الإقتباس من القرآن الكريم - ج ١

أبي منصور عبد الملك بن محمّد بن اسماعيل الثعالبي

الإقتباس من القرآن الكريم - ج ١

المؤلف:

أبي منصور عبد الملك بن محمّد بن اسماعيل الثعالبي


المحقق: الدكتورة ابتسام مرهون الصفار
الموضوع : الحديث وعلومه
الناشر: عالم الكتب الحديث للنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٧٠
الجزء ١ الجزء ٢

ولما صار لما به ، دخل إليه نفر من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يعودونه فلما نظر إليهم استعبر باكيا ، وبكوا بين يديه. فقالوا :

لا أبكى الله عينيك يا أمير المؤمنين ، وأبشر بالخير كله فإنك من الذين أنزل الله فيهم : (لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ) (١) وممن قال فيهم : (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْواناً) (٢). ولقد صحبت رسول الله حتى بشّرك بالجنة في غير موطن ، وفارق الدنيا وهو عنك راض ، ثم خلّفت خليفة ، وأحسنت الخلافة ، ووليت أمور المؤمنين فلم تأخذك في الله لومة لائم. وعدلت في الرعية ، وقسمت بينهم بالسوية ، فجزاك عن نبيه وخليفته وعن الإسلام والمسلمين خير الجزاء.

ولما مضى عمر رضي الله عنه لسبيله وجهز ، أقبل علي رضي الله عنه باكيا ثم قال للناس :

هذا الفاروق قد مضى نحبه ، ولقي ربه. وكان لا تأخذه في الله لومة لائم ، ولا يتقدم ولا يتأخر [إلا] (٣) وهو على بينة من ربه ، حتى كأن ملكا يسدده. وكان شفيقا (٤) على المسلمين ، رءوفا بالمؤمنين شديدا على الكافرين ، فرحمة الله ورضوانه عليه. وو الله ما أحد من عباد الله أحب من أن ألقى الله بصحيفته من هذا المسجّى بين أظهركم.

__________________

(١) الفتح : ١٨.

(٢) نفسه : ٢٩.

(٣) زيادة ليست في الأصل يقتضيها السياق.

(٤) في الأصل : (شفيا).

١٨١

فصل

في ذكر محاسن عثمان رضي الله عنه

قال بعض السلف : من أحب أبا بكر فقد أقام الدين ، ومن أحب عمر ، فقد أوضح السبيل ، ومن أحب عثمان ، فقد استنار بنور الله ، ومن أحب عليا فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها.

المدائني (١) عن ابن سيرين (٢) قال :

كان علي يقول في عثمان : أشهد أنه من الذين قال الله في حقهم (٣) : (إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ) (٤).

وجاء قوم إلى أبي هريرة يعيبون (٥) عثمان فقال لهم :

لا تذكروا ذا النورين إلا بخير (٦). فما انتهوا ولم يرتدعوا ، فرمى (٧) أبو هريرة بسيفه حتى غرز في الجدار (٨) وتلا : (يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ) (٩).

__________________

(١) المدائني هو أبو الحسن علي بن محمد بن عبد الله بن أبي سيف المدائني ولد سنة ١٣٥ وتوفي سنة ٢١٥ كان مؤرخا راويا للأخبار والآداب. الفهرست : ١٥٣.

(٢) ابن سيرين محمد يكنى أبا بكر أحد أئمة المسلمين زاهد واعظ عرف بتأويله الأحلام توفي نحو ١١٠ ه‍ انظر حلية الأولياء ٢ / ٢٦٣ تاريخ بغداد ٥ / ٣٣١.

(٣) في أنساب الأشراف ج ٥ / ٨ عن محمد بن حاطب أنه قال يوما لعلي : هؤلاء سيسألونا عن عثمان غدا فما نقول؟ قال : نقول : كان من الذين آمنوا وعملوا الصالحات ثم اتقوا ، وآمنوا ، ثم اتقوا وأحسنوا.

(٤) الأنبياء : ١٠١.

(٥) في الأصل : (يعينون).

(٦) في الأصل : (لانحين).

(٧) في الأصل : (قدمى).

(٨) في الأصل : (الحرر).

(٩) الأعراف : ٧٩.

١٨٢

وعن الحسن بن علي كرم الله وجههما :

كيف لا أسب قاتل عثمان ، وقد سبّه الله في كتابه فقال : (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذاباً عَظِيماً) (١).

فصل

في غرر من كلامه في الخطب وغيرها

خطب يوما فارتج عليه فقال :

سيجعل الله بعد عسر يسرا ، وبعد عيّ نطقا ، وأنتم إلى إمام (فعّال) (٢) أحوج منكم (٣) إلى إمام قوّال (٤).

وخطب يوما فساق الكلام إلى شكاية الرعية فقال :

وأنا منهم بين ألسنة لداد ، وسيوف حداد ، وقلوب شداد. قد برئ الله منهم ، يوم لا ينطقون. ولا يؤذن لهم فيعتذرون.

صعصعة بن صوحان (٥) قال :

__________________

(١) النساء : ٩٣.

(٢) زيادة ليست في الأصل يقتضيها السياق.

