أنوار التنزيل وأسرار التأويل - ج ٥

عبدالله بن عمر بن محمد الشيرازي الشافعي البيضاوي

أنوار التنزيل وأسرار التأويل - ج ٥

المؤلف:

عبدالله بن عمر بن محمد الشيرازي الشافعي البيضاوي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٥٧

(وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْهُدى) ما يهتدى به في الدين من المعجزات والصحف والشرائع. (وَأَوْرَثْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ) وتركنا عليهم بعده من ذلك التوراة.

(هُدىً وَذِكْرى) هداية وتذكرة أو هاديا ومذكرا. (لِأُولِي الْأَلْبابِ) لذوي العقول السليمة.

(فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ)(٥٥)

(فَاصْبِرْ) على أذى المشركين. (إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌ) بالنصر لا يخلفه ، واستشهد بحال موسى وفرعون. (وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ) وأقبل على أمر دينك وتدارك فرطاتك بترك الأولى والاهتمام بأمر العدا بالاستغفار ، فإنه تعالى كافيك في النصر إظهار الأمر. (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ) ودم على التسبيح والتحميد لربك. وقيل صلّ لهذين الوقتين ، إذ كان الواجب بمكة ركعتين بكرة وركعتين عشيّا.

(إِنَّ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلاَّ كِبْرٌ ما هُمْ بِبالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ)(٥٦)

(إِنَّ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ) عام في كل مجادل مبطل وإن نزل في مشركي مكة أو اليهود حين قالوا : لست صاحبنا بل هو المسيح بن داود يبلغ سلطانه البر والبحر وتسير معه الأنهار. (إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ) إلا تكبر عن الحق وتعظم عن التفكر والتعلم ، أو إرادة الرياسة أو أن النبوة والملك لا يكونان إلا لهم. (ما هُمْ بِبالِغِيهِ) ببالغي دفع الآيات أو المراد. (فَاسْتَعِذْ بِاللهِ) فالتجئ إليه. (إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) لأقوالكم وأفعالكم.

(لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٥٧) وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَلا الْمُسِيءُ قَلِيلاً ما تَتَذَكَّرُونَ)(٥٨)

(لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ) فمن قدر على خلقها مع عظمها أولا من غير أصل قدر على خلق الإنسان ثانيا من أصل ، وهو بيان لأشكل ما يجادلون فيه من أمر التوحيد. (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) لأنهم لا ينظرون ولا يتأملون لفرط غفلتهم واتباعهم أهواءهم.

(وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ) الغافل والمستبصر. (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَلَا الْمُسِيءُ) والمحسن والمسيء فينبغي أن يكون لهم حال يظهر فيها التفاوت ، وهي فيما بعد البعث وزيادة لا في المسيء لأن المقصود نفي مساواته للمحسن فيما له من الفضل والكرامة ، والعاطف الثاني عطف الموصول بما عطف عليه على (الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ) لتغاير الوصفين في المقصود ، أو الدلالة بالصراحة والتمثيل. (قَلِيلاً ما تَتَذَكَّرُونَ) أي تذكرا ما قليلا يتذكرون ، والضمير للناس أو الكفار. وقرأ الكوفيون بالتاء على تغليب المخاطب ، أو الالتفات أو أمر الرسول بالمخاطبة.

(إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ (٥٩) وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ)(٦٠)

(إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها) في مجيئها لوضوح الدلالة على جوازها وإجماع الرسل على الوعد بوقوعها. (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ) لا يصدقون بها لقصور نظرهم على ظاهر ما يحسون به.

(وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي) اعبدوني. (أَسْتَجِبْ لَكُمْ) أثبكم لقوله : (إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي

٦١

سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ) صاغرين ، وإن فسر الدعاء بالسؤال كان الاستكبار الصارف عنه منزلا منزلته للمبالغة ، أو المراد بالعبادة الدعاء فإنه من أبوابها. وقرأ ابن كثير وأبو بكر (سَيَدْخُلُونَ) بضم الياء وفتح الخاء.

(اللهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ)(٦١)

(اللهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ) لتستريحوا فيه بأن خلقه باردا مظلما ليؤدي إلى ضعف الحركات وهدوء الحواس. (وَالنَّهارَ مُبْصِراً) يبصر فيه أو به ، وإسناد الإبصار إليه مجاز فيه مبالغة ولذلك عدل به عن التعليل إلى الحال : (إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ) لا يوازيه فضل ، وللإشعار به لم يقل لمفضل. (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ) لجهلهم بالمنعم وإغفالهم مواقع النعم ، وتكرير الناس لتخصيص الكفران بهم.

(ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (٦٢) كَذلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كانُوا بِآياتِ اللهِ يَجْحَدُونَ)(٦٣)

(ذلِكُمُ) المخصوص بالأفعال المقتضية للألوهية والربوبية. (اللهُ رَبُّكُمْ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) أخبار مترادفة تخصص اللاحقة السابقة وتقررها ، وقرئ «خالق» بالنصب على الاختصاص فيكون (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) استئنافا بما هو كالنتيجة للأوصاف المذكورة. (فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ) فكيف ومن أي وجه تصرفون عن عبادته إلى عبادة غيره.

(كَذلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كانُوا بِآياتِ اللهِ يَجْحَدُونَ) أي كما أفكوا أفك عن الحق كل من جحد بآيات الله ولم يتأملها.

(اللهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَراراً وَالسَّماءَ بِناءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ فَتَبارَكَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (٦٤) هُوَ الْحَيُّ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ)(٦٥)

(اللهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَراراً وَالسَّماءَ بِناءً) استدلال ثان بأفعال أخر مخصوصة. (وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ) بأن خلقكم منتصب القامة بادي البشرة متناسب الأعضاء ، والتخطيطات متهيأ لمزاولة الصنائع واكتساب الكمالات. (وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ) اللذائذ. (ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ فَتَبارَكَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ) فإن كل ما سواه مربوب مفتقر بالذات معرض للزوال.

(هُوَ الْحَيُ) المتفرد بالحياة الذاتية. (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) إذ لا موجد سواه ولا موجود يساويه أو يدانيه في ذاته وصفاته. (فَادْعُوهُ) فاعبدوه. (مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) أي الطاعة من الشرك والرياء. (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) قائلين له.

(قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَمَّا جاءَنِي الْبَيِّناتُ مِنْ رَبِّي وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ)(٦٦)

(قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَمَّا جاءَنِي الْبَيِّناتُ مِنْ رَبِّي) من الحجج والآيات أو من الآيات فإنها مقوية لأدلة العقل منبهة عليها. (وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ) بأن أنقاد له أو أخلص له ديني.

٦٢

(هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخاً وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلاً مُسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٦٧) هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ فَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) (٦٨)

(هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً) أطفالا ، والتوحيد لإرادة الجنس أو على تأويل كل واحد منكم. (ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ) اللام فيه متعلقة بمحذوف تقديره : ثم يبقيكم لتبلغوا وكذا في قوله : (ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخاً) ويجوز عطفه على (لِتَبْلُغُوا) وقرأ نافع وأبو عمرو وحفص وهشام (شُيُوخاً) بضم الشين. وقرئ «شيخا» كقوله (طِفْلاً). (وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ) من قبل الشيخوخة أو بلوغ الأشد. (وَلِتَبْلُغُوا) ويفعل ذلك لتبلغوا : (أَجَلاً مُسَمًّى) هو وقت الموت أو يوم القيامة. (وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) ما في ذلك من الحجج والعبر.

(هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ فَإِذا قَضى أَمْراً) فإذا أراده. (فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) فلا يحتاج في تكوينه إلى عدة وتجشم كلفة ، والفاء الأولى للدلالة على أن ذلك نتيجة ما سبق من حيث إنه يقتضي قدرة ذاتية غير متوقفة على العدد والمواد.

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ (٦٩) الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتابِ وَبِما أَرْسَلْنا بِهِ رُسُلَنا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ)(٧٠)

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ) عن التصديق به وتكرير ذم المجادلة لتعدد المجادل ، أو المجادل فيه ، أو للتأكيد.

(الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتابِ) بالقرآن أو بجنس الكتب السماوية. (وَبِما أَرْسَلْنا بِهِ رُسُلَنا) من سائر الكتب أو الوحي والشرائع. (فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) جزاء تكذيبهم.

(إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ (٧١) فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ (٧٢) ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ (٧٣) مِنْ دُونِ اللهِ قالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُوا مِنْ قَبْلُ شَيْئاً كَذلِكَ يُضِلُّ اللهُ الْكافِرِينَ)(٧٤)

(إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ) ظرف ل (يَعْلَمُونَ) إذ المعنى على الاستقبال ، والتعبير بلفظ المضي لتيقنه. (وَالسَّلاسِلُ) عطف على (الْأَغْلالُ) أو مبتدأ خبره. (يُسْحَبُونَ).

