الإقتباس من القرآن الكريم - ج ١

أبي منصور عبد الملك بن محمّد بن اسماعيل الثعالبي

الإقتباس من القرآن الكريم - ج ١

المؤلف:

أبي منصور عبد الملك بن محمّد بن اسماعيل الثعالبي


المحقق: الدكتورة ابتسام مرهون الصفار
الموضوع : الحديث وعلومه
الناشر: عالم الكتب الحديث للنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٧٠
الجزء ١ الجزء ٢

اتصل بي خبر الأمراء بالتطهير الذي لو لا الأخذ بالسنة فيه ، والتأدب بأدب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في استعماله لأغنى عنه فيهم قديم ما حكم (١) به لهم من الطهارة في كتابه الناطق ، ووصيه الصادق. إذ يقول عزوجل (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً) (٢). وصلّى الله على محمد وعلى آله الذين أذهب عنهم الأرجاس. وطهرهم (٣) من الأنجاس وجعل مودتهم (٤) أجرا له على الناس.

__________________

(١) في الأصل : (احكم).

(٢) الأحزاب : ٣٣.

(٣) في الأصل : (واطهرهم).

(٤) في الأصل : (فودتهم).

١٦١
١٦٢

الباب الرابع

في

ذكر الصحابة وما خصّهم الله تعالى من الفضل

والشرف ، وأقاويل بعضهم في بعض ، وغرر من

محاسن كلامهم ونكت أخبارهم رضي الله عنهم

أجمعين

١٦٣
١٦٤

الباب الرابع

في ذكر الصحابة وما خصّهم الله تعالى من الفضل والشرف ، وأقاويل بعضهم في بعض ، وغرر من محاسن كلامهم ونكت أخبارهم.

فصل

في ذكرهم عامة

قد ذكر الله تعالى ذكره أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ورضي عنهم في آية من كتابه تشتمل (١) على جميع الحروف ، ومدحهم بها ، ونبه على ارتفاع مقاديرهم وعلو درجاتهم فيها فقال عز من قائل : (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ تَراهُمْ) (٢) (رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْواناً سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً) (٣). فكل من أساء القول فيهم ، يخلو كلامه من هذه الحروف التي مدحهم الله بها. وأثنى عليهم وذكرهم في آية من كتابه فقال : (الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا

__________________

(١) في الأصل : (مشتمل).

(٢) في الأصل : (تريهم).

(٣) الفتح : ٢٩.

١٦٥

فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ (٢٠) يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيها نَعِيمٌ مُقِيمٌ (٢١) خالِدِينَ فِيها أَبَداً إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ) (١).

وقال فيهم : (لكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولئِكَ لَهُمُ الْخَيْراتُ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٨٨) أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (٢).

وقال جل ذكره فيهم : (وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ) (٣).

وذكر بيعة الرضوان (٤) فقال : (إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللهَ يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ) (٥).

وقال عزّ ذكره : (لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ) (٦) (تَحْتَ الشَّجَرَةِ).

__________________

(١) التوبة : ٢٠ ـ ٢٢. وفي الأصل : (أحر).

(٢) التوبة : ٨٨ ، ٨٩ ، وفي الأصل (أمنوا وجاهدوا).

(٣) نفسه. (١٠٠).

(٤) بيعة الرضوان كانت قبل صلح الحديبية حين أرسل الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم عثمان ، ليفاوض قريشا ، وكان المسلمون عند الحديبية فاحتبسته قريش ، وبلغ المسلمين أنه قتل فدعا الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم المسلمين إلى بيعة الرضوان بأن بايعوا الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم على الموت ، أو على عدم الفرار وتم ذلك تحت شجرة مثمرة. انظر سيرة ابن هشام ٣ / ٣١٤ الطبري حوادث سنة ٨ ه‍.

(٥) الفتح : ١٠.

(٦) في الأصل : (يباعون) والصواب : يبايعونك والآية من سورة الفتح : ١٨.

١٦٦

فصل

في ذكر أبي بكر الصديق

قال الله تعالى في شأن الصديق : (وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ) (١) وقال في مصاحبته رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في الغار : (ثانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُما فِي الْغارِ) (٢) حتى صارت هذه الكلمة مثلا لكل متآخين (٣) متصافيين يقتربان ، ولا يكادان يفترقان.

