أنوار التنزيل وأسرار التأويل - ج ٥

عبدالله بن عمر بن محمد الشيرازي الشافعي البيضاوي

أنوار التنزيل وأسرار التأويل - ج ٥

المؤلف:

عبدالله بن عمر بن محمد الشيرازي الشافعي البيضاوي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٥٧

(١٠٧) سورة الماعون

مختلف فيها ، وآيها سبع آيات

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (١) فَذلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ (٢) وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ)(٣)

(أَرَأَيْتَ) استفهام معناه التعجب ، وقرئ «أريت» بلا همز إلحاقا بالمضارع ، ولعل تصديرها بحرف الاستفهام سهل أمرها و «أرأيتك» بزيادة الكاف. (الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ) بالجزاء أو الإسلام والذي يحتمل الجنس والعهد ويؤيد الثاني قوله :

(فَذلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ) يدفعه دفعا عنيفا ؛ وهو أبو جهل كان وصيا ليتيم فجاءه عريانا يسأله من مال نفسه فدفعه ، أو أبو سفيان نحر جزورا فسأله يتيم لحما فقرعه بعصاه ، أو الوليد بن المغيرة ، أو منافق بخيل.

وقرئ «يدع» أي يترك.

(وَلا يَحُضُ) أهله وغيرهم. (عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ) لعدم اعتقاده بالجزاء ولذلك رتب الجملة على (يُكَذِّبُ) بالفاء.

(فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (٤) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ (٥) الَّذِينَ هُمْ يُراؤُنَ (٦) وَيَمْنَعُونَ الْماعُونَ)(٧)

(فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ) أي غافلون غير مبالين بها.

(الَّذِينَ هُمْ يُراؤُنَ) يرون الناس أعمالهم ليروهم الثناء عليهم.

(وَيَمْنَعُونَ الْماعُونَ) الزكاة أو ما يتعاور في العادة والفاء جزائية. والمعنى إذا كان عدم المبالاة باليتيم من ضعف الدين والموجب للذم والتوبيخ فالسهو عن الصلاة التي هي عماد الدين والرياء الذي هو شعبة من الكفر ، ومنع الزكاة التي هي قنطرة الإسلام أحق بذلك ولذلك رتب عليها الويل ، أو للسببية على معنى (فَوَيْلٌ) لهم ، وإنما وضع المصلين موضع الضمير للدلالة على سوء معاملتهم مع الخالق والخلق.

عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «من قرأ سورة (أَرَأَيْتَ) غفر له إن كان للزكاة مؤديا».

٣٤١

(١٠٨) سورة الكوثر

مكية ، وآيها ثلاث آيات

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ (١) فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (٢) إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ)(٣)

(إِنَّا أَعْطَيْناكَ) وقرئ «أنطيناك». (الْكَوْثَرَ) الخير المفرط الكثرة من العلم والعمل وشرف الدارين. وروي عنه عليه الصلاة والسلام «أنه نهر في الجنة وعدنيه ربي فيه خير كثير أحلى من العسل وأبيض من اللبن وأبرد من الثلج وألين من الزبد ، حافتاه الزبرجد وأوانيه من فضة لا يظمأ من شرب منه» ، وقيل حوض فيها ، وقيل أولاده وأتباعه ، أو علماء أمته أو القرآن العظيم.

(فَصَلِّ لِرَبِّكَ) فدم على الصلاة خالصا لوجه الله خلاف الساهي عنها المرائي فيها شكرا لأنعامه ، فإن الصلاة جامعة لأقسام الشكر. (وَانْحَرْ) البدن التي هي خيار أموال العرب وتصدق على المحاويج خلافا لمن يدعهم ويمنع عنهم الماعون ، فالسورة كالمقابلة للسورة المتقدمة وقد فسرت الصلاة بصلاة العيد والنحر بالتضحية.

(إِنَّ شانِئَكَ) إن من أبغضك لبغضه الله. (هُوَ الْأَبْتَرُ) الذي لا عقب له إذ لا يبقى له نسل ولا حسن ذكر ، وأما أنت فتبقى ذريتك وحسن صيتك وآثار فضلك إلى يوم القيامة ، ولك في الآخرة ما لا يدخل تحت الوصف.

عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «من قرأ سورة الكوثر سقاه الله من كل نهر له في الجنة ، ويكتب له عشر حسنات بعدد كل قربان قربه العباد في يوم النحر العظيم».

٣٤٢

(١٠٩) سورة الكافرون

مكية ، وآيها ست آيات

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ (١) لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ (٢) وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ)(٣)

(قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ) يعني كفرة مخصوصين قد علم الله منهم أنهم لا يؤمنون. روي أن رهطا من قريش قالوا يا محمد تعبد آلهتنا سنة ونعبد إلهك سنة فنزلت.

(لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ) أي فيما يستقبل فإن (لا) تدخل إلا على مضارع بمعنى الاستقبال كما أن (ما) لا تدخل إلا على مضارع بمعنى الحال.

(وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ) أي فيما يستقبل لأنه في قران (لا أَعْبُدُ).

(وَلا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ (٤) وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ (٥) لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ)(٦)

(وَلا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ) أي في الحال أو فيما سلف.

(وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ) أي وما عبدتم في وقت ما أنا عابده ، ويجوز أن يكونا تأكيدين على طريقة أبلغ وإنما لم يقل ما عبدت ليطابق (ما عَبَدْتُّمْ) لأنهم كانوا موسومين قبل المبعث بعبادة الأصنام ، وهو لم يكن حينئذ موسوما بعبادة الله ، وإنما قال (ما) دون من لأن المراد الصفة كأنه قال : لا أعبد الباطل ولا تعبدون الحق أو للمطابقة. وقيل إنها مصدرية وقيل الأوليان بمعنى الذي والأخريان مصدريتان.

(لَكُمْ دِينُكُمْ) الذي أنتم عليه لا تتركونه. (وَلِيَ دِينِ) ديني الذي أنا عليه لا أرفضه ، فليس فيه إذن في الكفر ولا منع عن الجهاد ليكون منسوخا بآية القتال ، اللهم إلا إذا فسر بالمتاركة وتقرير كل من الفريقين الآخر على دينه ، وقد فسر ال (دِينِ) بالحساب والجزاء والدعاء والعبادة.

عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «من قرأ سورة الكافرون فكأنما قرأ ربع القرآن وتباعدت عنه مردة الشياطين وبرىء من الشرك».

٣٤٣

(١١٠) سورة النصر

مدينة ، وآيها ثلاث آيات

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(إِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ (١) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللهِ أَفْواجاً)(٢)

(إِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ) إظهاره إياك على أعدائك. (وَالْفَتْحُ) وفتح مكة ، وقيل المراد جنس نصر الله المؤمنين وفتح مكة وسائر البلاد عليهم ، وإنما عبر عن الحصول بالمجيء تجوزا للإشعار بأن المقدرات متوجهة من الأزل إلى أوقاتها المعينة لها فتقرب منها شيئا فشيئا ، وقد قرب النصر من وقته فكن مترقبا لوروده مستعدا لشكره.

(وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللهِ أَفْواجاً) جماعات كثيفة كأهل مكة والطائف واليمن وهوازن وسائر قبائل العرب ، و (يَدْخُلُونَ) حال على أن (رَأَيْتَ) بمعنى أبصرت أو مفعول ثان على أنه بمعنى علمت.

(فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً)(٣)

(فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ) فتعجب لتيسير الله ما لم يخطر ببال أحد حامدا له عليه ، أو فصل له حامدا على نعمه. «روي أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما دخل مكة بدأ بالمسجد فدخل الكعبة وصلّى ثمان ركعات» أو فنزهه تعالى عما كانت الظلمة يقولون فيه حامدا له على أن صدق وعده ، أو فأثن على الله بصفات الجلال حامدا له على صفات الإكرام. (وَاسْتَغْفِرْهُ) هضما لنفسك واستقصارا لعملك واستدراكا لما فرط منك من الالتفات إلى غيره. وعنه عليه الصلاة والسلام «إني لأستغفر الله في اليوم والليلة مائة مرة». وقيل استغفره لأمتك ، وتقديم التسبيح على الحمد ثم الحمد على الاستغفار على طريق النزول من الخالق إلى الخلق. كما قيل ما رأيت شيئا إلا ورأيت الله قبله. (إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً) لمن استغفره مذ خلق المكلفين ، والأكثر على أن السورة نزلت قبل فتح مكة ، وأنه نعي لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأنه لما قرأها بكى العباس ، فقال عليه الصلاة والسلام ما يبكيك ، فقال : نعيت إليك نفسك ، فقال «إنها لكما تقول» ، ولعل ذلك لدلالتها على تمام الدعوة وكمال أمر الدين فهي كقوله : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) أو لأن الأمر باستغفار تنبيه على دنو الأجل ، ولهذا سميت سورة التوديع.

وعنه عليه الصلاة والسلام «من قرأ سورة (إِذا جاءَ) أعطي من الأجر كمن شهد مع محمد عليه الصلاة والسلام يوم فتح مكة شرفها الله تعالى».

٣٤٤

(١١١) سورة تبت

مكية ، وآيها خمس آيات

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ)(١)

(تَبَّتْ) هلكت أو خسرت والتباب خسران يؤدي إلى الهلاك. (يَدا أَبِي لَهَبٍ) نفسه كقوله : (وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) وقيل إنما خصتا لأنه عليه الصلاة والسلام لما نزل عليه (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) جمع أقاربه فأنذرهم فقال أبو لهب : تبا لك ألهذا دعوتنا ، وأخذ حجرا ليرميه به فنزلت. وقيل المراد بهما دنياه وأخراه ، وإنما كناه والتكنية تكرمة لاشتهاره بكنيته ولأن اسمه عبد العزى فاستكره ذكره ، ولأنه لما كان من أصحاب النار كانت الكنية أوفق بحاله ، أو ليجانس قوله : (ذاتَ لَهَبٍ) وقرئ «أبو لهب» كما قيل علي بن أبو طالب. (وَتَبَ) إخبار بعد دعاء والتعبير بالماضي لتحقق وقوعه كقوله :

جزاني جزاه الله شرّ جزائه

جزاء الكلاب العاويات وقد فعل

ويدل عليه أنه قرئ «وقد تب» أو الأول إخبار عما كسبت يداه والثاني عن عمل نفسه.

(ما أَغْنى عَنْهُ مالُهُ وَما كَسَبَ (٢) سَيَصْلى ناراً ذاتَ لَهَبٍ)(٣)

(ما أَغْنى عَنْهُ مالُهُ) نفي لإغناء المال عنه حين نزل به التباب أو استفهام إنكار له ومحلها النصب. (وَما كَسَبَ) وكسبه أو مكسوبه بماله من النتائج والأرباح والوجاهة والإتباع ، أو عمله الذي ظن أنه ينفعه أو ولده عتبة ، وقد افترسه أسد في طريق الشام وقد أحدق به العير ومات أبو لهب بالعدسة بعد وقعة بدر بأيام معدودة ، وترك ثلاثا حتى أنتن ثم استأجروا بعض السودان حتى دفنوه ، فهو إخبار عن الغيب طابقه وقوعه.

(سَيَصْلى ناراً ذاتَ لَهَبٍ) اشتعال يريد نار جهنم ، وليس فيه ما يدل على أنه لا يؤمن لجواز أن يكون صليها للفسق ، وقرئ «سيصلى» بالضم مخففا و «سيصلى» مشددا.

(وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ (٤) فِي جِيدِها حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ)(٥)

(وَامْرَأَتُهُ) عطف على المستتر في (سَيَصْلى) أو مبتدأ وهي أم جميل أخت أبي سفيان. (حَمَّالَةَ الْحَطَبِ) يعني حطب جهنم فإنها كانت تحمل الأوزار بمعاداة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتحمل زوجها على إيذائه ، أو النميمة فإنها كانت توقد نار الخصومة ، أو حزمة الشوك أو الحسك ، فإنها كانت تحملها فتنثرها بالليل في طريق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقرأ عاصم بالنصب على الشتم.