(٣) في الأصل : (اجوج) وفي عيون الأخبار ٢ / ٢٣٥ أن عثمان حين صعد على ذروة المنبر فرماه الناس بأبصارهم فقال : إن أول مركب صعب ، وإن مع اليوم أياما. وما كنا بخطباء وإن نعش لكم تأتكم الخطبة على وجهها إن شاء الله. وفي الفاضل للوشاء : أن عثمان صعد المنبر فارتج عليه فقال : أيها الناس سيجعل الله بعد عسر يسرا وبعد عي بيانا ، وإنكم إلى أمير فعال أحوج منكم إلى إمام قوال أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم. وفي بهجة المجالس في باب من خطب فارتج عليه ص ٧٣ أنه قال (وليناكم وعدلنا فيكم ، عدلنا عليكم خير من خطبتنا فيكم وإن أعش يأتكم الكلام على وجهه). والخبر في نزهة الجليس ٧٣.

(٤) في الأصل : (فقال). والمشهور : (قوال).

(٥) صعصعة بن صوحان بن حجر العبدي من سادات عبد قيس. من أهل الكوفة كان خطيبا بليغا شهد صفين مع علي توفي بالكوفة نحو ٦٠ ه‍. تهذيب ٤ / ٤٢٢.

١٨٣

ما أعياني جواب أحد كما أعياني جواب عثمان : دخلت إليه يوما فقلت :

أخرجنا من ديارنا ، وأموالنا أن قلنا ربنا الله ، فقال :

يا صعصعة نحن الذين أخرجنا من ديارنا وأموالنا أن قلنا ربنا الله ، فمنا من مات بأرض الحبشة ، ومنا من مات بالمدينة.

ومن كلام عثمان (ما يزع) (١).

فصل

في كلام لعلي في عثمان وكلام فيهما

شكا عثمان إلى علي أبا ذر الغفاري (٢) فقال له علي :

أنا أشير عليك فيه بما قال مؤمن آل فرعون : (وَإِنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ) (٣).

وقال يوما (٤) لعثمان :

قد أبلغ الناس عنك أمورا تركها خير لك من الإقامة (عليها) (٥) فاتق الله ، وتب إليه فإنه يقبل التوبة من عباده ويعفو عن السيئات.

قال الحجاج للحسن البصري (٦) : ما تقول (٧) في عثمان وعلي فقال : أقول فيهما ما قال من هو خير مني بين يدي من هو شر منك. قال : ومن هما؟ قال : موسى وفرعون. ثم

__________________

(١) في الأصل يزغ ولعل صوابه : ما يزع أي ما يزجر ويكف عن السيئات.

(٢) أبو ذر الغفاري جندب بن جنادة الغفاري صحابي جليل نفاه عثمان إلى الشام وأرجعه معاوية إلى المدينة ، فنفاه عثمان مرة أخرى إلى الربذة فتوفي نحو ٣٢ ه‍. انظر طبقات ابن سعد ٤ / ١٦١ ـ ١٧٥ ، الإصابة ٧ / ٦٠.

(٣) غافر : ٢٨.

(٤) في الأصل : (يوم).

(٥) زيادة ليست في الأصل.

(٦) الحسن البصري أبو سعيد الحسن بن يسار فقيه زاهد واعظ توفي نحو ١١٠ ه‍ حلية الأولياء ٢ / ١٣١ فما بعدها.

(٧) في الأصل : (وفى).

١٨٤

تلا : (قالَ فَما بالُ الْقُرُونِ الْأُولى (٥١) قالَ عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي فِي كِتابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسى) (١).

التقى الزهري (٢) وأبو مسلم (٣) في الطواف (٤) فقال له أبو مسلم :

ما تقول في علي وعثمان؟ فتحيّر (٥) الزهري ولم يحر جوابا. فقال أبو مسلم :

ويحك هلّا قلت كما قال الله تعالى : (تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ) (٦).

فصل

في نكت من أخبار محاصرة عثمان رضي الله عنه

لما حوصر فاشتد الأمر عليه كتب إلى الناس كتابا نسخته (٧) :

أما بعد ، فإني أذكركم الله ربكم الذي انعم عليكم بالإسلام وهداكم من الضلالة (٨) وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة ، (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللهِ لا تُحْصُوها إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ) (٩) ف (اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ

__________________

(١) طه : ٥١ ، ٥٢.

(٢) الزهري محمد بن شهاب ، تابعي جليل. كان أول من دوّن الحديث بأمر من الخليفة عمر بن عبد العزيز. توفي نحو ١٢٣ ه‍.

(٣) أبو مسلم هو عبد الله بن ثوب الخولاني ، تابعي كبير فقيه زاهد. كان يسمى حكيم الأمة. انظر حلية الأولياء ٢ / ١٢٢ فما بعدها.

(٤) في الأصل : (الطراف).

(٥) في الأصل : (فيتحرى).

(٦) البقرة : ١٣٤.

(٧) في الأصل : (بنسخته). الرسالة في الطبري ٥ / ١٤٤.

(٨) في الطبري : وأنقذكم من الكفر وأراكم من البينات ، وأوسع عليكم من الرزق ونصركم على العدو وأسبغ عليكم نعمته.