كما قال أبو تمام :

ثانيه في كبد السماء ولم يكن

لاثنين ثان إذ هما في الغار (٤)

وكان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم استشاره وعمر رضي الله عنهما في أسرى قريش ، فأشار أبو بكر بالمنّ عليهم ، وإطلاقهم. وأشار عمر بعرضهم على السيف ، واستقصاء أموالهم. فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : الحمد لله (الذي) (٥) أيدني بكما. أما أحدكما ، فسهل رحيم رفيق ، مثله كمثل إبراهيم عليه‌السلام إذ قال : (فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (٦) ، وكمثل عيسى عليه‌السلام إذ قال : (إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ

__________________

(١) الزمر : ٣٣.

(٢) التوبة : ٤٠.

(٣) في الأصل : (متواخين).

(٤) البيت في بدر التمام ج ١ / ٣٦٢ من قصيدة يمدح بها المعتصم ومطلعها :

الحق أبلج والسيوف عوار

فحذار من أسد العرين حذار

وذكر الصولي أن البيت يروى : (لاثنين ثالث إذ هما).

(٥) زيادة ليست في الأصل.

(٦) إبراهيم : ٣٦.

١٦٧

أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (١). وأما الآخر ، فصلب في دين الله ، قوي شديد مثله كمثل نوح عليه‌السلام إذ قال : (رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً (٢٦) إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلَّا فاجِراً كَفَّاراً) (٢) ، وموسى عليه‌السلام إذ قال : (رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ) (٣).

فصل

في حسن آثاره في الإسلام

لما قبض الله نبيه (٤) صلوات الله عليه لم يجسر أحد من المسلمين على نعيه ، ولم يستجر ذكر موته (٥) ، لجلالته في النفوس ، وعظم شأنه في القلوب ، حتى قام أبو بكر رضي الله عنه خطيبا بعد أن حمد الله ، وأثنى عليه (٦) :

__________________

(١) المائدة : ١١٨.

(٢) نوح : ٢٦ ، ٢٧.

(٣) يونس : ٨٨ وفي الأل : (حتى مروا العذاب).

(٤) في الأصل : (بينه).

(٥) في الأصل : (يستحز قوته).

(٦) الخطبة في سيرة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ق ٢ : ٦٥٥ وفي تاريخ الطبري : حوادث سنة ١١ ه‍ وسيرة عمر بن الخطاب ص ٣٤ ، أن أبا بكر خرج وعمر بن الخطاب يكلم الناس. فقال اجلس يا عمر. فقال أبو بكر : أما بعد : من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات ، ومن كان .. قال والله لكأن الناس لم يعلموا أن الله أنزل هذه الآية حتى تلاها أبو بكر فتلقاها الناس كلهم فما أسمع بشرا من الناس إلا يتلوها. نثر الدر ٢ / ١٧. وفي تاريخ ابن خلدون ٢ / ٨٥١ وفي البداية والنهاية ٦ / ٣١٢ أنه خطب بعد أحداث الردة في الناس فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : الحمد لله الذي هدى فكفى ، وأعطى فأغنى. إن الله بعث محمدا والعلم شريد ، والإسلام غريب طريد وقد رث حبله ، وخلف عهده ... ثم يذكر النص المذكور أعلاه.

١٦٨

أيها الناس إنه من كان يعبد محمدا ، فإن محمدا قد مات. ومن كان يعبد (١) الله ، فإن الله حي لا يموت (٢). والله قد نعاه الله إلى نفسه في أيام حياته فقال (٣) (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ) (٤). ثم قال : (وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخالِدُونَ) (٥) و (كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ) (٦) ثم قال : (وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ) (٧) ألا إن محمدا قد مضى (٨) لسبيله. ولا بد لهذا الأمر من قائم يقوم به ، فدبّروا ، وانظروا وهاتوا آراءكم. فبكى الناس ، ونادوه من كل جانب ، نصبح (٩) ، وننظر في ذلك إن شاء الله.

ثم كان من شأن يوم السقيفة وأمر البيعة ما قرن الله الخير والخيرة به. وكان من احتجاج أبي بكر على الأنصار في استحقاق الإمامة دونهم أنه قال (١٠) :

__________________

(١) في الأصل : (بعيد محمدا ... بعيد).

(٢) بعدها في نثر الدر : (أيها الناس الآن كثر أعداؤكم ، وقل عددكم ، وركب الشيطان منكم هذا المركب) ثم وردت ثلاث آيات غير المذكورة في النص أعلاه.

(٣) هنا ينتهي نص ابن خلدون وفيه يذكر أن أبا بكر تلا الآية : (وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ) فكأن الناس لم يعلموا أن هذه الآية في المنزل. قال عمر : فما هو إلا أن سمعت أبا بكر يتلوها فوقعت على الأرض ما تحملني رجلاي. وعرفت أنه مات. وقيل إنه تلا معها : (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ).