(فِي جِيدِها حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ) أي ممّا مسّد أي فتل ، ومنه رجل ممسود الخلق أي مجدوله ، وهو ترشيح للمجاز أو تصوير لها بصورة الحطابة التي تحمل الحزمة وتربطها في جيدها تحقيرا لشأنها ، أو بيانا لحالها في

٣٤٥

نار جهنم حيث يكون على ظهرها حزمة من حطب جهنم كالزقوم والضريع ، وفي جيدها سلسلة من النار ، والظرف في موضع الحال أو الخبر وحبل مرتفع به.

عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «من قرأ سورة تبت رجوت أن لا يجمع الله بينه وبين أبي لهب في دار واحدة».

٣٤٦

(١١٢) سورة الإخلاص

مختلف فيها ، وآيها أربع آيات

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ (١) اللهُ الصَّمَدُ)(٢)

(قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) الضمير للشأن كقولك : هو زيد منطلق وارتفاعه بالابتداء وخبره الجملة ولا حاجة إلى العائد لأنها هي هو ، أو لما سئل عنه أي الذي سألتموني عنه هو الله ، إذ روي أن قريشا قالوا : يا محمد صف لنا ربك الذي تدعونا إليه فنزلت. وأحد بدل أو خبر ثان يدل على مجامع صفات الجلال كما دل الله على جميع صفات الكمال إذ الواحد الحقيقي ما يكون منزه الذات عن أنحاء التركيب والتعدد ، وما يستلزم أحدهما كالجسمية والتحيز والمشاركة في الحقيقة وخواصها كوجوب الوجود والقدرة الذاتية والحكمة التامة المقتضية للألوهية وقرئ «هو الله» بلا قل مع الاتفاق على أنه لا بد منه في (قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ) ، ولا يجوز في «تبت» ، ولعل ذاك لأن سورة «الكافرون» مشاقة الرسول أو موادعته لهم و «تبت» معاتبة عمه فلا يناسب أن تكون منه ، وأما هذا فتوحيد يقول به تارة ويؤمر بأن يدعو إليه أخرى.

(اللهُ الصَّمَدُ) السيد المصمود إليه في الحوائج من صمد إليه إذا قصد ، وهو الموصوف به على الإطلاق فإنه يستغني عن غيره مطلقا ، وكل ما عداه محتاج إليه في جميع جهاته ، وتعريفه لعلمهم بصمديته بخلاف أحديته وتكرير لفظة الله للإشعار بأن من لم يتصف به لم يستحق الألوهية ، وإخلاء الجملة عن العاطف لأنها كالنتيجة للأولى أو الدليل عليها.

(لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (٣) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ)(٤)

(لَمْ يَلِدْ) لأنه لم يجانس ولم يفتقر إلى ما يعينه أو يخلف عنه لامتناع الحاجة والفناء عليه ، ولعل الاقتصار على لفظ الماضي لوروده ردا على من قال الملائكة بنات الله ، أو المسيح ابن الله أو ليطابق قوله : (وَلَمْ يُولَدْ) وذلك لأنه لا يفتقر إلى شيء ولا يسبقه عدم.

(وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ) أي ولم يكن أحد يكافئه أو يماثله من صاحبة أو غيرها ، وكان أصله أن يؤخر الظرف لأنه صلة (كُفُواً) لكن لما كان المقصود نفي المكافأة عن ذاته تعالى قدم تقديما للأهم ، ويجوز أن يكون خالا من المستكن في (كُفُواً) أو خبرا ، ويكون (كُفُواً) حالا من (أَحَدٌ) ، ولعل ربط الجمل الثلاث بالعطف لأن المراد منها نفي أقسام الأمثال فهي كجملة واحدة منبهة عليها بالجمل ، وقرأ حمزة ويعقوب ونافع في رواية كفؤا بالتخفيف ، وحفص (كُفُواً) بالحركة وقلب الهمزة واوا ، ولاشتمال هذه السورة مع قصرها على جميع المعارف الإلهية والرد على من ألحد فيها ، جاء في الحديث أنها تعدل ثلث القرآن. فإن مقاصده محصورة في بيان العقائد والأحكام والقصص ومن عدلها بكله اعتبر المقصود بالذات من ذلك.

وعنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أنه سمع رجلا يقرؤها فقال : «وجبت» قيل : يا رسول الله وما وجبت قال : «وجبت له الجنة».

٣٤٧

(١١٣) سورة الفلق

مختلف فيها ، وآيها خمس آيات

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (١) مِنْ شَرِّ ما خَلَقَ)(٢)

(قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ) ما يفلق عنه أي يفرق كالفرق فعل بمعنى مفعول ، وهو يعم جميع الممكنات ، فإنه تعالى فلق ظلمة العدم بنور الإيجاد عنها ، سيما ما يخرج من أصل كالعيون والأمطار والنبات والأولاد ، ويختص عرفا بالصبح ولذلك فسر به. وتخصيصه لما فيه من تغير الحال وتبدل وحشة الليل بسرور النور ومحاكاة فاتحة يوم القيامة ، والإشعار بأن من قدر أن يزيل به ظلمة الليل عن هذا العالم قدر أن يزيل عن العائذ به ما يخافه ، ولفظ الرب هنا أوقع من سائر أسمائه تعالى لأن الإعاذة من المضار تربية.

(مِنْ شَرِّ ما خَلَقَ) خص عالم الخلق بالاستعاذة عنه لانحصار الشر فيه ، فإن عالم الأمر خير كله ، وشره اختياري لازم ومتعد كالكفر والظلم ، وطبيعي كإحراق النار وإهلاك السموم.

(وَمِنْ شَرِّ غاسِقٍ إِذا وَقَبَ (٣) وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثاتِ فِي الْعُقَدِ)(٤)

(وَمِنْ شَرِّ غاسِقٍ) ليل عظيم ظلامه من قوله : (إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ) وأصله الامتلاء يقال غسقت العين إذا امتلأت دمعا. وقيل السيلان و (غَسَقِ اللَّيْلِ) انصباب ظلامه وغسق العين سيلان دمعه. (إِذا وَقَبَ) دخل ظلامه في كل شيء ، وتخصيصه لأن المضار فيه تكثر ويعسر الدفع ، ولذلك قيل الليل أخفى للويل. وقيل المراد به القمر فإنه يكسف فيغسق ووقوبه دخوله في الكسوف.

(وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثاتِ فِي الْعُقَدِ) ومن شر النفوس أو النساء السواحر اللاتي يعقدن عقدا في خيوط وينفثن عليها ، والنفث النفخ مع ريق وتخصيصه : لما روي أن يهوديا سحر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في إحدى عشرة عقدة في وتر دسه في بئر ، فمرض النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ونزلت المعوذتان ، وأخبره جبريل عليه الصلاة والسلام بموضع السحر فأرسل عليا رضي الله تعالى عنه فجاء به فقرأهما عليه ، فكان كلما قرأ آية انحلت عقدة ووجد بعض الخفة ، ولا يوجب ذلك صدق الكفرة في أنه مسحور ، لأنهم أرادوا به أنه مجنون بواسطة السحر. وقيل المراد بالنفث في العقد إبطال عزائم الرجال بالحيل مستعار من تليين العقد بنفث الريق ليسهل حلها وإفرادها بالتعريف لأن كل نفاثة شريرة بخلاف كل غاسق وحاسد.

(وَمِنْ شَرِّ حاسِدٍ إِذا حَسَدَ)(٥)

(وَمِنْ شَرِّ حاسِدٍ إِذا حَسَدَ) إذا أظهر حسده وعمل بمقتضاه ، فإنه لا يعود ضرر منه قبل ذلك إلى المحسود بل يخص به لاغتمامه بسروره ، وتخصيصه لأنه العمدة في إضرار الإنسان بل الحيوان غيره ، ويجوز أن يراد بال (غاسِقٍ) ما يخلو عن النور وما يضاهيه كالقوى وب (النَّفَّاثاتِ) النباتات ، فإن قواها النباتية من

٣٤٨

حيث إنها تزيد في طولها وعرضها وعمقها كأنها تنفث في العقد الثلاثة ، وبال (حاسِدٍ) الحيوان فإنه إنما يقصد غيره غالبا طمعا فيما عنده ، ولعل إفرادها من عالم الخلق لأنها الأسباب القريبة للمضرة.

عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «لقد أنزلت عليّ سورتان ما أنزل مثلهما وإنك لن تقرأ سورتين أحب ولا أرضى عند الله منهما يعني المعوذتين».

٣٤٩

(١١٤) سورة الناس

مختلف فيها ، وآيها ست آيات

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (١) مَلِكِ النَّاسِ (٢) إِلهِ النَّاسِ)(٣)

(قُلْ أَعُوذُ) وقرئ في السورتين بحذف الهمزة ونقل حركتهما إلى اللام. (بِرَبِّ النَّاسِ) لما كانت الاستعاذة في السورة المتقدمة من المضار البدنية وهي تعم الإنسان وغيره والاستعاذة في هذه السورة من الاضرار التي تعرض للنفوس البشرية وتخصها ، عمم الإضافة ثمّ وخصصها بالناس ها هنا فكأنه قيل : أعوذ من شر الموسوس إلى الناس بربهم الذي يملك أمورهم ويستحق عبادتهم.

(مَلِكِ النَّاسِ إِلهِ النَّاسِ) عطفا بيان له فإن الرب قد لا يكون ملكا والملك قد لا يكون إلها ، وفي هذا النظم دلالة على أنه حقيق بالإعادة قادر عليها غير ممنوع عنها وإشعار على مراتب الناظر في المعارف فإنه يعلم أولا بما عليه من النعم الظاهرة والباطنة أن له ربا ، ثم يتغلغل في النظر حتى يتحقق أنه غني عن الكل وذات كل شيء له ومصارف أمره منه ، فهو الملك الحق ثم يستدل به على أنه المستحق للعبادة لا غير ، وتدرج وجوه الاستعاذة كما يتدرج في الاستعاذة المعتادة ، تنزيلا لاختلاف الصفات منزلة اختلاف الذات إشعارا بعظم الآفة المستعاذ منها ، وتكرير (النَّاسِ) لما في الإظهار من مزيد البيان ، والإشعار بشرف الإنسان.

(مِنْ شَرِّ الْوَسْواسِ الْخَنَّاسِ (٤) الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ (٥) مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ) (٦)

(مِنْ شَرِّ الْوَسْواسِ) أي الوسوسة كالزلزال بمعنى الزلزلة ، وأما المصدر فبالكسر كالزلزال ، والمراد به الموسوس وسمي بفعله مبالغة. (الْخَنَّاسِ) الذي عادته أن يخنس أي يتأخر إذا ذكر الإنسان ربه.

(الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ) إذا غفلوا عن ذكر ربهم ، وذلك كالقوة الوهمية ، فإنها تساعد العقل في المقدمات ، فإذا آل الأمر إلى النتيجة خنست وأخذت توسوسه وتشككه ، ومحل (الَّذِي) الجر على الصفة أو النصب أو الرفع على الذم.

(مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ) بيان ل (الْوَسْواسِ) ، أو للذي أو متعلق ب (يُوَسْوِسُ) أي يوسوس في صدورهم من جهة الجنّة والناس. وقيل بيان ل (النَّاسِ) على أن المراد به ما يعم الثقلين ، وفيه تعسف إلا أن يراد به الناسي كقوله تعالى : (يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ) فإن نسيان حق الله تعالى يعم الثقلين.

عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «من قرأ المعوذتين فكأنما قرأ الكتب التي أنزلها الله تبارك وتعالى».