(فِي الْحَمِيمِ) والعائد محذوف أي يسحبون بها ، وهو على الأول حال. وقرئ «والسلاسل يسحبون» بالنصب وفتح الياء على تقديم المفعول وعطف الفعلية على الاسمية ، (وَالسَّلاسِلُ) بالجر حملا على المعنى (إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ) بمعنى أعناقهم في الأغلال ، أو إضمارا للباء ويدل عليه القراءة به. (ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ) يحرقون من سجر التنور إذا ملأه بالوقود ، ومنه السجير للصديق كأنه سجر بالحب أي ملئ. والمراد أنهم يعذبون بأنواع من العذاب وينقلون من بعضها إلى بعض.

(ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ) ، (مِنْ دُونِ اللهِ قالُوا ضَلُّوا عَنَّا) غابوا عنا وذلك قبل أن تقرن بهم آلهتهم ، أو ضاعوا عنا فلم نجد ما كنا نتوقع منهم. (بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُوا مِنْ قَبْلُ شَيْئاً) أي بل تبين لنا أنا لم نكن نعبد شيئا بعبادتهم فإنهم ليسوا شيئا يعتد به كقولك : حسبته شيئا فلم يكن. (كَذلِكَ) مثل ذلك الضلال. (يُضِلُّ اللهُ الْكافِرِينَ) حتى لا يهتدوا إلى شيء ينفعهم في الآخرة ، أو يضلهم عن آلهتهم حتى لو

٦٣

تطالبوا لم يتصادفوا.

(ذلِكُمْ بِما كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِما كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ (٧٥) ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ) (٧٦)

(ذلِكُمْ) الإضلال. (بِما كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ) تبطرون وتتكبرون. (بِغَيْرِ الْحَقِ) وهو الشرك والطغيان. (وَبِما كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ) تتوسعون في الفرح ، والعدول إلى الخطاب للمبالغة في التوبيخ.

(ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ) الأبواب السبعة المقسومة لكم. (خالِدِينَ فِيها) مقدرين الخلود. (فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ) عن الحق جهنم ، وكان مقتضى النظم فبئس مدخل المتكبرين ولكن لما كان الدخول المقيد بالخلود بسبب الثواء عبر بالمثوى.

(فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ (٧٧) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ فَإِذا جاءَ أَمْرُ اللهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنالِكَ الْمُبْطِلُونَ)(٧٨)

(فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ) بهلاك الكافرين. (حَقٌ) كائن لا محالة. (فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ) فإن نرك ، وما مزيدة لتأكيد الشرطية ولذلك لحقت النون الفعل ولا تلحق مع إن وحدها. (بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ) وهو القتل والأسر. (أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ) قبل أن تراه. (فَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ) يوم القيامة فنجازيهم بأعمالهم ، وهو جواب (نَتَوَفَّيَنَّكَ) ، وجواب (نُرِيَنَّكَ) محذوف مثل فذاك ، ويجوز أن يكون جوابا لهما بمعنى إن نعذبهم في حياتك أو لم نعذبهم فإنا نعذبهم في الآخرة أشد العذاب ، ويدل على شدته الاقتصار بذكر الرجوع في هذا المعرض.

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ) إذ قيل عدد الأنبياء مائة ألف وأربعة وعشرون ألفا ، والمذكور قصصهم أشخاص معدودة. (وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) فإن المعجزات عطايا قسمها بينهم على ما اقتضته حكمته كسائر القسم ، ليس لهم اختيار في إيثار بعضها والاستبداد بإتيان المقترح بها. (فَإِذا جاءَ أَمْرُ اللهِ) بالعذاب في الدنيا أو الآخرة. (قُضِيَ بِالْحَقِ) بإنجاء المحق وتعذيب المبطل. (وَخَسِرَ هُنالِكَ الْمُبْطِلُونَ) المعاندون باقتراح الآيات بعد ظهور ما يغنيهم عنها.

(اللهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعامَ لِتَرْكَبُوا مِنْها وَمِنْها تَأْكُلُونَ (٧٩) وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْها حاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (٨٠) وَيُرِيكُمْ آياتِهِ فَأَيَّ آياتِ اللهِ تُنْكِرُونَ)(٨١)

(اللهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعامَ لِتَرْكَبُوا مِنْها وَمِنْها تَأْكُلُونَ) فإن من جنسها ما يؤكل كالغنم ومنها ما يؤكل ويركب كالإبل والبقر.

(وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ) كالألبان والجلود والأوبار. (وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْها حاجَةً فِي صُدُورِكُمْ) بالمسافرة عليها. (وَعَلَيْها) في البر. (وَعَلَى الْفُلْكِ) في البحر. (تُحْمَلُونَ) وإنما قال (وَعَلَى الْفُلْكِ) ولم يقل في الفلك للمزاوجة ، وتغيير النظم في الأكل لأنه في حيز الضرورة. وقيل لأنه يقصد به التعيش وهو من الضروريات والتلذذ والركوب والمسافرة عليها قد تكون لأغراض دينية واجبة أو مندوبة ، أو للفرق بين العين والمنفعة.

(وَيُرِيكُمْ آياتِهِ) دلائله الدالة على كمال قدرته وفرط رحمته. (فَأَيَّ آياتِ اللهِ) أي فأي آية من تلك

٦٤

الآيات. (تُنْكِرُونَ) فإنها لظهورها لا تقبل الإنكار ، وهو ناصب «أي» إذ لو قدرته متعلقا بضميره كان الأولى رفعه والتفرقة بالتاء في أي أغرب منها في الأسماء غير الصفات لإبهامه.

(أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثاراً فِي الْأَرْضِ فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (٨٢) فَلَمَّا جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَرِحُوا بِما عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ)(٨٣)

(أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثاراً فِي الْأَرْضِ) ما بقي منهم من القصور والمصانع ونحوهما ، وقيل آثار أقدامهم في الأرض لعظم أجرامهم. (فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ) «ما» الأولى نافية أو استفهامية منصوبة ب (أَغْنى) ، والثانية موصولة أو مصدرية مرفوعة به.

(فَلَمَّا جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ) بالمعجزات أو الآيات الواضحات. (فَرِحُوا بِما عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ) واستحقروا علم الرسل ، والمراد بالعلم عقائدهم الزائغة وشبههم الداحضة كقوله : (بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ) وهو قولهم : لا نبعث ولا نعذب ، وما أظن الساعة قائمة ونحوها ، وسماها علما على زعمهم تهكما بهم ، أو علم الطبائع والتنجيم والصنائع ونحو ذلك ، أو علم الأنبياء ، وفرحهم به ضحكهم منه واستهزاؤهم به ويؤيده: (وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) وقيل الفرح أيضا للرسل فإنهم لما رأوا تمادي جهل الكفار وسوء عاقبتهم فرحوا بما أوتوا من العلم وشكروا الله عليه وحاق بالكافرين جزاء جهلهم واستهزائهم.

(فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا قالُوا آمَنَّا بِاللهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنا بِما كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ (٨٤) فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا سُنَّتَ اللهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبادِهِ وَخَسِرَ هُنالِكَ الْكافِرُونَ)(٨٥)

(فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا) شدة عذابنا. (قالُوا آمَنَّا بِاللهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنا بِما كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ) يعنون الأصنام.

(فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا) لامتناع قبوله حينئذ ولذلك قال : (فَلَمْ يَكُ) بمعنى لم يصح ولم يستقم ، والفاء الأولى لأن قوله : (فَما أَغْنى) كالنتيجة لقوله : (كانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ) ، والثانية لأن قوله : (فَلَمَّا جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ) كالتفسير لقوله : (فَما أَغْنى) والباقيتان لأن رؤية البأس مسببة عن مجيء الرسل وامتناع نفي الإيمان مسبب عن الرؤية. (سُنَّتَ اللهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبادِهِ) أي سن الله ذلك سنة ماضية في العباد وهي من المصادر المؤكدة. (وَخَسِرَ هُنالِكَ الْكافِرُونَ) أي وقت رؤيتهم البأس ، اسم مكان استعير للزمان.

عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من قرأ سورة المؤمن لم يبق روح نبي ولا صديق ولا شهيد ولا مؤمن إلا صلّى عليه واستغفر له».