(٤) الزمر : ٣٠.

(٥) الأنبياء : ٣٤.

(٦) آل عمران : ١٨٥.

(٧) آل عمران : ١٤٤.

(٨) في الأصل : (قضى).

(٩) في الأصل : (نصيح).

(١٠) في البيان والتبيين ٣ / ١٤٧ ، عيون الأخبار ٢ / ٢٣٣ ، العقد الفريد ٢ / ١٣ (أيها الناس نحن المهاجرون أول الناس إسلاما ، وأكرمهم أحسابا ، وأوسطهم دارا ، وأحسنهم وجوها ، وأكثر الناس ولادة وأمسهم رحما برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. أسلمنا قبلكم ، وقدمنا في القرآن عليكم فقال تعالى : (وَالسَّابِقُونَ ...).

١٦٩

نحن الذين أنزل الله فينا (لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْواناً وَيَنْصُرُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ) (١) في كتاب الله.

وقد أمركم الله أن تكونوا معنا بقوله (٢) : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) (٣) ، فاتفقت الكلمة (٤) ، ونزلت الرحمة ، وتم أمر البيعة.

فصل

في مثل ذلك وذكر شيء من كلامه أيام الردة (٥)

[حين] (٦) امتنعت (٧) العرب عن الزكاة قال عمر لأبي بكر :

لو تجافيت عن زكاة أموال العرب في عامك ، ورفقت بهم ، ورجوت أن يرجعوا عما هم عليه. فقد علمت أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يقول (٨) : «أمرت أن (٩) أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله ، محمد رسول الله. فإذا قالوها عصموا مني أموالهم إلا بحقها ، وحسابهم على الله».

__________________

(١) الحشر : ٨.

(٢) في الأصل : (قوله).

(٣) التوبة : ١١٩.

(٤) في الأصل : (فإن ضعفت الكافة).

(٥) في الأصل : (الدودة).

(٦) زيادة ليست في الأصل.

(٧) في الأصل : (فأنصفعت).

(٨) في البداية والنهاية ٦ / ٣١١ وفيه أن أبا بكر قال : والله لو منعوني عقالا. وفي رواية أخرى عفاقا كانوا يؤدونه إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأقاتلنهم على منعها. إن الزكاة حق المال. والله لأقاتلنّ من فرق بين الصلاة والزكاة. ثم ذكر له رواية أخرى لخطبته وخبره عند وفاة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(٩) في الأصل : (أأن).

١٧٠

فقال أبو بكر : والله لو منعوني عقال (١) ناقة مما كان يأخذ منهم النبي صلوات الله عليه لقاتلتهم عليه أبدا حتى ينجز الله وعده. فإن قضاءه (٢) حق ، ووعده صادق لا خلف فيه. وقد قال الله تعالى : (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً) (٣).

فقال عمر : سمعا وطاعة لأمرك يا خليفة رسول الله. ثم كان ما كان من إظهار الله إياه عليهم ، واستقامة أمر المسلمين والإسلام بيمن خلافته ، وقوة يقينه ، وثبات عزمه رضي الله عنه.

ولما خطب الناس يدعوهم إلى غزو الروم (٤) سكتوا جميعا فوثب عمر ، وقال :

يا معشر المسلمين ما لكم لا تجيبون خليفة (٥) رسول الله ، وقد دعاكم إلى الجنة التي وعد المتقون. أما والله (لَوْ كانَ عَرَضاً قَرِيباً وَسَفَراً قاصِداً لَاتَّبَعُوكَ وَلكِنْ) (٦) (بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ) (٧).

__________________

(١) العقال ، صدقة عام. انظر الصحاح ، لسان العرب (عقل).

(٢) في الأصل : (قضاؤه).

(٣) النور : ٥٥.

(٤) في الأصل : (الدم).

(٥) في الأصل : (لا يحبون خليفة).

(٦) في الأصل : (والي).

(٧) من سورة التوبة : ٤٢ وفي الأصل : (عليكم وهو. إشارة إلى قوله تعالى : (لَوْ كانَ عَرَضاً قَرِيباً).

١٧١

وقام خالد بن سعيد بن العاص (١) ، وأقبل على أبي بكر فقال له : (والله) (٢) لأن يتخطفني الطير أو تهوي بي الريح في مكان سحيق (٣) أحب إلي من أن أقعد (٤) عن دعوتك أو أبطئ عن إجابتك.

