أنوار التنزيل وأسرار التأويل - ج ٥

عبدالله بن عمر بن محمد الشيرازي الشافعي البيضاوي

أنوار التنزيل وأسرار التأويل - ج ٥

المؤلف:

عبدالله بن عمر بن محمد الشيرازي الشافعي البيضاوي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٥٧

مُتَشابِهاً) بدل من (أَحْسَنَ) أو حال منه ، وتشابهه تشابه أبعاضه في الإعجاز وتجاوب النظم وصحة المعنى والدلالة على المنافع العامة. (مَثانِيَ) جمع مثنى أو مثنى أو مثن على ما مر في «الحجر» ، وصف به كتابا باعتبار تفاصيله كقولك : القرآن سور وآيات ، والإنسان : عظام وعروق وأعصاب ، أو جعل تمييزا من (مُتَشابِهاً) كقولك : رأيت رجلا حسنا شمائله. (تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ) تشمئز خوفا مما فيه من الوعيد ، وهو مثل في شدة الخوف واقشعرار الجلد تقبضه وتركيبه من حروف القشع وهو الأديم اليابس بزيادة الراء ليصير رباعيا كتركيب اقمطر من القمط وهو الشد. (ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللهِ) بالرحمة وعموم المغفرة ، والإطلاق للإشعار بأن أصل أمره الرحمة وأن رحمته سبقت غضبه ، والتعدية ب (إِلى) لتضمين معنى السكون والاطمئنان ، وذكر القلوب لتقدم الخشية التي هي من عوارضها. (ذلِكَ) أي الكتاب أو الكائن من الخشية والرجاء. (هُدَى اللهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ) هدايته. (وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ) ومن يخذله. (فَما لَهُ مِنْ هادٍ) يخرجهم من الضلال.

(أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (٢٤) كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ (٢٥) فَأَذاقَهُمُ اللهُ الْخِزْيَ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ)(٢٦)

(أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ) يجعله درقة يقي به نفسه لأنه يكون يداه مغلولة إلى عنقه فلا يقدر أن يتقي إلا بوجهه. (سُوءَ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ) كمن هو آمن منه ، فحذف الخبر كما حذف في نظائره.

(وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ) أي لهم فوضع الظاهر موضعه تسجيلا عليهم بالظلم وإشعارا بالموجب لما يقال لهم وهو : (ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ) أي وباله ، والواو للحال وقد مقدرة.

(كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ) من الجهة التي لا يخطر ببالهم أن الشر يأتيهم منها.

(فَأَذاقَهُمُ اللهُ الْخِزْيَ) الذل. (فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) كالمسخ والخسف والقتل والسبي والإجلاء. (وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ) المعد لهم. (أَكْبَرُ) لشدته ودوامه. (لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) لو كانوا من أهل العلم والنظر لعلموا ذلك واعتبروا به.

(وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٢٧) قُرْآناً عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ)(٢٨)

(وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ) يحتاج إليه الناظر في أمر دينه. (لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) يتعظون به.

(قُرْآناً عَرَبِيًّا) حال من هذا والاعتماد فيها على الصفة كقولك : جاءني زيد رجلا صالحا ، أو مدح له. (غَيْرَ ذِي عِوَجٍ) لا اختلال فيه بوجه ما ، وهو أبلغ من المستقيم وأخص بالمعاني. وقيل بالشك استشهادا بقوله :

وقد أتاك يقين غير ذي عوج

من الإله وقول غير مكذوب

وهو تخصيص له ببعض مدلوله. (لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) علة أخرى مرتبة على الأولى.

(ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً رَجُلاً فِيهِ شُرَكاءُ مُتَشاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلاً الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ

٤١

أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ)(٢٩)

(ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً) للمشرك والموحد. (رَجُلاً فِيهِ شُرَكاءُ مُتَشاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِرَجُلٍ) مثل المشرك على ما يقتضيه مذهبه من أن يدعي كل واحد من معبوديه عبوديته ، ويتنازعوا فيه بعبد يتشارك فيه جمع ، يتجاذبونه ويتعاورونه في مهماتهم المختلفة في تحيره وتوزع قلبه ، والموحد بمن خلص لواحد ليس لغيره عليه سبيل و (رَجُلاً) بدل من مثل وفيه صلة (شُرَكاءُ) ، والتشاكس والتشاخص الاختلاف. وقرأ نافع وابن عامر والكوفيون (سَلَماً) بفتحتين ، وقرئ بفتح السين وكسرها مع سكون اللام وثلاثتها مصادر سلم نعت بها ، أو حذف منها ذا و «رجل سالم» أي وهناك رجل سالم ، وتخصيص الرجل لأنه أفطن للضر والنفع. (هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلاً) صفة وحالا ونصبه على التمييز ولذلك وحده ، وقرئ «مثلين» للإشعار باختلاف النوع ، أو لأن المراد على (يَسْتَوِيانِ) في الوصفين على أن الضمير للمثلين فإن التقدير مثل رجل ومثل رجل. (الْحَمْدُ لِلَّهِ) كل الحمد له لا يشاركه فيه على الحقيقة سواه ، لأنه المنعم بالذات والمالك على الإطلاق. (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ) فيشركون به غيره من فرط جهلهم.

(إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (٣٠) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ (٣١) فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ)(٣٢)

(إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ) فإن الكل بصدد الموت وفي عداد الموتى ، وقرئ «مائت» و «مائتون» لأنه مما سيحدث.

(ثُمَّ إِنَّكُمْ) على تغليب المخاطب على الغيب. (يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ) فتحتج عليهم بأنك كنت على الحق في التوحيد وكانوا على الباطل في التشريك ، واجتهدت في الإرشاد والتبليغ ولجوا في التكذيب والعناد ، ويعتذرون بالأباطيل مثل (أَطَعْنا سادَتَنا) و (وَجَدْنا آباءَنا). وقيل المراد به الاختصام العام يخاصم الناس بعضهم بعضا فيما دار بينهم في الدنيا.

(فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللهِ) بإضافة الولد والشريك إليه. (وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ) وهو ما جاء به محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. (إِذْ جاءَهُ) من غير توقف وتفكر في أمره. (أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ) وذلك يكفيهم مجازاة لأعمالهم ، واللام تحتمل العهد والجنس ، واستدل به على تكفير المبتدعة فإنهم يكذبون بما علم صدقه وهو ضعيف لأنه مخصوص بمن فاجأ ما علم مجيء الرسول به بالتكذيب.

(وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (٣٣) لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ (٣٤) لِيُكَفِّرَ اللهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ)(٣٥)

(وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ) اللام للجنس ليتناول الرسل والمؤمنين لقوله : (أُولئِكَ هُمالْمُتَّقُونَ) وقيل هو النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمراد هو ومن تبعه كما في قوله : (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ). وقيل الجائي هو الرسول والمصدق أبو بكر رضي الله عنه ، وذلك يقتضي إضمار الذي وهو غير جائز. وقرئ «وصدق به» بالتخفيف أي صدق به الناس فأداه إليهم كما نزل من غير تحريف ، أو صار صادقا بسببه لأنه معجز يدل على صدقه «وصدق به» على البناء للمفعول.

(لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ) في الجنة. (ذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ) على إحسانهم.

(لِيُكَفِّرَ اللهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا) خص الأسوأ للمبالغة فإنه إذا كفر كان غيره أولى بذلك ، أو

٤٢

للإشعار بأنهم لاستعظامهم الذنوب يحسبون أنهم مقصرون مذنبون وأن ما يفرط منهم من الصغائر أسوأ ذنوبهم ، ويجوز أن يكون بمعنى السيئ كقولهم : الناقص والأشج أعدلا بني مروان ، وقرئ «أسواء» جمع سوء. (وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ) ويعطيهم ثوابهم. (بِأَحْسَنِ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ) فيعد لهم محاسن أعمالهم بأحسنها في زيادة الأجر وعظمه لفرط إخلاصهم فيها.

(أَلَيْسَ اللهُ بِكافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (٣٦) وَمَنْ يَهْدِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ مُضِلٍّ أَلَيْسَ اللهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقامٍ)(٣٧)

(أَلَيْسَ اللهُ بِكافٍ عَبْدَهُ) استفهام إنكار للنفي مبالغة في الإثبات ، والعبد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ويحتمل الجنس ويؤيده قراءة حمزة والكسائي «عباده» ، وفسر بالأنبياء صلوات الله عليهم. (وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ) يعني قريشا فإنهم قالوا له إنا نخاف أن تخبلك آلهتنا بعيبك إياها. وقيل إنه بعث خالدا ليكسر العزى فقال له سادنها أحذّركها فإن لها شدة ، فعمد إليها خالد فهشم أنفها فنزل تخويف خالد منزلة تخويفه لأنه الآمر له بما خوف عليه. (وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ) حتى غفل عن كفاية الله له وخوفه بما لا ينفع ولا يضر. (فَما لَهُ مِنْ هادٍ) يهديهم إلى الرشاد.

(وَمَنْ يَهْدِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ مُضِلٍ) إذ لا راد لفعله كما قال : (أَلَيْسَ اللهُ بِعَزِيزٍ) غالب منيع. (ذِي انْتِقامٍ) ينتقم من أعدائه.

(وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ أَرادَنِيَ اللهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كاشِفاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ)(٣٨)

(وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ) لوضوح البرهان على تفرده بالخالقية. (قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ أَرادَنِيَ اللهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كاشِفاتُ ضُرِّهِ) أي أرأيتم بعد ما تحققتم أن خالق العالم هو الله تعالى وأن آلهتكم إن أراد الله أن يصيبني بضر هل يكشفنه. (أَوْ أَرادَنِي بِرَحْمَةٍ) بنفع. (هَلْ هُنَّ مُمْسِكاتُ رَحْمَتِهِ) فيمسكنها عني ، وقرأ أبو عمرو (كاشِفاتُ ضُرِّهِ مُمْسِكاتُ رَحْمَتِهِ) بالتنوين فيهما ونصب ضره ورحمته. (قُلْ حَسْبِيَ اللهُ) كافيا في إصابة الخير ودفع الضر إذ تقرر بهذا التقرير أنه القادر الذي لا مانع لما يريده من خير أو شر. روي أن النبي عليه الصلاة والسلام سألهم فسكتوا فنزل ذلك ، وإنما قال (اشِفاتُ) و (مُمْسِكاتُ) على ما يصفونها به من الأنوثة تنبيها على كمال ضعفها. (عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ) لعلمهم بأن الكل منه تعالى.

(قُلْ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (٣٩) مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ (٤٠) إِنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ)(٤١)

(قُلْ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ) على حالكم ، اسم للمكان استعير للحال كما استعير هنا وحيث من المكان للزمان ، وقرئ «مكاناتكم». (إِنِّي عامِلٌ) أي على مكانتي فحذف للاختصار والمبالغة في الوعيد ، والإشعار بأن حاله لا يقف فإنه تعالى يزيده على مر الأيام قوة ونصرة ولذلك توعدهم بكونه منصورا عليهم في الدارين فقال : (فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ).

٤٣

(مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ) فإن خزي أعدائه دليل غلبته ، وقد أخزاهم الله يوم بدر. (وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ) دائم وهو عذاب النار.

(إِنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ لِلنَّاسِ) لأجلهم فإنه مناط مصالحهم في معاشهم ومعادهم. (بِالْحَقِ) متلبسا به. (فَمَنِ اهْتَدى فَلِنَفْسِهِ) إذ نفع به نفسه. (وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها) فإن وباله لا يتخطاها. (وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ) وما وكلت عليهم لتجبرهم على الهدى وإنما أمرت بالبلاغ وقد بلغت.

(اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرى إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ)(٤٢)

(اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها) أي يقبضها عن الأبدان بأن يقطع تعلقها عنها وتصرفها فيها إما ظاهرا وباطنا وذلك عند الموت ، أو ظاهرا لا باطنا وهو في النوم. (فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ) ولا يردها إلى البدن ، وقرأ حمزة والكسائي (قَضى) بضم القاف وكسر الضاد والموت بالرفع. (وَيُرْسِلُ الْأُخْرى) أي النائمة إلى بدنها عند اليقظة. (إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) هو الوقت المضروب لموته وهو غاية جنس الإرسال. وما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما : أن في ابن آدم نفسا وروحا بينهما مثل شعاع الشمس ، فالنفس التي بها العقل والتمييز ، والروح التي بها النفس والحياة ، فيتوفيان عند الموت وتتوفى النفس وحدها عند النوم. قريب مما ذكرناه. (إِنَّ فِي ذلِكَ) من التوفي والإمساك والإرسال. (لَآياتٍ) دالة على كمال قدرته وحكمته وشمول رحمته. (لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) في كيفية تعلقها بالأبدان وتوفيها عنها بالكلية حين الموت ، وإمساكها باقية لا تفنى بفنائها ، وما يعتريها من السعادة والشقاوة والحكمة في توفيها عن ظواهرها وإرسالها حينا بعد حين إلى توفي آجالها.

(أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ شُفَعاءَ قُلْ أَوَلَوْ كانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ (٤٣) قُلْ لِلَّهِ الشَّفاعَةُ جَمِيعاً لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ)(٤٤)

(أَمِ اتَّخَذُوا) بل اتخذ قريش. (مِنْ دُونِ اللهِ شُفَعاءَ) تشفع لهم عند الله. (قُلْ أَوَلَوْ كانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ) ولو كانوا على هذه الصفة كما تشاهدونهم جمادات لا تقدر ولا تعلم.

(قُلْ لِلَّهِ الشَّفاعَةُ جَمِيعاً) لعله رد لما عسى يجيبون به وهو أن الشفعاء أشخاص مقربون هي تماثيلهم ، والمعنى أنه مالك الشفاعة كلها لا يستطيع أحد شفاعة إلا بإذنه ورضاه ، ولا يستقل بها ثم قرر ذلك فقال : (لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) فإنه مالك الملك كله لا يملك أحد أن يتكلم في أمره دون إذنه ورضاه. (ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) يوم القيامة فيكون الملك له أيضا حينئذ.

(وَإِذا ذُكِرَ اللهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ)(٤٥)

(وَإِذا ذُكِرَ اللهُ وَحْدَهُ) دون آلهتهم. (اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ) انقبضت ونفرت. (وَإِذا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ) يعني الأوثان. (إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ) لفرط افتتانهم بها ونسيانهم حق الله ، ولقد بالغ في الأمرين حتى بلغ الغاية فيهما ، فإن الاستبشار أن يمتلئ قلبه سرورا حتى تنبسط له بشرة وجهه ، والاشمئزاز أن يمتلئ غما حتى ينقبض أديم وجهه ، والعامل في (إِذا ذُكِرَ) العامل في إذ المفاجأة.

(قُلِ اللهُمَّ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ عالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبادِكَ فِي ما كانُوا فِيهِ

٤٤

يَخْتَلِفُونَ) (٤٦)

(قُلِ اللهُمَّ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ عالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ) التجئ إلى الله بالدعاء لما تحيرت في أمرهم وضجرت من عنادهم وشدة شكيمتهم ، فإنه القادر على الأشياء والعالم بالأحوال كلها. (أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبادِكَ فِي ما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) فأنت وحدك تقدر أن تحكم بيني وبينهم.

(وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللهِ ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ (٤٧) وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) (٤٨)

(وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ) وعيد شديد وإقناط كلي لهم من الخلاص. (وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللهِ ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ) زيادة مبالغة فيه وهو نظير قوله : (فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ) في الوعد.

(وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا) سيئات أعمالهم أو كسبهم حين تعرض صحائفهم. (وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) وأحاط بهم جزاؤه.

(فَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعانا ثُمَّ إِذا خَوَّلْناهُ نِعْمَةً مِنَّا قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٤٩) قَدْ قالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ)(٥٠)

(فَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعانا) إخبار عن الجنس بما يغلب فيه ، والعطف على قوله (وَإِذا ذُكِرَ اللهُ وَحْدَهُ) بالفاء لبيان مناقضتهم وتعكيسهم في التسبب بمعنى أنهم يشمئزون عن ذكر الله وحده ويستبشرون بذكر الآلهة ، فإذا مسهم ضر دعوا من اشمأزوا من ذكره دون من استبشروا بذكره ، وما بينهما اعتراض مؤكد لإنكار ذلك عليهم. (ثُمَّ إِذا خَوَّلْناهُ نِعْمَةً مِنَّا) أعطيناه إياه تفضلا فإن التخويل مختص به. (قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ) مني بوجوه كسبه ، أو بأني سأعطاه لما لي من استحقاقه ، أو من الله بي واستحقاقي ، والهاء فيه لما إن جعلت موصولة وإلا فللنعمة والتذكير لأن المراد شيء منها. (بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ) امتحان له أيشكر أم يكفر ، وهو رد لما قاله وتأنيث الضمير باعتبار الخير أو لفظ ال (نِعْمَةً) ، وقرئ بالتذكير. (وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) ذلك ، وهو دليل على أن الإنسان للجنس.

(قَدْ قالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) الهاء لقوله (إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ) لأنها كلمة أو جملة ، وقرئ بالتذكير و (الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) قارون وقومه فإنه قال ورضي به قومه (فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ) من متاع الدنيا.

(فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هؤُلاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ(٥١) أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٥٢))

(فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا) جزاء سيئات أعمالهم أو جزاء أعمالهم ، وسماه سيئة لأنه في مقابلة أعمالهم السيئة رمزا إلى أن جميع أعمالهم كذلك. (وَالَّذِينَ ظَلَمُوا) بالعتو. (مِنْ هؤُلاءِ) المشركين و (مِنْ) للبيان أو للتبعيض. (سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا) كما أصاب أولئك ، وقد أصابهم فإنهم قحطوا سبع سنين وقتل ببدر صناديدهم. (وَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ) بفائتين.

(أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ) حيث حبس عنهم الرزق سبعا ثم بسط لهم سبعا.

٤٥

(إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) بأن الحوادث كلها من الله بوسط أو غيره.

(قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (٥٣) وَأَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ)(٥٤)

(قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ) أفرطوا في الجناية عليها بالإسراف في المعاصي ، وإضافة العباد تخصصه بالمؤمنين على ما هو عرف القرآن. (لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ) لا تيأسوا من مغفرته أولا وتفضله ثانيا. (إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً) عفوا ولو بعد بعد وتقييده بالتوبة خلاف الظاهر ويدل على إطلاقه فيما عدا الشرك قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ) الآية ، والتعليل بقوله : (إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) على المبالغة وإفادة الحصر والوعد بالرحمة بعد المغفرة ، وتقديم ما يستدعي عموم المغفرة مما في (عِبادِيَ) من الدلالة على الذلة ، والإختصاص المقتضيين للترحم ، وتخصيص ضرر الإسراف بأنفسهم والنهي عن القنوط مطلقا عن الرحمة فضلا عن المغفرة ، وإطلاقها وتعليله بأن الله يغفر الذنوب جميعا ، ووضع اسم (اللهِ) موضع الضمير لدلالته على أنه المستغني والمنعم على الإطلاق والتأكيد بالجميع. وما روي أنه عليه الصلاة والسلام قال «ما أحب أن تكون لي الدنيا وما فيها بها ، فقال رجل يا رسول الله ومن أشرك فسكت ساعة ثم قال : ألا ومن أشرك ثلاث مرات». وما روي أن أهل مكة قالوا : يزعم محمد أن من عبد الوثن وقتل النفس بغير حق لم يغفر له فكيف ولم نهاجر وقد عبدنا الأوثان وقتلنا النفس فنزلت. وقيل في عياش والوليد بن الوليد في جماعة افتتنوا أو في الوحشي لا ينفي عمومها وكذا قوله :

(وَأَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ) فإنها لا تدل على حصول المغفرة لكل أحد من غير توبة وسبق تعذيب لتغني عن التوبة والإخلاص في العمل وتنافي الوعيد بالعذاب.

(وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ (٥٥) أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ)(٥٦)

(وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ) القرآن أو المأمور به دون المنهي عنه ، أو العزائم دون الرخص أو الناسخ دون المنسوخ ، ولعله ما هو أنجى وأسلم كالإنابة والمواظبة على الطاعة. (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ) بمجيئه فتتداركوا.

(أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ) كراهة أن تقول وتنكير (نَفْسٌ) لأن القائل بعض الأنفس أو للتكثير كقول الأعشى :

وربّ بقيع لو هتفت بجوّه

أتاني كريم ينفض الرّأس مغضبا

(يا حَسْرَتى) وقرئ بالياء على الأصل. (عَلى ما فَرَّطْتُ) بما قصرت. (فِي جَنْبِ اللهِ) في جانبه أي في حقه وهو طاعته. قال سابق البربري :

أما تتّقين الله في جنب وامق

له كبد حرّى عليك تقطّع

وهو كناية فيها مبالغة كقوله :

إنّ السّماحة والمروءة والنّدى

في قبّة ضربت على ابن الحشرج

وقيل ذاته على تقدير مضاف كالطاعة وقيل في قربه من قوله تعالى : (وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ) وقرئ «في ذكر الله». (وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ) المستهزئين بأهله ومحل (إِنْ كُنْتُ) نصب على الحال كأنه قال فرطت وأنا ساخر.

٤٦

(أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللهَ هَدانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (٥٧) أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (٥٨) بَلى قَدْ جاءَتْكَ آياتِي فَكَذَّبْتَ بِها وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ)(٥٩)

(أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللهَ هَدانِي) بالإرشاد إلى الحق. (لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ) الشرك والمعاصي.

(أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) في العقيدة والعمل ، وأو للدلالة على أنها لا تخلوا من هذه الأقوال تحيرا وتعللا بما لا طائل تحته.

(بَلى قَدْ جاءَتْكَ آياتِي فَكَذَّبْتَ بِها وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ) رد من الله عليه لما تضمنه قوله (لَوْ أَنَّ اللهَ هَدانِي) من معنى النفي وفصله عنه لأن تقديمه يفرق القرائن وتأخير المودود يخل بالنظم المطابق للوجود لأنه يتحسر بالتفريط ثم يتعلل بفقد الهداية ثم يتمنى الرجعة ، وهو لا يمنع تأثير قدرة الله فعل العبد ولا ما فيه من إسناد الفعل إليه كما عرفت وتذكير الخطاب على المعنى ، وقرئ بالتأنيث للنفس.

(وَيَوْمَ الْقِيامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ (٦٠) وَيُنَجِّي اللهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفازَتِهِمْ لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ)(٦١)

(وَيَوْمَ الْقِيامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللهِ) بأن وصفوه بما لا يجوز كاتخاذ الولد. (وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ) بما ينالهم من الشدة أو بما يتخيل عليها من ظلمة الجهل ، والجملة حال إذ الظاهر أن ترى من رؤية البصر واكتفى فيها بالضمير عن الواو. (أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً) مقام. (لِلْمُتَكَبِّرِينَ) عن الإيمان والطاعة وهو تقرير لأنهم يرون كذلك.

(وَيُنَجِّي اللهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا) وقرئ «وينجي». (بِمَفازَتِهِمْ) بفلاحهم مفعلة من الفوز وتفسيرها بالنجاة تخصيصها بأهم أقسامه وبالسعادة والعمل الصالح إطلاق لها على السبب ، وقرأ الكوفيون غير حفص بالجمع تطبيقا له بالمضاف إليه والباء فيها للسببية صلة لينجي أو لقوله : (لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) وهو حال أو استئناف لبيان المفازة.

(اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (٦٢) لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ)(٦٣)

(اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) من خير وشر وإيمان وكفر. (وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ) يتولى التصرف.

(لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) لا يملك أمرها ولا يتمكن من التصرف فيها غيره ، وهو كناية عن قدرته وحفظه لها وفيها مزيد دلالة على الاختصاص ، لأن الخزائن لا يدخلها ولا يتصرف فيها الا من بيده مفاتيحها ، وهو جمع مقليد أو مقلاد من قلدته إذا ألزمته ، وقيل جمع إقليد معرب إكليد على الشذوذ كمذاكير. وعن عثمان رضي الله عنه : أنه سأل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن المقاليد فقال «تفسيرها لا إله إلا الله والله أكبر ، وسبحان الله وبحمده وأستغفر الله ولا حول ولا قوة إلا بالله ، هو الأول والآخر والظاهر والباطن ، بيده الخير يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير». والمعنى على هذا أن لله هذه الكلمات يوحد بها ويمجد ، وهي مفاتيح خير السموات والأرض من تكلم بها أصابه. (وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) متصل بقوله (وَيُنَجِّي اللهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا) وما بينهما اعتراض للدلالة على أنه مهيمن على العباد مطلع على أفعالهم مجاز عليها ، وتغيير

٤٧

النظم للإشعار بأن العمدة في فلاح المؤمنين فضل الله وفي هلاك الكافرين أن خسروا أنفسهم ، وللتصريح بالوعد والتعريض بالوعيد قضية للكرم أو بما يليه ، والمراد بآيات الله دلائل قدرته واستبداده بأمر السموات والأرض ، أو كلمات توحيده وتمجيده وتخصيص الخسار بهم لأن غيرهم ذو حظ من الرحمة والثواب.

(قُلْ أَفَغَيْرَ اللهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجاهِلُونَ (٦٤) وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ)(٦٥)

(قُلْ أَفَغَيْرَ اللهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجاهِلُونَ) أي أفغير الله أعبد بعد هذه الدلائل والمواعيد ، و (تَأْمُرُونِّي) اعتراض للدلالة على أنهم أمروه به عقيب ذلك وقالوا استلم بعض آلهتنا ونؤمن بإلهك لفرط غباوتهم ، ويجوز أن ينتصب غير بما دل عليه تأمروني أن أعبد لأنه بمعنى تعبدونني على أن أصله تأمرونني أن أعبد فحذف أن ورفع كقوله :

ألا أيّهذا الزّاجري أحضر الوغى

ويؤيده قراءة (أَعْبُدُ) بالنصب ، وقرأ ابن عامر «تأمرونني» بإظهار النونين على الأصل ونافع بحذف الثانية فإنها تحذف كثيرا.

(وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ) أي من الرسل. (لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ) كلام على سبيل الفرض والمراد به تهييج الرسل وإقناط الكفرة والإشعار على حكم الأمة ، وإفراد الخطاب باعتبار كل واحد واللام الأولى موطئة للقسم والأخريان للجواب ، وإطلاق الإحباط يحتمل أن يكون من خصائصهم لأن شركهم أقبح ، وأن يكون على التقييد بالموت كما صرح به في قوله (وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كافِرٌ فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ) وعطف الخسران عليه من عطف المسبب على السبب.

(بَلِ اللهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (٦٦) وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ)(٦٧)

(بَلِ اللهَ فَاعْبُدْ) رد لما أمروه به ولولا دلالة التقديم على الاختصاص لم يكن كذلك. (وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ) إنعامه عليك وفيه إشارة الى موجب الاختصاص.

(وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ) ما قدروا عظمته في أنفسهم حق تعظيمه حيث جعلوا له شركاء ووصفوه بما لا يليق به ، وقرئ بالتشديد. (وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ) تنبيه على عظمته وحقارة الأفعال العظام التي تتحير فيها الأوهام بالإضافة إلى قدرته ، ودلالة على أن تخريب العالم أهون شيء عليه على طريقة التمثيل والتخييل من غير اعتبار القبضة واليمين حقيقة ولا مجازا كقولهم : شابت لمة الليل ، والقبضة المرة من القبض أطلقت بمعنى القبضة وهي المقدار المقبوض بالكف تسمية بالمصدر أو بتقدير ذات قبضة. وقرئ بالنصب على الظرف تشبيها للمؤقت بالمبهم ، وتأكيد (الْأَرْضُ) بالجميع لأن المراد بها الأرضون السبع أو جميع أبعاضها البادية والغائرة. وقرئ «مطويات» على أنها حال و (السَّماواتُ) معطوفة على (الْأَرْضُ) منظومة في حكمها. (سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) ما أبعد وأعلى من هذه قدرته وعظمته عن إشراكهم ، أو ما يضاف إليه من الشركاء.

(وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شاءَ اللهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ)(٦٨)

٤٨

(وَنُفِخَ فِي الصُّورِ) يعني المرة الأولى. (فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ) خر ميتا أو مغشيا عليه. (إِلَّا مَنْ شاءَ اللهُ) قيل جبريل وميكائيل وإسرافيل فإنهم يموتون بعد ، وقيل حملة العرش. (ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى) نفخة أخرى وهي تدل على أن المراد بالأولى و (نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ واحِدَةٌ) كما صرح به في مواضع ، وأخرى تحتمل النصب والرفع. (فَإِذا هُمْ قِيامٌ) قائمون من قبورهم أو متوقفون ، وقرئ بالنصب على أن الخبر. (يَنْظُرُونَ) وهو حال من ضميره والمعنى : يقلبون أبصارهم في الجوانب كالمبهوتين أو ينتظرون ما يفعل بهم.

(وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها وَوُضِعَ الْكِتابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَداءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (٦٩) وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِما يَفْعَلُونَ) (٧٠)

(وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها) بما أقام فيها من العدل ، سماه «نور» لأنه يزين البقاع ويظهر الحقوق كما سمى الظلم ظلمة. وفي الحديث «الظلم ظلمات يوم القيامة». ولذلك أضاف اسمه إلى (الْأَرْضُ) أو بنور خلق فيها بلا واسطة أجسام مضيئة ولذلك أضافه الى نفسه. (وَوُضِعَ الْكِتابُ) للحساب والجزاء من وضع المحاسب كتاب المحاسبة بين يديه ، أو صحائف الأعمال في أيدي العمال ، واكتفى باسم الجنس عن الجمع. وقيل اللوح المحفوظ يقابل به الصحائف (وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَداءِ) الذين يشهدون للأمم وعليهم من الملائكة والمؤمنين ، وقيل المستشهدون. (وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ) بين العباد. (بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) بنقص ثواب أو زيادة عقاب على ما جرى به الوعد.

(وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ) جزاءه. (وَهُوَ أَعْلَمُ بِما يَفْعَلُونَ) فلا يفوته شيء من أفعالهم ، ثم فصل التوفية فقال :

(وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ زُمَراً حَتَّى إِذا جاؤُها فُتِحَتْ أَبْوابُها وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آياتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا قالُوا بَلى وَلكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذابِ عَلَى الْكافِرِينَ (٧١) قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ) (٧٢)

(وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ زُمَراً) أفواجا متفرقة بعضها في أثر بعض على تفاوت أقدامهم في الضلالة والشرارة ، جمع زمرة واشتقاقها من الزمر وهو الصوت إذ الجماعة لا تخلو عنه ، أو من قولهم شاة زمرة قليلة الشعر ورجل زمر قليل المروءة وهي الجمع القليل. (حَتَّى إِذا جاؤُها فُتِحَتْ أَبْوابُها) ليدخلوها و (حَتَّى) وهي التي تحكي بعدها الجملة ، وقرأ الكوفيون (فُتِحَتْ) بتخفيف التاء. (وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها) تقريعا وتوبيخا. (أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ) من جنسكم. (يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آياتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا) وقتكم هذا وهو وقت دخولهم النار ، وفيه دليل على أنه لا تكليف قبل الشرع من حيث إنهم عللوا توبيخهم بإتيان الرسل وتبليغ الكتب. (قالُوا بَلى وَلكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذابِ عَلَى الْكافِرِينَ) كلمة الله بالعذاب علينا وهو الحكم عليهم بالشقاوة ، وأنهم من أهل النار ووضع الظاهر فيه موضع الضمير للدلالة على اختصاص ذلك بالكفرة ، وقيل هو قوله وقيل هو قوله (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ).

(قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها) أبهم القائل لتهويل ما يقال لهم. (فَبِئْسَ مَثْوَى) مكان. (الْمُتَكَبِّرِينَ) اللام فيه للجنس والمخصوص بالذم سبق ذكره ، ولا ينافي إشعاره بأن مثواهم في النار لتكبرهم عن الحق أن يكون دخولهم فيها لأن كلمة العذاب حقت عليهم ، فإن تكبرهم وسائر مقابحهم مسببة عنه كما قال عليه الصلاة والسلام «إن الله تعالى إذا خلق العبد للجنة استعمله بعمل أهل الجنة ، حتى يموت على عمل

٤٩

من أعمال أهل الجنة فيدخل الجنة. وإذا خلق العبد للنار استعمله بعمل أهل النار حتى يموت على عمل من أعمال أهل النار فيدخل به النار».

(وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً حَتَّى إِذا جاؤُها وَفُتِحَتْ أَبْوابُها وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوها خالِدِينَ (٧٣) وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ) (٧٤)

(وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ) إسراعا بهم إلى دار الكرامة ، وقيل سيق مراكبهم إذ لا يذهب بهم إلا راكبين. (زُمَراً) على تفاوت مراتبهم في الشرف وعلو الطبقة. (حَتَّى إِذا جاؤُها وَفُتِحَتْ أَبْوابُها) حذف جواب إذا للدلالة على أن لهم حينئذ من الكرامة والتعظيم ما لا يحيط به الوصف ، وأن أبواب الجنة تفتح لهم قبل مجيئهم غير منتظرين ، وقرأ الكوفيون (فُتِحَتْ) بالتخفيف. (وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها سَلامٌ عَلَيْكُمْ) لا يعتريكم بعد مكروه. (طِبْتُمْ) طهرتم من دنس المعاصي. (فَادْخُلُوها خالِدِينَ) مقدرين الخلود فيها ، والفاء للدلالة على أن طيبهم سبب لدخولهم وخلودهم ، وهو لا يمنع دخول العاصي بعفوه لأنه مطهره.

(وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ) بالبعث والثواب. (وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ) يريدون المكان الذي استقروا فيه على الاستعارة ، وإيراثها تمليكها مخلفة عليهم من أعمالهم أو تمكينهم من التصرف فيها تمكين الوارث فيما يرثه. (نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ) أي يتبوأ كل منا في أي مقام أراده من جنته الواسعة ، مع أن في الجنة مقامات معنوية لا يتمانع واردوها. (فَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ) الجنة.

(وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ)(٧٥)

(وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ) محدقين. (مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ) أي حوله و (مِنْ) مزيدة أو لابتداء الحفوف. (يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ) ملتبسين بحمده. والجملة حال ثانية أو مقيدة للأولى ، والمعنى ذاكرين له بوصفي جلاله وإكرامه تلذذا به ، وفيه إشعار بأن منتهى درجات العليين وأعلى لذائذهم هو الاستغراق في صفات الحق. (وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِ) أي بين الخلق بإدخال بعضهم النار وبعضهم الجنة ، أو بين الملائكة بإقامتهم في منازلهم على حسب تفاضلهم. (وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) أي على ما قضي بيننا بالحق. والقائلون هم المؤمنون من المقضي بينهم أو الملائكة وطي ذكرهم لتعينهم وتعظيمهم.

عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من قرأ سورة الزمر لم يقطع رجاءه يوم القيامة وأعطاه الله ثواب الخائفين». عن عائشة رضي الله عنها : «أنه عليه الصلاة والسلام كان يقرأ كل ليلة بني إسرائيل والزمر» والله أعلم.

٥٠

(٤٠) سورة المؤمن

مكية وآيها خمس وثمانون

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(حم (١) تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (٢) غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقابِ ذِي الطَّوْلِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ) (٣)

(حم) أماله ابن عامر وحمزة والكسائي وأبو بكر صريحا ، ونافع برواية ورش وأبو عمرو بين بين ، وقرئ بفتح الميم على التحريك لالتقاء الساكنين ، أو النصب بإضمار اقرأ ومنع صرفه للتعريف والتأنيث ، أو لأنها على زنة أعجمي كقابيل وهابيل.

(تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) لعل تخصيص الوصفين لما في القرآن من الإعجاز والحكم الدال على القدرة الكاملة والحكمة البالغة.

(غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقابِ ذِي الطَّوْلِ) صفات أخرى لتحقيق ما فيه من الترغيب والترهيب والحث على ما هو المقصود منه ، والإضافة فيها حقيقة على أنه لم يرد بها زمان مخصوص ، وأريد ب (شَدِيدِ الْعِقابِ) مشددة أو الشديد عقابه فحذف اللام للازدواج وأمن الالتباس ، أو إبدال وجعله وحده بدلا مشوش للنظم وتوسيط الواو بين الأولين لإفادة الجمع بين محو الذنوب وقبول التوبة ، أو تغاير الوصفين إذ ربما يتوهم الاتحاد ، أو تغاير موقع الفعلين لأن الغفر هو الستر فيكون لذنب باق وذلك لمن لم يتب فإن «التائب من الذنب كمن لا ذنب له». والتوب مصدر كالتوبة وقيل جمعها والطول الفضل بترك العقاب المستحق ، وفي توحيد صفة العذاب مغمورة بصفات الرحمة دليل رجحانها. (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) فيجب الإقبال الكلي على عبادته. (إِلَيْهِ الْمَصِيرُ) فيجازي المطيع والعاصي.

(ما يُجادِلُ فِي آياتِ اللهِ إِلاَّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ)(٤)

(ما يُجادِلُ فِي آياتِ اللهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا) لما حقق أمر التنزيل سجل بالكفر على المجادلين فيه بالطعن وإدحاض الحق لقوله : (وَجادَلُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَ) وأما الجدال فيه لحل عقده واستنباط حقائقه وقطع تشبث أهل الزيغ به وقطع مطاعنهم فيه فمن أعظم الطاعات ، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام «إن جدالا في القرآن كفر» بالتنكير مع أنه ليس جدالا فيه على الحقيقة. (فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ) فلا يغررك إمهالهم وإقبالهم في دنياهم وتقلبهم في بلاد الشأم واليمن بالتجارات المربحة فإنهم مأخوذون عما قريب بكفرهم أخذ من قبلهم كما قال :

(كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجادَلُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ عِقابِ (٥) وَكَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحابُ النَّارِ)(٦).

٥١

(كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزابُ مِنْ بَعْدِهِمْ) والذين تحزبوا على الرسل وناصبوهم بعد قوم نوح كعاد وثمود. (وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ) من هؤلاء. (بِرَسُولِهِمْ) وقرئ «برسولها». (لِيَأْخُذُوهُ) ليتمكنوا من إصابته بما أرادوا من تعذيب وقتل من الأخذ بمعنى الأسر. (وَجادَلُوا بِالْباطِلِ) بما لا حقيقة له. (لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَ) ليزيلوه به. (فَأَخَذْتُهُمْ) بالإهلاك جزاء لهم. (فَكَيْفَ كانَ عِقابِ) فإنكم تمرون على ديارهم وترون أثره. وهو تقرير فيه تعجيب.

(وَكَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ) وعيده أو قضاؤه بالعذاب. (عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا) بكفرهم. (أَنَّهُمْ أَصْحابُ النَّارِ) بدل من كلمة (رَبِّكَ) بدل الكل أو الاشتمال على إرادة اللفظ أو المعنى.

(الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذابَ الْجَحِيمِ)(٧)

(الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ) الكروبيون أعلى طبقات الملائكة وأولهم وجودا وحملهم إياه وحفيفهم حوله مجاز عن حفظهم وتدبيرهم له ، أو كناية عن قربهم من ذي العرش ومكانتهم عنده وتوسطهم في نفاذ أمره. (يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ) يذكرون الله بمجامع الثناء من صفات الجلال والإكرام ، وجعل التسبيح أصلا والحمد حالا لأن الحمد مقتضى حالهم دون التسبيح. (وَيُؤْمِنُونَ بِهِ) أخبر عنهم بالإيمان إظهارا لفضله وتعظيما لأهله ومساق الآية لذلك كما صرح به بقوله : (وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا) وإشعارا بأن حملة العرش وسكان الفرش في معرفته سواء ردا على المجسمة واستغفارهم شفاعتهم وحملهم على التوبة وإلهامهم ما يوجب المغفرة ، وفيه تنبيه على أن المشاركة في الإيمان توجب النصح والشفقة وإن تخالفت الأجناس لأنها أقوى المناسبات كما قال تعالى : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ). (رَبَّنا) أي يقولون (رَبَّنا) وهو بيان ل (يَسْتَغْفِرُونَ) أو حال. (وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً) أي وسعت رحمتك وعلمك فأزيل عن أصله للإغراق في وصفه بالرحمة والعلم والمبالغة في عمومها ، وتقديم الرحمة لأنها المقصودة بالذات ها هنا. (فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ) للذين علمت منهم التوبة واتباع سبيل الحق. (وَقِهِمْ عَذابَ الْجَحِيمِ) واحفظهم عنه وهو تصريح بعد إشعار للتأكيد والدلالة على شدة العذاب.

(رَبَّنا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٨) وَقِهِمُ السَّيِّئاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ)(٩)

(رَبَّنا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ) وعدتهم إياها. (وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ) عطف على هم الأول أي أدخلهم ومعهم هؤلاء ليتم سرورهم ، أو الثاني لبيان عموم الوعد ، وقرئ «جنة عدن» و «صلح» بالضم و «ذريتهم» بالتوحيد. (إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ) الذي لا يمتنع عليه مقدور. (الْحَكِيمُ) الذي لا يفعل إلا ما تقتضيه حكمته ومن ذلك الوفاء بالوعد. (وَقِهِمُ السَّيِّئاتِ) العقوبات أو جزاء السيئات ، وهو تعميم بعد تخصيص ، أو تخصيص بمن (صَلَحَ) أو المعاصي في الدنيا لقوله : (وَمَنْ تَقِ السَّيِّئاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ) أي ومن تقها في الدنيا فقد رحمته في الآخرة كأنهم طلبوا السبب بعد ما سألوا المسبب. (وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) يعني الرحمة أو الوقاية أو مجموعهما.

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنادَوْنَ لَمَقْتُ اللهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمانِ

٥٢

فَتَكْفُرُونَ (١٠) قالُوا رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنا بِذُنُوبِنا فَهَلْ إِلى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ)(١١)

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنادَوْنَ) يوم القيامة فيقال لهم : (لَمَقْتُ اللهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ) أي لمقت الله إياكم أكبر من مقتكم أنفسكم الأمارة بالسوء. (إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمانِ فَتَكْفُرُونَ) ظرف لفعل دل عليه المقت الأول لا له لأنه أخبر عنه ، ولا للثاني لأن مقتهم أنفسهم يوم القيامة حين عاينوا جزاء أعمالهم الخبيثة إلا أن يؤول بنحو : بالصّيف ضيّعت اللّبن. أو تعليل للحكم وزمان المقتين واحد.

(قالُوا رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ) إماتتين بأن خلقتنا أمواتا أوّلا ثم صيرتنا أمواتا عند انقضاء آجالنا ، فإن الإماتة جعل الشيء عادم الحياة ابتداء أو بتصيير كالتصغير والتكبير ، ولذلك قيل سبحان من صغر البعوض وكبر الفيل ، وإن خص بالتصيير فاختيار الفاعل المختار أحد مفعوليه تصيير وصرف له عن الآخر. (وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ) الإحياءة الأولى وإحياءة البعث. وقيل الإماتة الأولى عند انخرام الأجل والثانية في القبر بعد الإحياء للسؤال والإحياءان ما في القبر والبعث ، إذ المقصود اعترافهم بعد المعاينة بما غفلوا عنه ولم يكترثوا به ولذلك تسبب بقوله : (فَاعْتَرَفْنا بِذُنُوبِنا) فإن اقترافهم لها من اغترارهم بالدنيا وإنكارهم البعث. (فَهَلْ إِلى خُرُوجٍ) نوع خروج من النار. (مِنْ سَبِيلٍ) طريق فنسلكه وذلك إنما يقولونه من فرط قنوطهم تعللا وتحيرا ولذلك أجيبوا بقوله :

(ذلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذا دُعِيَ اللهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ (١٢) هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آياتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ رِزْقاً وَما يَتَذَكَّرُ إِلاَّ مَنْ يُنِيبُ)(١٣)

(ذلِكُمْ) الذي أنتم فيه. (بِأَنَّهُ) بسبب أنه. (إِذا دُعِيَ اللهُ وَحْدَهُ) متحدا أو توحد وحده فحذف الفعل وأقيم مقامه في الحالية. (كَفَرْتُمْ) بالتوحيد. (وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا) بالإشراك. (فَالْحُكْمُ لِلَّهِ) المستحق للعبادة حيث حكم عليكم بالعذاب السرمد الدائم. (الْعَلِيِ) عن أن يشرك به ويسوى بغيره. (الْكَبِيرِ) حيث حكم على من أشرك وسوى به بعض مخلوقاته في استحقاق العبادة بالعذاب السرمد.

(هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آياتِهِ) الدالة على التوحيد وسائر ما يجب أن يعلم تكميلا لنفوسكم. (وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ رِزْقاً) أسباب رزق كالمطر مراعاة لمعاشكم. (وَما يَتَذَكَّرُ) بالآيات التي هي كالمركوزة في العقول لظهورها المغفول عنها للانهماك في التقليد واتباع الهوى. (إِلَّا مَنْ يُنِيبُ) يرجع عن الإنكار بالإقبال عليها والتفكر فيها ، فإن الجازم بشيء لا ينظر فيما ينافيه.

(فَادْعُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ (١٤) رَفِيعُ الدَّرَجاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ)(١٥)

(فَادْعُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) من الشرك. (وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ) إخلاصكم وشق عليهم.

(رَفِيعُ الدَّرَجاتِ ذُو الْعَرْشِ) خبران آخران للدلالة على علو صمديته من حيث المعقول والمحسوس الدال على تفرده في الألوهية ، فإن من ارتفعت درجات كماله بحيث لا يظهر دونها كمال وكان العرش الذي هو أصل العالم الجسماني في قبضة قدرته لا يصح أن يشرك به ، وقيل الدرجات مراتب المخلوقات أو مصاعد الملائكة إلى العرش أو السموات أو درجات الثواب. وقرئ «رفيع» بالنصب على المدح. (يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ) خبر رابع للدلالة على أن الروحانيات أيضا مسخرات لأمره بإظهار آثارها وهو الوحي ، وتمهيد للنبوة بعد تقرير التوحيد والروح الوحي ومن أمره بيانه لأنه أمر بالخير أو مبدؤه والآمر هو الملك المبلغ. (عَلى مَنْ

٥٣

يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ) يختاره للنبوة ، وفيه دليل على أنها عطائية. (لِيُنْذِرَ) غاية الإلقاء والمستكن فيه لله ، أو لمن أو للروح واللام مع القرب تؤيد الثاني. (يَوْمَ التَّلاقِ) يوم القيامة ، فإن فيه تتلاقى الأرواح والأجساد وأهل السماء والأرض أو المعبودون والعباد أو الأعمال والعمال.

(يَوْمَ هُمْ بارِزُونَ لا يَخْفى عَلَى اللهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ (١٦) الْيَوْمَ تُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ)(١٧)

(يَوْمَ هُمْ بارِزُونَ) خارجون من قبورهم أو ظاهرون لا يسترهم شيء أو ظاهرة نفوسهم لا تحجبهم غواشي الأبدان ، أو أعمالهم وسرائرهم. (لا يَخْفى عَلَى اللهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ) من أعيانهم وأعمالهم وأحوالهم ، وهو تقرير لقوله (هُمْ بارِزُونَ) وإزاحة لنحو ما يتوهم في الدنيا. (لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ) حكاية لما يسأل عنه في ذلك اليوم ولما يجاب به ، أو لما دل عليه ظاهر الحال فيه من زوال الأسباب وارتفاع الوسائط ، وأما حقيقة الحال فناطقة بذلك دائما.

(الْيَوْمَ تُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ) كأنه نتيجة لما سبق ، وتحقيقه أن النفوس تكتسب بالعقائد والأعمال هيئات توجب لذتها وألمها لكنها لا تشعر بها في الدنيا لعوائق تشغلها ، فإذا قامت قيامتها زالت العوائق وأدركت لذتها وألمها. (لا ظُلْمَ الْيَوْمَ) بنقص الثواب وزيادة العقاب. (إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ) إذ لا يشغله شأن عن شأن فيصل إليهم ما يستحقونه سريعا.

(وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَناجِرِ كاظِمِينَ ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ)(١٨)

(وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ) أي القيامة سميت بها لأزوفها أي قربها ، أو الخطة (الْآزِفَةِ) وهي مشارفتهم النار وقيل الموت. (إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَناجِرِ) فإنها ترتفع عن أماكنها فتلصق بحلوقهم فلا تعود فيتروحوا ولا تخرج فيستريحوا. (كاظِمِينَ) على الغم حال من أصحاب القلوب على المعنى لأنه على الإضافة ، أو منها أو من ضميرها في لدى وجمعه كذلك لأن الكظم من أفعال العقلاء كقوله : (فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ). أو من مفعول (أَنْذِرْهُمْ) على أنه حال مقدرة. (ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ) قريب مشفق. (وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ) ولا شفيع مشفع ، والضمائر إن كانت للكفار وهو الظاهر كان وضع الظالمين موضع ضميرهم للدلالة على اختصاص ذلك بهم وأنه لظلمهم.

(يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَما تُخْفِي الصُّدُورُ (١٩) وَاللهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ إِنَّ اللهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ)(٢٠)

(يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ) النظرة الخائنة كالنظرة الثانية إلى غير المحرم واستراق النظر إليه ، أو خيانة الأعين. (وَما تُخْفِي الصُّدُورُ) من الضمائر والجملة خبر خامس للدلالة على أنه ما من خفي إلا وهو متعلق العلم والجزاء (وَاللهُ يَقْضِي بِالْحَقِ) لأنه المالك الحاكم على الإطلاق فلا يقضي بشيء إلا وهو حقه (وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ) تهكم بهم لأن الجماد لا يقال فيه إنه يقضي أو لا يقضي. وقرأ نافع وهشام بالتاء على الالتفات أو إضمار قل : (إِنَّ اللهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) تقرير لعلمه ب (خائِنَةَ الْأَعْيُنِ) وقضائه بالحق ووعيد لهم على ما يقولون ويفعلون ، وتعريض بحال ما (يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ).

(أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ كانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ

٥٤

قُوَّةً وَآثاراً فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللهُ بِذُنُوبِهِمْ وَما كانَ لَهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ واقٍ (٢١) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللهُ إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ)(٢٢)

(أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ كانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ) مآل حال الذين كذبوا الرسل قبلهم كعاد وثمود. (كانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً) قدرة وتمكنا ، وإنما جيء بالفصل وحقه أن يقع بين معرفتين لمضارعة أفعل من للمعرفة في امتناع دخول اللام عليه. وقرأ ابن عامر «أشد منكم» بالكاف. (وَآثاراً فِي الْأَرْضِ) مثل القلاع والمدائن الحصينة. وقيل المعنى وأكثر آثارا كقوله : متقلدا سيفا ورمحا. (فَأَخَذَهُمُ اللهُ بِذُنُوبِهِمْ وَما كانَ لَهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ واقٍ) يمنع العذاب عنهم.

(ذلِكَ) الأخذ. (بِأَنَّهُمْ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ) بالمعجزات أو الأحكام الواضحة. (فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللهُ إِنَّهُ قَوِيٌ) متمكن مما يريده غاية التمكن. (شَدِيدُ الْعِقابِ) لا يؤبه بعقاب دون عقابه.

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ (٢٣) إِلى فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَقارُونَ فَقالُوا ساحِرٌ كَذَّابٌ(٢٤) فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا اقْتُلُوا أَبْناءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِساءَهُمْ وَما كَيْدُ الْكافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ)(٢٥)

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا) يعني المعجزات. (وَسُلْطانٍ مُبِينٍ) وحجة قاهرة ظاهرة ، والعطف لتغاير الوصفين أو لإفراد بعض المعجزات كالعصا تفخيما لشأنه.

(إِلى فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَقارُونَ فَقالُوا ساحِرٌ كَذَّابٌ) يعنون موسى عليه الصلاة والسلام ، وفيه تسلية لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبيان لعاقبة من هو أشد الذين كانوا من قبلهم بطشا وأقربهم زمانا.

(فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا اقْتُلُوا أَبْناءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ ، وَاسْتَحْيُوا نِساءَهُمْ) أي أعيدوا عليهم ما كنتم تفعلون بهم أولا كي يصدوا عن مظاهرة موسى عليه‌السلام. (وَما كَيْدُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ) في ضياع ، ووضع الظاهر فيه موضع الضمير لتعميم الحكم والدلالة على العلة.

(وَقالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسادَ (٢٦) وَقالَ مُوسى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسابِ)(٢٧)

(وَقالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسى) كانوا يكفونه عن قتله ويقولون إنه ليس الذي تخافه بل هو ساحر ، ولو قتلته ظن أنك عجزت عن معارضته بالحجة وتعلله بذلك مع كونه سفاكا في أهون شيء دليل على أنه تيقن أنه نبي فخاف من قتله ، أو ظن أنه لو حاوله لم يتيسر له ويؤيده قوله. (وَلْيَدْعُ رَبَّهُ) فإنه تجلد وعدم مبالاة بدعائه. (إِنِّي أَخافُ) إن لم أقتله. (أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ) أن يغير ما أنتم عليه من عبادته وعبادة الأصنام لقوله : (وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ). (أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسادَ) ما يفسد دنياكم من التحارب والتهارج إن لم يقدر أن يبطل دينكم بالكلية. وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر بالواو على معنى الجمع ، وابن كثير وابن عامر والكوفيون غير حفص بفتح الياء والهاء ورفع (الْفَسادَ).

(وَقالَ مُوسى) أي لقومه لما سمع بكلامه. (إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسابِ) صدر الكلام بأن تأكيدا وإشعارا على أن السبب المؤكد في دفع الشر هو العياذ بالله ، وخص اسم الرب لأن المطلوب هو الحفظ والتربية ، وإضافته إليه وإليهم حثا لهم على موافقته لما في تظاهر الأرواح من

٥٥

استجلاب الإجابة ، ولم يسم فرعون وذكر وصفا يعمه وغيره لتعميم الاستعاذة ورعاية الحق والدلالة على الحامل له على القول. وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي عدت فيه وفي سورة «الدخان» بالإدغام وعن نافع مثله.

(وَقالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللهُ وَقَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ)(٢٨)

(وَقالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ) من أقاربه. وقيل (مِنْ) متعلق بقوله : (يَكْتُمُ إِيمانَهُ) والرجل إسرائيلي أو غريب موحد كان ينافقهم. (أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً) أتقصدون قتله. (أَنْ يَقُولَ) لأن يقول ، أو وقت أن يقول من غير روية وتأمل في أمره. (رَبِّيَ اللهُ) وحده وهو في الدلالة على الحصر مثل صديقي زيد. (وَقَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ) المتكثرة الدالة على صدقه من المعجزات والاستدلالات. (مِنْ رَبِّكُمْ) أضافه إليهم بعد ذكر البينات احتجاجا عليهم واستدراجا لهم إلى الاعتراف به ، ثم أخذهم بالاحتجاج من باب الاحتياط فقال : (وَإِنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ) لا يتخطاه وبال كذبه فيحتاج في دفعه إلى قتله. (وَإِنْ يَكُ صادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ) فلا أقل من أن يصيبكم بعضه ، وفيه مبالغة في التحذير وإظهار للإنصاف وعدم التعصب ، ولذلك قدم كونه كاذبا أو يصبكم ما يعدكم من عذاب الدنيا وهو بعض مواعيده ، كأنه خوفهم بما هو أظهر احتمالا عندهم وتفسير ال (بَعْضُ) بالكل كقول لبيد :

ترّاك أمكنة إذا لم أرضها

أو يرتبط بعض النّفوس حمامها

مردود لأنه أراد بال (بَعْضُ) نفسه. (إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ) احتجاج ثالث ذو وجهين :

أحدهما : أنه لو كان مسرفا كذابا لما هداه الله إلى البينات ولما عضده بتلك المعجزات.

وثانيهما : أن من خذله الله أهلكه فلا حاجة لكم إلى قتله. ولعله أراد به المعنى الأول وخيل إليهم الثاني لتلين شكيمتهم ، وعرض به لفرعون بأنه (مُسْرِفٌ كَذَّابٌ) لا يهديه الله سبيل الصواب وطريق النجاة.

(يا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنا مِنْ بَأْسِ اللهِ إِنْ جاءَنا قالَ فِرْعَوْنُ ما أُرِيكُمْ إِلاَّ ما أَرى وَما أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرَّشادِ)(٢٩)

(يا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظاهِرِينَ) غالبين عالين. (فِي الْأَرْضِ) أرض مصر. (فَمَنْ يَنْصُرُنا مِنْ بَأْسِ اللهِ إِنْ جاءَنا) أي فلا تفسدوا أمركم ولا تتعرضوا لبأس الله بقتله فإنه إن جاءنا لم يمنعنا منه أحد ، وإنما أدرج نفسه في الضميرين لأنه كان منهم في القرابة وليريهم أنه معهم ومساهمهم فيما ينصح لهم. (قالَ فِرْعَوْنُ ما أُرِيكُمْ) ما أشير عليكم. (إِلَّا ما أَرى) وأستصوبه من قتله وما أعلمكم إلا ما علمت من الصواب وقلبي ولساني متواطئان عليه. (وَما أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشادِ) طريق الصواب ، وقرئ بالتشديد على أنه فعال للمبالغة من رشد كعلام ، أو من رشد كعباد لا من أرشد كجبار من أجبر لأنه مقصور على السماع أو للنسبة إلى الرشد كعواج وبتات.

(وَقالَ الَّذِي آمَنَ يا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزابِ (٣٠) مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ) (٣١)

(وَقالَ الَّذِي آمَنَ يا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ) في تكذيبه والتعرض له. (مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزابِ) مثل أيام

٥٦

الأمم الماضية يعني وقائعهم ، وجمع (الْأَحْزابِ) مع التفسير أغنى عن جمع اليوم.

(مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ) مثل جزاء ما كانوا عليه دائبا من الكفر وإيذاء الرسل. (وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ) كقوم لوط. (وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ) فلا يعاقبهم بغير ذنب ولا يخلي الظالم منهم بغير انتقام ، وهو أبلغ من قوله : (وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) من حيث إن المنفي فيه حدوث تعلق إرادته بالظلم.

(وَيا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنادِ (٣٢) يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ ما لَكُمْ مِنَ اللهِ مِنْ عاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ)(٣٣)

(وَيا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنادِ) يوم القيامة ينادي فيه بعضهم بعضا للاستغاثة ، أو يتصايحون بالويل والثبور ، أو يتنادى أصحاب الجنة وأصحاب النار كما حكى في «الأعراف». وقرئ بالتشديد وهو أن يند بعضهم من بعض كقوله (يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ).

(يَوْمَ تُوَلُّونَ) عن الموقف. (مُدْبِرِينَ) منصرفين عنه إلى النار. وقيل فارين عنها. (ما لَكُمْ مِنَ اللهِ مِنْ عاصِمٍ) يعصمكم من عذابه. (وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ).

(وَلَقَدْ جاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّناتِ فَما زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولاً كَذلِكَ يُضِلُّ اللهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتابٌ)(٣٤)

(وَلَقَدْ جاءَكُمْ يُوسُفُ) يوسف بن يعقوب على أن فرعونه فرعون موسى ، أو على نسبة أحوال الآباء إلى الأولاد أو سبطه يوسف بن إبراهيم بن يوسف. (مِنْ قَبْلُ) من قبل موسى. (بِالْبَيِّناتِ) بالمعجزات. (فَما زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جاءَكُمْ بِهِ) من الدين. (حَتَّى إِذا هَلَكَ) مات. (قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولاً) ضما إلى تكذيب رسالته تكذيب رسالة من بعده ، أو جزما بأن لا يبعث من بعده رسول مع الشك في رسالته ، وقرئ «ألن يبعث الله» على أن بعضهم يقرر بعضا بنفي البعث. (كَذلِكَ) مثل ذلك الضلال. (يُضِلُّ اللهُ) في العصيان. (مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتابٌ) شاك فيما تشهد به البينات لغلبة الوهم والانهماك في التقليد.

(الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ)(٣٥)

(الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللهِ) بدل من الموصول الأول لأنه بمعنى الجمع. (بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ) بغير حجة بل إما بتقليد أو بشبهة داحضة. (كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا) فيه ضمير من وإفراده للفظ ، ويجوز أن يكون (الَّذِينَ) مبتدأ وخبره (كَبُرَ) على حذف مضاف أي : وجدال الذين يجادلون كبر مقتا أو بغير سلطان وفاعل (كَبُرَ كَذلِكَ) أي كبر مقتا مثل ذلك الجدال فيكون قوله : (يَطْبَعُ اللهُ عَلى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ) استئنافا للدلالة على الموجب لجدالهم. وقرأ أبو عمرو وابن ذكوان قلب بالتنوين على وصفه بالتكبر والتجبر لأنه منبعهما كقولهم : رأت عيني وسمعت أذني ، أو على حذف مضاف أي على كل ذي قلب متكبر.

(وَقالَ فِرْعَوْنُ يا هامانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ (٣٦) أَسْبابَ السَّماواتِ فَأَطَّلِعَ إِلى إِلهِ مُوسى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كاذِباً وَكَذلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَما كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلاَّ فِي تَبابٍ)(٣٧).

٥٧

(وَقالَ فِرْعَوْنُ يا هامانُ ابْنِ لِي صَرْحاً) بناء مكشوفا عاليا من صرح الشيء إذا ظهر. (لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ) الطرق.

(أَسْبابَ السَّماواتِ) بيان لها وفي إبهامها ثم إيضاحها تفخيم لشأنها وتشويق للسامع إلى معرفتها.(فَأَطَّلِعَ إِلى إِلهِ مُوسى) عطف على (أَبْلُغُ). وقرأ حفص بالنصب على جواب الترجي ولعله أراد أن يبني له رصدا في موضع عال يرصد منه أحوال الكواكب التي هي أسباب سماوية تدل على الحوادث الأرضية ، فيرى هل فيها ما يدل على إرسال الله إياه ، أو أن يرى فساد قول موسى بأن أخباره من إله السماء يتوقف على اطلاعه ووصوله إليه ، وذلك لا يتأتى إلا بالصعود إلى السماء وهو مما لا يقوى عليه الإنسان ، وذلك لجهله بالله وكيفية استنبائه. (وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كاذِباً) في دعوى الرسالة. (وَكَذلِكَ) ومثل التزيين ، (زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ) سبيل الرشاد ، والفاعل على الحقيقة هو الله تعالى ويدل عليه أنه قرئ زين بالفتح وبالتوسط الشيطان. وقرأ الحجازيان والشامي وأبو عمرو (وَصُدَّ) على أن فرعون صد الناس عن الهدى بأمثال هذه التمويهات والشبهات ويؤيده : (وَما كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبابٍ) أي خسار.

(وَقالَ الَّذِي آمَنَ يا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشادِ (٣٨) يا قَوْمِ إِنَّما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا مَتاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دارُ الْقَرارِ) (٣٩)

(وَقالَ الَّذِي آمَنَ) يعني مؤمن آل فرعون. وقيل موسى عليه الصلاة والسلام. (يا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ) بالدلالة. (سَبِيلَ الرَّشادِ) سبيلا يصل سالكه إلى المقصود ، وفيه تعريض بأن ما عليه فرعون وقومه سبيل الغي.