٦٥

(٤١) سورة فصلت

مكية وآيها ثلاث أو أربع وخمسون آية

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(حم (١) تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (٢) كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ)(٣)

(حم) إن جعلته مبتدأ فخبره :

(تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) وإن جعلته تعديدا للحروف ف (تَنْزِيلٌ) خبر محذوف أو مبتدأ لتخصصه بالصفة وخبره :

(كِتابٌ) وهو على الأولين بدل منه أو خبر آخر أو خبر محذوف ، ولعل افتتاح هذه السور السبع ب (حم) وتسميتها به لكونها مصدرة ببيان الكتاب متشاكلة في النظم والمعنى ، وإضافة ال (تَنْزِيلٌ) إلى (الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) للدلالة على أنه مناط المصالح الدينية والدنيوية. (فُصِّلَتْ آياتُهُ) ميزت باعتبار اللفظ والمعنى. وقرئ «فصلت» أي فصل بعضها من بعض باختلاف الفواصل والمعاني ، أو فصلت بين الحق والباطل. (قُرْآناً عَرَبِيًّا) نصب على المدح أو الحال من (فُصِّلَتْ) ، وفيه امتنان بسهولة قراءته وفهمه. (لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) أي لقوم يعلمون العربية أو لأهل العلم والنظر ، وهو صفة أخرى ل (قُرْآناً) أو صلة ل (تَنْزِيلٌ) ، أو ل (فُصِّلَتْ) ، والأول أولى لوقوعه بين الصفات.

(بَشِيراً وَنَذِيراً فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ (٤) وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنا عامِلُونَ) (٥)

(بَشِيراً وَنَذِيراً) للعاملين به والمخالفين له ، وقرئا بالرفع على الصفة لل (كِتابٌ) أو الخبر لمحذوف.

(فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ) عن تدبره وقبوله. (فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ) سماع تأمل وطاعة.

(وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ) أغطية جمع كنان. (مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ) صمم ، وأصله الثقل ، وقرئ بالكسر. (وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ) يمنعنا عن التواصل ، ومن للدلالة على أن الحجاب مبتدأ منهم ومنه بحيث استوعب المسافة المتوسطة ولم يبق فراغ. وهذه تمثيلات لنبو قلوبهم عن إدراك ما يدعوهم إليه واعتقادهم ومج أسماعهم له ، وامتناع مواصلتهم وموافقتهم للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم. (فَاعْمَلْ) على دينك أو في إبطال أمرنا. (إِنَّنا عامِلُونَ) على ديننا أو في إبطال أمرك.

(قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ(٦) الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ)(٧)

(قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ) لست ملكا ولا جنيا لا يمكنكم التلقي منه ، ولا أدعوكم إلى ما تنبو عنه العقول والأسماع ، وإنما أدعوكم إلى التوحيد والاستقامة في العمل ، وقد يدل

٦٦

عليهما دلائل العقل وشواهد النقل. (فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ) فاستقيموا في أفعالكم متوجهين إليه ، أو فاستووا إليه بالتوحيد والإخلاص في العمل. (وَاسْتَغْفِرُوهُ) مما أنتم عليه من سوء العقيدة والعمل ، ثم هددهم على ذلك فقال. (وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ) من فرط جهالتهم واستخفافهم بالله.

(الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ) لبخلهم وعدم إشفاقهم على الخلق ، وذلك من أعظم الرذائل ، وفيه دليل على أن الكفار مخاطبون بالفروع. وقيل معناه لا يفعلون ما يزكي أنفسهم وهو الإيمان والطاعة. (وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ) حال مشعرة بأن امتناعهم عن الزكاة لاستغراقهم في طلب الدنيا وإنكارهم للآخرة.

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ) (٨)

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ) عظيم. (غَيْرُ مَمْنُونٍ) لا يمن به عليهم من المن وأصله الثقل ، أو لا يقطع من مننت الحبل إذا قطعته. وقيل نزلت في المرضى والهرمى إذا عجزوا عن الطاعة كتب لهم الأجر كأصح ما كانوا يعملون.

(قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً ذلِكَ رَبُّ الْعالَمِينَ (٩) وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها وَبارَكَ فِيها وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَواءً لِلسَّائِلِينَ)(١٠)

(قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ) في مقدار يومين ، أو نوبتين وخلق في كل نوبة ما خلق في أسرع ما يكون. ولعل المراد من (الْأَرْضَ) ما في جهة السفل من الأجرام البسيطة ومن خلقها (فِي يَوْمَيْنِ) أنه خلق لها أصلا مشتركا ثم خلق لها صورا بها صارت أنواعا ، وكفرهم به إلحادهم في ذاته وصفاته. (وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً) ولا يصح أن يكون له ند. (ذلِكَ) الذي (خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ). (رَبُّ الْعالَمِينَ) خالق جميع ما وجد من الممكنات ومربيها.

(وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ) استئناف غير معطوف على (خَلَقَ) للفصل بما هو خارج عن الصلة. (مِنْ فَوْقِها) مرتفعة عليها ليظهر للنظار ما فيها من وجوه الاستبصار وتكون منافعها معرضة للطلاب. (وَبارَكَ فِيها) وأكثر خيرها بأن خلق فيها أنواع النبات والحيوان. (وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها) أقوات أهلها بأن عين لكل نوع ما يصلحه ويعيش به ، أو أقواتا تنشأ منها بأن خص حدوث كل قوت بقطر من أقطارها ، وقرئ «وقسم فيها أقواتها». (فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ) في تتمة أربعة أيام كقولك : سرت من البصرة إلى بغداد في عشرة أيام ، وإلى الكوفة في خمسة عشر يوما. ولعله قال ذلك ولم يقل في يومين للإشعار باتصالهما باليومين الأولين. والتصريح على الفذلكة. (سَواءً) أي استوت سواء بمعنى استواء ، والجملة صفة أيام ويدل عليه قراءة يعقوب بالجر. وقيل حال من الضمير في أقواتها أو في فيها ، وقرئ بالرفع على هي سواء. (لِلسَّائِلِينَ) متعلق بمحذوف تقديره هذا الحصر للسائلين عن مدة خلق الأرض وما فيها ، أو بقدر أي قدر فيها الأقوات للطالبين لها.

(ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ (١١) فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها وَزَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَحِفْظاً ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ)(١٢)

(ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ) قصد نحوها من قولهم استوى إلى مكان كذا إذا توجه إليه توجها لا يلوي على غيره ، والظاهر أن ثم لتفاوت ما بين الخلقتين لا للتراخي في المدة لقوله : (وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها)

٦٧

ودحوها متقدم على خلق الجبال من فوقها. (وَهِيَ دُخانٌ) أمر ظلماني ، ولعله أراد به مادتها أو الأجزاء المتصغرة التي ركبت منها (فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا) بما خلقت فيكما من التأثير والتأثر وأبرزا ما أودعتكما من الأوضاع المختلفة والكائنات المتنوعة. أو (ائْتِيا) في الوجود على أن الخلق السابق بمعنى التقدير أو الترتيب للرتبة ، أو الإخبار أو إتيان السماء حدوثها وإتيان الأرض أن تصير مدحوة ، وقد عرفت ما فيه أو لتأت كل منكما الأخرى في حدوث ما أريد توليده منكما ويؤيده قراءة وآتيا من المؤاتاة أي لتوافق كل واحدة أختها فيما أردت منكما. (طَوْعاً أَوْ كَرْهاً) شئتما ذلك أو أبيتما والمراد إظهار كمال قدرته ووجوب وقوع مراده لا إثبات الطوع والكره لهما ، وهما مصدران وقعا موقع الحال. (قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ) منقادين بالذات ، والأظهر أن المراد تصوير تأثير قدرته فيهما وتأثرهما بالذات عنها ، وتمثيلهما بأمر المطاع وإجابة المطيع الطائع كقوله : (كُنْ فَيَكُونُ) وما قيل من أنه تعالى خاطبهما وأقدرهما على الجواب إنما يتصور على الوجه الأول والأخير ، وإنما قال طائعين على المعنى باعتبار كونهما مخاطبتين كقوله : (ساجِدِين).

(فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ) فخلقهن خلقا إبداعيا وأتقن أمرهن ، والضمير ل (السَّماءَ) على المعنى أو مبهم ، و (سَبْعَ سَماواتٍ) حال على الأول وتمييز على الثاني. (فِي يَوْمَيْنِ) قيل خلق السموات يوم الخميس والشمس والقمر والنجوم يوم الجمعة. (وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها) شأنها وما يتأتى منها بأن حملها عليه اختيارا أو طبعا. وقيل أوحى إلى أهلها بأوامره ونواهيه. (وَزَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ) فإن الكواكب كلها ترى كأنها تتلألأ عليها. (وَحِفْظاً) أي وحفظناها من الآفات ، أو من المسترقة حفظا. وقيل مفعول له على المعنى كأنه قال : وخصصنا السماء الدنيا بمصابيح زينة وحفظا. (ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) البالغ في القدرة والعلم.

(فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ (١٣) إِذْ جاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللهَ قالُوا لَوْ شاءَ رَبُّنا لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً فَإِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ) (١٤)

(فَإِنْ أَعْرَضُوا) عن الإيمان بعد هذا البيان. (فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً) فحذرهم أن يصيبهم عذاب شديد الوقع كأنه صاعقة. (مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ) وقرئ «صعقة مثل صعقة عاد وثمود» وهي المرة من الصعق أو الصعق يقال صعقته الصاعقة صعقا فصعق صعقا.

(إِذْ جاءَتْهُمُ الرُّسُلُ) حال من (صاعِقَةِ عادٍ) ، ولا يجوز جعله صفة ل (صاعِقَةً) أو ظرفا ل (أَنْذَرْتُكُمْ) لفساد المعنى. (مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ) أتوهم من جميع جوانبهم واجتهدوا بهم من كل جهة ، أو من جهة الزمن الماضي بالإنذار عما جرى فيه على الكفار ، ومن جهة المستقبل بالتحذير عما أعد لهم في الآخرة ، وكل من اللفظين يحتملهما ، أو من قبلهم ومن بعدهم إذ قد بلغتهم خبر المتقدمين وأخبرهم هود وصالح عن المتأخرين داعين إلى الإيمان بهم أجمعين ، ويحتمل أن يكون عبارة عن الكثرة كقوله تعالى : (يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكانٍ). (أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللهَ) بأن لا تعبدوا أو أي لا تعبدوا. (قالُوا لَوْ شاءَ رَبُّنا) إرسال الرسل. (لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً) برسالته. (فَإِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ) على زعمكم. (كافِرُونَ) إذ أنتم بشر مثلنا لا فضل لكم علينا.

(فَأَمَّا عادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ (١٥) فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي أَيَّامٍ نَحِساتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَخْزى وَهُمْ لا يُنْصَرُونَ)(١٦).

٦٨

(فَأَمَّا عادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِ) فتعظموا فيها على أهلها من غير استحقاق. (وَقالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً) اغترارا بقوتهم وشوكتهم. قيل كان من قوتهم أن الرجل منهم ينزع الصخرة فيقتلعها بيده. (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً) قدرة فإنه قادر بالذات مقتدر على ما لا يتناهى ، قوي على ما لا يقدر عليه أحد غيره. (وَكانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ) يعرفون أنها حق وينكرونها وهو عطف على (فَاسْتَكْبَرُوا).

(فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً) باردة تهلك بشدة بردها من الصر وهو البرد الذي يصر أي يجمع ، أو شديدة الصوت في هبوبها من الصرير. (فِي أَيَّامٍ نَحِساتٍ) جمع نحسة من نحس نحسا نقيض سعد سعدا ، وقرأ الحجازيان والبصريان بالسكون على التخفيف أو النعت على فعل ، أو الوصف بالمصدر ، قيل كن آخر شوال من الأربعاء إلى الأربعاء وما عذب قوم إلا في يوم الأربعاء. (لِنُذِيقَهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) أضاف ال (عَذابَ) إلى (الْخِزْيِ) وهو الذل على قصد وصفه به لقوله : (وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَخْزى) وهو في الأصل صفة المعذب وإنما وصف به العذاب على الإسناد المجازي للمبالغة. (وَهُمْ لا يُنْصَرُونَ) بدفع العذاب عنهم.

(وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى فَأَخَذَتْهُمْ صاعِقَةُ الْعَذابِ الْهُونِ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (١٧) وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ)(١٨)

(وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ) فدللناهم على الحق بنصب الحجج وإرسال الرسل ، وقرئ «ثمود» بالنصب بفعل مضمر يفسره ما بعده ومنونا في الحالين وبضم الثاء. (فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى) فاختاروا الضلالة على الهدى. (فَأَخَذَتْهُمْ صاعِقَةُ الْعَذابِ الْهُونِ) صاعقة من السماء فأهلكتهم ، وإضافتها إلى (الْعَذابِ) ووصفه ب (الْهُونِ) للمبالغة. (بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) من اختيار الضلالة.

(وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ) من تلك الصاعقة.

(وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْداءُ اللهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (١٩) حَتَّى إِذا ما جاؤُها شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ)(٢٠)

(وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْداءُ اللهِ إِلَى النَّارِ) وقرئ «يحشر» على البناء للفاعل وهو الله عزوجل. وقرأ نافع نحشر بالنون مفتوحة وضم الشين ونصب (أَعْداءُ). (فَهُمْ يُوزَعُونَ) يحبس أولهم على آخرهم لئلا يتفرقوا وهو عبارة عن كثرة أهل النار.

(حَتَّى إِذا ما جاؤُها) إذا حضروها و (ما) مزيدة لتأكيد اتصال الشهادة بالحضور. (شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) بأن ينطقها الله تعالى ، أو يظهر عليها آثارا تدل على ما اقترف بها فتنطق بلسان الحال.

(وَقالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا قالُوا أَنْطَقَنَا اللهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٢١) وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ وَلكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ)(٢٢)

(وَقالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا) سؤال توبيخ أو تعجب ، ولعل المراد به نفس التعجب. (قالُوا أَنْطَقَنَا اللهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ) أي ما نطقنا باختيارنا بل أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء ، أو ليس نطقنا بعجب من قدرة الله الذي أنطق كل حي ، ولو أول الجواب والنطق بدلالة الحال بقي الشيء عاما في

٦٩

الموجودات الممكنة. (وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) يحتمل أن يكون تمام كلام الجلود وأن يكون استئنافا.

(وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ) أي كنتم تستترون عن الناس عند ارتكاب الفواحش مخافة الفضاحة ، وما ظننتم أن أعضاءكم تشهد عليكم بها فما استترتم عنها. وفيه تنبيه على أن المؤمن ينبغي أن يتحقق أنه لا يمر عليه حال إلا وهو عليه رقيب. (وَلكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ) فلذلك اجترأتم على ما فعلتم.

(وَذلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْداكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ (٢٣) فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَما هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ)(٢٤)

(وَذلِكُمْ) إشارة إلى ظنهم هذا ، وهو مبتدأ وقوله : (ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْداكُمْ) خبران له ويجوز أن يكون (ظَنُّكُمُ) بدلا و (أَرْداكُمْ) خبرا. (فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ) إذ صار ما منحوا للاستسعاد به في الدارين سببا لشقاء المنزلين.

(فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ) لا خلاص لهم عنها. (وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا) يسألوا العتبى وهي الرجوع إلى ما يحبون. (فَما هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ) المجابين إليها ونظيره قوله تعالى حكاية (أَجَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا ما لَنا مِنْ مَحِيصٍ) وقرئ «وإن يستعتبوا فما هم من المعتبين» ، أي إن يسألوا أن يرضوا ربهم فما هم فاعلون لفوات المكنة.

(وَقَيَّضْنا لَهُمْ قُرَناءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ)(٢٥)

(وَقَيَّضْنا) وقدرنا. (لَهُمْ) للكفرة. (قُرَناءَ) أخدانا من الشياطين يستولون عليهم استيلاء القبض على البيض وهو القشر. وقيل أصل القيض البدل ومنه المقايضة للمعاوضة. (فَزَيَّنُوا لَهُمْ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ) من أمر الدنيا واتباع الشهوات. (وَما خَلْفَهُمْ) من أمر الآخرة وإنكاره. (وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ) أي كلمة العذاب. (فِي أُمَمٍ) في جملة أمم كقوله :

إن تك عن أحسن الصّنيعة مأ

فوكا ففي آخرين قد أفكوا

وهو حال من الضمير المجرور. (قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ) وقد عملوا مثل أعمالهم. (إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ) تعليل لاستحقاقهم العذاب ، والضمير (لَهُمْ) ولل (أُمَمٍ).

(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ (٢٦) فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذاباً شَدِيداً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ)(٢٧)

(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ) وعارضوه بالخرافات أو ارفعوا أصواتكم بها لتشوشوه على القارئ ، وقرئ بضم الغين والمعنى واحد يقال لغى يلغي ولغا يلغو إذا هذى. (لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ) أي تغلبونه على قراءته.

(فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذاباً شَدِيداً) المراد بهم هؤلاء القائلون ، أو عامة الكفار. (وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ) سيئات أعمالهم وقد سبق مثله.