وأوصى أبو بكر الجيش الذين بعثهم إلى الشام (٥) فقال :

اذكروا الله عند كل مصعد ومهبط ، ولا تقتلوا امرأة (٦) ، ولا صبيا صغيرا ولا شيخا كبيرا ولا تقعروا (٧) نخلا ، ولا تحرقوه ، ولا تقطعوا شجرة مثمرة ، ولا تذبحوا شاة لا حاجة (٨) لكم في ذبحها ، ولا تخربوا عامرا (وَلَيَنْصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ) (٩). ثم رفع يده إلى السماء بعد أن استقبل القبلة فقال :

اللهم إنك خلقتنا ، ولم نك شيئا مذكورا ، ثم بعثت إلينا رسولك محمدا بشيرا ونذيرا ، فهديتنا به وكنا ضلّالا. وحبّبت إلينا الإيمان ، وكنا كفارا ، وقويتنا به وكنا ضعافا ، وجمعتنا به وكنا أشتاتا. فأمرتنا أن نقاتل (١٠) المشركين حتى يقولوا لا إله إلا الله ، أو يعطوا الجزية عن يد

__________________

(١) خالد بن سعيد بن العاص قال الواقدي عنه ، إنه خامس من أسلم من العرب وصدق رسول الله. وأرسله الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم مع من أرسلهم إلى اليمن ليفقهوا أهلها ، واشترك في فتوح الشام مع خالد بن الوليد. انظر طبقات فقهاء اليمن : ١٤ ، ٢٢ ، ٢٣ ، تاريخ الطبري حوادث سنة ١٠ ه‍ ج ٣ / ٢٨ فما بعدها.

(٢) ما بين القوسين زيادة ليست في الأصل.

(٣) اقتباس من قوله تعالى : (فَكَأَنَّما خَرَّ مِنَ السَّماءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكانٍ سَحِيقٍ) الحج : ٣١.

(٤) في الأصل : (الراقعة).

(٥) وصيته في تاريخ الطبري ٣ / ٢١٣. الكامل لابن الأثير ٢ / ١٦٢ وفيهما : (أيها الناس قفوا أوصيكم بعشر فاحفظوها عني : لا تخونوا ولا تغلوا ، ولا تصدروا ، ولا تمثلوا ، ولا تقتلوا طفلا صغيرا ، ولا شيخا كبيرا ، ولا امرأة).

(٦) في الأصل : (المرأة).

(٧) في الأصل : (ولا تعقروا) وقعر النخل قطعها من أصولها ومنه قوله تعالى : (أَعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ).

(٨) في الأصل : (شاة ولا حاجة .. ولا تحزنوا).

(٩) الحج : ٤٠.

(١٠) في الأصل : (يقاتل).

١٧٢

وهم صاغرون (١). اللهم إنا أصبحنا نطلب رضاك ، ونجاهد من عاداك وعبد معك إلها سواك. اللهم فانصر عبادك المؤمنين على عبادك المشركين. اللهم شجّع جبانهم ، وثبّت أقدامهم ، وزلزل أقدام أعدائهم ، واقذف الرعب في قلوبهم ، وأيد خضراءهم ، واستأصل شأفتهم (٢) ، واقطع دابرهم ، وأورثنا أرضهم وديارهم وأموالهم. وكن للمسلمين وليا ، وبهم حفيا (٣) ، وثبّتهم بالقول الثابت في الحياة الدنيا ، وفي الآخرة يا أرحم الراحمين (٤).

وخطب يوما فقال بعد حمد الله ، والثناء عليه :

أيها الناس إني قائل قولا من وعاه فعلى الله جزاؤه. ألا إن الموعظة حياة ، والمؤمنون إخوة ، وعلى الله قصد السبيل. ولو شاء لهداكم أجمعين فأتوا الهدى تهدوا ، واجتنبوا الغي ترشدوا ، (وَتُوبُوا إِلَى اللهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (٥).

فصل

في مكاتباته

كتب إلى خالد بن الوليد ومن معه من المهاجرين والأنصار (٦) :

أما بعد ، فالحمد لله الذي أنجز (٧) وعده ، ونصر عبده (٨) ، وهزم الأحزاب وحده. وقد فرض على عباده الجهاد فقال : (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ

__________________

(١) من قوله تعالى : (حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ) الوبة : ٢٩.

(٢) في الأصل : (شفأتهم) والشأفة قرحة تخرج في أسفل القدم فتكوى فتذهب. يقال في المثل استأصل الله شأفتهم : أي أذهبهم الله كما أذهب تلك القرحة بالكي ، انظر الصحاح : (شأف).