(٩) إبراهيم : ٣٤.

١٨٥

مُسْلِمُونَ) (١) (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (٢). (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) (٣) (إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) (٤) ألا وقد علمتم أن الله رضي لكم السمع (٥) والطاعة ، وحذّركم المعصية والفرقة (٦) ؛ لتكون له الحجة عليكم إن عصيتموه. فاقبلوا (٧) أمره ، واحذروا عذابه ؛ فإنكم (٨) لم تجدوا أمة هلكت قبلكم إلا من بعد ما اختلفت ، ولم يكن لها رأس يجمعها. ومتى تفعلون بي (٩) ما أزمعتم عليه (١٠) ؛ لم تقيموا صلاة (١١) ولم تخرجوا زكاة ، ويسلط عليكم عدوكم ويستحل (١٢) بعضكم دماء بعض (١٣). وتكونوا شيعا (لَسْتَ) (١٤) (مِنْهُمْ فِي

__________________

(١) آل عمران : ١٠٢.

(٢) نفسها : ١٠٤.

(٣) نفسها : ١٠٥.

(٤) نفسها : ٧٧ وقد حذف من نص الثعالبي آيات ذكرها الطبري.

(٥) في تاريخ الطبري : الطاعة والجماعة.

(٦) في الطبري : (والاختلاف).

(٧) في الطبري : فاقبلوا نصيحة الله عزوجل ، واحذروا عذابه.

(٨) في الطبري : لن تجدوا أمة هلكت إلا بعد أن تختلف إلا أن يكون لها رأس يجمعها.

(٩) في الأصل : (لي).

(١٠) في الأصل : (ما أن منعتم).

(١١) في الطبري : ومتى ما تفعلون ذلك لا تقيمون الصلاة جميعا وسلط عليكم عدوكم.

(١٢) في الأصل : (واستحل).

(١٣) في الطبري : ومتى يفعل ذلك لا يقيم الله سبحانه دينا ، وتكونوا شيعا.

(١٤) في الأصل : (ليس).

١٨٦

شَيْءٍ إِنَّما أَمْرُهُمْ إِلَى اللهِ) (١) وقد علمتم (٢) أن شعيبا لما نسبه قومه إلى الشقاق قال : (لا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ ما أَصابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صالِحٍ وَما قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ) (٣) ، ألا إني قد أنصفتكم ، وأعطيت في نفسي الرضى على أن أعمل فيكم بالكتاب والسنة ، وأسير فيكم السيرة الحسنة ، وأعزل عن أمصاركم من كرهتم ، فأولي عليكم من أحببتم. وكتابي هذا معذرة مني (٤) إلى الله تعالى ثم إليكم وتنصل مما كرهتم (٥) (وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا ما رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ) (٦). فاكتفوا مني بهذا العهد. (إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلاً) (٧). وإني أتوب إلى الله من كل ما كرهتموه ، وأستغفر الله في (٨) ذلك فإنه لا (٩) يغفر الذنوب إلا الله (١٠). والسلام.

وأشرف عثمان يوما على محاصريه. ومعه زيد بن ثابت فناداه المصريون :

__________________

(١) الأنعام : ١٩٥ وقد ذكر الطبري الآية كاملة في نصه.

(٢) في الطبري : وإني أوصيكم بما أوصاكم الله وأحذركم عذابه ، فإن شعيبا عليه‌السلام قال لقومه.

(٣) هود : ٨٩.

(٤) في الأصل : (معدودة).

(٥) من قوله : ألا إني غير موجود في نص الطبري. وقد حذف الثعالبي أيضا نصا طويلا من الرسالة.

(٦) يوسف : ٥٣.

(٧) الإسراء : ٣٤.

(٨) في الأصل : (استغفروا الله من).

(٩) في الطبري : وإن عاقبت أقواما فما أبتغي بذلك إلا الخير وإني أتوب إلى الله عزوجل من كل عمل عملته ، وأستغفره إنه لا يغفر الذنوب إلا هو. إن رحمة ربي وسعت كل شيء .. والسلام عليكم ورحمة اله وبركاته أيها المؤمنون المسلمون. تاريخ الطبري ٥ / ١٤٠.

(١٠) إشارة إلى قوله تعالى : (وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللهُ) آل عمران : ١٣٥.

١٨٧

يا هذا إنا قد كرهناك فاعتزلنا ، وإلا قتلناك. فتكلم زيد : (إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّما أَمْرُهُمْ إِلَى اللهِ) (١) فصاح به الناس وسبوه.

وتكلم في بعض الأيام عبد الله بن سلام (٢) فكان من كلامه (٣) أنه قال :

إياكم وقتل هذا الشيخ ، فإنه خليفة ولي (٤) الله. ما قتل نبي إلا قتل به سبعون ألفا من أمته ، وما قتل خليفة لنبي إلا قتل به خمسة وثلاثون ألفا.

فنادوه من كل جانب أعزب (٥) يا يهودي. فقال لهم :

أتقولون هذا لمن قال الله فيه : (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ) (٦) ، وقال في آية أخرى : (قُلْ كَفى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ) (٧).

فلم يلتفتوا إلى قوله حتى كان ما كان من قتل عثمان رضي الله عنه.

