الإقتباس من القرآن الكريم - ج ١

أبي منصور عبد الملك بن محمّد بن اسماعيل الثعالبي

الإقتباس من القرآن الكريم - ج ١

المؤلف:

أبي منصور عبد الملك بن محمّد بن اسماعيل الثعالبي


المحقق: الدكتورة ابتسام مرهون الصفار
الموضوع : الحديث وعلومه
الناشر: عالم الكتب الحديث للنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٧٠
الجزء ١ الجزء ٢

الباب السادس

في

فضل العلم والعلماء ، وفقر من محاسن

انتزاعاتهم ولطائف من استنباطاتهم

٢٦١
٢٦٢

الباب السادس

في فضل العلم والعلماء ومحاسن ابتداعاتهم ولطائف من استنباطاتهم

فصل

في فضائل العلم والعلماء

من فضائل العلم أن شهادة أهله مقرونة بشهادة (الله) (١) والملائكة في قوله تعالى : (شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ) (٢).

وأولى الناس بالإجلال في الإعظام العلماء ؛ لأنهم ورثة الأنبياء ، ومن رفع الله درجاتهم فقال : (يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ) (٣).

وذكرهم تعالى في علم التأويل مع نفسه فقال : (وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ) (٤).

وأخبر أن الأمثال التي يضربها للناس لا يعقلها إلّا هم فقال : (وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها [لِلنَّاسِ] وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ) (٥).

اقتبس عبد الملك بن عبد الرحيم الحارثي (٦) قوله :

__________________

(١) زيادة ليست في النص يقتضيها السياق.

(٢) آل عمران : ١٨.

(٣) المجادلة : ١١.

(٤) آل عمران : ٧.

(٥) العنكبوت : ٤٣ ، وفي الأصل : (وما يعلمها. وبعد الآية زيادة من خطأ النساخ وهي والذين لا يعلمون.

(٦) عبد الملك بن عبد الرحيم الحارثي شاعر مشهور كان ينحى في شعره منحى الأعراب. له قصيدة عرفت بالعجيبة ، وهو أحد من نسخ شعره بماء الذهب. انظر : طبقات الشعراء : ٢٧٦ جمع شعره ذاكر العاني سنة ١٩٨٠.

٢٦٣

سلي إن جهلت الناس عنا وعنكم

وليس سواء عالم وجهول (١)

وقال عز ذكره : (أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمى) (٢) وقال تعالى : (إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ) (٣).

فصل

في نكت ذكر العلم

قال ابن عباس :

العلم أكثر من أن يحصى ، فخذوا من كل شيء أحسنه.

قتادة (٤) :

لو استغنى عالم عن التعلم مع جلاله مقدارا ، لاستغنى عن ذلك نجيّ (٥) الله موسى.

وقد قال للخضر عليهما‌السلام : (هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً) (٦).

__________________

(١) البيت ليس لعبد الملك بن عبد الرحيم الحارثي بل هو للسموأل بن عاديا اليهودي من قصيدة مطلعها :

إذا المرء لم يدنس من اللؤم عرضه

فكل رداء يرتديه جميل

انظر : ديوان السموأل ص ٩٢ والبيت من شواهد النحو ، حيث قدم خبر ليس على اسمها. ورواية الشطر الثاني منه : فليس سواء .. وروي منسوبا للحارثي في مجموع شعره ص ٩٠ نقلا عن شرح حماسة أبي تمام للمرزوقي ١ / ١١٠.

(٢) الرعد : ١٩.

(٣) فاطر : ٢٨.

(٤) قتادة بن دعامة بن كريز السدوسي يكنى أبا الخطاب. مات سنة سبع عشرة ومائة. انظر : الطبقات : ٢١٣ ، وفيات الأعيان ٣ / ٢٤٨.

(٥) في الأصل : (يحبى).

(٦) الكهف : ٦٦.

٢٦٤

قال الجاحظ :

العلم أبعد سببا ، وأوسع بحرا من أن يبلغ غايته أحد ، ولو عمّر عمر نوح (١). قال الله تعالى : (وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ) (٢).

وقال بعضهم :

من استكثر (٣) شيئا من علمه ، أو ظن أن العلم غاية ، فقد بخس العلم ، لأن الله تعالى يقول (وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً) (٤).