(٣) حفيا من الحفاوة وهي المبالغة بالعناية. منه يقال حفيت به حفاوة ، وتحفيت به أي بالغت في إكرامه وإلطافه. الصحاح (حفا).

(٤) إشارة إلى قوله تعالى : (يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ) إبراهيم : ٢٧.

(٥) النور : ٣١.

(٦) الخطبة في فتوح الشام : ٤٦.

(٧) في الأصل : (انحزم).

(٨) في الأصل : (عزه) وفي فتوح الشام (ونصر دينه ، وأعز وليه وأذل عدوه ، وغلب الأحزاب بعده ..) وبعدها نص غير موجود أعلاه.

١٧٣

تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) (١). وأطيعوا الله فيما فرض عليكم (٢) ، وثقوا بوعوده وارغبوا في الجهاد وإن عظمت المئونة أو بعدت الشقة. (انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالاً وَجاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (٣). ألا وإني أمرت خالد بن الوليد بالسير إلى العراق (٤) ليلحق بالمثنى بن حارثة (٥) ، فيكون عونا له على محاربته الفرس ، فسيروا معه ، ولا تثاقلوا (٦) عنه. كفانا الله وإياكم المهم من أمور الدارين برحمته.

وكتب إلى المثنى بن حارثة :

أما بعد ، فإني وجهت إليك خالد بن الوليد فاستقبله (٧) بجميع من (٨) معك وساعده وآزره ، ولا تعصين له أمرا (٩). فإنه من الذين وصفهم الله تعالى في كتابه فقال : (أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْواناً) (١٠).

__________________

(١) البقرة : ٢١٦.

(٢) في فتوح الشام : ٥٥ : (فاستتموا وعد الله إياكم ، وأطيعوه فيما فرض عليكم ، وإن عظمت فيه المؤونة ، واشتدت فيه الرزية).

(٣) التوبة : ٤١.

(٤) في فتوح الشام : (لا يبرحه حتى يأتيه أمري ، فسيروا معه ولا تثاقلوا عنه ، ولا تنفلتوا عنه فإنه سبيل يعظم الله فيه الأجر لمن حسنت فيه نيته. وعظمت في الخير رغبته فإذا قدمتم العراق فكونوا به حتى يأتيكم أمري كفانا الله وإياكم أمور الدنيا والآخرة والسلام.

(٥) المثنى بن حارثة الشيباني صحابي فاتح من كبار القادة. أسلم سنة ٩ ه‍ واشترك في الفتوحات زمن أبي بكر وعمر توفي نحو ١٤ ه‍. انظر الإصابة ٣ / ٣٤١.

(٦) في فتوح الشام : ٥٥ فإنه سبيل يعظم الله فيه الأجر لمن حسنت فيه نيته ، وعظمت في الخير رغبته. فإذا قدمتم العراق فكونوا بها حتى يأتيكم أمري. كفانا الله وإياكم مهم أمور الدنيا والآخرة والسلام عليكم ورحمة الله.

(٧) في فتوح الشام : فاستقبله بمن معك من قومك ثم ساعده وآزره وكاتفه.

(٨) في الأصل : (يجمع).

(٩) في فتوح الشام : (ولا تخالفن له رأيا).

(١٠) الفتح : ٢٩ وفي فتوح الشام : ما أقام معك فهو الأمير ، فإن شخص عنك فأنت على ما كنت عليه والسلام عليك.

١٧٤

وكتب إلى أهل اليمن (١) يحرضهم على الجهاد كتابا في فصل منه :

سارعوا ـ رحمكم الله ـ إلى فريضة ربكم ، وسنة نبيكم ، فإلى إحدى الحسنيين ؛ إما الشهادة التي جعل (٢) الله فيها السعادة ، وإما الفتح والغنيمة.

فصل

في ذكر استخلافه عمر رضي الله عنه

قال عبد الله بن مسعود (٣) :

أفرس الناس ثلاثة : العزيز الذي تفرّس (٤) في يوسف عليه‌السلام. فقال لامرأته (أَكْرِمِي مَثْواهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً) (٥) ، وصفورا (٦) بنت (شعيب) (٧) إذ رأت موسى عليه‌السلام فقالت لأبيها (يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ) (٨) ، وأبو بكر حين استخلف عمر على أمر الأمة.