وروى أنه بلغ عثمان عن عائشة رحمها الله كلام كرهه فتلا : (ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كانَتا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبادِنا

__________________

(١) الأنعام : ١٥٩.

(٢) عبد الله بن سلام بن الحارث الإسرائيلي يكنى أبا يوسف ، صحابي أسلم عند قدوم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى المدينة في السنة الأولى للهجرة وكان اسمه الحصين فأبدله الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم. ولما كانت الفتنة بين علي ومعاوية اعتزلها وأقام بالمدينة إلى أن مات نحو سنة ٤٣ ه‍. انظر التنبيه والإشراف : ٢٠١ ، طبقات فقهاء اليمن : الجعدي ٥٧ ، صفة الصفوة ١ / ٣٠١.

(٣) في أنساب الأشراف ٥ / ١٥ : أن عثمان هو الذي طلب من عبد الله بن سلام أن يخرج إليهم ، فخرج إليهم ووعظهم ، وعظم حرمة المدينة ، وقال لهم إنه ما قتل خليفة قط إلا قتل به خمسة وثلاثون ألفا. فقالوا كذبت يهودي ابن يهودي.

(٤) لعل صوابها خليفة نبي الله.

(٥) أعزب أي تباعد. انظر الصحاح (عزب).

(٦) الأحقاف : ١٠ وقد أضيفت كلمة (واستكبرتم) خطأ بعد كلمة وكفرتم فحذفناها.

(٧) الرعد : ٤٣.

١٨٨

صالِحَيْنِ فَخانَتاهُما فَلَمْ يُغْنِيا) [عنهما] (١) (مِنَ اللهِ شَيْئاً وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ) (٢).

فصل

في كلام علي رضي الله عنه المقتبس من القرآن

يقال إنه اقتبس أحسن كلامه (منه) (٣) وأنه فرع (٤) قوله من القرآن ، مثل قوله السائر الذي هو أحكم مقال بعد كلام الأنبياء عليهم‌السلام :

قيمة كل امرئ ما يحسنه. فإنه مقتبس مما نطق به القرآن في قصة طالوت : (قالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمالِ قالَ إِنَّ اللهَ اصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ وَزادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشاءُ) (٥).

وقوله رضي الله عنه : المرء مخبوء تحت لسانه ، مقتبس من قصة يوسف عليه‌السلام ، (فَلَمَّا كَلَّمَهُ قالَ إِنَّكَ [الْيَوْمَ]) (٦) (لَدَيْنا مَكِينٌ أَمِينٌ).

وقوله : الناس أعداء ما جهلوا. من قوله تعالى : (بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ) (٧).

__________________

(١) زيادة ليست في الأصل.

(٢) التحريم : ١٠.

(٣) زيادة ليست في الأصل.

(٤) في الأصل : (فأنه).

(٥) البقرة : ٢٤٧.

(٦) ما بين القوسين ساقط من المخطوط والآية من سورة يوسف : ٥٤.

(٧) يونس : ٣٩.

١٨٩

وخطب علي رضي الله عنه فقال في خطبته :

عباد الله الموت ليس منه فوت إن أقمتم له أخذكم. وإن هربتم منه أدرككم. ألا وإن القبر روضة من رياض الجنة ، أو حفرة من حفر النار. ألا وإن وراءه (يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً) (١) و (تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها وَتَرَى النَّاسَ سُكارى وَما هُمْ بِسُكارى وَلكِنَّ عَذابَ اللهِ شَدِيدٌ) (٢).

ألا وإن وراء ذلك اليوم نار حرها شديد ، وقعرها بعيد. ليست لله فيها رحمة.

فارتفعت أصوات من حوله بالبكاء. فقال :

ألا وإن وراءها جنة كعرض السموات والأرض أعدت للمتقين (٣).

فصل

في نكت من أخباره

لما بويع رضي الله عنه واستقام له بعض الأمر. أشير عليه بأن يقر معاوية على الشام وعبد الله بن عامر بن كريز (٤) على البصرة (٥) ريثما تستقر الأمور في قرارها ، امتنع عن ذلك. وقال : (ما كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ [عَضُداً]) (٦).

__________________

(١) المزمل : ١٧.

(٢) الحج : ٢.

(٣) من قوله تعالى في سورة آل عمران : ١٣٣ (وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ).

(٤) عبد الله بن عامر بن كريز بن ربيعة ، يكنى أبا عبد الرحمن. ولد بمكة وولي البصرة أيام عثمان سنة ٢٩ ه‍ ومات بمكة. ودفن بعرفات سنة ٥٩ ه‍ القصد والأمم ٧٢ ، الإصابة ٣ / ٦١.

(٥) في الأصل : (النصرة).

(٦) الكهف : ٥١ وفي الأصل : (متخذا المضلين).

١٩٠

ولما استأذنه طلحة والزبير في العمرة قال لهما : انطلقا ، فما العمرة تريدان.

ولما خرج طلحة والزبير وعائشة وقد خرجوا من مكة إلى البصرة كتبت أم سلمة (١) إلى علي :

أما بعد ، فإن طلحة والزبير وعائشة (٢) قد خرجوا من مكة يريدون (٣) البصرة واستنفروا الناس إلى حربك. ولم يخف معهم إلا من كان في قلبه مرض. و (يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ) (٤) والله كافيكهم وجاعل دائرة السوء عليهم.

