مثل التيمّم عن الحدث الأصغر ، وأنه يكفي فيهما ضربة واحدة ، وهو في أخبار صحيحة أيضا وروي ضربتان مطلقا (٣) وللغسل فالأولى حمل الزائد على الاستحباب كما قاله علم الهدى ، وكأنه في الغسل آكد فتأمل.

وفي العجز دلالة على عدم الحرج في أمر الطهارة أصلا ، فلا يبلغ في الطلب حدّ

__________________

(١) انظر تعاليقنا على مسالك الافهام ج ١ ص ٦٩.

(٢) انظر الوسائل الباب ١٣ من أبواب التيمم الحديث وهو في ط الإسلامية ج ٢ ص ٩٨٠ المسلسل ٣٨٧٦.

(٣) انظر جامع أحاديث الشيعة ج ١ من ص ٢٢٢ الى ص ٢٢٤

٤٧

الحرج ، ولا في استعمال الماء ، فلا يجزى مع العذر إلّا في مثل ما إذا أفرط في الطلب فوجد ، لأنّه يجب بعد الوجدان.

ودلالة على أنّ التيمم طهارة ورافع في الجملة ، فينبغي أن يباح به عند العذر ما يباح بالمائيّة ، ويؤيّده ما في الاخبار نحو «يكفيك الصعيد عشر سنين ، والتراب أحد الطهورين ، وربّ الماء وربّ الأرض واحد» (١) وليس رافعا بالكلّيّة ، فان حكمه يزول بزوال العذر ، والتمكّن من المبدل.

وقال شيخنا المحقّق دام ظلّه (٢) يحتمل رفعه إلى أن يتحقّق الماء أو يوجد القدرة على استعماله إذ لا استبعاد في حكم الشارع بزوال الحدث إلى مدّة ، فإنّه مجرّد حكم الشارع ، فلعلّ البحث يرجع إلى اللّفظي فليتأمل فيه.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ وَلا جُنُباً إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللهَ كانَ عَفُوًّا غَفُوراً)(٣).

تخصيص الخطاب بالمؤمنين لنحو ما تقدّم ، وقد يتوهّم دلالة الآية على عدم خروج المؤمن بشرب الخمر عن الايمان ، فيكون الفاسق مؤمنا ، وفيه نظر من وجوه لا يخفى (٤)

ثمّ المراد إمّا النهى عن فعل الصلاة والقيام إليها في حال السكر من خمر ونحوه

__________________

(١) الاخبار بهذه المضامين كثيرة مبثوثة في أبواب الطهارة.

(٢) انظر زبدة البيان ص ٢١ ط المرتضوي.

(٣) سورة النساء الآية ٤٣.

(٤) منها الفرق بين المؤمنين وبين الذين آمنوا ، لاختصاص الأول بهذه الخصوصية ومنها منع ما يستلزم ثبوت هذا الإطلاق أو صدق اسمه حال السكر ، فإنه مثل أن يقال لا تفسقوا ولا تكفروا ، ومنها أن السكور بما يحصل بالشرب على الوجه الخطاء أو الإكراه ، فلا يستلزم الفسق ، ومنها على أن السكر سكر النوم فلا فسق أيضا فليتدبر ، منه قدس‌سره.

٤٨

أو من النوم أو أعمّ كما هو ظاهر القاضي (١) فإنّ الصلاة مع زوال العقل لا يصحّ ، فيجب القضاء إذا فاتته ، والمخاطب بذلك المكلّف به المؤمنون العاقلون إلى أن يذهب عقلهم ، فيجب ما يأمنون معه من فعل الصلاة حال السكر.

(وَلا جُنُباً) يستوي فيه الواحد والجمع والمذكر والمؤنّث ، وهو عطف على (وَأَنْتُمْ سُكارى) لأنّ محل الجملة مع الواو النصب على الحال (إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ) استثناء من عامّة أحوال المخاطبين وانتصابه على الحال ، أو صفة لقوله (جُنُباً) أي لا تقربوا الصلاة جنبا إلّا مسافرين أي معذورين أو غير مسافرين أي غير معذورين (حَتَّى تَغْتَسِلُوا).

وعلى التقديرين يدلّ على أنّ التيمم لا يرفع الحدث ، والتعبير عن مطلق المعذورين بعابري سبيل حينئذ كأنه لتحقق الأعذار غالبا في السفر ، وأما النهي عن مواضع الصلاة ، أي المساجد حال السكر من خمر ونحوه وجنبا إلّا مجتازين بأن تدخلوا من باب وتخرجوا من آخر ، وفي مجمع البيان وهو المرويّ عن ابى جعفر عليه‌السلام (٢).