فصل

في أمثال تدخل في ذكر العلم

قالت الأوائل : من جهل شيئا عاداه.

وفي القرآن : (وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) (٥) (وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هذا إِفْكٌ قَدِيمٌ) (٦). وقالت العرب : لا تهرف (٧) بما لا تعرف.

وفي القرآن : (وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) (٨).

وقال الشاعر :

__________________

(١) في الأصل : (عمر سفينة) وهي زيادة من النساخ لأن الذي عمر هو نوح وليس سفينته.

(٢) يوسف : ٧٦.

(٣) في الأصل : (استكبر).

(٤) الإسراء : ٨٥.

(٥) الإسراء : ٣٦.

(٦) الأحقاف : ١١ ، وفي الأصل : (يهتدوا).

(٧) في الصحاح : (هرف) الهرف : الإطناب في المدح والثناء على الشيء إعجابا به يقال : لا تهرف بما لا تعرف.

(٨) الإسراء : ٣٦.

٢٦٥

تمام العمى طول السكوت وإنما

شفاء العمى يوما سؤالك من يدري (١)

وفي القرآن : (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) (٢).

العامة : ما من ظلمة إلا وفوقها طاقة (٣).

فصل

في فقر تناسب هذا الباب

قال سفيان الثوري :

الكاتب : العالم ، واحتج بقوله تعالى : (أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ) (٤). أي يعلمون.

قال المبرد (٥) :

تكلمت يوما بين يدي جعفر بن القاسم الهاشمي ، وأنا حدث فاستحسن ما جئت به. وقال أنت اليوم عالم ، ولا تظن قولي لك : أنت اليوم عالم ، أعني به أنك لم تكن عندي قبل ذلك ، إن الله تعالى يقول : (وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ) (٦). وقد كان له الأمر قبل ذلك اليوم.

__________________

(١) في الأصل : (شفا العمى يوما سوالك من يدري).

(٢) الأنبياء : ٧.

(٣) جاء في الصحاح مادة (طمم) : كل شيء كثر علا وغلب فقد طمّ يطم. يقال فوق كل ذي طامة طامة. ومنه سميت القيامة طامة.

(٤) الطور : ٤١.

(٥) المبرد هو أبو العباس محمد بن يزيد عالم في اللغة والأدب أخذ عن أبي عمر الجرمي وأبي عثمان المازني وأبي حاتم السجستاني وغيرهم. ولد سنة ٢١١ ، توفي سنة ٢٨٥ ه‍. انظر : نزهة الألباء : ١٤٨ فما بعدها.

(٦) الانفطار : ١٩.

٢٦٦

ولما أراد المنصور أن يضم بعض العلماء إلى المهدي ، وصف له سليمان بن الحسن الواسطي فاستدعاه ، وقرّبه. ثم قال له : أعالم (١) أنت؟ فسكت ، ولم يجبه. فقال : ما لك لا تتكلم؟ فقال : يا أمير المؤمنين ، إن قلت أنا عالم ، كنت قد زكّيت نفسي. وقد نهى الله عن ذلك فقال : (فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ) (٢). وإن قلت لست بعالم ، وقد قرآت القرآن. كنت حقرت ما عظم الله. فأعجب به ، وضمّه إلى المهدي.

فصل

في التعليم

عير (٣) أبو زيد البلخي (٤) بأنه معلم ، فكتب رسالة حسنة في فضل التعليم يقول فيها :

وليس يستغني أحد عن التعليم والتعلم ؛ لأن الحاجة تضطره (٥) إليها في جميع الديانات ، والصناعات ، والآداب ، والأنساب ، والمذاهب ، والمكاسب ، فما يستغني كاتب ولا حاسب ، ولا صانع ، ولا أحد من كل مكسب ومذهب من أن يتعلم صناعته ممن هو أعلم منه ، ويعلمها لمن هو أجهل (٦) منه. وقوام الخلق بالعلم والتعليم. والمعلم أفضل من المتعلم ، لأن صفة العلم دالة على التمام والإفادة. والمتعلم صفة دالة على النقصان والاستفادة. وحسبك جهلا من رجل يعمد إلى فعل قد وصف به الخالق نفسه ، ثم رسوله عليه‌السلام ،

__________________

(١) في الأصل : (اعلم).