فكتب إليها :

(عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نادِمِينَ) (٥).

ولما أخبرت حفصة أم كلثوم بنت علي باجتماع الناس إلى عائشة بالبصرة قالت لها :

إنك وعائشة إن تظاهرتما على أبي. (فقد تظاهرتما على من (٦) كان الله مولاه ، وجبريل وصالح المؤمنين والملائكة بعد ذلك ظهير) (٧).

ولما توجه إلى البصرة أنفذ (٨) الحسن وعمار بن ياسر (٩) رضي الله عنهما إلى الكوفة لاستنفارها (١٠) فلما وردها أجابت طائفة ، وامتنع الآخرون. وكثر الكلام بين الناس فوثب

__________________

(١) أم سلمة بنت أبي أمية بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم زوج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقد روت عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم انظر الطبقات ٣٣٤.

(٢) في شرح نهج البلاغة ٢ / ٧٨ : فإن طلحة والزبير وأشياعهم شياع الضلالة يريدون أن يخرجوا لعائشة إلى البصرة ومعهم ابن الحزان عبد الله بن عامر بن كريز. ويذكرون أن عثمان قتل مظلوما وأنهم يطالبون بدمه والله كافيهم بحوله وقوته ولو لا ما نهانا الله عنه من الخروج ، وأمرنا به من لزوم البيوت لم أدع الخروج إليك.

(٣) في الأصل : (كدورون).

(٤) الفتح : ١٠.

(٥) المؤمنون : ٤٠.

(٦) في الأصل : (جرى كان).

(٧) إشارة إلى الآية : ٤ التحريم.

(٨) في الأصل : (انعدا).

(٩) زيادة ليست في الأصل والخبر في تاريخ الطبري حوادث سنة ٣٦ ه‍ وفيه أن الحسن وعمارا لما دخلا المسجد قالا : أيها الناس إن أمير المؤمنين يقول إني خرجت مخرجي هذا ظالما أو مظلوما وإني أذكر الله عزوجل رجلا رعى لله حقا إلا نفر ، فإن كنت مظلوما أعانني وإن كنت ظالما أخذ مني. والله إن طلحة والزبير لأول من بايعني.

(١٠) في الأصل : (لاستقار).

١٩١

زيد بن صوحان (١) العبدي فقال :

(الم (١) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ (٢) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَ) (٢) (الْكاذِبِينَ) (٣). أيها الناس سيروا إلى أمير المؤمنين وانفروا إليه أجمعين تصيبوا الحق راشدين. فاستجاب أكثرهم ونفروا مع الحسن.

ولما نزلت (٤) الفئتان بالبصرة أنفذ علي إلى طلحة والزبير ينذرهما ويحذرهما عاقبة البغي والنكث ، ويشير عليهما بالطاعة. فأجاباه بأن قالا :

إنك لست راضيا (٥) دون أن ندخل في طاعتك ونحن لا ندخل فيها أبدا ، (فَاقْضِ ما أَنْتَ قاضٍ) (٦).

ولما حمي الوطيس يوم الجمل وكادت تكون الدائرة (٧) على عسكر عائشة غضبت ودعت بكف من حصى (٨) فحصبت (٩) بها عسكر علي وقالت : شاهت الوجوه. فصاح بها رجل من أصحابه : (وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللهَ رَمى) (١٠).

__________________

(١) زيد بن صوحان بن حجر العبدي من بني عبد القيس ، تابعي من أهل الكوفة له رواية عن عمر وعلي. شهد الفتح فقطعت شماله يوم نهاوند وقاتل يوم الجمل مع الإمام علي حتى قتل سنة ٣٦ ه‍ تاريخ بغداد ٨ / ٤٣٩.

(٢) في الأصل : (المكاذبين).

(٣) العنكبوت : ١ ـ ٣.

(٤) في الأصل : (تراث).

(٥) في الأصل : (ناضيا).

(٦) طه : ٧٢.

(٧) في الأصل : (الديرة).

(٨) في الأصل : (خصى).

(٩) في الأصل : (فحصنت) وحصبت معناها رمت.

(١٠) الأنفال : ١٧.

١٩٢

ولما رمي طلحة بالسهم المسموم فأصابه. سقط لما به ، وأغمي عليه. فلما أفاق نظر إلى الدم يسيل منه ، فاسترجع وقال :

إنا عنينا بهذه الآية من كتاب الله تعالى : (وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً) (١).

ولما سقط الجمل قالت عائشة : (يا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هذا وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيًّا) (٢) فقال رجل : (يَعِظُكُمُ اللهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً) (٣).

وخطب علي بعد انقضاء حرب الجمل فكان من قوله فيها :

وإن طلحة والزبير بايعاني ثم نقضا بيعتي ، فجاهدتهما بعدما عذرت وأنذرت حتى (وَظَهَرَ أَمْرُ اللهِ وَهُمْ كارِهُونَ) (٤).