ولما احتضر أبو بكر أملى في استخلاف عمر كتابا في نهاية الإيجاز والإبداع (٩) ونسخته :

__________________

(١) الرسالة في تاريخ ابن عساكر ١ / ١٢٨ وروايتها : وقد استنفرنا المسلمين إلى جهاد الروم بالشام. وقد سارعوا إلى ذلك. وقد حسنت بذلك نيتهم وعظمت حسبتهم ، فسارعوا عباد الله إلى ما سارعوا إليه ، ولتحسن نيتكم فيه. فإنكم إلى إحدى الحسنيين إما الشهادة وإما الفتح والغنيمة.

(٢) في الأصل : (إلى).

(٣) عبد الله بن مسعود بن غافل بن حبيب بن هذيل من كبار الصحابة بعثه عمر بن الخطاب معلما ووزيرا إلى أهل الكوفة ومات بالمدينة سنة ٣٢ ه‍ الطبقات : ابن خياط ١٦.

(٤) القول في لطائف المعارف ٧٦ ، سيرة عمر بن الخطاب : ٣٩.

(٥) ما بين القوسين زيادة ليست في الأصل. والآية من سورة يوسف : ٢١.

(٦) في الأصل : (وصفرا) والصواب : صفورا وهي ابنة شعيب وقيل ابنة أخي شعيب وربما يكون صوابها وصغرى بنات. انظر لطائف المعارف ٧٧.

(٧) زيادة ليست في الأصل.

(٨) القصص : ٢٦.

(٩) ذكر الجاحظ في البيان والتبيين ٢ / ٤٥ هذه الوصية برواية أخرى تختلف عن هذه تماما. وفيها يخاطب أبو بكر عمر ويوصيه بتقوى الله وبأمور تلزمه في الخلافة.

١٧٥

بسم الله الرحمن الرحيم. هذا ما عهد أبو بكر خليفة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عند آخر عهده في الدنيا (١) ، وأول عهده بالآخرة (٢) في الحال التي يؤمن فيها الكافر ويتقي (٣) فيها الفاجر.

أما بعد فإني استخلف (٤) عليكم عمر بن الخطاب فإنه برّ (٥) وعدل ، فذلك ظني به ، ورأيي فيه. وإن جار وبدل ، فلا علم لي بالغيب. والخير أردت. لكل امرئ ما اكتسب (٦) (وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ) (٧).

فصل

في ذكر عمر وقطعة من مآثره

لما خطب عمر رضي الله عنه خطبة الاستسقاء (٨) لم يزد بعد حمد الله والثناء عليه والصلاة على نبيه محمد صلوات الله عليه وسلامه على الاستغفار ، حتى نزل عن المنبر. فقيل له في ذلك. فقال : أما سمعتم الله يقول : (اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً (١٠) يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً) (٩).

قال : فهطلت السماء بمثل أفواه القرب.

وخطب يوما فقال :

__________________

(١) بعدها في الكامل للمبرد : خارجا عنها ، داخلا فيها في الحال.

(٢) والخطبة في الكامل للمبرد ١ / ٦ ، الإمامة والسياسة ١ / ١٦ ، العقد الفريد ٢ / ٢٠٧ ، نثر الدر ٢ / ١٥ ، صبح الأعشى ٩ / ٣٥٩.

(٣) في الأصل : (ويبقى) وبعدها في الكامل : (ويصدق الكاذب).

(٤) في نثر الدر : (إني استعملت عليكم عمر بن الخطاب فإنه بر وعدل ، فذلك علمي به).

(٥) في الأصل : (فإنه بر) وفي الكامل : (فذلك علمي به ورأيي فيه).

(٦) من قوله تعالى في سورة النور : ١١ (لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ) وبعدها في نثر الدر : (مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ).

(٧) الشعراء : ٢٢٧.

(٨) الخبر في سيرة عمر بن الخطاب : ١١٩ وفيه : أن عمر بن الخطاب خطب هذه الخطبة عام الرمادة ، وذلك في السنة الثامنة عشر للهجرة حين أصابت الناس مجاعة شديدة بالمدينة وما حولها وانقطع المطر. وانظر اختلاف رواية الخطبة في العقد الفريد ٤ / ٦٤. الكامل لابن الأثير ٣ / ٢٣٠.

(٩) نوح : ١٠ ، ١١.

١٧٦

لو شئت لدعوت بصلاء (١) ، وصياب (٢) وكراكر (٣) وأسنمة (٤) ، ولكن الله عاب قوما فقال : (أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا) (٥).

فقامت عجوز في أخريات الناس ، وقالت :

يا أمير المؤمنين ، هذه الآية إنما هي في الكفار ، (وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا) (٦).

فقال عمر : الله أكبر كلكم أفقه من عمر حتى العجائز!