(٢) النجم : ٣٢.

(٣) في الأصل : (غير).

(٤) أبو زيد البلخي هو أحمد بن سهل. ولد في بلخ نحو ٢٣٥ وتوفي نحو سنة ٣٢٢ ه‍ عرضت عليه الوزارة فرفضها. كان معلما للصبيان ، ثم رفعه العلم إلى رتبة علية فكان يجمع بين العلوم القديمة والحديثة ، ويسلك في مؤلفاته طريق الفلاسفة.

الفهرست ٢٠٤.

(٥) في الأصل : (يضطر).

(٦) في الأصل : (فمن جهل).

٢٦٧

فيذمه (١). وقد قال الله تعالى (وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها) (٢). وقال تعالى : (وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً) (٣). وقال في وصف نبيه عليه‌السلام : (وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ) (٤).

فصل

في ذم علم الأنساب

قال بعض العلماء : كيف يدّعي مخلوق علم الأنساب كلها ، والله تعالى يقول : (وَعاداً وَثَمُودَ [وَأَصْحابَ الرَّسِ] وَقُرُوناً بَيْنَ ذلِكَ كَثِيراً) (٥). ثم قال : (وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللهُ) (٦). وقال تعالى : (وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ) (٧).

وقال النبي صلوات الله عليه : كذب النسابون ثلاث مرات.

وكان ينسب إلى معد بن عدنان ، وينسب أولاد قحطان. ثم يمسك ، ويقول : أضلّت مضر أنسابها ، ما خلّف معد (٨) ، ما خلّف قحطان.

__________________

(١) في الأصل : (فيزمته).

(٢) البقرة : ٣١.

(٣) الكهف : ٦٥.

(٤) البقرة : ١٥١.

(٥) الفرقان : ٣٨ وما بين العضادتين سقط من أصل المخطوط.

(٦) إبراهيم : ٩ والآية جاءت بعد قوله تعالى : (قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ).

(٧) النساء : ١٦٤.

(٨) في الأصل : (معد واليمن).

٢٦٨

فصل

في النهي عن كتمان العلم

قال الله تعالى : (فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ) (١).

فصل

في ذكر الفقه والفقهاء

قال أبو زيد البلخي :

الفقه من أجلّ صناعات الدين ، وذلك بسبب ما يلزم أهله من التفقه في فروع (٢). الدين ، إذ كان الله قد أكمل أصوله في كتابه ، وعلى لسان رسوله كما قال الله تعالى : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي) (٣) وقد علم أن هذا الكمال إنما اشترط للدين من جهة أصوله لوقوعها جميعا في ضمن كتاب الله ، وسنن رسوله المشهورة. فأما إكماله من جهة فروعه فأمر لم يكن يتصور في العقول مكانه بسبب النوازل الجارية (٤) ، والحوادث الزمانية ، إذ كانت تخرج إلى ما لا نهاية له. فاضطر السلف الأول من أهل الدين لهذا المعنى إلى تفريع الأصول والتفقه كما قال فيها ، ليريحوا علل العوام فيما تلزمهم الحاجة

__________________

(١) التوبة : ١٢٢.

(٢) في الأصل : (الفروع).

(٣) المائدة : ٣.

(٤) في الأصل : (الجزية).

٢٦٩

إليه من أبواب الفتيا كما قال الله تعالى : (وَما كانَ [الْمُؤْمِنُونَ] لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ [مِنْهُمْ طائِفَةٌ] لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ) (١) (لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ) (٢). فكان الغرض من تفريعهم ما فرعوه عن الأصول المحددة في كتاب الله ، والسنن المأثورة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يجعلوا تلك المسائل المفرعة عدة للحوادث الواقعة. وكان مثلهم في تقديم العناية التي قدموها بذلك من الأطباء المشفقين على أنفس الناس وأجسادهم باستنباطهم لهم من فنون العلاجات والأدوية (٣) ؛ لتكون معدة لمقابلة العلل المخوفة إذا عرضت لها. فحدث بعدهم من طلاب الفقه من جعل غرضه فيما يطلبه منها نيل الرياسة في العامة ، والحظوة (٤) عند الملوك والرؤساء (٥) والتسلط على أموال اليتامى والضعفاء مع استعمال الحيل في إبطال حقوقهم والقول بها. فانقلبت الصناعة على جلالة قدرها ، وعلو خطرها من مرتبة الحمد إلى مرتبة الذم باختلاف الغرضين.