وقال في خطبة أخرى (٥) :

وما راعني إلا انثيال (٦) الناس عليّ كعرف الضبع يسألونني أن أبايعهم ، حتى لقد وطئ الحسنان (٧) ، وشق عطفاي (٨). فلما نهضت بالأمر فسقت شرذمة ، ونكث آخرون ، كأن

__________________

(١) نفسها : ٢٥.

(٢) مريم : ٢٣.

(٣) النور : ١٧.

(٤) من قوله تعالى في سورة التوبة : ٤٨ (حَتَّى جاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللهِ وَهُمْ كارِهُونَ). وهناك أكثر من خطبة للإمام علي يذكر فيها نكث طلحة والزبير بيعتهما. انظر جمهرة خطب العرب ١ / ٢٨٨ ، ٢٨٩ ، ٣٠٣.

(٥) من خطبة مشهورة عرفت بالشقشقية. انظر شرح نهج البلاغة ١ / ٦٦ ورواية الخطبة هناك : فما راعني إلا والناس كعرف الضبع إلي ينثالون علي من كل جانب حتى لقد وطئ الحسنان وشق عطفاي حولي كربيضة الغنم فلما نهضت بالأمر نكثت طائفة ، ومرقت أخرى ، وقسط آخرون كأنهم لم يسمعوا كلام الله حيث يقول (تِلْكَ الدَّارُ ...) بلى والله لقد سمعوها ووعوها ولكن حليت الدنيا في أعينهم وراقهم زبرجها.

(٦) في الأصل : (الانتشال).

(٧) في الأصل : (الحسنان).

(٨) في الأصل : (عطفاي) بعدها في نهج البلاغة (مجتمعين حولي كربيضة الغنم).

١٩٣

لم يسمعوا قول الله تعالى : (تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا فَساداً وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) (١).

فصل

في نكت من أخباره في أيام صفين

ورد جاسوس لمعاوية الكوفة قبل أيام صفين. فقيل له : ما وراءك؟ فقال : تركت بالشام خمسين ألفا خاضبين (٢) لحاهم من دماء أعينهم على قميص عثمان. وقد عاهدوا الله ألا يشيموا (٣) سيوفهم حتى يقتلوا قتلة عثمان. فقال له مسلمة بن زفر العبسي ، أتخوف المهاجرين والأنصار ببكاء أهل الشام على قميص عثمان؟ والله ما قميصه بقميص يوسف (٤). ولا بكاؤهم عليه ببكاء يعقوب (٥) ولئن بكوه بالشام لقد خذلوه بالحجاز.

ولما ورد جرير بن عبد الله (٦) على معاوية لأخذ البيعة منه ، راوغه معاوية وطاوله [في] (٧) الأمر. فقال له جرير :

يا معاوية ما أظن قلبك (إلا) مطبوعا عليه و (كَذلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلى كُلِّ قَلْبِ) (٨) (مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ) (٩).

__________________

(١) القصص : ٨٣ بعد هذه الآية تتمة للخطبة في شرح نهج البلاغة.

(٢) في الأصل : (خاضئين لحاهم).

(٣) يشيموا أي يغمدوا. الصحاح ، اللسان : (شمم).

(٤) إشارة إلى الآية : ١٨ من سورة يوسف : (وَجاؤُ عَلى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ).

(٥) إشارة إلى الآيتين : ١٦ ، ١٧ من سورة يوسف : (وَجاؤُ أَباهُمْ عِشاءً يَبْكُونَ (١٦) قالُوا يا أَبانا إِنَّا ذَهَبْنا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنا يُوسُفَ عِنْدَ مَتاعِنا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ).

(٦) جرير بن عبد الله البجلي ، أبو عمر وقيل أبو عبد الله روى عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكان إسلامه في السنة التي توفي فيها الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتوفي نحو سنة ٥١ ه‍. انظر تهذيب التهذيب ٢ / ٧٤ وأخباره في الإمامة والسياسة.

(٧) زيادة ليست في الأصل.

(٨) زيادة ليست في الأصل.

(٩) غافر : ٣٥.

١٩٤

ولما أراد علي رضي الله عنه المسير إلى الشام. دعا بفرسه وقال : بسم الله. فلما استوى قال (١) : (سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا وَما كُنَّا [لَهُ]) (٢) (مُقْرِنِينَ (١٣) (وَإِنَّا) (٣) (إِلى رَبِّنا لَمُنْقَلِبُونَ) (٤). ورأى نخلا وراء نخل فقال : (وَالنَّخْلَ باسِقاتٍ) (٥) (لَها طَلْعٌ نَضِيدٌ) (٦) ونظر في مسيره إلى إيوان كسرى فقال : (أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ (١٢٨) وَتَتَّخِذُونَ مَصانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ (١٢٩) وَإِذا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ) (٧).

ولما نزل صفين وجاءت رسل معاوية بالمحالات (٨) أجابهم بما لم يسمعوا فيه فقال : (إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (٨٠) وَما أَنْتَ بِهادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ) (٩).

وكتب معاوية (١٠) :

__________________

(١) في الأصل : (قال).

(٢) ما بين القوسين ساقط من أصل المخطوط.

(٣) في الأصل : (عايليون).

(٤) الزخرف : ١٣ ، ١٤.