فان صحّت الرواية وإلّا فينبغي النظر إلى ما في كلّ من التكلف والترجيح فالأوّل إنما يحتاج إلى حمل (عابِرِي سَبِيلٍ) على المعذورين بقرينة ما يأتي في التيمّم ، فان حمله على المسافرين منهم فقط مع الحصر غير مناسب ، وهذا إلى حمل القرب من الصلاة على حضور مواضعها من المسجد ، أو تقدير مواضع مضافا بقرينة عابري سبيل محمولا على ظاهره ، أما ما يرجح به هذا من احتياج الأوّل إلى قيده بالتيمم ولزوم التكرار ففيهما نظر.

نعم يؤيده أن ذكر الصلاة بالتيمم في المائدة يوجب على الأول دون الثاني ، أما ذكر كون الصلاة بالتيمم بعده كما يقتضيه قوله (أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ) فيؤيد الأوّل لأنّ المحدث يجوز له دخول المسجد ، فلا يراد بالاية منعه إجماعا فهو بالأول

__________________

(١) البيضاوي ج ٢ ص ٨٨ ط مصطفى محمد.

(٢) المجمع ج ٢ ص ٥٢ ومثله في كنز العرفان ج ١ ص ٢٩.

٤٩

أنسب ، ولو أريد على الثاني المنع من الصلاة أيضا فافهم.

وذكر ذلك [أي (أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ) إلخ] إشارة إلى كون السكر ناقضا للوضوء ، فمع كونه بعيدا ، كذلك (١) كما لا يخفى ، وقد يقال يؤيده أيضا أنّ القول بتحريم دخول السكران المسجد غير معروف ، ولا معلوم إلّا باعتبار الصلاة فيرجع إلى تحريمها ، وفيه تأمل.

وقد يؤيّده أيضا ظاهرا عدم جواز اجتياز الجنب في المسجدين ، فإنه يقتضي ظاهرا تقييد الاستثناء أو الصفة على الثاني فيؤيّد الأول لكن لا يبعد أن يكون نزول الآية قبل حرمة الاجتياز فيهما كما قيل على أنّ الدلالة على جواز الاجتياز بالمفهوم على تقدير الصفة ولا نسلم عمومه هنا ، فربّما يقال نحو ذلك على الاستثناء أيضا فتأمل.

وقال شيخنا المحقّق دام ظله بعد تضعيف الثاني : فالظاهر أنّ المراد بصدر الاية الدخول في الصلاة وإن أمكن جعل (وَلا جُنُباً) باعتبار المساجد بارتكاب تقدير ويحتمل أن يكون المنهيّ القرب إلى الصلاة مطلقا ومجملا : بالنسبة إلى السكران فعلها ، وبالنسبة إلى الجنب الدخول إلى مواضعها ويكون معلوما بالبيان ، ولا يخلو عن بعد والأول أبعد انتهى.

وعن الشهيد الثاني : قال أهل البديع (٢) إنّ الله سبحانه استخدم في هذه الآية

__________________

(١) اى بالأول أنسب.

(٢) انظر شرح الإرشاد ص ٥٠ وخلاصة الكلام في هذا المبحث أن لأهل الأدب في معنى الاستخدام اصطلاحين الأول ما استعمله الزركشي في البرهان وابن أبي الإصبع في بديع القرآن وبعض آخر وهو ان يأتي بلفظ له معنيان (حقيقيان أو مجازيان أو مختلفان) ثم يوتى بلفظين يخدم أحدهما أحد معنيي اللفظ الأول والثاني المعنى الآخر منه سواء تقدم اللفظ الأول على قرينتيه أو تأخر أو توسط.

وقد مثلوا له في كلام الله المجيد بقوله تعالى (لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ) فان لفظ الكتاب قد يراد به الأمد المحتوم وقد يراد به المكتوب يخدم لفظ الأجل أحد مفهوميه وهو الأمد ويخدم يمحو المفهوم الآخر وهو المكتوب.

ومثلوا له أيضا هذه الآية (لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ وَلا جُنُباً

٥٠

لفظ الصلاة في معناها الحقيقي ، وفي موضع الصلاة ، فإنّ قرينة (حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ) دلت على الصلاة ، وقرينة (إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ) على المسجد انتهى.

والظاهر أن ارتكاب الاستخدام في قربها أقرب والأظهر أن القرب أعم من التلبّس بفعلها والتعرض له كالعزم والقيام إليها والحضور في مواضعها المعدّة لفعلها بلا استخدام ، فان هذا هو الظاهر من القرب منها كما لا يخفى.