فصل

في ذكر الكلام والمتكلمين

قال أبو زيد :

صناعة الكلام في غاية الجلال والشرف ، ومن الصناعات المحتاج إليها في قوام الدنيا إذ كانت صناعة البحث والنظر ، ولا غنى بالناس عن استعمالها في تمييز الحق من الباطل ، والخطأ من الصواب في جميع ما يعتقدونه. وهي موضوعة بإزاء أصول الدين كما أن صناعة الفقه موضوعة بإزاء فروعه. فكما لا يستغنى عن التفقه في فروع الدين بصناعة الفقه ، كذلك

__________________

(١) في الأصل : (إلى).

(٢) التوبة : ١٢٢ (وما بين القوسين ساقط من أصل المخطوط).

(٣) في الأصل : (الأودية).

(٤) في الأصل : (الخطوة).

(٥) في الأصل : (الدوسا).

٢٧٠

لا يستغنى في الاستبصار في أصول الدين عن صناعة الكلام التي هي صناعة البحث والنظر. وكان السلف الصالح من أهلها إنما شغلوا أنفسهم باستعمالها ، والإقبال عليها ؛ ليصيروا بها متمهرين بالمشاركة بين الملل (١) المختلفة ، والنحل المتغايرة ، ويعرفوا بذلك الفضل الذي يحصل لدين الإسلام على ما سواه من الأديان فيكونوا على يقين من أمرهم على ما يعتقدونه من أصول دينهم (٢) ، وليكونوا على بصيرة ، كما اشترط الله على رسوله في قوله تعالى : (قُلْ هذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللهِ عَلى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي) (٣) ، وليقوموا بمجادلة الملحدين الخاطئين على الإسلام إذا قصدوا الإلحاد فيه ، والغض منه ، إذ كان الجهاد مقتسما قسمين : أحدهما الذبّ عنه باللسان ، والآخر الذب عنه باليد. والذب باللسان أبلغ في نصره وتأييده في كثير من الأحوال (والأوقات) (٤). وكانوا يتعاطون هذه الصناعة حسبة وابتغاء للقربة إلى الله تعالى ، والزلفة لديه. ثم حدّت قوم من متعاطييها سلكوا فيها سبيل من تقدم ، بالمباهاة باللدد (٥) في باب الجدال لقطع الخصوم والاستعلاء في مجالس المناظرة لكي يذكر بالتبريز فيها ، وقلة الاحتفال عند خوف الانقطاع ، ولزوم الحجة بحمل النفس على الدعاوى الشنيعة والاعتلالات المستكرهة ، والشذوذ على الآراء المتلقاة من الجميع بالقبول. فصيروا هذه الصناعة ـ على (نفاسة) (٦) خطرها ، وشدة الحاجة في قوام أصول الدنيا إليها ـ واقعة في حسن الذم ، وصيّروا الموسومين بها عرضة ألسن عائبيها ومنقصيها.

__________________

(١) في الأصل : (الملك).

(٢) في الأصل : (فيهم).

(٣) يوسف : ١٠٨.

(٤) في الأصل : (الأقوات).

(٥) اللدد : شدة الخصومة. الصحاح ، لسان العرب (لدد).

(٦) في الأصل : (حفاسة).

٢٧١

فصل

في لمع وفقر (١) من استنباطات العلماء

وفقر ، ودرر من انتزاعاتهم

قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه :

من كان (ذا) (٢) داء قديم ، فليستوهب امرأته درهما من مهرها ، وليشتر به عسلا ، وليشربه بماء السماء ، ليكون قد اجتمع له الهنيء والمريء والشفاء المبارك. يريد قوله تعالى : (فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً) (٣) وقوله تعالى : (يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ) (٤) وقوله عزّ ذكره : (وَنَزَّلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً مُبارَكاً) (٥).

