أنوار التنزيل وأسرار التأويل - ج ٥

عبدالله بن عمر بن محمد الشيرازي الشافعي البيضاوي

أنوار التنزيل وأسرار التأويل - ج ٥

المؤلف:

عبدالله بن عمر بن محمد الشيرازي الشافعي البيضاوي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٥٧

(٩٤) سورة ألم نشرح

مكية ، وآيها ثمان آيات

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (١) وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ (٢) الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ)(٣)

(أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ) ألم نفسحه حتى وسع مناجاة الحق ودعوة الخلق فكان غائبا حاضرا ، أو ألم نفسحه بما أودعنا فيه من الحكم وأزلنا عنه ضيق الجهل ، أو بما يسرنا لك تلقي الوحي بعد ما كان يشق عليك ، وقيل إنه إشارة إلى ما روي «أن جبريل عليه الصلاة والسلام أتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في صباه أو يوم الميثاق ، فاستخرج قلبه فغسله ثم ملأه إيمانا وعلما». ولعله إشارة إلى نحو ما سبق ومعنى الاستفهام إنكار نفي الانشراح مبالغة في إثباته ولذلك عطف عليه.

(وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ) عبأك الثقيل.

(الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ) الذي حمله على النقيض وهو صوت الرحل عند الانتقاض من ثقل الحمل وهو ما ثقل عليه من فرطاته قبل البعثة ، أو جهله بالحكم والأحكام أو حيرته ، أو تلقي الوحي أو ما كان يرى من ضلال قومه من العجز عن إرشادهم ، أو من إصرارهم وتعديهم في إيذائه حين دعاهم إلى الإيمان.

(وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ (٤) فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً (٥) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً)(٦)

(وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ) بالنبوة وغيرها ، وأي رفع مثل أن قرن اسمه باسمه تعالى في كلمتي الشهادة وجعل طاعته طاعته ، وصلّى عليه في ملائكته وأمر المؤمنين بالصلاة عليه وخاطبه بالألقاب ، وإنما زاد (لَكَ) ليكون إبهاما قبل إيضاح فيفيد المبالغة.

(فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ) كضيق الصدر والوزر المنقض للظهر وضلال القوم وإيذائهم. (يُسْراً) كالشرح والوضع والتوفيق للاهتداء والطاعة فلا تيأس من روح الله إذا عراك ما يغمك ، وتنكيره للتعظيم والمعنى بما في «إن مع» من المصاحبة المبالغة في معاقبة اليسر للعسر ، واتصاله به اتصال المتقاربين.

(إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً) تكرير للتأكيد أو استئناف وعده بأن (الْعُسْرِ) متبوع بيسر آخر كثواب الآخرة كقولك : إن للصائم فرحة ، إن للصائم فرحة أي فرحة عند الإفطار وفرحة عند لقاء الرب. وعليه قوله عليه الصلاة والسلام «لن يغلب عسر يسرين» فإن العسر معرف فلا يتعدد سواء كان للعهد أو للجنس ، واليسر منكر فيحتمل أن يراد بالثاني فرد يغاير ما أريد بالأول.

(فَإِذا فَرَغْتَ فَانْصَبْ (٧) وَإِلى رَبِّكَ فَارْغَبْ)(٨)

(فَإِذا فَرَغْتَ) من التبيلغ. (فَانْصَبْ) فاتعب في العبادة شكرا لما عددنا عليك من النعم السالفة

٣٢١

ووعدناك من النعم الآتية. وقيل إذا فرغت من الغزو فانصب في العبادة ، أو (فَإِذا فَرَغْتَ) من الصلاة فانصب بالدعاء.

(وَإِلى رَبِّكَ فَارْغَبْ) بالسؤال ولا تسأل غيره فإنه القادر وحده على إسعافك ، وقرئ «فرغّب» أي فرغب الناس إلى طلب ثوابه.

عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «من قرأ سورة ألم نشرح فكأنما جاءني وأنا مغتم ففرج عني».

٣٢٢

(٩٥) سورة والتين

مختلف فيها ، وآيها ثمان آيات

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ (١) وَطُورِ سِينِينَ (٢) وَهذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ)(٣)

(وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ) خصهما من الثمار بالقسم لأن التين فاكهة طيبة لا فضل له وغذاء لطيف سريع الهضم ، ودواء كثير النفع فإنه يلين الطبع ويحلل البلغم ويطهر الكليتين ، ويزيل رمل المثانة ويفتح سدد الكبد والطحال ، ويسمن البدن وفي الحديث أنه يقطع البواسير وينفع من النقرس. والزيتون فاكهة وإدام ودواء وله دهن لطيف كثير المنافع ، مع أنه قد ينبت حيث لا دهنية فيه كالجبال ، وقيل المراد بهما جبلان من الأرض المقدسة أو مسجدا دمشق وبيت المقدس ، أو البلدان.

(وَطُورِ سِينِينَ) يعني الجبل الذي ناجى عليه موسى عليه الصلاة والسلام ربه و (سِينِينَ) و (سَيْناءَ) اسمان للموضع الذي هو فيه.

(وَهذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ) أي الآمن من أمن الرجل أمانة فهو أمين ، أو المأمون فيه يأمن فيه من دخله والمراد به مكة.

(لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (٤) ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ (٥) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ)(٦)

(لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ) يريد به الجنس. (فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ) تعديل بأن خص بانتصاب القامة وحسن الصورة واستجماع خواص الكائنات ونظائر سائر الممكنات.

(ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ) بأن جعلناه من أهل النار أو إلى أسفل سافلين وهو النار. وقيل هو أرذل العمر فيكون قوله :

(إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) استثناء منقطعا. (فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ) لا ينقطع أو لا يمن به عليهم ، وهو على الأول حكم مرتب على الاستثناء مقرر له.

(فَما يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ (٧) أَلَيْسَ اللهُ بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ)(٨)

(فَما يُكَذِّبُكَ) أي فأي شيء يكذبك يا محمد دلالة أو نطقا. (بَعْدُ بِالدِّينِ) بالجزاء بعد ظهور هذه الدلائل وقيل «ما» بمعنى من ، وقيل الخطاب للإنسان على الالتفات ، والمعنى فما الذي يحملك على هذا الكذب.

٣٢٣

(أَلَيْسَ اللهُ بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ) تحقيق لما سبق. والمعنى أليس الذي فعل ذلك من الخلق والرد (بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ) صنعا وتدبيرا ومن كان كذلك كان قادرا على الإعادة والجزاء على ما مر مرارا.

عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «من قرأ سورة والتين أعطاه الله العافية واليقين ما دام حيا ، فإذا مات أعطاه الله من الأجر بعدد من قرأ هذه السورة».

٣٢٤

(٩٦) سورة العلق

مكية ، وآيها تسع عشرة آية

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (١) خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ)(٢)

(اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ) أي اقرأ القرآن مفتتحا باسمه سبحانه وتعالى. أو مستعينا به. (الَّذِي خَلَقَ) أي الذي له الخلق أو الذي خلق كل شيء ، ثم أفرد ما هو أشرف وأظهر صنعا وتدبيرا وأدل على وجوب العبادة المقصودة من القراءة فقال :

(خَلَقَ الْإِنْسانَ) أو الذي (خَلَقَ الْإِنْسانَ) فأبهم أولا ثم فسر تفخيما لخلقه ودلالة. على عجيب فطرته. (مِنْ عَلَقٍ) جمعه على (الْإِنْسانَ) في معنى الجمع ولما كان أول الواجبات معرفة الله سبحانه وتعالى نزل أولا ما يدل على وجوده وفرط قدرته وكمال حكمته.

(اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (٣) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (٤) عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ)(٥)

(اقْرَأْ) تكرير للمبالغة ، أو الأول مطلق والثاني للتبليغ أو في الصلاة ولعله لما قيل له : (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ) فقال : ما أنا بقارئ ، فقيل له اقرأ : (وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ) الزائد في الكرم على كل كريم فإنه سبحانه وتعالى ينعم بلا عوض ويحلم من غير تخوف ، بل هو الكريم وحده على الحقيقة.

(الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ) أي الخط بالقلم ، وقد قرئ به لتقيد به العلوم ويعلم به البعيد.

(عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ) بخلق القوى ونصب الدلائل وإنزال الآيات فيعلمك القراءة وإن لم تكن قارئا ، وقد عدد سبحانه وتعالى مبدأ أمر الإنسان ومنتهاه إظهارا لما أنعم عليه ، من أن نقله من أخس المراتب إلى أعلاها تقريرا لربوبيته وتحقيقا لأكرميته ، وأشار أولا إلى ما يدل على معرفته عقلا ثم نبه على ما يدل عليها سمعا.

(كَلاَّ إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى (٦) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى (٧) إِنَّ إِلى رَبِّكَ الرُّجْعى)(٨)

(كَلَّا) ردع لمن كفر بنعمة الله بطغيانه وإن لم يذكر لدلالة الكلام عليه. (إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى).

(أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى) أن رأى نفسه ، واستغنى مفعوله الثاني لأنه بمعنى علم ولذلك جاز أن يكون فاعله ومفعوله ضميرين لواحد.

(إِنَّ إِلى رَبِّكَ الرُّجْعى) الخطاب للإنسان على الالتفات تهديدا وتحذيرا من عاقبة الطغيان ، و (الرُّجْعى) مصدر كالبشرى.

(أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى (٩) عَبْداً إِذا صَلَّى (١٠) أَرَأَيْتَ إِنْ كانَ عَلَى الْهُدى (١١) أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوى)(١٢)

(أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى عَبْداً إِذا صَلَّى) نزلت في أبي جهل قال لو رأيت محمدا ساجدا لوطئت عنقه ،

٣٢٥

فجاءه ثم نكص على عقبيه فقيل له مالك ، فقال إن بيني وبينه لخندقا من نار وهولا وأجنحة. فنزلت ولفظ العبد وتنكيره للمبالغة في تقبيح النهي والدلالة على كمال عبودية المنهي.