قال المصنف رحمه‌الله تعالى : وقد اتفق إتمام تعليق سواد هذا الكتاب المنطوي على فرائد فوائد ذوي الألباب ، المشتمل على خلاصة أقوال أكابر الأئمة وصفوة آراء أعلام الأمة ، في تفسير القرآن وتحقيق معانيه ، والكشف عن عويصات ألفاظه ومعجزات مبانيه ، مع الإيجاز الخالي عن الإخلال ، والتلخيص العاري عن

٣٥٠

الإضلال ، الموسوم بأنوار التنزيل وأسرار التأويل ، وأسأل الله تعالى أن يتمم نفعه للطلاب ، ولا يخلي سعي من يتعب فيه من الأجر والثواب ، ويختم كل خاتمة امرئ يؤمه بتمحيص عن الآثام ويبلغني أعلى منازل دار السلام ، في جوار العليين من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين ، وحسن أولئك رفيقا وهو سبحانه حقيق بأن يحقق رجاء الراجين تحقيقا ، والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على خير خلقه محمد وآله وصحبه الطيبين الطاهرين وأتباعهم أجمعين.

٣٥١
٣٥٢

محتوى الجزء الخامس من تفسير البيضاوي

تفسير سورة الصافات............................................................. ٥

بيان معنى الشهاب وأنه رجوم للشياطين............................................. ٦

بيان الذبيح وأنه إسماعيل ورد ما استدل به من قال إنه إسحاق........................ ١٥

تفسير سورة ص................................................................ ٢٣

بيان ما اشتملت عليه محاكمة الخصمين بين يدي سيدنا داود........................ ٢٧

بيان ما فتن به سيدنا سليمان والجسد الذي ألقي على كرسيّه......................... ٢٩

تفسير سورة الزمر............................................................... ٣٦

بيان ما فعله خالد بن الوليد بالعزّى............................................... ٤٣

بيان ما فسر به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم المقاليد............................................. ٤٧

بيان أن العدل نور والظّلم ظلمات................................................ ٤٩

تفسير سورة المؤمن (غافر)....................................................... ٥١

بيان استغفار الملائكة للمؤمنين................................................... ٥٢

بيان مؤمن آل فرعون............................................................ ٥٦

بيان عدد الأنبياء............................................................... ٦٤

تفسير سورة السجدة (فصلت)................................................... ٦٦

بيان موضع السجود في السورة عند الأئمة......................................... ٧٢

تفسير سورة حم عسق (الشورى)................................................. ٧٦

بيان الدين المشترك بين الأنبياء................................................... ٧٨

بيان القربى الذين تجب مودّتهم................................................... ٨٠

تفسير سورة الزخرف............................................................ ٨٦

بيان الرجلين اللذين كانت قريش تجلهما وتقول لو لا انزل القرآن على أحدهما........... ٩٠

تفسير سورة الدخان............................................................. ٩٩

تفسير سورة الجاثية............................................................ ١٠٥

تفسير سورة الأحقاف......................................................... ١١١

بيان مساكن عاد............................................................. ١١٥

بيان وقت سماع الجن القرآن من رسول الله........................................ ١١٦

تفسير سورة القتال (محمد)..................................................... ١١٩

بيان ما يسوغ للإمام فعله مع الأسير............................................. ١٢٠

٣٥٣

تفسير سورة الفتح............................................................. ١٢٦

بيان أسباب المبايعة تحت الشجرة................................................. ٢٩

بيان دلالة القرآن على صحة بيعة أبي بكر رضي الله عنه........................... ١٢٩

تفسير سورة الحجرات.......................................................... ١٣٣

بيان بعث الوليد بن عقبة إلى بني المصطلق وكذبه عليهم............................ ١٣٤

بيان الشعوب والقبائل والبطون والأفخاذ......................................... ١٣٧

تفسير سورة ق............................................................... ١٣٩

تفسير سورة الذاريات.......................................................... ١٤٦

تفسير سورة الطور............................................................. ١٥٢

تفسير سورة النجم............................................................ ١٥٧

بيان الأصنام التي كانت للعرب وأسباب اتخاذها................................... ١٥٩

تفسير سورة القمر............................................................. ١٦٤

تفسير سورة الرحمن............................................................ ١٧٠

تفسير سورة الواقعة............................................................ ١٧٧

تفسير سورة الحديد............................................................ ١٨٥