وفي العسل بماء السماء يقول مساور الوراق (٦) :

وبدأت بالعسل الشديد بياضه

عمدا أباكره بماء سماء

إني سمعت بقول ربك (٧) فيهما

فجمعت بين مبارك وشفاء

كان محمد بن كعب القرظي (٨) من أقدر الناس على مقابلة أخبار النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بآي القرآن. فلما رأى قوله عليه‌السلام : من جدّد وضوءه ، جدّد الله مغفرته. قال : سوف أجد في

__________________

(١) في الأصل : (ورعد).

(٢) زيادة ليست في الأصل.

(٣) النساء : ٤.

(٤) النحل : ٦٩.

(٥) ق : ٩.

(٦) مساور الوراق الكوفي ، ذكره ابن حيان في الثقات. انظر : تهذيب التهذيب : ١٠٣.

(٧) في الأصل : (إني سمعت يقول وربك).

(٨) في الأصل : (القزطي) والصواب القرظي وهو أبو حمزة ، وقيل أبو عبد الله المدني من حلفاء الأوس كان أبوه من سبي قريظة. سكن الكوفة ثم المدينة. وروى عن العباس بن عبد المطلب ، وعلي بن أبي طالب ، وابن مسعود. توفي سنة ١١٧ ه‍ الطبقات ٢٦٤ ، وانظر : تهذيب التهذيب : ٣ / ٢١٢.

٢٧٢

كتاب الله تعالى ما يوافق معناه. ثم قال بعد أيام : قد وجدت ذلك ، وهو قوله في آية الوضوء : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ ...) (١) إلى قوله : (ما يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (٢) ألا ترى أنه بالتطهير تمام النعمة. وهو المغفرة.

وكان سفيان بن عيينة (٣) يجري في طريق القرظي برده على الاستخراجات ، والانتزاعات. فسئل : هل يجد في القرآن ما يصدّق الذي يروى عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : ما من مؤمن يموت إلا مات شهيدا. فقال : أمهلوني ثلاثة أيام. فأمهل ، ثم قال : قد وجدت ظاهرا مكشوفا وهو قوله تعالى : (وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَداءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ) (٤).

وسئل عن طيب (٥) الأكل فقال : هو بالحرام منه أشبه بالحلال ، لأن الله تعالى يقول : (كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالاً) (٦) ولم يقل كلوا في الأرض.

وسئل عن قولهم : الناس الأشراف بالأطراف ، هل تجد معناه في كتاب الله؟ قال : نعم في سورة يس : (وَجاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعى قالَ يا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ) (٧). فلم يكن في المدينة خير. وكان ينزل أقصاها.

__________________

(١) المائدة : ٦.

(٢) المائدة : ٦.

(٣) سفيان بن عيينة ، يكنى أبا محمد مولى هلال بن عامر مات سنة ١٩٨. انظر : الطبقات : ٢٨٤.

(٤) الحديد : ١٩.

(٥) في الأصل : (طين).

(٦) البقرة : ١٦٨.

(٧) يس : ٢٠.

٢٧٣

وسئل عن قولهم : (الجار ثم الدار) هل تجد معناه في كتاب الله؟

فقال : بلى ، هذه امرأة فرعون تقول : (رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ) (١) أما تراها أرادت (٢) الجار ثم المنزل.

وسئل ابن سيرين عن خبث الحديد يحل شربه للتداوي به أم لا؟

فقال : لا أرى فيه بأسا ، وأراه من المنافع التي قال الله تعالى : (وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ) (٣).

كان ابن عباس يقول :

لا تقولوا والذي خاتمه على فمي ، فإنما يختم الله على فم الكافرين (٤).

وكان يقول : لا تقولوا (٥) الناس انصرفوا من الصلاة بل قولوا : قضوا الصلاة ، وفرغوا من الصلاة. لقوله تعالى : (ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللهُ قُلُوبَهُمْ) (٦).

الزهريّ (٧) :

أقرب ما يكون العبد من ربه إذا سجد ، لقوله تعالى (وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ) (٨).

قالت زبيدة للرشيد في كلام جرى بينهما :

__________________

(١) التحريم : ١١.

(٢) في الأصل : (إرادة).

(٣) الحديد : ٢٥.