وقيل لعمر رضي الله عنه : هاهنا غلام نصراني كاتب (٧) من أهل الحيرة (٨) فلو اتخذته كاتبا ، فقال :

لقد اتخذت بطانة من دون المؤمنين (٩) وتلا : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ) (١٠).

__________________

(١) في الأصل : بصلا والصلاء بالكسر والمد الشواء لأنه يصلى بالنار.

(٢) في الأصل : (صاب) والصياب الخالص من كل شيء. لسان العرب مادة (صيب). وفي نثر الدر ٢ / ٣٨ بداية لهذه الخطبة بمعناها ، وأنه قالها للربيع بن زياد بن الحارث : (يا ربيع إنا لو نشاء ملأنا هذه الرحاب من صلائق وسبائك وصناب ولكنى رأيت الله عزوجل نعى على قوم شهواتهم فقال : (أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا) الصلائق الرقاق.

والسبائك ما سبك من الدقيق ، وأخذ خالصه. والصناب الخردل بالزبيب.

(٣) كراكر جمع كركرة وهي كما يقول الجوهري : رحى زور البعير أي أعلى صدره.

(٤) أسنمة جمع السنام ويريد : أنه لو شاء لاختار ما يشاء لنفسه من الطيبات والطعام ، ولكنه زهد في ذلك لأن الله تعالى يقول : (أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا).

(٥) الأحقاف : ٢٠.

(٦) في الأصل : (وذلكم).

(٧) في الأصل : (كانت).

(٨) في تاريخ الطبري : إن هاهنا رجل من أهل الأنبار له بصر بالديوان.

(٩) في تاريخ الطبري ٤ / ٢٠٢ : (لقد اتخذت إذن بطانة) ولم يذكر في الخبر تلاوته الآية الكريمة.

(١٠) المائدة : ٥١.

١٧٧

دخل علي رضي الله عنه يوما دار الصدقة ، فنظر إلى عمل عمر قائما في شمس يوم شديد الحر ، وهو يملي في إبل الصدقة وألوانها وأسنانها. فقال علي لعثمان رضي الله عنهما :

أسمعت قول ابنة شعيب في كتاب الله تعالى : (إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ) (١) فهذا والله القوي الأمين (٢).

ولما ورد على عمر كتاب أبي عبيدة بن الجراح من الشام يذكر له مسير الروم إليه بقضهم وقضيضهم وأساقفهم وقسسهم ، وإنهم قد نزلوا في أربعمائة ألف من بين فارس وراجل موضعا يقال له اليرموك ، ويستمده الجيوش ويقول له :

إنك إن قصرت في مسيرها فاحتسب أنفس المسلمين إن أقاموا ، ودينهم إن انهزموا ، فقد جاءهم مالا قبل (لهم) (٣) به.

لم يتمالك عمر أن بكى وبكى المسلمون بالمدينة. وقالوا :

يا أمير المؤمنين ابعثنا جميعا أو أسر بنا. وترجح (٤) برأيه في ذلك ، فأشار علي رضي الله عنه بلزوم المدينة ، لتكون المفزع (٥) والملجأ للمسلمين بإمداد أبي عبيدة بالرجال والأموال وقال له : ثق بالله يا أمير المؤمنين ، ولا تيأس من روح الله (إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ) (٦). فقبل رأيه ، وكتب إلى أبي عبيدة (٧) :

__________________

(١) القصص : ٢٦.

(٢) الخبر في أسد الغابة ٤ / ٧١ عن أبي بكر العبسي أنه قال دخلت حين الصدقة مع عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب فجلس عثمان في الظل ، وقام علي على رأسه يملي عليه ما يقول عمر. وعمر قائم في يوم شديد الحر عليه بردتان سوداوان ، متزر بواحدة وقد وضع الأخرى على رأسه وهو يتفقد إبل الصدقة فيكتب ألوانها وأسنانها ، فقال علي لعثمان ، أما سمعت قول ابنة شعيب في كتاب الله عزوجل : (إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ) وأشار بيده إلى عمر فقال ، هذا هو القوي الأمين.

(٣) زيادة ليست في الأصل ، وفي فتوح الشام : (فاحتسب أنفس المسلمين إن هم أقاموا ، ودينهم إن هم تفرقوا).

(٤) ترجح أي مال واضطرب ، يقال ترجحت الأرجوحة بالغلام أي مالت.

(٥) في الأصل : (المقرع) والصواب المفزع. انظر الصحاح مادة (فزع).

(٦) يوسف : ٨٧.

(٧) الرسالة في فتوح الشام : ٨٢ وقد حذفت منها عبارات وآيات.