(أَرَأَيْتَ إِنْ كانَ عَلَى الْهُدى أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوى) أرأيت تكرير للأول وكذا الذي في قوله :

(أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (١٣) أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللهَ يَرى)(١٤)

(أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللهَ يَرى) والشرطية مفعوله الثاني وجواب الشرط محذوف دل عليه جواب الشرط الثاني الواقع موقع القسيم له. والمعنى أخبرني عمن ينهى بعض عباد الله عن صلاته إن كان ذلك الناهي على هدى فيما ينهى عنه ، أو آمرا (بِالتَّقْوى) فيما يأمر به من عبادة الأوثان كما يعتقده ، أو إن كان على التكذيب للحق والتولي عن الصواب كما تقول ، (أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللهَ يَرى) ويطلع على أحواله من هداه وضلاله. وقيل المعنى (أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى عَبْداً) يصلي والمنهي على الهدى آمرا بالتقوى ، والناهي مكذب متول فما أعجب من ذا. وقيل الخطاب في الثانية مع الكافر فإنه سبحانه وتعالى كالحاكم الذي حضره الخصمان يخاطب هذا مرة والآخر أخرى ، وكأنه قال يا كافر أخبرني إن كان صلاته هدى ودعاؤه إلى الله سبحانه وتعالى أمرا بالتقوى أتنهاه ، ولعله ذكر الأمر بالتقوى في التعجب والتوبيخ ولم يتعرض له في النهي لأن النهي كان عن الصلاة والأمر بالتقوى ، فاقتصر على ذكر الصلاة لأنه دعوة بالفعل أو لأن نهي العبد إذا صلى يحتمل أن يكون لها ولغيرها ، وعامة أحوالها محصورة في تكميل نفسه بالعبادة وغيره بالدعوة.

(كَلاَّ لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ (١٥) ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ خاطِئَةٍ)(١٦)

(كَلَّا) ردع للناهي. (لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ) عما هو فيه. (لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ) لنأخذن بناصيته ولنسحبنه بها إلى النار ، والسفع القبض على الشيء وجذبه بشدة ، وقرئ لنسفعنّ بنون مشددة و «لأسفعن» ، وكتابته في المصحف بالألف على حكم الوقف والاكتفاء باللام عن الإضافة للعلم بأن المراد ناصية المذكور.

(ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ خاطِئَةٍ) بدل من الناصية وإنما جاز لوصفها ، وقرئت بالرفع على هي ناصية والنصب على الذم ووصفها بالكذب والخطأ ، وهما لصاحبها على الإسناد المجازي للمبالغة.

(فَلْيَدْعُ نادِيَهُ (١٧) سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ (١٨) كَلاَّ لا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ)(١٩)

(فَلْيَدْعُ نادِيَهُ) أي أهل ناديه ليعينوه وهو المجلس الذي ينتدي فيه القوم. روي أنا أبا جهل لعنه الله مر برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو يصلي فقال : ألم أنهك ، فاغلظ له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : أتهددني وأنا أكثر أهل الوادي ناديا فنزلت.

(سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ) ليجروه إلى النار وهو في الأصل الشرط واحدها زبنية كعفرية من الزين وهو الدفع ، أو زبني على النسب وأصلها زباني والتاء معوضة عن الياء.

(كَلَّا) ردع أيضا للناهي. (لا تُطِعْهُ) أي اثبت أنت على طاعتك. (وَاسْجُدْ) داوم على سجودك. (وَاقْتَرِبْ) وتقرب إلى ربك وفي الحديث «أقرب ما يكون العبد إلى ربه إذا سجد».

عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «من قرأ سورة العلق أعطي من الأجر كأنما قرأ المفصل كله».

٣٢٦

(٩٧) سورة القدر

مختلف فيها ، وآيها خمس آيات

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (١) وَما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ (٢) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ)(٣)

(إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ) الضمير للقرآن فخمه بإضماره من غير ذكر شهادة له بالنباهة المغنية عن التصريح كما عظمه بأن أسند نزله إليه ، وعظم الوقت الذي أنزل فيه بقوله :

(وَما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ) وإنزاله فيها بأن ابتدأ بإنزاله فيها ، أو أنزله جملة من اللوح إلى السماء الدنيا على السفرة ، ثم كان جبريل عليه الصلاة والسلام ينزله على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم نجوما في ثلاث وعشرين سنة. وقيل المعنى (أَنْزَلْناهُ) في فضلها وهي في أوتار العشر الأخير من رمضان ، ولعلها السابعة منها. والداعي إلى إخفائها أن يحيي من يريدها ليالي كثيرة ، وتسميتها بذلك لشرفها أو لتقدير الأمور فيها لقوله سبحانه وتعالى : (فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ) وذكر الألف إما للتكثير ، أو لما روي أنه عليه الصلاة والسلام ذكر إسرائيليا يلبس السلاح في سبيل الله ألف شهر ، فعجب المؤمنون وتقاصرت إليهم أعمالهم ، فأعطوا ليلة القدر هي خير من مدة ذلك الغازي.

(تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ (٤) سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ) (٥)

(تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ) بيان لما له فضّلت على ألف شهر وتنزلهم إلى الأرض ، أو إلى السماء الدنيا أو تقربهم إلى المؤمنين. (مِنْ كُلِّ أَمْرٍ) من أجل كل أمر قدر في تلك السنة ، وقرئ «من كل امرئ» أي من أجل كل إنسان.

(سَلامٌ هِيَ) ما هي إلا سلامة أي لا يقدر الله فيها إلا السلامة ، ويقضي في غيرها السلامة والبلاء ، أو ما هي إلا سلام لكثرة ما يسلمون فيها على المؤمنين. (حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ) أي وقت مطلعه أي طلوعه. وقرأ الكسائي بالكسر على أنه كالمرجع أو اسم زمان على غير قياس كالمشرق.

عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «من قرأ سورة القدر أعطي من الأجر كمن صام رمضان وأحيا ليلة القدر».

٣٢٧

(٩٨) سورة لم يكن

مختلف فيها ، وآيها ثمان آيات

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ)(١)

(لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ) اليهود والنصارى فإنهم كفروا بالإلحاد في صفات الله سبحانه وتعالى و (مِنْ) للتبيين. (وَالْمُشْرِكِينَ) وعبدة الأصنام. (مُنْفَكِّينَ) عما كانوا عليه من دينهم ، أو الوعد باتباع الحق إذا جاءهم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم. (حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ) الرسول عليه الصلاة والسلام أو القرآن ، فإنه مبين للحق أو معجزة الرسول بأخلاقه والقرآن بإفحامه من تحدى به.

(رَسُولٌ مِنَ اللهِ يَتْلُوا صُحُفاً مُطَهَّرَةً (٢) فِيها كُتُبٌ قَيِّمَةٌ)(٣)

(رَسُولٌ مِنَ اللهِ) بدل من (الْبَيِّنَةُ) بنفسه أو بتقدير مضاف أو مبتدأ. (يَتْلُوا صُحُفاً مُطَهَّرَةً) صفته أو خبره ، والرسول عليه الصلاة والسلام وإن كان أميا لكنه لما تلا مثل ما في الصحف كان كالتالي لها. وقيل المراد جبريل عليه الصلاة والسلام وكون الصحف (مُطَهَّرَةً) أن الباطل لا يأتي ما فيها ، أو أنها لا يمسها إلا المطهرون.

(فِيها كُتُبٌ قَيِّمَةٌ) مكتوبات مستقيمة ناطقة بالحق.

(وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ (٤) وَما أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكاةَ وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ)(٥)

(وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) عما كانوا عليه بأن آمن بعضهم أو تردد في دينه ، أو عن وعدهم بالإصرار على الكفر. (إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ) فيكون كقوله : (وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ) وإفراد أهل الكتاب بعد الجمع بينهم وبين المشركين للدلالة على شناعة حالهم ، وأنهم لما تفرقوا مع علمهم كان غيرهم بذلك أولى.

(وَما أُمِرُوا) أي في كتبهم بما فيها. (إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) لا يشركون به. (حُنَفاءَ) مائلين عن العقائد الزائغة. (وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكاةَ) ولكنهم حرفوا وعصوا. (وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ) دين الملة القيمة.

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نارِ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أُولئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ)(٦)

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نارِ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها) أي يوم القيامة ، أو في الحال لملابستهم ما يوجب ذلك ، واشتراك الفريقين في جنس العذاب لا يوجب اشتراكهما في نوعه فلعله يختلف

٣٢٨

لتفاوت كفرهما. (أُولئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ) أي الخليقة. وقرأ نافع «البريئة» بالهمز على الأصل.

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ (٧) جَزاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ)(٨)

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ جَزاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً) فيه مبالغات تقديم المدح ، وذكر الجزاء المؤذن بأن ما منحوا في مقابلة ما وصفوا به والحكم عليه بأنه من (عِنْدَ رَبِّهِمْ) ، وجمع (جَنَّاتُ) وتقييدها إضافة ووصفا بما تزداد لها نعيما ، وتأكيد الخلود بالتأبيد. (رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ) استئناف بما يكون لهم زيادة على جزائهم. (وَرَضُوا عَنْهُ) لأنه بلغهم أقصى أمانيهم. (ذلِكَ) أي المذكور من الجزاء والرضوان. (لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ) فإن الخشية ملاك الأمر والباعث على كل خير.

عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «من قرأ سورة لم يكن الذين كفروا كان يوم القيامة مع خير البرية مساء ومقيلا».

٣٢٩

(٩٩) سورة الزلزلة

مختلف فيها ، وآيها ثمان آيات

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها (١) وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها (٢) وَقالَ الْإِنْسانُ ما لَها)(٣)

(إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها) اضطرابها المقدر لها عند النفخة الأولى ، أو الثانية أو الممكن لها أو اللائق بها في الحكمة ، وقرئ بالفتح وهو اسم الحركة وليس في الأبنية فعلال إلا في المضاعف.

(وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها) ما في جوفها من الدفائن أو الأموات جمع ثقل وهو متاع البيت.

(وَقالَ الْإِنْسانُ ما لَها) لما يبهرهم من الأمر الفظيع ، وقيل المراد ب (الْإِنْسانُ) الكافر فإن المؤمن يعلم ما لها.

(يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها (٤) بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها)(٥)

(يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ) تحدث الخلق بلسان الحال. (أَخْبارَها) ما لأجله زلزالها وإخراجها. وقيل ينطقها الله سبحانه وتعالى فتخبر بما عمل عليها ، و (يَوْمَئِذٍ) بدل من (إِذا) وناصبهما (تُحَدِّثُ) ، أو أصل و (إِذا) منتصب بمضمر.

(بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها) أي تحدث بسبب إيحاء ربك لها بأن أحدث فيها ما دلت على الأخبار ، أو أنطقها بها ويجوز أن يكون بدلا من أخبارها إذ يقال : حدثته كذا وبكذا ، واللام بمعنى إلى أو على أصلها إذ لها في ذلك تشف من العصاة.

(يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتاتاً لِيُرَوْا أَعْمالَهُمْ (٦) فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ (٧) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ)(٨)

(يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ) من مخارجهم من القبور إلى الموقف. (أَشْتاتاً) متفرقين بحسب مراتبهم. (لِيُرَوْا أَعْمالَهُمْ) جزاء أعمالهم ، وقرئ بفتح الياء.

(فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) تفصيل (لِيُرَوْا) ولذلك قرئ «يره» بالضم ، وقرأ هشام بإسكان الهاء ولعل حسنة الكافر وسيئة المجتنب عن الكبائر تؤثران في نقص الثواب والعقاب. وقيل الآية مشروطة بعدم الإحباط والمغفرة ، أو من الأولى مخصوصة بالسعداء والثانية بالأشقياء لقوله (أَشْتاتاً) ، وال (ذَرَّةٍ) النملة الصغيرة أو الهباء.

عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «من قرأ سورة إذا زلزلت الأرض أربع مرات كان كمن قرأ القرآن كله».

٣٣٠

(١٠٠) سورة والعاديات

مختلف فيها ، وآيها إحدى عشرة آية

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(وَالْعادِياتِ ضَبْحاً (١) فَالْمُورِياتِ قَدْحاً (٢) فَالْمُغِيراتِ صُبْحاً (٣) فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً (٤) فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً)(٥)

(وَالْعادِياتِ ضَبْحاً) أقسم سبحانه بخيل الغزاة تعدو فتضبح ضبحا ، وهو صوت أنفاسها عند العدو ونصبه بفعله المحذوف ، أو ب (الْعادِياتِ) فإنها تدل بالالتزام على الضابحات ، أو ضبحا حال بمعنى ضابحة.

(فَالْمُورِياتِ قَدْحاً) فالتي توري النار ، والإيراء إخراج النار يقال قدح الزند فأورى.

(فَالْمُغِيراتِ) يغير أهلها على العدو. (صُبْحاً) أي في وقته.

(فَأَثَرْنَ) فهيجن. (بِهِ) بذلك الوقت. (نَقْعاً) غبارا أو صياحا.

(فَوَسَطْنَ بِهِ) فتوسطن بذلك الوقت أو بالعدو ، أو بالنقع أي ملتبسات به. (جَمْعاً) من جموع الأعداء ، روي : أنه عليه الصلاة والسلام بعث خيلا فمضت أشهر لم يأته منهم خبر فنزلت. ويحتمل أن يكون القسم بالنفوس العادية أثر كمالهنّ الموريات بأفكارهن أنوار المعارف ، والمغيرات على الهوى والعادات إذا ظهر لهن مثل أنوار القدس ، (فَأَثَرْنَ بِهِ) شوقا (فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً) من جموع العليين.

(إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ (٦) وَإِنَّهُ عَلى ذلِكَ لَشَهِيدٌ (٧) وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ)(٨)

(إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ) لكفور من كند النعمة كنودا ، أو لعاص بلغة كندة ، أو لبخيل بلغة بني مالك وهو جواب القسم.

(وَإِنَّهُ عَلى ذلِكَ) وإن الإنسان على كنوده (لَشَهِيدٌ) يشهد على نفسه لظهور أثره عليه ، أو أن الله سبحانه وتعالى على كنوده لشهيد فيكون وعيدا.

(وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ) المال من قوله سبحانه وتعالى : (إِنْ تَرَكَ خَيْراً) أي مالا. (لَشَدِيدٌ) لبخيل أو لقوي مبالغ فيه.

(أَفَلا يَعْلَمُ إِذا بُعْثِرَ ما فِي الْقُبُورِ (٩) وَحُصِّلَ ما فِي الصُّدُورِ (١٠) إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ)(١١)

(أَفَلا يَعْلَمُ إِذا بُعْثِرَ) بعث. (ما فِي الْقُبُورِ) من الموتى وقرئ «بحثر» و «بحث».