(يا قَوْمِ إِنَّما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا مَتاعٌ) تمتع يسير لسرعة زوالها. (وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دارُ الْقَرارِ) لخلودها.

(مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزى إِلاَّ مِثْلَها وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيها بِغَيْرِ حِسابٍ)(٤٠)

(مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها) عدلا من الله ، وفيه دليل على أن الجنايات تغرم بمثلها. (وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيها بِغَيْرِ حِسابٍ) بغير تقدير وموازنة بالعمل بل أضعافا مضاعفة فضلا منه ورحمة ، ولعل تقسيم العمال وجعل الجزاء جملة اسمية مصدرة باسم الإشارة ، وتفضيل الثواب لتغليب الرحمة ، وجعل العمل عمدة والإيمان حالا للدلالة على أنه شرط في اعتبار العمل وأن ثوابه أعلى من ذلك.

(وَيا قَوْمِ ما لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ (٤١) تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللهِ وَأُشْرِكَ بِهِ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ)(٤٢)

(وَيا قَوْمِ ما لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ) كرر نداءهم إيقاظا لهم عن سنة الغفلة واهتماما بالمنادي له ، ومبالغة في توبيخهم على ما يقابلون به نصحه ، وعطفه على النداء الثاني الداخل على ما هو بيان لما قبله ولذلك لم يعطف على الأول ، فإن ما بعده أيضا تفسير لما أجمل فيه تصريحا أو تعريضا أو على الأول.

(تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللهِ) بدل أو بيان فيه تعليل والدعاء كالهداية في التعدية بإلى واللام. (وَأُشْرِكَ بِهِ ما لَيْسَ لِي بِهِ) بربوبيته. (عِلْمٌ) والمراد نفي المعلوم والإشعار بأن الألوهية لا بد لها من برهان فاعتقادها لا

٥٨

يصح إلا عن إيقان. (وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ) المستجمع لصفات الألوهية من كمال القدرة والغلبة وما يتوقف عليه من العلم والإرادة ، والتمكن من المجازاة والقدرة على التعذيب والغفران.

(لا جَرَمَ أَنَّما تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيا وَلا فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنا إِلَى اللهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحابُ النَّارِ (٤٣) فَسَتَذْكُرُونَ ما أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللهِ إِنَّ اللهَ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ) (٤٤)

(لا جَرَمَ) لا رد لما دعوه إليه ، و (جَرَمَ) فعل بمعنى حق وفاعله : (أَنَّما تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيا وَلا فِي الْآخِرَةِ) أي حق عدم دعوة آلهتكم إلى عبادتها أصلا لأنها جمادات ليس لها ما يقتضي ألوهيتها أو عدم دعوة مستجابة أو عدم استجابة دعوة لها. وقيل (جَرَمَ) بمعنى كسب وفاعله مستكن فيه أي كسب ذلك الدعاء إليه أن لا دعوة له بمعنى ما حصل من ذلك إلا ظهور بطلان دعوته ، وقيل فعل من الجرم بمعنى القطع كما أن بدا من لا بد فعل من التبديد وهو التفريق ، والمعنى لا قطع لبطلان دعوة ألوهية الأصنام أي لا ينقطع في وقت ما فتنقلب حقا ، ويؤيده قولهم لا جرم أنه يفعل لغة فيه كالرشد والرشد. (وَأَنَّ مَرَدَّنا إِلَى اللهِ) بالموت. (وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ) في الضلالة والطغيان كالإشراك وسفك الدماء. (هُمْ أَصْحابُ النَّارِ) ملازموها.

(فَسَتَذْكُرُونَ) وقرئ «فستذكرون» أي فسيذكر بعضكم بعضا عند معاينة العذاب. (ما أَقُولُ لَكُمْ) من النصيحة. (وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللهِ) ليعصمني من كل سوء. (إِنَّ اللهَ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ) فيحرسهم وكأنه جواب توعدهم المفهوم من قوله :

(فَوَقاهُ اللهُ سَيِّئاتِ ما مَكَرُوا وَحاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذابِ (٤٥) النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ)(٤٦)

(فَوَقاهُ اللهُ سَيِّئاتِ ما مَكَرُوا) شدائد مكرهم. وقيل الضمير لموسى عليه الصلاة والسلام. (وَحاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ) بفرعون وقومه فاستغنى بذكرهم عن ذكره للعلم بأنه أولى بذلك. وقيل بطلبة المؤمن من قومه فإنه فر إلى جبل فاتبعه طائفة فوجدوه يصلي والوحوش حوله صفوفا فرجعوا رعبا فقتلهم. (سُوءُ الْعَذابِ) الغرق أو القتل أو النار.

(النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا) جملة مستأنفة أو (النَّارُ) خبر محذوف و (يُعْرَضُونَ) استئناف للبيان ، أو بدل و (يُعْرَضُونَ) حال منها ، أو من الآل وقرئت منصوبة على الاختصاص أو بإضمار فعل يفسره (يُعْرَضُونَ) مثل يصلون ، فإن عرضهم على النار إحراقهم بها من قولهم : عرض الأسارى على السيف إذا قتلوا به ، وذلك لأرواحهم كما روى ابن مسعود أن أرواحهم في أجواف طيور سود تعرض على النار بكرة وعشيا إلى يوم القيامة ، وذكر الوقتين تحتمل التخصيص والتأبيد ، وفيه دليل على بقاء النفس وعذاب القبر. (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ) أي هذا ما دامت الدنيا فإذا قامت الساعة قيل لهم : (أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ) يا آل فرعون. (أَشَدَّ الْعَذابِ) عذاب جهنم فإنه أشد مما كانوا فيه ، أو أشد عذاب جهنم. وقرأ حمزة والكسائي ونافع ويعقوب وحفص (أَدْخِلُوا) على أمر الملائكة بإدخالهم النار.

(وَإِذْ يَتَحاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ

٥٩

عَنَّا نَصِيباً مِنَ النَّارِ (٤٧) قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيها إِنَّ اللهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبادِ)(٤٨)

(وَإِذْ يَتَحاجُّونَ فِي النَّارِ) واذكر وقت تخاصمهم فيها ويحتمل العطف على غدوّا. (فَيَقُولُ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا) تفصيل له. (إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً) تباعا كخدم في جمع خادم أو ذوي تبع بمعنى أتباع على الإضمار أو التجوز. (فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً مِنَ النَّارِ) بالدفع أو الحمل ، و (نَصِيباً) مفعول به لما دل عليه (مُغْنُونَ) أوله بالتضمين أو مصدر كشيئا في قوله : (لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً). فيكون من صلة ل (مُغْنُونَ).

(قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيها) نحن وأنتم فكيف نغني عنكم ولو قدرنا لأغنينا عن أنفسنا ، وقرئ «كلّا» على التأكيد لأنه بمعنى كلنا وتنوينه عوض عن المضاف إليه ، ولا يجوز جعله حالا من المستكن في الظرف فإنه لا يعمل في الحال المتقدمة كما يعمل في الظرف المتقدم كقولك كل يوم لك ثوب. (إِنَّ اللهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبادِ) بأن أدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار ، و (لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ).

(وَقالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِنَ الْعَذابِ (٤٩) قالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا بَلى قالُوا فَادْعُوا وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ)(٥٠)

(وَقالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ) أي لخزنتها ، ووضع (جَهَنَّمَ) موضع الضمير للتهويل أو لبيان محلهم فيها ، إذ يحتمل أن تكون (جَهَنَّمَ) أبعد دركاتها من قولهم : بئر جهنام بعيدة القعر. (ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً) قدر يوم. (مِنَ الْعَذابِ) شيئا من العذاب ، ويجوز أن يكون المفعول «يوما» بحذف المضاف و (مِنَ الْعَذابِ) بيانه.

(قالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّناتِ) أرادوا به إلزامهم للحجة وتوبيخهم على إضاعتهم أوقات الدعاء وتعطيلهم أسباب الإجابة. (قالُوا بَلى قالُوا فَادْعُوا) فإنا لا نجترئ فيه إذ لم يؤذن لنا في الدعاء لأمثالكم ، وفيه إقناط لهم عن الإجابة. (وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ) ضياع لا يجاب ، وفيه إقناط لهم عن الإجابة.

(إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ (٥١) يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ)(٥٢)

(إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا) بالحجة والظفر والانتقام لهم من الكفرة. (فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ) أي في الدارين ولا ينتقض ذلك بما كان لأعدائهم عليهم من الغلبة أحيانا إذ العبرة بالعواقب وغالب الأمر ، و (الْأَشْهادُ) جمع شاهد كصاحب وأصحاب ، والمراد بهم من يقوم يوم القيامة الشهادة على الناس من الملائكة والأنبياء والمؤمنين.

(يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ) بدل من الأول وعدم نفع المعذرة لأنها باطلة ، أو لأنه لم يؤذن لهم فيعتذروا. وقرأ غير الكوفيين ونافع بالتاء. (وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ) البعد عن الرحمة. (وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ) جهنم.

(وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْهُدى وَأَوْرَثْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ (٥٣) هُدىً وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ) (٥٤)

٦٠