(٥) في الأصل : (باصقات).

(٦) ق : ١٠.

(٧) الشعراء : ١٢٨ ـ ١٣٠.

(٨) المحالات جمع محالة وهي الحيلة.

(٩) النمل : ٨٠ ، ٨١.

(١٠) الكتاب في الإمامة والسياسة ١ / ٤٩. وقد أجاب فيه معاوية على كتاب الإمام علي في توليته الشام ، وطلبه البيعة منه ، والقدوم إليه في ألف رجل من أهل الشام. وهو أيضا في وقعة صفين : ١٠٥.

١٩٥

ليس بيني وبين قيس عتاب

غير طعن الكلى وضرب الرقاب

فكتب إليه علي :

(إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) (١).

ولما صح عزمه على القراع (٢) خطب أصحابه فقال بعد أن حمد الله وأثنى عليه (٣) :

يا أيها الناس إن الله تعالى قد دلّكم (عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ) (٤). وجعل ثوابه لكم المغفرة (وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ أَكْبَرُ) (٥) وقد أخبركم بالذي يجب عليكم فيها فقال : (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ) (٦). ألا فرصّوا صفوفكم ، وقدموا الدارع (٧) ، وأخّروا الحاسر. وعضّوا على النواجذ (٨) ، فإنه أنبى (٩) للسيوف عن الهام (١٠). ثم قرأ : (قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ) (١١). ألا واحذروا الفرار (١٢) في الزحف ولا

__________________

(١) القصص : ٥٦.

(٢) القراع : القتال ، ومقارعة الأبطال قرع بعضهم بعضا. اللسان (قرع).

(٣) الخطبة في نهج البلاغة ١٨ ـ ١٨٠ ، وقد بدأت فيه من قوله : (فقدموا الدارع).

(٤) الصف : ١٠.

(٥) التوبة : ٧٢.

(٦) الصف : ٤.

(٧) في الأصل : (الدرّاع). والصواب ما أثبتناه.

(٨) في نهج البلاغة : (وعضوا على الأضراس).

(٩) في الأصل : (ابنى).

(١٠) من هنا يختلف نص الخطبة في نهج البلاغة ١٨١.

(١١) التوبة : ١٤ وفي الأصل : (ويشفي).

(١٢) في الأصل : (القران).

١٩٦

تتعرضوا لمقت الله. فإن مردكم إليه. وهو تعالى يقول : (قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذاً لا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلاً) (١).

وخطبهم يوما آخر ، فقال :

إن الله بعث محمدا بشيرا ونذيرا للعالمين (٢). وأمينا على التنزيل ، وشهيدا على هذه الأمة (٣). وأنتم معاشر العرب في شرّ دين وجور (٤). بين حجارة جلس (٥) وحيات صم. تشربون الأجاج (٦). وتأكلون الجشب (٧). وتسفكون دماءكم (٨) بينكم ، وتقتلون أولادكم ، ولا ترجون لله وقارا. ولا يؤمن أكثركم بالله إلّا وأنتم مشركون. فمن الله عليكم برسول من أنفسكم. (عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ) (٩). فأمركم بأداء الأمانة (١٠) ، وصلة الرحم (١١) ، وحقن الدماء ، ونهاكم (١٢) عن التحاسد (١٣) والتنازع (١٤).

__________________

(١) الأحزاب : ١٦.

(٢) إشارة إلى سورة سبأ : ٢٨ والبقرة : ٧٩ ، ٨٠ ، ١١٩ وآيات كثيرة أخرى.

(٣) إشارة إلى قوله تعالى : (فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً) النساء : ٤١ ولفظ (شهيدا) غير موجود في نهج البلاغة.

(٤) الجور : الميل عن القصد. وفي نهج البلاغة : (على شر دين وفي شر دار).

(٥) في الأصل : (حبيس) والجلس : الحجارة الغليظة الخشنة وفي نهج البلاغة : (حجارة خشن).

(٦) الأجاج : المالح. وروايتها في نهج البلاغة : (الكدر).

(٧) في الأصل : (الخشب) والتصويب من نهج البلاغة. والجشب من الطعام الغليظ.

(٨) بعدها في نهج البلاغة : (وتقطعون أرحامكم والأصنام فيكم منصوبة ، والآثام بكم معصوبة) وينتهي بعدها النص فيه.

(٩) التوبة : ١٢٨.

(١٠) إشارة إلى قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها) النساء : ٥٨.

(١١) إشارة إلى قوله تعالى : (وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ) النساء : ١.

(١٢) في الأصل : (وانهاكم).

(١٣) الخطبة في نهج البلاغة مع خلاف في الرواية.

(١٤) العبارة الأخيرة إشارة إلى قوله تعالى : (وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا) الأنفال : ٤٦.

١٩٧

واستمر في الخطبة ثم ساق الكلام إلى ذكر أهل الشام فقال :

ودعوناهم فلم يجيبوا إلى الحق والبرهان ، ولم يتناهوا عن الطغيان والعدوان وقد أنذرناهم ، ونبذنا إليهم على سواء (١) إن الله لا يحب الخائنين.