٧٠

(ذلِكَ جَزاءُ أَعْداءِ اللهِ النَّارُ لَهُمْ فِيها دارُ الْخُلْدِ جَزاءً بِما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ (٢٨) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلاَّنا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ نَجْعَلْهُما تَحْتَ أَقْدامِنا لِيَكُونا مِنَ الْأَسْفَلِينَ)(٢٩)

(ذلِكَ) : إشارة إلى الأسوأ. (جَزاءُ أَعْداءِ اللهِ) خبره. (النَّارُ) عطف بيان لل (جَزاءُ) أو خبر محذوف. (لَهُمْ فِيها) في النار. (دارُ الْخُلْدِ) فإنها دار إقامتهم ، وهو كقولك : في هذه الدار دار سرور ، وتعني بالدار عينها على أن المقصود هو الصفة. (جَزاءً بِما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ) ينكرون الحق أو يلغون ، وذكر الجحود الذي هو سبب اللغو.

(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ) يعني شيطاني النوعين الحاملين على الضلالة والعصيان. وقيل هما إبليس وقابيل فإنهما سنا الكفر والقتل ، وقرأ ابن كثير وابن عامر ويعقوب وأبو بكر والسوسي (أَرِنَا) بالتخفيف كفخذ في فخذ ، وقرأ الدوري باختلاس كسرة الراء. (نَجْعَلْهُما تَحْتَ أَقْدامِنا) ندسهما انتقاما منهما ، وقيل نجعلهما في الدرك الأسفل. (لِيَكُونا مِنَ الْأَسْفَلِينَ) مكانا أو ذلا.

(إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلاَّ تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ)(٣٠)

(إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ) اعترافا بربوبيته وإقرارا بوحدانيته. (ثُمَّ اسْتَقامُوا) في العمل و (ثُمَ) لتراخيه عن الإقرار في الرتبة من حيث أنه مبدأ الاستقامة ، أو لأنها عسر قلما تتبع الإقرار ، وما روي عن الخلفاء الراشدين في معنى الاستقامة من الثبات على الإيمان وإخلاص العمل وأداء الفرائض فجزئياتها. (تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ) فيما يعن لهم بما يشرح صدورهم ويدفع عنهم الخوف والحزن ، أو عند الموت أو الخروج من القبر. (أَلَّا تَخافُوا) ما تقدمون عليه. (وَلا تَحْزَنُوا) على ما خلفتم وأن مصدرية أو مخففة مقدرة بالباء أو مفسرة. (وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ) في الدنيا على لسان الرسل.

(نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيها ما تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيها ما تَدَّعُونَ(٣١) نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ) (٣٢)

(نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) نلهمكم الحق ونحملكم على الخير بدل ما كانت الشياطين تفعل بالكفرة. (وَفِي الْآخِرَةِ) بالشفاعة والكرامة حيثما يتعادى الكفرة وقرناؤهم. (وَلَكُمْ فِيها) في الآخرة (ما تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ) من اللذائذ (وَلَكُمْ فِيها ما تَدَّعُونَ) ما تتمنون من الدعاء بمعنى الطلب وهو أعم من الأول.

(نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ) حال من ما تدعون للإشعار بأن ما يتمنون بالنسبة إلى ما يعطون مما لا يخطر ببالهم كالنزل للضيف.

(وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعا إِلَى اللهِ وَعَمِلَ صالِحاً وَقالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (٣٣) وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ)(٣٤)

(وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعا إِلَى اللهِ) إلى عبادته. (وَعَمِلَ صالِحاً) فيما بينه وبين ربه. (وَقالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ) تفاخرا به واتخاذا للإسلام دينا ومذهبا من قولهم : هذا قول فلان لمذهبه. والآية عامة لمن استجمع تلك الصفات. وقيل نزلت في النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقيل في المؤذنين.

(وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ) في الجزاء وحسن العاقبة و (لا) الثانية مزيدة لتأكيد النفي. (ادْفَعْ

٧١

بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) ادفع السيئة حيث اعترضتك بالتي هي أحسن منها وهي الحسنة على أن المراد بالأحسن الزائد مطلقا ، أو بأحسن ما يمكن دفعها به من الحسنات ، وإنما أخرجه مخرج الاستئناف على أنه جواب من قال ؛ كيف أصنع؟ للمبالغة ولذلك وضع (أَحْسَنُ) موضع الحسنة. (فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ) أي إذا فعلت ذلك صار عدوك المشاق مثل الولي الشفيق.

(وَما يُلَقَّاها إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَما يُلَقَّاها إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (٣٥) وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)(٣٦)

(وَما يُلَقَّاها) وما يلقى هذه السجية وهي مقابلته الإساءة بالإحسان. (إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا) فإنها تحبس النفس عن الانتقام. (وَما يُلَقَّاها إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ) من الخير وكمال النفس وقيل الحظ العظيم الجنة.

(وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ) نخس شبه به وسوسته لأنها تبعث الإنسان على ما لا ينبغي كالدفع بما هو أسوأ ، وجعل النزغ نازغا على طريقة جديدة ، أو أريد به نازغ وصفا للشيطان بالمصدر. (فَاسْتَعِذْ بِاللهِ) من شره ولا تطعه. (إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ) لاستعاذتك. (الْعَلِيمُ) بنيتك أو بصلاحك.

(وَمِنْ آياتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (٣٧) فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ)(٣٨)

(وَمِنْ آياتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ) لأنهما مخلوقان مأموران مثلكم. (وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَ) الضمير للأربعة المذكورة ، والمقصود تعليق الفعل بهما إشعارا بأنهما من عداد ما لا يعلم ولا يختار. (إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ) فإن السجود أخص العبادات وهو موضع السجود عندنا لاقتران الأمر به ، وعند أبي حنيفة آخر الآية الأخرى لأنه تمام المعنى.

(فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا) عن الامتثال. (فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ) من الملائكة. (يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ) أي دائما لقوله : (وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ) أي لا يملون.

(وَمِنْ آياتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خاشِعَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْياها لَمُحْيِ الْمَوْتى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٣٩) إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آياتِنا لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنا أَفَمَنْ يُلْقى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيامَةِ اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ)(٤٠)

(وَمِنْ آياتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خاشِعَةً) يابسة متطامنة مستعار من الخشوع بمعنى التذلل. (فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ) تزخرفت وانتفخت بالنبات ، وقرئ «ربأت» أي زادت. (إِنَّ الَّذِي أَحْياها) بعد موتها. (لَمُحْيِ الْمَوْتى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) من الإحياء والإماتة.

(إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ) يميلون عن الاستقامة. (فِي آياتِنا) بالطعن والتحريف والتأويل الباطل والإلغاء فيها. (لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنا) فنجازيهم على إلحادهم. (أَفَمَنْ يُلْقى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيامَةِ) قابل الإلقاء في النار بالإتيان آمنا مبالغة في إحماد حال المؤمنين. (اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ) تهديد شديد. (إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) وعيد بالمجازاة.

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ (٤١) لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ

٧٢

خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ)(٤٢)

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جاءَهُمْ) بدل من قوله : (إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آياتِنا) أو مستأنف وخبر (إِنَ) محذوف مثل معاندون أو هالكون ، أو (أُولئِكَ يُنادَوْنَ) و «الذكر» القرآن. (وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ) كثير النفع عديم النظير أو منيع لا يتأتى إبطاله وتحريفه.

(لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ) لا يتطرق إليه الباطل من جهة من الجهات أو مما فيه من الأخبار الماضية والأمور الآتية. (تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ) أي حكيم. (حَمِيدٍ) يحمده كل مخلوق بما ظهر عليه من نعمه.

(ما يُقالُ لَكَ إِلاَّ ما قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقابٍ أَلِيمٍ (٤٣) وَلَوْ جَعَلْناهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا لَقالُوا لَوْ لا فُصِّلَتْ آياتُهُءَ أَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ)(٤٤)

(ما يُقالُ لَكَ) أي ما يقول لك كفار قومك. (إِلَّا ما قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ) إلا مثل ما قال لهم كفار قومهم ، ويجوز أن يكون المعنى ما يقول الله لك إلا مثل ما قال لهم. (إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ) لأنبيائه. (وَذُو عِقابٍ أَلِيمٍ) لأعدائهم ، وهو على الثاني يحتمل أن يكون المقول بمعنى أن حاصل ما أوحي إليك وإليهم ، وعد المؤمنين بالمغفرة والكافرين بالعقوبة.