وبالجملة ففي الآية دلالة على وجوب ما يؤمن به من التلبس بالصلاة أو حضور

__________________

إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا) فان الصلاة تحتمل ارادة نفس الصلاة وتحتمل ارادة موضعها ، فقوله «حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ» يخدم المعنى الأول ، وقوله «إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ» يخدم المعنى الثاني.

وقال أبو العلاء في القصيدة الثالثة والأربعين يرثي فقيها حنفيا.

وفقيها أفكاره شدن للنعمان

ما لم يشده شعر زياد

فان النعمان يراد به أبو حنيفة وهو النعمان بن ثابت ، ويراد به النعمان بن المنذر ملك الحيرة فقوله فقيها يخدم المعنى الأول وقوله شعر زياد يخدم المعنى الثاني لأن زيادا هو النابغة الذبياني وكان معروفا بمدح النعمان بن المنذر.

وفي القصيدة النباتية.

حويت ريقا نباتيا حلا فغدا

ينظم الدر عقدا من ثناياك

فلفظ النباتي يراد به السكر يعمل منه كالبلور شديد البياض والصقالة ويراد به ابن نباتة الشاعر المعروف ، فذكر الريق والحلاوة يخدم المعنى الأول ، وذكر النظم والدر والعقد يخدم المعنى الثاني.

وقال الهلالي

أخت الغزالة إشراقا وملتفتا

لها لدى السمع لذات ونشأت

فالاشراق يخدم أحد معنيي الغزالة وهو الشمس والملتفت يخدم معناه الآخر وهو الظباء.

ومثله قول الشاعر :

حكى الغزال طلعة ولفتة

من ذا رآه مقبلا ولا افتتن

أعذب خلق الله ريقا وفما

ان لم يكن أحق بالحسن فمن؟

والفرق بين الاستخدام بهذا الاصطلاح والتورية أن اللفظ ان استعمل في مفهومين معا فهو الاستخدام وان أريد أحدهما مع لمح الآخر باطنا فهو التورية قال الشاعر :

في الجانب الأيمن من خدها

نقطة مسك اشتهى شمها

٥١

المسجد حال السكر من ترك ما يستلزمه وفعل ما يستلزم عدمه حتّى قبل شرب المسكر ، فلو كان الشرب مستلزما لحرم لهذا ، فلا يكون التكليف مخصوصا بمن شرب أو بالثمل الذي لم يزل عقله بعد كما توهّم ، وكذا من شرب ولم يذهب عقله قبل الخروج ، فلو كان فيها أو في المسجد فخاف ذهاب العقل قبل الخروج وجب المسارعة إلى الخروج ونحو ذلك الجنابة فافهم.

ثم لا يخفى أنّ في تعيين التيمم للمعذور بدلا من الغسل بعد قوله (حَتَّى تَغْتَسِلُوا) دلالة على كونه كافيا للمعذور في دخول المسجد الحرام ، والصلاة فيه والطواف ، لا يشترط فيه أكثر ممّا يشترط فيها ، فلا وجه لمنع فخر المحقّقين من جواز الطواف بالبيت

__________________

حسبته لما بدا خالها

وجدته من حسنه عمها

ففي الاستخدام بهذا الاصطلاح استعمال اللفظ في معنييها وأكثر المتأخرين من الأصوليين على استحالة استعمال اللفظ في أكثر من معنى واحد وأجازه أستادنا العلامة أية الله الحائري مؤسس الحوزة العلمية الكبرى بقم نور الله مضجعه الشريف ، انظر كتاب درر الفوائد ج ١ ص ٢٥ قال قدس‌سره بل لعله يعد في بعض الأوقات من محسنات الكلام ، واختار الجواز سماحة الآية العلامة الخوئي مد ظله انظر ذيل ص ٥١ ج ١ من كتاب أجود التقريرات وكذا ص ٢٠٥ الى ص ٢١٤ ج ١ من تقرير درسه الشريف لمحمد إسحاق الفياض والمختار عندي أيضا الجواز ولا أريد إطالة الكلام بشرح ما ذكروه في المسئلة من النقض والإبرام فان محله الأصول.

بل أقول هنا ان أدل الدليل على إمكان كل شيء وقوعه وقد وقع في التنزيل الآية المبحوث عنها.

هذه الأئمة من أهل البيت الذين هم أدرى بما في البيت قد استندوا بالاية لاستفادة حرمة دخول الجنب المساجد الا اجتيازا.

انظر جامع أحاديث الشيعة ج ١ ص ١٦٤ والحدائق ج ٣ ص ٥٠.