(٤) إشارة إلى قوله تعالى : (اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (٦٤) الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ وَتُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ ...) يس : ٦٤ ، ٦٥.

(٥) في الأصل : قول الناس انصرفوا .. ويقول.

(٦) التوبة : ١٢٧.

(٧) في الأصل : (الزهد) ، والصواب : (الزهري) وقد مرت ترجمته.

(٨) العلق : ١٩.

٢٧٤

أنت من أهل النار.

فقال الرشيد : وأنت طالق إن لم أكن من أهل الجنة. فارتابت قلوبهما فبعثا إلى أبي يوسف (١) ، واستدعياه ، فاستفتياه. فقال :

يا أمير المؤمنين : هل تخاف مقام ربك (ولك) (٢) جنتان (٣) ، وأم جعفر حلال كما كانت؟ فسري (٤) عنهما وأمر له بصلة وخلعة.

ناظر بعض الفقهاء يحيى بن آدم (٥) فقال :

أما تستحي! تزعم أن شيئا قليله حلال وكثيره حرام؟ أفي كتاب الله وجدت هذا أم في سنة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم؟ فقال يحيى :

نعم وجدت هذا في كتاب الله تعالى : إن الله أحل من نهر طالوت غرفة وحرم ما سواها (٦) ، وأحل لمن اضطر إليها بقدر ما يقيمه ، وحرّم عليه الشبع ، وأحلّ من النساء أربعا (٧) وحرّم الخامسة. ولو لا الرابعة لحلت الخامسة. فأفحمه.

دعا بعض العلماء رئيسا باسمه. فغضب ، وقال له :

أين التكنية لا أبا لك؟ فقال :

__________________

(١) أبو يوسف : هو يعقوب بن إبراهيم بن خنيس بن سعد من أهل الكوفة وهو صاحب أبي حنيفة ، وأفقه أهل عصره. ولد سنة ١٣٠ ه‍ ، وتوفي سنة ١٨٢. انظر : وفيات الأعيان ٥ / ٤٣٠.

(٢) زيادة ليست في الأصل.

(٣) إشارة إلى قوله تعالى : (وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ) الرحمن : ٤٦.

(٤) زيادة ليست في الأصل.

(٥) يحيى بن آدم بن سليمان الأموي يكنى أبا زكريا. قال عنه ابن شيبة : إنه ثقة كثير التحديث. مات سنة ثلاث ومائتين.

تهذيب التهذيب ١١ / ١٧٥.

(٦) إشارة إلى قوله تعالى : (فَلَمَّا فَصَلَ طالُوتُ بِالْجُنُودِ قالَ إِنَّ اللهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ) البقرة : ٢٤٩.

(٧) إشارة إلى قوله تعالى : (فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَواحِدَةً) النساء : ٣.

٢٧٥

إن الله تعالى قد سمّى أحبّ خلقه إليه ، فقال : (وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ) (١). وكنّى أبغض خلقه إليه ، فقال : (تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ) (٢).

قال بعض المحسنين :

إن طاعة العبد لسيده تنقسم ثلاثة أقسام : منها عمل القلب ، وهو الإخلاص في اعتقاد العبودية. كما قال الله تعالى : (وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) (٣). ومنها عمل اللسان وهو وصفه بما يستحقه من المدح والثناء عليه كما قال الله تعالى : (وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها) (٤) ومنها عمل الجوارح وهو مباشرة ما (٥) عرف فيه رضاه من وجوه الخدمة ، كما قال الله تعالى : (ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (٦).

قرأت في كتاب أخبار الوزراء والكتاب لأبي عبد الله بن عبدوس الجهشياري (٧) :

حضر (٨) المأمون جماعة من المتكلمين ، ومحمد بن عبد الملك حاضر. فقال المأمون :

قد كنت (٩) أحفظ من كتاب الله أشياء عنى بها لا إله إلا الله ، وقد استترت عني ، فأخبروني بها. فلم يكن عند واحد منهم علم ذلك غير محمد بن عبد الملك (١٠) فقال : يا أمير

__________________

(١) آل عمران : ١٤٤.

(٢) المسد : ١.

(٣) البينة : ٥.

(٤) الأعراف : ١٨٠.

(٥) في الأصل : (كلما).