١٧٨

أما بعد فقد ورد علي كتابك تذكر فيه مسير الروم بقضهم (١) وقضيضهم فإن الله ـ تعالى ـ رأى أماكنهم ، حين بعث محمدا صلوات الله عليه ، وأعزه بالنصر ، ونصره بالرعب ، فقال وهو لا يخلف الميعاد : (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) (٢). وقد علمت أبا عبيدة أنه لم تكن شدة قط إلّا جعل الله بعدها فرجا فلا تهولنك (٣) كثرة من جاءك من الكفرة الفجرة ؛ فإن الله برئ منهم. ومن يبرأ الله منه فلن ينصره. ولا توحشك قلة المسلمين وكثرة الكافرين (كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ) (٤). وليس بقليل من كان الله معه ، فأقم بمكانك ، وتوكل على الله ، واستظهر به وكفى بالله ظهيرا ، ووليا ونصيرا.

وقد كتبت في كتابك (٥) أن أحتسب المسلمين إن هم (٦) أقاموا ، ودينهم إن هم (٧) انهزموا. وليس الأمر (٨) كما ذكرت ـ رحمك الله يا أبا عبيدة ـ ؛ لأنك قد علمت أن المسلمين إن هم أقاموا ، وصبروا وقتلوا ، فما عند الله خير للأبرار. وقد قال الله تعالى : (مِنَ

__________________

(١) يقال : جاءوا قضهم بقضيضهم أي جاءوا بأجمعهم. لسان العرب (قضض). وفي فتوح الشام فقد قدم علي أبو ثمالة بكتابك ، يخبرني فيه بنفير الروم إلى المسلمين برا وبحرا ومما جاشوا عليكم وأساقفهم ، قسسهم ورهبانهم. إن ربنا المحمود عندنا والصانع لنا. والرسالة في فتوح الشام : ١٦٢ مع اختلاف في الرواية.

(٢) التوبة : ٣٣.

(٣) في الأصل : (يهولنك) وفي فتوح الشام : ٨٢ فلا تهولنك ، كثرة ما جاءك منهم فإن الله منهم بريء ، ومن يبرأ الله منهم كان قمنا أن لا تنفعه كثرة. وأن يكله الله إلى نفسه ، ويخذله ، ولا توحشك قلة المسلمين في المشركين فإن الله معك.

(٤) البقرة : ٢٤٩.

(٥) عبارة (في كتابك) غير موجودة في نص فتوح الشام. وانظر جزءا من كتابه في نثر الدر ٢ / ٢٨.

(٦) في الأصل : (أنهم) وفي فتوح الشام : (أنفس المسلمين إن هم).

(٧) في الأصل : (انهم).

(٨) في فتوح الشام : وأيم الله لو لا استثناؤك بهذا لقد كنت أسأت ولعمري إن أقام لهم المسلمون وصبروا فأصيبوا لما عند الله خبير للأبرار.

١٧٩

الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ) (١) (فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلاً) (٢). وإنهم بحمد الله منصورون ، فأخلصوا (٣) نياتكم وارفعوا إليه رغباتكم و (اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (٤). وإني موجه إليكم الجيوش قبل أن تواقعوا العدو إن شاء الله.

ثم جهّز العساكر ووهب الله النصر والفتح.

وكتب إليه عمار بن ياسر يذكر شدة شوكة الفرس ، وكثرة عددهم ، واستفحال أمرهم. فكتب إليه عمر :

يد الله فوق أيديهم ، وسيمدكم الله بجند من الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم ، ويقذف الرعب في قلوبهم (٥) ، والزلازل في أقدامهم ، حتى يهزمهم هزيمة يكون فيها بوارهم (٦) ، ودمارهم إن شاء الله.

فصل

في قتله وثناء المسلمين عليه

لما طعن أبو لؤلؤة عمر (٧) ـ رضي الله عنه ـ في المحراب جمع إليه ملحفته وتلا : (وَكانَ أَمْرُ اللهِ قَدَراً مَقْدُوراً) (٨).

__________________

(١) من هنا يبدأ نص الآية في فتوح الشام.

(٢) ما بين القوسين سقط من نص المخطوط والآية من سورة الأحزاب : ٢٣.

(٣) في الأصل : وأخلصوا.

(٤) آل عمران : ٢٠٠.

(٥) إشارة إلى الآية ١٠ من سورة الفتح.

(٦) البوار : الهلاك. الصحاح ، لسان العرب (بور).

(٧) في الأصل : (طعنه .. وعمر ..).

(٨) الأحزاب : ٣٨.

١٨٠