بيان أسباب تفاوت الاتفاق قبل الفتح وبعده..................................... ١٨٦

تفسير سورة المجادلة............................................................ ١٩٢

تفسير سورة الحشر............................................................ ١٩٨

بيان الاختلاف في قسم الفيء.................................................. ١٩٩

تفسير سورة الممتحنة.......................................................... ٢٠٤

بيان ما كان يفعله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد صلح الحديبية من رد مهر من جاءت مسلمة............. ٢٠٦

تفسير سورة الصف........................................................... ٢٠٨

تفسير سورة الجمعة............................................................ ٢١١

تفسير سورة المنافقين........................................................... ٢١٤

تفسير سورة التغابن............................................................ ٢١٧

تفسير سورة الطلاق........................................................... ٢٢٠

تفسير سورة التحريم........................................................... ٢٢٤

تفسير سورة الملك............................................................. ٢٢٨

تفسير سورة ن................................................................ ٢٣٣

تفسير سورة الحاقة............................................................. ٢٣٩

تفسير سورة المعارج............................................................ ٢٤٤

تفسير سورة نوح.............................................................. ٢٤٨

٣٥٤

تفسير سورة الجن.............................................................. ٢٥١

تفسير سورة المزمل............................................................. ٢٥٥

تفسير سورة المدثر............................................................. ٢٥٩

تفسير سورة القيامة............................................................ ٢٦٥

تفسير سورة الإنسان.......................................................... ٢٦٩

تفسير سورة المرسلات......................................................... ٢٧٤

تفسير سورة النبأ.............................................................. ٢٧٨

تفسير سورة النازعات.......................................................... ٢٨٢

تفسير سورة عبس............................................................. ٢٨٦

تفسير سورة التكوير........................................................... ٢٨٩

تفسير سورة الانفطار.......................................................... ٢٩٢

تفسير سورة المطففين.......................................................... ٢٩٤

تفسير سورة الانشقاق......................................................... ٢٩٧

تفسير سورة البروج............................................................ ٣٠٠

تفسير سورة الطارق........................................................... ٣٠٣

تفسير سورة سبح (الأعلى)..................................................... ٣٠٥

تفسير سورة الغاشية........................................................... ٣٠٧

تفسير سورة الفجر............................................................ ٣٠٩

تفسير سورة البلد............................................................. ٣١٣

تفسير سورة الشمس.......................................................... ٣١٥

تفسير سورة والليل............................................................ ٣١٧

تفسير سورة والضحى.......................................................... ٣١٩

تفسير سورة ألم نشرح......................................................... ٣٢١

تفسير سورة والتين............................................................ ٣٢٣

تفسير سورة العلق............................................................. ٣٢٥

تفسير سورة القدر............................................................. ٣٢٧

تفسير سورة لم يكن (البينة).................................................... ٣٢٨

تفسير سورة الزلزلة............................................................ ٣٣٠

تفسير سورة والعاديات......................................................... ٣٣١

تفسير سورة القارعة........................................................... ٣٣٣

تفسير سورة التكاثر........................................................... ٣٣٤

تفسير سورة العصر............................................................ ٣٣٦

٣٥٥

تفسير سورة الهمزة............................................................. ٣٣٧

تفسير سورة الفيل............................................................. ٣٣٩

تفسير سورة قريش............................................................. ٣٤٠

تفسير سورة الماعون........................................................... ٣٤١

تفسير سورة الكوثر............................................................ ٣٤٢

تفسير سورة الكافرون.......................................................... ٣٤٣

تفسير سورة النصر............................................................ ٣٤٤

تفسير سورة تبت............................................................. ٣٤٥

تفسير سورة الإخلاص......................................................... ٣٤٧

تفسير سورة الفلق............................................................. ٣٤٨

تفسير سورة الناس............................................................. ٣٥٠

٣٥٦

تم بحمد الله وحسن توفيقه طبع نهاية

تفسير البيضاوي في مطابع دار إحياء الثراث العربي ـ بيروت

الزاهرة أدامها الله لطبع المزيد من الكتب

النافعة وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين

والعاقبة للمتقين

٣٥٧