(٦) في الأصل : (واسجدوا واركعوا) والصواب ما أثبتناه ، الحج : ٧٧.

(٧) هو أبو عبد الله محمد بن عبدوس الكوفي المعروف بالجهشياري ، مؤرخ قديم نال مكانة كبيرة عند الوزراء توفي نحو ٣٣١ ه‍ وكتابه الوزراء والكتاب مطبوع في القاهرة سنة ١٩٣٨ بتحقيق مصطفى السقا وآخرين.

(٨) النص غير موجود في كتاب الوزراء والكتاب ولعله في الأقسام الضائعة منه.

(٩) في الأصل : (كتب).

(١٠) محمد بن عبد الملك ، كاتب مترسل ، مشهور استوزره المعتصم والواثق ثم نكبه المتوكل وسجنه وعذبه فمات ببغداد سنة ٢٣٣ ه‍ انظر : تاريخ بغداد ٢ / ٣٣٢.

٢٧٦

المؤمنين ، أنا أحفظها أفأذكرها (١)؟ قال : نعم يا ابن عبد الملك. فقال محمد :

قال الله تعالى : (وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى) (٢) يعني لا إله إلا الله.

وقال تعالى : (ذلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذا دُعِيَ اللهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ) (٣) يعني لا إله إلّا الله.

وقال عز ذكره : (قَدْ جاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ) (٤) يعني لا إله إلّا الله.

وقال تعالى : (لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِ) (٥) يعني لا إله إلّا الله.

وقال تعالى : (وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ) (٦) يعني لا إله إلّا الله.

وقال : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً) (٧) يعني لا إله إلّا الله.

وقال جل ذكره : (يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ) (٨).

فاستحسن المأمون جوابه (٩).

قال : ما من مؤمن يموت إلّا مات (شهيدا) (١٠) ...... الباب وفي ثلاثة أيام فإنها إلي قد وجدت في الذكر وقول السنة ، والموعظة الحسنة.

__________________

(١) في الأصل : (اذكرها).

(٢) الفتح : ٢٦.

(٣) غافر : ١٢.

(٤) يونس : ١٠٨.

(٥) الرعد : ١٤.

(٦) المائدة : ٥ وقد وقع خطأ في نسخ الآية فكتب بالله بدل الإيمان.

(٧) الأحزاب : ٧٠.

(٨) في الأصل : (الثلاثة) وهو خطأ في النسخ والآية من سورة إبراهيم : ٢٧.

(٩) في الأصل : (بجاوبتم).

(١٠) زيادة ليست في الأصل. وقد مرّ بنا هذا القول من قبل. النص أصابه التلف ولم تبق منه إلّا هذه الكلمات.

٢٧٧

فصل

في فضل العقل

قال الله تعالى في تعظيم شأن العقل : (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِما يَنْفَعُ النَّاسَ وَما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ ماءٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ وَالسَّحابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) (١).

وقال عز ذكره : (لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ) (٢).

وقال تعالى : (وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ) (٣).

قال سعيد بن المسيب (٤) في قوله تعالى : (وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ) (٥) قال : ذوي عقل.

مجاهد في قوله تعالى : (لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ) (٦) ، أي عقل.

__________________

(١) البقرة : ١٦٤.

(٢) ص : ٢٩.

(٣) البقرة : ٢٦٩.

(٤) سعيد بن المسيب بن حزن بن أبي وهب ، يكنى أبا محمد توفي سنة ثلاث. ويقال أربع وتسعين للهجرة. الطبقات : ٢٤٤.

(٥) الطلاق : ٢.

(٦) ق : ٣٧.

٢٧٨

قال الضحاك في قوله تعالى : (لِيُنْذِرَ مَنْ كانَ حَيًّا وَيَحِقَ) (١) : أي عاقلا.

قال الحسن البصري : العقل : الذي يهدي إلى الجنة ، ويحمي (٢) من النار ، أما سمعت قوله تعالى حكاية عن أهل النار : (وَقالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ ما كُنَّا فِي أَصْحابِ السَّعِيرِ) (٣).

__________________

(١) في الأصل : (وتحق) والآية من سورة يس : ٧٠.

(٢) في الأصل : (نحمي).

(٣) الملك : ١٠.

٢٧٩
٢٨٠