هذه الصحابة مثل ابن عباس حبر الأمة وابن مسعود كنيف ملئ علما يستندون للحكم بالاية انظر تفسير الطبري ج ٥ ص ٩٨ الى ص ١٠٠ وسنن البيهقي ج ٢ ص ٤٤٢ و ٤٤٣ وبعيد من أمثال هذه الصحابة أن يقولوا في القرآن بشيء غير مطمئنين بكونه المقصود وغير متلقين من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وقد استدل بالاية على الحكم غير واحد من التابعين والفقهاء والعلماء لا نطيل الكلام

٥٢

للجنب المتيمم ، لأنه جنب ولا يجوز دخوله المسجد إلّا عابرا لهذه الآية ، وأيضا فإنّه ينافي الأخبار العامّة المستفيضة ، وربما استلزم الحرج ، على أنّ حمل الآية على النهي عن قرب المسجد محل تأمل كما عرفت.

ثمّ لا يخفى أن ترك «منه» هنا يؤيد عدم اشتراط إيصال شيء من الصعيد إلى محل المسح ، وأما باقي الأحكام فكما تقدّم في الاولى.

(إِنَّ اللهَ كانَ عَفُوًّا غَفُوراً) أي كثير الصفح والتجاوز كثير المغفرة والستر على ذنوب عباده.

__________________

بسردهم انظر التفاسير تفسير هذه الآية.

وغير خفي على من له ادنى ذوق وفهم ـ انه لا يستقيم استفادة هذا الحكم من الآية الا من طريق الاستخدام بهذا المعنى المستلزم لاستعمال اللفظ في أكثر من معنى ، واما الوجوه الأخر التي ذكرها المفسرون فمما لا يتقبله الطبع السليم والذوق المستقيم لا نطيل الكلام بذكرها ، وعليك بمراجعتها والتأمل التام ثم القضاء بالحق حسب ما يقتضيه الوجدان والسلام على من اتبع الهدى.

الاصطلاح الثاني للاستخدام ما استعمله السكاكي في المفتاح والقزويني في التلخيص وعدة أخر وهو أن يوتى بلفظ له معنيان (حقيقيين أو مجازيين أو مختلفين) أو أكثر. ثم يوتى بضميره أو ضمائر له ويراد المعنى الآخر أو المعاني الآخر أو بأحد الضميرين معنى وبالآخر الأخر : وكذا لو أتى مكان الضمير ما يشير اليه مثل قول ابن الوردي :

ورب غزالة طلعت

بقلبي وهو مرعاها

نصبت لها شباكا من

لجين ثم صدناها

فقالت لي وقد صرنا

الى عين قصدناها

بذلت العين فاكحلها

بطلعتها ومجريها

واسم الإشارة مثل :

راى العقيق فأجرى ذاك ناظرة

متيم لج في الاشواق خاطره

أراد بالعقيق أولا المكان ثم أعاد اسم الإشارة عليه بمعنى الدم ، وعد الشهاب الخفاجي منه الاستخدام بالاستثناء في قول زهير :

«ابدا حديثي ليس بالمنسوخ إلا في الدفاتر» حيث أراد بالنسخ الأول الإزالة ، وأراد به في الاستثناء النقل أي إلا في الدفاتر فإنه ينسخ وينقل وعندي أن هذا من الاستخدام بالاصطلاح الأول

٥٣

سورة البيّنة : (وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكاةَ وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ) المأمورون أما أهل الكتاب ، أو يعمّ المشركين ويحتمل مطلق المكلفين أي ما أمروا في التورية والإنجيل كما روى عن ابن عباس ، وذهب إليه كثير ، أو في القرآن.

(إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) أي العبادة أو ما يوجب الدين ، أي الجزاء والأجر ، فهي العبادة أيضا ، بأن لا يعبدوا إلّا الله ولا يشركوا في عبادته شيئا ، وفيه إشارة إلى أنّ الرياء نوع شرك فافهم.

__________________

ومثله «بذلت العين جارية ومكحلة وطالعة» وسرده الخفاجي في هذا القسم باعتبار الضمير المستتر.

قال في الإتقان قيل لم يقع في القرآن على طريقة السكاكي ، قلت وقد استخرجت بفكرى آيات على طريقته منها قوله تعالى (أَتى أَمْرُ اللهِ) فأمر الله يراد به قيام الساعة والعذاب وبعثة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وقد أريد بلفظه المعنى الأخير كما اخرج ابن مردويه من طريق الضحاك عن ابن عباس في قوله تعالى (أَتى أَمْرُ اللهِ) قال محمد ، وأعيد الضمير في فلا تستعجلوه مرادا به قيام الساعة والعذاب.