(وَلَوْ جَعَلْناهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا) جواب لقولهم : هلا أنزل القرآن بلغة العجم والضمير «للذكر». (لَقالُوا لَوْ لا فُصِّلَتْ آياتُهُ) بينت بلسان نفقهه. (ءَ أَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌ) أكلام أعجمي ومخاطب عربي إنكار مقرر للتخصيص ، والأعجمي يقال للذي لا يفهم كلامه. وهذا قراءة أبي بكر وحمزة والكسائي ، وقرأ قالون وأبو عمرو بالمد والتسهيل وورش بالمد وإبدال الثانية ألفا ، وابن كثير وابن ذكوان وحفص بغير المد بتسهيل الثانية وقرئ «أعجمي» وهو منسوب إلى العجم ، وقرأ هشام «أعجمي» على الإخبار ، وعلى هذا يجوز أن يكون المراد هلا فصلت آياته فجعل بعضها أعجميا لإفهام العجم وبعضها عربيا لإفهام العرب ، والمقصود إبطال مقترحهم باستلزامه المحذور ، أو للدلالة على أنهم لا ينفكون عن التعنت في الآيات كيف جاءت. (قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً) إلى الحق. (وَشِفاءٌ) لما في الصدور من الشك والشبه. (وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ) مبتدأ خبره : (فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ) على تقدير هو في (آذانِهِمْ وَقْرٌ) لقوله : (وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى) وذلك لتصامهم عن سماعه وتعاميهم عما يريهم من الآيات ، ومن جوز العطف على عاملين مختلفين عطف ذلك على (لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً). (أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ) أي صم ، وهو تمثيل لهم في عدم قبولهم الحق واستماعهم له بمن يصاح به من مسافة بعيدة.

(وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (٤٥) مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها وَما رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ)(٤٦)

(وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ) بالتصديق والتكذيب كما اختلف في القرآن. (وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ) وهي العدة بالقيامة وفصل الخصومة حينئذ ، أو تقدير الآجال. (لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ) باستئصال المكذبين. (وَإِنَّهُمْ) وإن اليهود أو الذين لا يؤمنون. (لَفِي شَكٍّ مِنْهُ) من التوراة أو القرآن. (مُرِيبٍ) موجب للاضطراب.

٧٣

(مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ) نفعه. (وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها) ضره. (وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) فيفعل بهم ما ليس له أن يفعله.

(إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ وَما تَخْرُجُ مِنْ ثَمَراتٍ مِنْ أَكْمامِها وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكائِي قالُوا آذَنَّاكَ ما مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ (٤٧) وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ وَظَنُّوا ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ)(٤٨)

(إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ) أي إذا سئل عنها إذ لا يعلمها إلا هو. وما تخرج من ثمرة من أكمامها من أوعيتها جمع كم بالكسر. وقرأ نافع وابن عامر وحفص (مِنْ ثَمَراتٍ) بالجمع لاختلاف الأنواع ، وقرئ بجمع الضمير أيضا و (ما) نافية و (مِنْ) الأولى مزيدة للاستغراق ، ويحتمل أن تكون موصولة معطوفة على (السَّاعَةِ) و (مِنْ) مبينة بخلاف قوله : (وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ) بمكان. (إِلَّا بِعِلْمِهِ) إلا مقرونا بعلمه واقعا حسب تعلقه به. (وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكائِي) بزعمكم. (قالُوا آذَنَّاكَ) أعلمناك. (ما مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ) من أحد يشهد لهم بالشركة إذ تبرأنا عنهم لما عاينا الحال فيكون السؤال عنهم للتوبيخ ، أو من أحد يشاهدهم لأنهم ضلوا عنا. وقيل هو قول الشركاء أي ما منا من يشهد لهم بأنهم كانوا محقين.

(وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَدْعُونَ) يعبدون. (مِنْ قَبْلُ) لا ينفعهم أو لا يرونه. (وَظَنُّوا) وأيقنوا. (ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ) مهرب والظن معلق عنه بحرف النفي.

(لا يَسْأَمُ الْإِنْسانُ مِنْ دُعاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَؤُسٌ قَنُوطٌ (٤٩) وَلَئِنْ أَذَقْناهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هذا لِي وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِما عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ)(٥٠)

(لا يَسْأَمُ الْإِنْسانُ) لا يمل. (مِنْ دُعاءِ الْخَيْرِ) من طلب السعة في النعمة ، وقرئ «من دعاء بالخير». (وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ) الضيقة. (فَيَؤُسٌ قَنُوطٌ) من فضل الله ورحمته وهذا صفة الكافر لقوله : (إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ) وقد بولغ في يأسه من جهة البنية والتكرير وما في القنوط من ظهور أثر اليأس.

(وَلَئِنْ أَذَقْناهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ) بتفريجها عنه. (لَيَقُولَنَّ هذا لِي) حقي أستحقه لمالي من الفضل والعمل ، أولي دائما لا يزول. (وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً) تقوم. (وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى) أي ولئن قامت على التوهم كان لي عند الله الحالة الحسنى من الكرامة ، وذلك لاعتقاده أن ما أصابه من نعم الدنيا فلاستحقاق لا ينفك عنه. (فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) فلنخبرنهم. (بِما عَمِلُوا) بحقيقة أعمالهم ولنبصرنهم عكس ما اعتقدوا فيها. (وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ) لا يمكنهم التقصي عنه.

(وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعاءٍ عَرِيضٍ (٥١) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقاقٍ بَعِيدٍ)(٥٢)

(وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ) عن الشكر. (وَنَأى بِجانِبِهِ) وانحرف عنه أو ذهب بنفسه وتباعد عنه بكليته تكبرا ، والجانب مجاز عن النفس كالجنب في قوله : (فِي جَنْبِ اللهِ). (وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعاءٍ عَرِيضٍ) كثير مستعار مما له عرض متسع للاشعار بكثرته واستمراره ، وهو أبلغ من الطويل إذ الطول أطول

٧٤

الامتدادين ، فإذا كان عرضه كذلك فما ظنك بطوله.

(قُلْ أَرَأَيْتُمْ) أخبروني. (إِنْ كانَ) أي القرآن. (مِنْ عِنْدِ اللهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ) من غير نظر واتباع دليل. (مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقاقٍ بَعِيدٍ) أي من أضل منكم ، فوضع الموصول موضع الضمير شرحا لحالهم وتعليلا لمزيد ضلالهم.

(سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (٥٣) أَلا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقاءِ رَبِّهِمْ أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ)(٥٤)

(سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ) يعني ما أخبرهم النبي عليه الصلاة والسلام به من الحوادث الآتية وآثار النوازل الماضية ، وما يسر الله له ولخلفائه من الفتوح والظهور على ممالك الشرق والغرب على وجه خارق للعادة. (وَفِي أَنْفُسِهِمْ) ما ظهر فيما بين أهل مكة وما حل بهم ، أو ما في بدن الإنسان من عجائب الصنع الدالة على كمال القدرة. (حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُ) الضمير للقرآن أو الرسول أو التوحيد أو الله (أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ) أي أو لم يكف ربك ، والباء مزيدة للتأكيد كأنه قيل : أو لم تحصل الكفاية به ولا تكاد تزاد في الفاعل إلا مع كفى. (أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) بدل منه ، والمعنى أو لم يكفك أنه تعالى على كل شيء شهيد محقق له فيحقق أمرك بإظهار الآيات الموعودة كما حقق سائر الأشياء الموعودة ، أو مطلع فيعلم حالك وحالهم ، أو أو لم يكف الإنسان رادعا عن المعاصي أنه تعالى مطلع على كل شيء لا يخفى عليه خافية.

(أَلا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ) شك ، وقرئ بالضم وهو لغة كخفية وخفية. (مِنْ لِقاءِ رَبِّهِمْ) بالبعث والجزاء. (أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ) عالم بجمل الأشياء وتفاصيلها ، مقتدر عليها لا يفوته شيء منها.

عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من قرأ سورة السجدة أعطاه الله بكل حرف عشر حسنات».

٧٥

(٤٢) سورة حم عسق

مكية وهي ثلاث وخمسون آية وتسمه سورة «الشورى»

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(حم (١) عسق (٢) كَذلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٣) لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ)(٤)

(حم). (عسق) لعله اسمان للسورة ولذلك فصل بينهما وعدا آيتين ، وإن كانا اسما واحدا فالفصل ليطابق سائر الحواميم ، وقرئ «حم سق».

(كَذلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) أي مثل ما في هذه السورة من المعاني ، أو إيحاء مثل إيحائها أوحى الله إليك وإلى الرسل من قبلك ، وإنما ذكر بلفظ المضارع على حكاية الحال الماضية للدلالة على استمرار الوحي وأن إيحاء مثله عادته ، وقرأ ابن كثير (يُوحِي) بالفتح على أن كذلك مبتدأ و (يُوحِي) خبره المسند إلى ضميره ، أو مصدر و (يُوحِي) مسند إلى إليك ، و (اللهُ) مرتفع بما دل عليه (يُوحِي) ، و (الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) صفتان له مقررتان لعلو شأن الموحي به كما مر في السورة السابقة ، أو بالابتداء كما في قراءة «نوحي» بالنون و (الْعَزِيزُ) وما بعده أخبار أو (الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) صفتان. وقوله :

(لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ) خبران له وعلى الوجوه الأخر استئناف مقرر لعزته وحكمته.

(تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَلا إِنَّ اللهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ)(٥)

(تَكادُ السَّماواتُ) وقرأ نافع والكسائي بالياء. (يَتَفَطَّرْنَ) يتشققن من عظمة الله ، وقيل من ادعاء الولد له. وقرأ البصريان وأبو بكر «ينفطرن» بالنون والأول أبلغ لأنه مطاوع فطر وهذا مطاوع فطر ، وقرئ «تتفطرن» بالتاء لتأكيد التأنيث وهو نادر. (مِنْ فَوْقِهِنَ) أي يبتدئ الانفطار من جهتهن الفوقانية ، وتخصيصها على الأول لأن أعظم الآيات وأدلها على علو شأنه من تلك الجهة ، وعلى الثاني ليدل على الانفطار من تحتهن بالطريق الأولى. وقيل الضمير للأرض فإن المراد بها الجنس. (وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ) بالسعي فيما يستدعي مغفرتهم من الشفاعة والإلهام وإعداد الأسباب المقربة إلى الطاعة ، وذلك في الجملة يعم المؤمن والكافر بل لو فسر الاستغفار بالسعي فيما يدفع الخلل المتوقع عم الحيوان بل الجماد ، وحيث خص بالمؤمنين فالمراد به الشفاعة. (أَلا إِنَّ اللهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) إذ ما من مخلوق إلا وهو ذو حظ من رحمته ، والآية على الأول زيادة تقرير لعظمته وعلى الثاني دلالة على تقدسه عما نسب إليه ، وإن عدم معاجلتهم بالعقاب على تلك الكلمة الشنعاء باستغفار الملائكة وفرط غفران الله ورحمته.

(وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ اللهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (٦) وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ

٧٦

قُرْآناً عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ)(٧)

(وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ) شركاء وأندادا. (اللهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ) رقيب على أحوالهم وأعمالهم فيجازيهم بها. (وَما أَنْتَ) يا محمد. (عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ) بموكل بهم أو بموكول إليك أمرهم.

(وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيًّا) الإشارة إلى مصدر (يُوحِي) أو إلى معنى الآية المتقدمة ، فإنه مكرر في القرآن في مواضع جمة فتكون الكاف مفعولا به و (قُرْآناً عَرَبِيًّا) حال منه. (لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى) أهل أم القرى وهي مكة شرفها الله تعالى. (وَمَنْ حَوْلَها) من العرب. (وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ) يوم القيامة يجمع فيه الخلائق أو الأرواح أو الأشباح ، أو العمال والأعمال وحذف ثاني مفعولي الأول وأول مفعولي الثاني للتهويل وإيهام التعميم ، وقرئ «لينذر» بالياء والفعل «للقرآن». (لا رَيْبَ فِيهِ) اعتراض لا محل له من الإعراب. (فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ) أي بعد جمعهم في الموقف يجمعون أولا ثم يفرقون ، والتقدير منهم فريق والضمير للمجموعين لدلالة الجمع عليه ، وقرئا منصوبين على الحال منهم أي وتنذر يوم جمعهم متفرقين بمعنى مشارفين للتفرق ، أو متفرقين في داري الثواب والعقاب.

(وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ ما لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (٨) أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ فَاللهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِ الْمَوْتى وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٩) وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللهِ ذلِكُمُ اللهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ)(١٠)

(وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً واحِدَةً) مهتدين أو ضالين. (وَلكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ) بالهداية والحمل على الطاعة. (وَالظَّالِمُونَ ما لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ) أي يدعهم بغير ولي ولا نصير في عذابه ، ولعل تغيير المقابلة للمبالغة في الوعيد إذ الكلام في الإنذار.

(أَمِ اتَّخَذُوا) بل اتخذوا. (مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ) كالأصنام. (فَاللهُ هُوَ الْوَلِيُ) جواب لشرط محذوف مثل إن أرادوا أولياء بحق فالله هو الولي بالحق. (وَهُوَ يُحْيِ الْمَوْتى وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) كالتقرير لكونه حقيقا بالولاية.

(وَمَا اخْتَلَفْتُمْ) أنتم والكفار. (فِيهِ مِنْ شَيْءٍ) من أمر من أمور الدنيا أو الدين. (فَحُكْمُهُ إِلَى اللهِ) مفوض إليه يميز المحق من المبطل بالنصر أو بالإثابة والمعاقبة. وقيل (وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ) من تأويل متشابه فارجعوا فيه إلى المحكم من كتاب الله. (ذلِكُمُ اللهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ) في مجامع الأمور. (وَإِلَيْهِ أُنِيبُ) إليه أرجع في المعضلات.

(فاطِرُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً وَمِنَ الْأَنْعامِ أَزْواجاً يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (١١) لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)(١٢)

(فاطِرُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) خبر آخر ل (ذلِكُمُ) أو مبتدأ خبره. (جَعَلَ لَكُمْ) وقرئ بالجر على البدل من الضمير أو الوصف لإلى الله. (مِنْ أَنْفُسِكُمْ) من جنسكم. (أَزْواجاً) نساء. (وَمِنَ الْأَنْعامِ أَزْواجاً) أي وخلق للأنعام من جنسها أزواجا ، أو خلق لكم من الأنعام أصنافا أو ذكورا وإناثا. (يَذْرَؤُكُمْ) يكثركم من الذرء وهو البث وفي معناه الذر والذرو والضمير على الأول للناس ، و (الْأَنْعامِ) على تغليب المخاطبين

٧٧

العقلاء. (فِيهِ) في هذا التدبير وهو جعل الناس والأنعام أزواجا يكون بينهم توالد ، فإنه كالمنبع للبث والتكثير. (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) أي ليس مثله شيء يزاوجه ويناسبه ، والمراد من مثله ذاته كما في قولهم : مثلك لا يفعل كذا ، على قصد المبالغة في نفيه عنه فإنه إذا نفى عمن يناسبه ويسد مسده كان نفيه عنه أولى ، ونظيره قول رقيقة بنت صيفي في سقيا عبد المطلب : ألا وفيهم الطّيّب الطاهر لذاته. ومن قال الكاف فيه زائدة لعله عنى أنه يعطى معنى ليس مثله غير أنه آكد لما ذكرناه. وقيل «مثله» صفته أي ليس كصفته صفة. (وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) لكل ما يسمع ويبصر.

(لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) خزائنها. (يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ) يوسع ويضيق على وفق مشيئته. (إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) فيفعله على ما ينبغي.

(شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ ما تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ (١٣) وَما تَفَرَّقُوا إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ) (١٤)

(شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى) أي شرع لكم من الدين دين نوح ومحمد عليهما الصلاة والسلام ومن بينهما من أرباب الشرائع ، وهو الأصل المشترك فيما بينهم المفسر بقوله : (أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ) وهو الإيمان بما يجب تصديقه والطاعة في أحكام الله ومحله النصب على البدل من مفعول (شَرَعَ) ، أو الرفع على الاستئناف كأنه جواب وما ذلك المشروع أو الجر على البدل من هاء به. (وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ) ولا تختلفوا في هذا الأصل أما فروع الشرائع فمختلفة كما قال. (لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً). (كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ) عظم عليهم. (ما تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ) من التوحيد. (اللهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشاءُ) يجتلب إليه والضمير لما تدعوهم أو للدين. (وَيَهْدِي إِلَيْهِ) بالإشارة والتوفيق. (مَنْ يُنِيبُ) يقبل إليه.

(وَما تَفَرَّقُوا) يعني الأمم السالفة. وقيل أهل الكتاب لقوله : (وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ). (إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ) العلم بأن التفرق ضلال متوعد عليه ، أو العلم بمبعث الرسل عليهم الصلاة والسلام ، أو أسباب العلم من الرسل والكتب وغيرهما فلم يلتفتوا إليها. (بَغْياً بَيْنَهُمْ) عداوة أو طلبا للدنيا. (وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ) بالإمهال. (إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) هو يوم القيامة أو آخر أعمارهم المقدرة. (لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ) باستئصال المبطلين حين افترقوا لعظم ما اقترفوا. (وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتابَ مِنْ بَعْدِهِمْ) يعني أهل الكتاب الذين كانوا في عهد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أو المشركين الذين أورثوا القرآن من بعد أهل الكتاب. وقرئ «ورّثوا» و «وورثوا». (لَفِي شَكٍّ مِنْهُ) من كتابهم لا يعلمونه كما هو أو لا يؤمنون به حق الإيمان ، أو من القرآن. (مُرِيبٍ) مقلق أو مدخل في الريبة.

(فَلِذلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِما أَنْزَلَ اللهُ مِنْ كِتابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللهُ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ لا حُجَّةَ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ اللهُ يَجْمَعُ بَيْنَنا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ(١٥) وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللهِ مِنْ بَعْدِ ما اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ داحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ)(١٦)

(فَلِذلِكَ) فلأجل ذلك التفرق أو الكتاب ، أو العلم الذي أوتيته. (فَادْعُ) إلى الاتفاق على الملة

٧٨

الحنيفية أو الإتباع لما أوتيت ، وعلى هذا يجوز أن تكون اللام في موضع إلى لإفادة الصلة والتعليل. (وَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ) واستقم على الدعوة كما أمرك الله تعالى. (وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ) الباطلة. (وَقُلْ آمَنْتُ بِما أَنْزَلَ اللهُ مِنْ كِتابٍ) يعني جميع الكتب المنزلة لا كالكفار الذين آمنوا ببعض وكفروا ببعض. (وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ) في تبليغ الشرائع والحكومات ، والأول إشارة إلى كمال القوة النظرية وهذا إشارة إلى كمال القوة العملية. (اللهُ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ) خالق الكل ومتولي أمره. (لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ) وكل مجازى بعمله. (لا حُجَّةَ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ) لا حجاج بمعنى لا خصومة إذ الحق قد ظهر ولم يبق للمحاجة مجال ولا للخلاف مبدأ سوى العناد. (اللهُ يَجْمَعُ بَيْنَنا) يوم القيامة. (وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ) مرجع الكل لفصل القضاء ، وليس في الآية ما يدل على متاركة الكفار رأسا حتى تكون منسوخة بآية القتال.

(وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللهِ) في دينه. (مِنْ بَعْدِ ما اسْتُجِيبَ لَهُ) من بعد ما استجاب له الناس ودخلوا فيه ، أو من بعد ما استجاب الله لرسوله فأظهر دينه بنصره يوم بدر ، أو من بعد ما استجاب له أهل الكتاب بأن أقروا بنبوته واستفتحوا به. (حُجَّتُهُمْ داحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ) زائلة باطلة. (وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ) لمعاندتهم. (وَلَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ) على كفرهم.

(اللهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزانَ وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ (١٧) يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِها وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْها وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلا إِنَّ الَّذِينَ يُمارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ)(١٨)

(اللهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتابَ) جنس الكتاب. (بِالْحَقِ) ملتبسا بعيدا من الباطل ، أو بما يحق إنزاله من العقائد والأحكام. (وَالْمِيزانَ) والشرع الذي توزن به الحقوق ويسوي بين الناس ، أو العدل بأن أنزل الأمر به أو آلة الوزن بأن أوحى بإعدادها. (وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ) إتيانها فاتبع الكتاب واعمل بالشرع وواظب على العدل قبل أن يفاجئك اليوم الذي توزن فيه أعمالك وتوفى جزاءك ، وقيل تذكير القريب لأنه بمعنى ذات قرب ، أو لأن الساعة بمعنى البعث.

(يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِها) استهزاء. (وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْها) خائفون منها مع اغتيابها لتوقع الثواب. (وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُ) أي الكائن لا محالة. (أَلا إِنَّ الَّذِينَ يُمارُونَ فِي السَّاعَةِ) يجادلون فيها من المرية ، أو من مريب الناقة إذا مسحت ضرعها بشدة للحلب لأن كلّا من المتجادلين يستخرج ما عند صاحبه بكلام فيه شدة. (لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ) عن الحق فإن البعث أشبه الغائبات إلى المحسوسات ، فمن لم يهتد لتجويزه فهو أبعد عن الاهتداء إلى ما وراءه.

(اللهُ لَطِيفٌ بِعِبادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (١٩) مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ)(٢٠)

(اللهُ لَطِيفٌ بِعِبادِهِ) برّ بهم بصنوف من البر لا تبلغها الأفهام. (يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ) أي يرزقه كما يشاء فيخص كلّا من عباده بنوع من البر على ما اقتضته حكمته. (وَهُوَ الْقَوِيُ) الباهر القدرة. (الْعَزِيزُ) المنيع الذي لا يغلب.

(مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ) ثوابها شبهه بالزرع من حيث إنه فائدة تحصل بعمل الدنيا ولذلك قيل: الدنيا مزرعة الآخرة ، والحرث في الأصل إلقاء البذر في الأرض ويقال للزرع الحاصل منه. (نَزِدْ لَهُ فِي

٧٩

حَرْثِهِ) فنعطه بالواحد عشرا إلى سبعمائة فما فوقها. (وَمَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها) شيئا منها على ما قسمنا له. (وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ) إذ الأعمال بالنيات ولكل امرئ ما نوى.

(أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ ما لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللهُ وَلَوْ لا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ)(٢١)

(أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ) بل ألهم شركاء ، والهمزة للتقرير والتقريع وشركاؤهم شياطينهم. (شَرَعُوا لَهُمْ) بالتزيين. (مِنَ الدِّينِ ما لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللهُ) كالشرك وإنكار البعث والعمل للدنيا. وقيل شركاؤهم أوثانهم وإضافتها إليهم لأنهم متخذوها شركاء ، وإسناد الشرع إليها لأنها سبب ضلالتهم وافتتانهم بما تدينوا به ، أو صور من سنة لهم. (وَلَوْ لا كَلِمَةُ الْفَصْلِ) أي القضاء السابق بتأجيل الجزاء ، أو العدة بأن الفصل يكون يوم القيامة. (لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ) بين الكافرين والمؤمنين ، أو المشركين وشركائهم. (وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) وقرئ «أن» بالفتح عطفا على كلمة (الْفَصْلِ) أي (وَلَوْ لا كَلِمَةُ الْفَصْلِ) وتقدير عذاب الظالمين في الآخرة لقضي بينهم في الدنيا ، فإن العذاب الأليم غالب في عذاب الآخرة.

(تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ واقِعٌ بِهِمْ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي رَوْضاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (٢٢) ذلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللهُ عِبادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيها حُسْناً إِنَّ اللهَ غَفُورٌ شَكُورٌ)(٢٣)

(تَرَى الظَّالِمِينَ) في القيامة. (مُشْفِقِينَ) خائفين. (مِمَّا كَسَبُوا) من السيئات. (وَهُوَ واقِعٌ بِهِمْ) أي وباله لاحق بهم أشفقوا أو لم يشفقوا. (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي رَوْضاتِ الْجَنَّاتِ) في أطيب بقاعها وأنزهها. (لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ) أي ما يشتهونه ثابت لهم عند ربهم. (ذلِكَ) إشارة إلى المؤمنين. (هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ) الذي يصغر دونه ما لغيرهم في الدنيا.

(ذلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللهُ عِبادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) ذلك الثواب الذي يبشرهم الله به فحذف الجار ثم العائد ، أو ذلك التبشير الذي يبشره الله عباده. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وحمزة والكسائي (يُبَشِّرُ) من بشره وقرئ «يبشر» من أبشره. (قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ) على ما أتعاطاه من التبليغ والبشارة. (أَجْراً) نفعا منكم. (إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى) أي تودوني لقرابتي منكم ، أو تودوا قرابتي ، وقيل الاستثناء منقطع والمعنى : لا أسألكم أجرا قط ولكني أسألكم المودة ، و (فِي الْقُرْبى) حال منها أي (إِلَّا الْمَوَدَّةَ) ثابتة في ذوي (الْقُرْبى) متمكنة في أهلها ، أو في حق القرابة ومن أجلها كما جاء في الحديث «الحب في الله والبغض في الله». روي : أنها لما نزلت قيل يا رسول الله من قرابتك هؤلاء الذين وجبت مودتهم علينا قال : «علي وفاطمة وابناهما». وقيل (الْقُرْبى) التقرب إلى الله أي إلا أن تودوا الله ورسوله في تقربكم إليه بالطاعة والعمل الصالح ، وقرئ «إلا مودة في القربى». (وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً) ومن يكتسب طاعة سيما حب آل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقيل نزلت في أبي بكر الصديق رضي الله عنه ومودته لهم. (نَزِدْ لَهُ فِيها حُسْناً) في الحسنة بمضاعفة الثواب ، وقرئ «يزد» أي يزد الله وحسنى. (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ) لمن أذنب. (شَكُورٌ) لمن أطاع بتوفية الثواب والتفضل عليه بالزيادة.

(أَمْ يَقُولُونَ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً فَإِنْ يَشَإِ اللهُ يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللهُ الْباطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ)(٢٤)

٨٠