ومن دعائه في ليلة الهرير (٢) :

اللهم إليك نقلت الأقدام ، وأفضت القلوب (٣) ، ورفعت الأيدي ، ومدت الأعناق ، وطلبت الحوائج. وشخصت الأبصار (٤). اللهم (افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ) (٥).

ونظر يوما إلى بعض أصحابه يتألمون من الجراح فقرأ : (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ) (٦).

ولما حمل أهل الشام المصاحف على رؤوس الرماح ودعوا إليها. تقدم رجل منهم على فرس أبلق (٧) في يده مصحف قد فتحه. ثم وقف بين الجمعين وجعل يقرأ : (وَإِذا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ (٤٨) وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ (٤٩) أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتابُوا أَمْ يَخافُونَ أَنْ

__________________

(١) في الأصل : (سوا) والقول إشارة إلى قوله تعالى : (وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ) الأنفال : ٥٨.

(٢) الهرير معركة دارت بين جيش الإمام علي وجيش معاوية سنة ٣٧ ه‍ وكانت في ليلة شديدة على المسلمين يضرب بها المثل في الشدة. كثر فيها القتلى من الجانبين. انظر شرح نهج البلاغة ١ / ١٨٤ وأول الدعاء فيه : «اللهم يا صمد ، يا إله محمد ، إليك ..».

(٣) قبلها في نهج البلاغة : (اللهم إليك أمضت القلوب ، ومدت الأعناق ، ونقلت الأقدام).

(٤) في شرح نهج البلاغة : (وشخصت الأبصار ، وطلبت الحوائج) وبعدها : (اللهم نشكو إليك غيبة نبينا ، وكثرة عدونا ، وتشتت أهوائنا. ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق ، وأنت خير الفاتحين. سيروا على بركة الله).

(٥) الأعراف : ٨٨.

(٦) محمد : ٣١.

(٧) الأبلق : صفة للفرس من البلق ، إذا كان في لونه سواد وبياض.

١٩٨

يَحِيفَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٥٠) إِنَّما كانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (١).

فكأنما كانت تلك الحرب نارا صبت عليها ماء. ثم اتفقوا على نصب الحكمين يتأولون قول الله تعالى : ف (وَإِنْ خِفْتُمْ شِقاقَ) (٢) (بَيْنِهِما فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِها إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللهُ بَيْنَهُما) (٣). وقوله تعالى : (يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ) (٤).

ولما كان من خديعة (٥) عمرو بن العاص لأبي موسى (٦) ما كان. قال له أبو موسى :

عليك لعنة الله. فو الله ما أنت إلا كما قال الله : (كَمَثَلِ الشَّيْطانِ إِذْ قالَ لِلْإِنْسانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخافُ اللهَ رَبَّ الْعالَمِينَ) (٧).

__________________

(١) النور : ٤٨ ـ ٥١.

(٢) في الأصل : (شقاقا).

(٣) النساء : ٣٤.

(٤) المائدة : ٩٥.

(٥) في الأصل : (حذيفة).

(٦) أبو موسى الأشعري عبد الله بن قيس بن سليم من بني الأشعر ، صحابي ولد في زبيد اليمن وقدم مكة عند ظهور الإسلام وأسلم. ولاه عمر بن الخطاب البصرة وافتتح أصبهان والأهواز. عزله علي عن الكوفة بعد التحكيم فأقام فيها إلى أن مات سنة ٤٤ ه‍. انظر : الإصابة ٣ / ٣٥١.

(٧) الحشر : ١٦.

١٩٩

فصل

في نبذ من خبره مع الخوارج

لما سار علي رضي الله عنه إلى قتال الخوارج بالنهروان (١). قال له عفيف بن قيس :

يا أمير المؤمنين لا تخرج في هذه الساعة. فإنها لعدوك عليك. فقال علي :

(إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ ما مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) (٢). ثم تمم المسير إليهم فطحن أكثرهم طحنا.

ولما قال ذو الثدية حرقوص بن زهير (٣) : والله ما نريد بقتالك إلا وجه الله. قرأ : (هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالاً (١٠٣) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً) (٤). ثم قال : منهم أهل النهروان ورب الكعبة.

فصل

في ذكر مقتله ووصيته

لما قدم من حرب الخوارج ، استقبله الناس يهنئونه بالظفر. فلما نزل دخل المسجد الأعظم ، فصلى ركعتين. ثم صعد المنبر فخطب ، فأوجز (٥) ثم ضرب بيده على لحيته وهي

__________________

(١) النهروان : قال ياقوت عنها هي ثلاث نهروانات الأعلى والأوسط والأسفل ، وهي كورة واسعة بين بغداد وواسط من الجانب الشرقي حدها الأعلى متصل ببغداد. وكان بها وقعة لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب مع الخوارج مشهورة. معجم البلدان ٤ / ٨٤٧.

(٢) هود : ٥٦.

(٣) في الأصل : الندبة ، وهو حرقوص بن زهير المعروف بذي الثدية رأس من رؤوس الخوارج قتله الإمام علي في النهروان.

انظر : الإصابة ١ / ٤٧٢.

(٤) الكهف : ١٠٣ ، ١٠٤.

(٥) في الأصل : (فأوجس).

٢٠٠