ومنها وهي أظهرها قوله تعالى (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ) فان المراد به آدم ثم أعاد عليه الضمير مرادا به ولده ثم قال (فَجَعَلْناهُ فِي قَرارٍ مَكِينٍ) ومنها قوله تعالى (لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ) ثم قال (قَدْ سَأَلَها قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ) اى أشياء أخر لأن الأولين لم يسألوا عن الأشياء التي سأل عنها الصحابة فنهوا عن سؤالها ، انتهى ما في الإتقان.

قلت وعد منه (وَالْمُطَلَّقاتُ) الى قوله (وَبُعُولَتُهُنَّ) فان الضمير في بعولتهن للرجعيات وان استشكل عليه العلامة النائيني في فوائد الأصول ، وعد منه أيضا (وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ).

ثم المنقول في هذا اللفظ الاستخذام بمعجمتين يعنى الاستخذام والاستجذام ، وبمهملة ومعجمة يعنى الاستحذام ومعجمة ومهملة يعنى الاستخدام من الخدمة انظر تفصيل الاستخدام في ج ٤ ص ٣٢٧ شروح التلخيص وجواهر البلاغة ص ٣٦٤ وأنوار الربيع ج ١ من ص ٣٠٧ الى ص ٣٢٠ وخزانة الأدب للحموي ص ٥٣ ونهاية الأدب ج ٧ ص ١٤٣ وبديع القرآن لابن ابى

٥٤

فان قلنا إنّ اللام في ليعبدوا زائدة أي (١) «إلّا أن يعبدوا» دل على أن كل مأمور به عبادة ، وأنه يجب إيقاعها مخلصا فمثل قضاء الدين ودفع الظلم والنوم عند الضرورة إليه إذا لم يقع على وجه الإخلاص لم يحصل به الامتثال ، وكان المكلّف به آثما بتركه ، وإن حصل براءة الذمة من حق الناس وبعض المصالح المتعلّقة بالمأمور فيسقط التكليف لعدم بقاء المحل لا لوقوع الامتثال فلا يكون الإخلاص في مثله شرطا لحصول الثواب فقط ، بل لعدم العقاب أيضا فتأمل.

وإن قلنا اللام للتعليل كما في الكشاف (٢) والبيضاوي : احتمل ذلك أيضا أي ما أمروا بما أمروا إلّا لأجل أن يعبدوا الله بذلك حال كونهم مخلصين له تلك العبادة ولا يبعد أن لا يعتبر كون تعبّدهم بذلك المأمور به ، أى ما أمروا بما أمروا إلّا لأجل أن يعبدوا الله مخلصين له العبادة ، فالأمر حينئذ إمّا بالعبادة مخلصين ، أو بما يؤدّى العمل به إليها.

ويحتمل على الوجوه كلّها أن يكون الحصر إضافيّا كما لا يخفى ، فلا يأتي بعض ما قلنا. نعم لا ريب في كون العبادة على وجه الإخلاص مأمورا بها على الوجوه كلّها.

(حُنَفاءَ) حال آخر ، أى مستقيمين على طريق الحق والصواب أو مائلين إليه عن الاعتقادات الزائفة والطرق الباطلة ، فهو تأكيد لحصر العبادة في الله ، المفهوم من قوله إلّا إلخ بعد تأكيده بالإخلاص ، وعطف «يقيموا ويؤتوا» يدلّ على زيادة الاهتمام

__________________

الإصبع ص ١٠٤ وشرح النهج للخوئى ط الإسلامية ج ١ ص ١٥٨ والتعريفات للجرجانى ص ١٦ والبرهان للزركشى ج ٣ ص ٤٤٦ والإتقان ج ٢ ص ٨٤ النوع الثامن والخمسون وريحانة الألباء ج ١ ص ٣٣ والتفاسير عند تفسير هذه الآية أو تفسير (لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ).

(١) قد عرفت صحة زيادة اللام لإفادة التأكيد بعد فعل الأمر وفعل الإرادة فراجع تعاليقنا على هذا الكتاب ص ٣٣ يؤيد هذا الوجه قراءة ابن مسعود على ما نقله في الكشاف ج ٤ ص ٧٨٢ الا ان يعبدوا.

(٢) الكشاف ج ٤ ص ٧٨٢.

٥٥

بالصلاة والزكاة (وَذلِكَ) أي عبادة الله على الوجه المذكور ، وإقامة الصلاة ، وإيتاء الزكاة دين الملّة القيّمة ، أي عبادة الملّة المستقيمة الحقّة ، وهي شريعة نبينا عليه‌السلام الآن.

أو المراد بالدين الملّة كما في قراءة : «وذلك الدين القيمة» (١) فتكون من قبيل إضافة الموصوف إلى الصفة ، وتأنيث القيّمة إما للردّ إلى الملّة أو الهاء للمبالغة (٢) وهذه الإضافة قد جوّزها الكوفيّون (٣) ومن لم يجوّز فإنّما لم يجوّز مع إفادة الصفة لا مطلقا ، وهو مصرّح ، ولهذا يجوز الإضافة البيانيّة بالاتفاق ، أو صفة للكتب الّتي جرى ذكرها كذلك أى ذلك ملّة الكتب القيّمة أو ملّة أصحابها كما قيل فتأمل.

وعلى الوجهين يمكن أن يراد به العبادة كما لا يخفى ، بل في القراءة أيضا.

[وقد يتأمّل في دلالة الآية على اعتبار الإخلاص في العبادة لاحتمال أن يراد بإخلاص الدين له اختيار دين الإسلام مثلا خالصا لله ، وفيه أنه خلاف أقوال العلماء لم ينقل من أحدهم ذلك ، وأيضا الأظهر في إخلاص الدين لله أن يوقع الأعمال الدينية خالصا لله ، ولم سلّم فحنفاء ، فيه ما يكفي في هذا المعنى كما قدّمنا].

وبالجملة لا ريب في دلالة الآية على اعتبار الإخلاص في العبادة ، وأشراطه فيها ، ولو من قوله (وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ) ولعلّ إخلاصها هو أن توقعها لله وحده ، فلا ترجو بها إلّا من عنده ، وإن كان الكمال التام أن يكون معرفتك بجلال ربّك وكرمه واعتقادك بفيّاض فيض جوده وفضله ، فوق أن ترجو ما عنده بامتثاله ، ورسوخك في محبّته وطريق مودّته وشوقك إلى متابعة مراده وتحصيل مرضاته أكثر من أن يكون شيء من ذلك ملحوظا لك في عبادته ، كما هو المفهوم من قول مقتداك وهاديك ، وباب علم نبيّك عليه‌السلام : «ما عبدتك خوفا من نارك ، ولا طمعا في جنّتك ، بل وجدتك أهلا

__________________

(١) الكشاف ج ٤ ص ٧٨٢.

(٢) وفي المجمع ج ٥ ص ٥٢٣ قال النضر بن شميل سالت الخليل عن هذا فقال القيمة جمع القيم والقيم والقائم واحد فالمراد وذلك دين القائمين لله بالتوحيد.

(٣) وهو الحق انظر تعاليقنا على مسالك الافهام ج ١ ص ٨١.

٥٦

للعبادة فعبدتك (١)».

ولا يخفى أنّ الفعل لا تقع هكذا إلّا باعتبار قصده كذلك ، وهو النيّة الّتي يستدلّ الأصحاب بالآية عليها ، والإخلاص هو المراد بالقربة الّتي يذكرونها في النيّات لتلازمهما في العبادة الصحيحة ، وترتّبها عليه ، ولاعتبار صفة القربة في الآيات والروايات كثيرا.

إذا تقرّر ذلك ، فلا تصحّ مع قصد الرياء أو التبرّد أو إزالة الكسل أو الوسخ أو نحوها ، لكونه منافيا للإخلاص فيكون مفسدا لها ، وتصحّ مع رجاء الفوز بالجنّة ، والخلود فيها ، والخلاص من النار والأمن منها بالامتثال بها ، فان هذا غير مناف بل مؤيّد ومؤكّد إلّا لنادر ، ولذلك تضمّن بعض الآيات والأخبار الأمر به ، والمدح عليه فافهم.

ثم لا يخفى أنّ قوله (حُنَفاءَ) ظاهره على ما تقدّم عدم صحّة عبادة الفاسق سيّما مع إصراره على الكبائر لأنّه غير مستقيم على طرق الحقّ والصواب ، وغير مائل إليه عن الاعتقادات الزائفة والطرق الباطلة ، اللهم إلّا أن يراد بهم المائلون إلى الإسلام عن الأديان كلّها ، كما في اللباب (٢) أو المتّبعون لملّة إبراهيم عليه‌السلام ، وقيل حنفاء أي حجّاجا وإنما قدّمه على الصلاة والزكاة لأنّ فيه صلاة ، وإنفاق مال ، وهو غير مناسب كما لا يخفى.

وكظاهر هذه الآية قوله تعالى في نبأ ابني آدم (إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ) فان ظاهر إطلاقه كما قاله القاضي أنّ الطاعة لا تقبل إلّا من مؤمن متّق ، وفيه : إلّا على قول من يقول بأن فاعل الكبيرة غير مؤمن ، على أنّ فيه ما فيه من الإشكال فإنّ الفقهاء لم يذكروا ذلك ، بل ظاهرهم أنّ الفسق لا يمنع من صحة العبادة إذا فعلها على وجهها.

فلعلّ المراد أنّ الله لا يقبل القربان بإرسال نار تأكلها إلّا من المتّقين أو أنه

__________________

(١) انظر تعاليقنا على مسالك الافهام ج ١ ص ٢٣٥.

(٢) تفسير الخازن ج ٤ ص ٣٩٩ سورة الواقعة ويؤيد ذلك ما روى عن الصادقين.

٥٧

لا يقبل عبادة إلّا من المتّقين فيها ، بأن يأتي بها على وجه لا يكون عصيانا ، مثل أن يقصد بها الرياء أو غير ذلك من المبطلات ، أو المراد تقوى عن ذنب ينافي تلك العبادة ، فتكون إشارة إلى أنّ الأمر بالشيء يستلزم النهي عن ضدّه ، فهو موجب للفساد ، فلا يلزم الاشتراط عدم كونها معصية ، أو عدم استلزامها للمعصية ، والله أعلم.

ثمّ اعلم أنه إذا كان المراد بدين القيّمة الملّة المستقيمة أي شريعة الإسلام كما تقدّم ، يجب أن يكون ذلك إشارة إمّا إلى الدين الكائن أوامره ، أو عبادته على الوجه المخصوص المفهوم التزاما وإمّا إلى الأوامر المخصوصة ، أو العبادة المخصوصة أو إلى كون الأوامر على الوجه المخصوص أو العبادة كذلك ، ومعلوم أنّ شيئا من ذلك ليس عين شريعة الإسلام فإن شريعة الإسلام أوامر ونواه وغيرهما ، وكذلك عبادة وغيرها ، فلا بدّ من ارتكاب مجاز في الإسناد ، أو في ظرف أو تقدير مضاف ونحوها.

وحينئذ فلا يرد ما قيل من أنّ ظاهره دخول الأعمال خصوصا إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة في الإسلام ، وهو مذهب الخوارج ، فان من أخلّ بالعمل فاسق عند الكلّ ، وكافر عند الخوارج ، وخارج عن الايمان غير داخل في الكفر عند المعتزلة ، لاعتبارهم الأعمال في الايمان فبعض كلّا ، وبعض الفرائض ، وبعض مجرّد الكبائر.

فمنهم من استدلّ بذلك كالخوارج بأنّ الايمان إن كان هو الإسلام ، فظاهر وإلّا فكلّ ما يعتبر في الإسلام يعتبر في الايمان ، ولا يرد حينئذ هذا أيضا مع ما فيه كما لا يخفى.

الواقعة (إِنَّهُ) أي المتلوّ (لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ) صفة قرآن ، أي حسن مرضىّ أو عزيز مكرّم ، أو كثير النفع (فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ) مصون عن الباطل ، أو مستور عن الخلق في لوحه المحفوظ ، ومتعلّق الجارّ إما صفة بعد اخرى لقرآن أو خبر بعد خبر ، وكذلك (لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ) لأنّه لو كان صفة لكتاب كان كالتأكيد والبيان لمكنون ، والتأسيس التام أتمّ وأولى ، ولأنّ السياق لإظهار شرف القرآن وفضله ، وينبّه عليه قوله (تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ) أى القرآن أو المتلوّ ، لا الكتاب الذي هو اللوح المحفوظ ، ولا الذي فيه.

٥٨

في الكشاف (تَنْزِيلٌ) صفة رابعة للقرآن أي منزّل (مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ) أو وصف بالمصدر ، لأنه نزل نجوما بين كتب الله تعالى فكأنه في نفسه تنزيل ، ولذلك جرى مجرى بعض أسمائه ، فقيل جاء في التنزيل كذا ونطق به التنزيل ، أو هو تنزيل على حذف المبتدء ، وقرئ «تنزيلا» على «نزل تنزيلا» انتهى ، وأيضا اطّلاع الملائكة على ما في اللوح المحفوظ ومسّهم إيّاه غير واضح ، فان مفاد بعض الاخبار وكلام بعض الأخيار خلافه ، وكذلك قيل في تفسير (مَكْنُونٍ) : مستور عن الخلق [ولم يقل مستور عن الناس ونحو ذلك] كما تقدّم.

وفي التبيان ومجمع البيان وعندنا أنّ الضمير يعود إلى القرآن ، فلا يجوز لغير الطاهر مسّه حملا للنفي على معنى النهي ونحوه ، ويؤيّد ذلك ما روى (١) عن الصادقين عليهم‌السلام أنّ المراد المطهّرون من الأحداث والجنابات ، وأن أخبارهم عليهم‌السلام متفقة في المنع لغير الطاهر من المسّ ، وفي بعضها الذي ينبغي أن يعدّ من الصحاح نسب ذلك إلى الآية الشريفة ، فيحرم مسّ كلّ ما صدق عليه أنه قرآن ، سواء في مصحف أو لوح أو جدار أو جلد أو ورق ولو مسودة أو غير ذلك كما هو المشهور عندنا.

نعم قد يتأمل في التشديد والاعراب ونحوه ، وربّما فرق بينهما ، وفيه نظر لا يخفى.

ثمّ لو كان صفة ل (كِتابٍ) للقرب مع بعده فالأظهر إرادة الخطّ والكتابة القرآني مطلقا ، كلا كان أو بعضا ومصحّح الظرفيّة حينئذ استفادة القرآن منه ، ودلالته عليه وهو في المآل كالأوّل أولا مطلقا بل كلا ، وحينئذ فيدلّ على تحريم مسّ كتابة القرآن في المصحف ونحوه ، ولا أعرف منّا قائلاً بهذا الخصوص لكن ربما أمكن أن يقال لا فرق بين ذلك وبين غيره ، إذ الظاهر أنّ المقتضى لذلك كونه خطّ القرآن وكتابته فتأمل.

__________________

(١) انظر الباب ١٢ من أبواب الوضوء من الوسائل وص ٤٣ ج ١ مستدرك الوسائل وص ٨٤ ج ١ من جامع أحاديث الشيعة وراجع أيضا في المسئلة مسالك الافهام ج ١ من ص ٨٢ الى ص ٨٥ وتعاليقنا فان فيها ما قل ان يوجد في الكتب الأخرى.

٥٩

أما أن يراد به المصحف ، أعنى مجموع الأوراق أو الألواح المكتوبة فيها القرآن جميعا ، أو والجلد إذا كان ، أو والكيس ونحوه ، كما ذهب إليه الشافعيّة فبعيد جدا لكن ربّما كان اعتمادهم في ذلك على إطلاق منع مسّ المصحف في الخبر فليتأمل فيه.

وقد أورد في المقام أنّ استفادة التحريم من الآية على ما ذكر يتوقّف على كون النفي بمعنى النهى بتقدير مقول فيه ، وهو تكلّف ، وكونه صفة ل (كِتابٍ) أي اللوح والمطهّرون الملائكة المقربون المطهّرون عن الذنوب وغيرها محتمل واضح خال عن التكلّف ، فلا يجوز العدول عنه ، وإن ثبت الحكم بالأخبار أو الإجماع إلّا أن يدلّ دليل على أنه مراد منها.

ويمكن أن يجاب بأنّ هذا الاحتمال مدفوع بما قدّمنا ، ومعه ارتكاب نحو هذا التكلّف سهل وأولى ، لكن قد ذهب جماعة من الأصحاب إلى كراهة مسّ خطّ القرآن للمحدث.

وفي الكشاف : «وإن جعلته صفة للقرآن فالمعنى لا ينبغي أن يمسّه إلّا من هو على الطهارة من الناس» ولا يخفى أن «لا ينبغي» ظاهره الاخبار والكراهة دون التحريم ، وأنه قريب ، وأن المحذور الذي هو لزوم الكذب يندفع بهذا المقدار فلا يلزم ارتكاب ما يلزم منه التحريم ، بل لا يجوز إلّا بما يقتضيه بخصوصه.

وتبيّن أيضا انه لا يتوقّف استفادة الحكم على كون النفي بمعنى النهي خصوصا على التقدير المذكور ، فيجوز التقدير إخبارا على التحريم أيضا كلا يجوز ونحوه ، وأيضا لم سلّم وجوب كون النفي هنا بمعنى النهي في الجملة ، فلا يلزم كونه للتحريم بل جاز كونه بمعنى نهي التنزيه.

لا يقال النهى ظاهره التحريم وإن احتمل التنزيه ، لأنّا نقول ذلك في صيغة النهي لا مطلق طلب الترك ، فإن للنفي في هذا المقام معنيين مجازيين : أحدهما معنى نهى التحريم ، والآخر نهى التنزيه ، بل ثالث هو طلب الترك مجملا ، فاذا تعذر

٦٠