(وَحُصِّلَ) جمع محصلا في الصحف أو ميز. (ما فِي الصُّدُورِ) من خير أو شر ، وتخصيصه لأنه الأصل.

(إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ) وهو يوم القيامة. (لَخَبِيرٌ) عالم بما أعلنوا وما أسروا فيجازيهم عليه ، وإنما قال

٣٣١

(ما) ثم قال (بِهِمْ) لاختلاف شأنهم في الحالين ، وقرئ «أن» و «خبير» بلا لام.

عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «من قرأ سورة والعاديات أعطي من الأجر عشر حسنات بعدد من بات بالمزدلفة وشهد جمعا».

٣٣٢

(١٠١) سورة القارعة

مكية ، وآيها ثمان آيات

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الْقارِعَةُ (١) مَا الْقارِعَةُ (٢) وَما أَدْراكَ مَا الْقارِعَةُ (٣) يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ (٤) وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ (٥) فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ (٦) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ (٧) وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ (٨) فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ (٩) وَما أَدْراكَ ما هِيَهْ (١٠) نارٌ حامِيَةٌ)(١١)

(الْقارِعَةُ مَا الْقارِعَةُ وَما أَدْراكَ مَا الْقارِعَةُ) سبق بيانه في «الحاقة».

(يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ) في كثرتهم وذلتهم وانتشارهم واضطرابهم ، وانتصاب (يَوْمَ) بمضمر دلت عليه (الْقارِعَةُ).

(وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ) كالصوف ذي الألوان. (الْمَنْفُوشِ) المندوف لتفرق أجزائها وتطايرها في الجو.

(فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ) بأن ترجحت مقادير أنواع حسناته.

(فَهُوَ فِي عِيشَةٍ) في عيش. (راضِيَةٍ) ذات رضا أو مرضية.

(وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ) بأن لم يكن له حسنة يعبأ بها ، أو ترجحت سيئاته على حسناته.

(فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ) فمأواه النار المحرقة والهاوية من أسمائها ولذلك قال :

(وَما أَدْراكَ ما هِيَهْ نارٌ حامِيَةٌ) ذات حمى.

عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «من قرأ سورة القارعة ثقل الله بها ميزانه يوم القيامة».

٣٣٣

(١٠٢) سورة التكاثر

مختلف فيها ، وآيها ثمان آيات

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ (١) حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقابِرَ (٢) كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ)(٣)

(أَلْهاكُمُ) شغلكم وأصله الصرف إلى اللهو منقول من لها إذا غفل. (التَّكاثُرُ) التباهي بالكثرة.

(حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقابِرَ) إذا استوعبتم عدد الأحياء صرتم إلى المقابر فتكاثرتم بالأموات ، عبر عن انتقالهم إلى ذكر الموتى بزيارة المقابر. روي أن بني عبد مناف وبني سهم تفاخروا بالكثرة فكثرهم بنو عبد مناف ، فقال بنو سهم إن البغي أهلكنا في الجاهلية فعادونا بالأحياء والأموات فكثرهم بنو سهم ، وإنما حذف الملهى عنه وهو ما يعنيهم من أمر الدين للتعظيم والمبالغة. وقيل معناه (أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ) بالأموال والأولاد إلى أن متم وقبرتم مضيعين أعماركم في طلب الدنيا عما هو أهم لكم ، وهو السعي لأخراكم فتكون زيارة القبور عبارة عن الموت.

(كَلَّا) ردع وتنبيه على أن العاقل ينبغي له أن لا يكون جميع همه ومعظم سعيه للدنيا فإن عاقبة ذلك وبال وحسرة. (سَوْفَ تَعْلَمُونَ) خطأ رأيكم إذا عاينتم ما وراءكم وهو إنذار ليخافوا وينتبهوا من غفلتهم.

(ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ (٤) كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ (٥) لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ)(٦)

(ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ) تكرير للتأكيد وفي (ثُمَ) دلالة على أن الثاني أبلغ من الأول ، أو الأول عند الموت أو في القبر والثاني عند النشور.

(كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ) أي لو تعلمون ما بين أيديكم علم الأمر اليقين أي كعلمكم ما تستيقنونه لشغلكم ذلك عن غيره ، أو لفعلتم ما لا يوصف ولا يكتنه فحذف الجواب للتفخيم ولا يجوز أن يكون قوله : (لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ) جوابا له لأنه محقق الوقوع بل هو جواب قسم محذوف أكد به الوعيد وأوضح به ما أنذرهم منه بعد إبهامه تفخيما ، وقرأ ابن عامر والكسائي بضم التاء.

(ثُمَّ لَتَرَوُنَّها عَيْنَ الْيَقِينِ (٧) ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ)(٨)

(ثُمَّ لَتَرَوُنَّها) تكرير للتأكيد ، أو الأولى إذا رأيتهم من مكان بعيد والثانية إذا وردوها ، أو المراد بالأولى المعرفة وبالثانية الإبصار. (عَيْنَ الْيَقِينِ) أي الرؤية التي هي نفس اليقين ، فإن علم المشاهدة أعلى مراتب اليقين.

(ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ) الذي ألهاكم ، والخطاب مخصوص بكل من ألهاه دنياه عن دينه و (النَّعِيمِ) بما يشغله للقرينة والنصوص الكثيرة كقوله : (مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ) وقيل يعمان

٣٣٤

إذ كل يسأل عن شكره. وقيل الآية مخصوصة بالكفار.

عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «من قرأ (أَلْهاكُمُ) لم يحاسبه الله سبحانه وتعالى بالنعيم الذي أنعم به عليه في دار الدنيا ، وأعطي من الأجر كأنما قرأ ألف آية».

٣٣٥

(١٠٣) سورة والعصر

مكية ، وآيها ثلاث آيات

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(وَالْعَصْرِ (١) إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ) (٢)

(وَالْعَصْرِ) أقسم سبحانه بصلاة العصر لفضلها ، أو بعصر النبوة أو بالدهر لاشتماله على الأعاجيب والتعريض بنفي ما يضاف إليه من الخسران.

(إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ) إن الناس لفي خسران في مساعيهم وصرف أعمارهم في مطالبهم ، والتعريف للجنس والتنكير للتعظيم.

(إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ)(٣)

(إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) فإنهم اشتروا الآخرة بالدنيا ففازوا بالحياة الأبدية والسعادة السرمدية. (وَتَواصَوْا بِالْحَقِ) الثابت الذي لا يصح إنكاره من اعتقاد أو عمل. (وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ) عن المعاصي أو على الحق ، أو ما يبلو الله به عباده. وهذا من عطف الخاص على العام للمبالغة إلا أن يخص العمل بما يكون مقصورا على كماله ، ولعله سبحانه وتعالى إنما ذكر سبب الربح دون الخسران اكتفاء ببيان المقصود ، وإشعارا بأن ما عدا ما عد يؤدي إلى خسر ونقص حظ ، أو تكرما فإن الإبهام في جانب الخسر كرم.

عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «من قرأ سورة (وَالْعَصْرِ) غفر الله له وكان ممن تواصوا بالحق وتواصوا بالصبر».

٣٣٦

(١٠٤) سورة الهمزة

مكية ، وآيها تسع آيات

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ (١) الَّذِي جَمَعَ مالاً وَعَدَّدَهُ (٢) يَحْسَبُ أَنَّ مالَهُ أَخْلَدَهُ)(٣)

(وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ) الهمزة الكسر كالهزم ، واللمز الطعن كالهزم فشاعا في الكسر من أعراض الناس والطعن فيهم ، وبناء فعله يدل على الاعتياد فلا يقال ضحكة ولعنة إلا للمكثر المتعود ، وقرئ «همزة لمزة» بالسكون على بناء المفعول وهو المسخرة الذي يأتي بالأضاحيك فيضحك منه ويشتم. ونزولها في الأخنس بن شريق فإنه كان مغيابا ، أو في الوليد بن المغيرة واغتيابه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(الَّذِي جَمَعَ مالاً) بدل من كل أو ذم منصوب أو مرفوع ، وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي بالتشديد للتكثير (وَعَدَّدَهُ) وجعله عدة للنوازل أو عدة مرة بعد أخرى ، ويؤيده أنه قرئ «وعدده» على فك الإدغام.

(يَحْسَبُ أَنَّ مالَهُ أَخْلَدَهُ) تركه خالدا في الدنيا فأحبه كما يحب الخلود ، أو حب المال أغفله عن الموت أو طول أمله حتى حسب أنه مخلد فعمل عمل من لا يظن الموت ، وفيه تعريض بأن المخلد هو السعي للآخرة.

(كَلاَّ لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ (٤) وَما أَدْراكَ مَا الْحُطَمَةُ (٥) نارُ اللهِ الْمُوقَدَةُ (٦) الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ)(٧)

(كَلَّا) ردع له عن حسبانه. (لَيُنْبَذَنَ) ليطرحن. (فِي الْحُطَمَةِ) في النار التي من شأنها أن تحطم كل ما يطرح فيها.

(وَما أَدْراكَ مَا الْحُطَمَةُ) ما النار التي لها هذه الخاصية.

(نارُ اللهِ) تفسير لها. (الْمُوقَدَةُ) التي أوقدها الله وما أوقده لا يقدر غيره أن يطفئه.

(الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ) تعلو أوساط القلوب وتشتمل عليها ، وتخصيصها بالذكر لأن الفؤاد ألطف ما في البدن وأشده تألما ، أو لأنه محل العقائد الزائفة ومنشأ الأعمال القبيحة.

(إِنَّها عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ (٨) فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ)(٩)

(إِنَّها عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ) مطبقة من أوصدت الباب إذا أطبقته ، قال :

تحن إلى أجبال مكة ناقتي

ومن دونها أبواب صنعاء موصدة

وقرأ حفص وأبو عمرو وحمزة بالهمزة.

٣٣٧

(فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ) أي موثقين في أعمدة ممدودة مثل المقاطر التي تقطر فيها اللصوص وقرأ الكوفيون غير حفص بضمتين ، وقرئ «عمد» بسكون الميم مع ضم العين.

عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «من قرأ سورة الهمزة أعطاه الله عشر حسنات بعدد من استهزأ بمحمد عليه الصلاة والسلام وأصحابه» رضوان الله عليهم أجمعين.

٣٣٨

(١٠٥) سورة الفيل

مكية ، وهي خمس آيات

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحابِ الْفِيلِ (١) أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ)(٢)

(أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحابِ الْفِيلِ) الخطاب للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهو وإن لم يشهد تلك الوقعة لكن شاهد آثارها وسمع بالتواتر أخبارها فكأنه رآها ، وإنما قال (كَيْفَ) ولم يقل ما لأن المراد تذكير ما فيها من وجوه الدلالة على كمال علم الله تعالى وقدرته وعزة بيته وشرف رسوله عليه الصلاة والسلام فإنها من الإرهاصات. إذ روي أنها وقعت في السنة التي ولد فيها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. قصتها أن أبرهة بن الصباح الأشرم ملك اليمن من قبل أصحمة النجاشي ـ بنى كنيسة بصنعاء وسماها القليس ، وأراد أن يصرف الحاج إليها ، فخرج رجل من كنانة فقعد فيها ليلا فأغضبه ذلك ، فحلف ليهدمن الكعبة فخرج بجيشه ومعه فيل قوي اسمه محمود ، وفيلة أخرى فلما تهيأ للدخول وعبى جيشه قدم الفيل ، وكان كلما وجهوه إلى الحرم برك ولم يبرح ، وإذا وجهوه إلى اليمن أو إلى جهة أخرى هرول ، فأرسل الله تعالى طيرا ، كل واحد في منقاره حجر وفي رجليه حجران ، أكبر من العدسة وأصغر من الحمصة ، فترميهم فيقع الحجر في رأس الرجل فيخرج من دبره فهلكوا جميعا. وقرئ «ألم تر» جدا في إظهار أثر الجازم ، وكيف نصب بفعل لا بتر لما فيه من معنى الاستفهام.

(أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ) في تعطيل الكعبة وتخريبها. (فِي تَضْلِيلٍ) في تضييع وإبطال بأن دمرهم وعظم شأنها.

(وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبابِيلَ (٣) تَرْمِيهِمْ بِحِجارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ (٤) فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ)(٥)

(وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبابِيلَ) جماعات جمع إبالة وهي الحزمة الكبيرة ، شبهت بها الجماعة من الطير في تضامها. وقيل لا واحد لها كعباديد وشماطيط.

(تَرْمِيهِمْ بِحِجارَةٍ) وقرئ بالياء على تذكير الطير لأنه اسم جمع ، أو إسناده إلى ضمير ربك. (مِنْ سِجِّيلٍ) من طين متحجر معرب سنك كل وقيل من السجل وهو الدلو الكبير ، أو الأسجال وهو الأرسال ، أو من السجل ومعناه من جملة العذاب المكتوب المدون.

(فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ) كورق زرع وقع فيه الآكال وهو أن يأكله الدود أو أكل حبه فبقي صفرا منه ، أو كتبن أكلته الدواب وراثته.

عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «من قرأ سورة الفيل أعفاه الله أيام حياته من الخسف والمسخ».

٣٣٩

(١٠٦) سورة قريش

مكية ، وآيها أربع آيات

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(لِإِيلافِ قُرَيْشٍ (١) إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتاءِ وَالصَّيْفِ)(٢)

(لِإِيلافِ قُرَيْشٍ) متعلق بقوله : (فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ) والفاء لما في الكلام من معنى الشرط ، إذ المعنى أن نعم الله عليهم لا تحصى فإن لم يعبدوه لسائر نعمه فليعبدوه لأجل :

(إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتاءِ وَالصَّيْفِ) أي الرحلة في الشتاء إلى اليمن وفي الصيف إلى الشأم فيمتارون ويتجرون ، أو بمحذوف مثل اعجبوا أو بما قبله كالتضمين في الشعر أي (فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ)(لِإِيلافِ قُرَيْشٍ) ، ويؤيده أنهما في مصحف أبيّ سورة واحدة ، وقرئ «ليألف قريش إلفهم رحلة الشتاء» ، وقريش ولد النضر بن كنانة منقول من تصغير قرش ، وهو دابة عظيمة في البحر تعبث بالسفن فلا تطاق إلا بالنار ، فشبهوا بها لأنها تأكل ولا تؤكل ، وتعلو ولا تعلى ، وصغر الاسم للتعظيم وإطلاق الإيلاف ، ثم إبدال المقيد عنه للتفخيم. وقرأ ابن عامر «لئلاف» بغير ياء بعد الهمزة.

(فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ (٣) الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ)(٤)

(فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ) أي بالرحلتين والتنكير للتعظيم ، وقيل المراد به شدة أكلوا فيها الجيف والعظام. (وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ) أصحاب الفيل أو التخطف في بلدهم ومسايرهم ، أو الجذام فلا يصيبهم ببلدهم.

عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «من قرأ سورة لإيلاف قريش أعطاه الله عشر حسنات بعدد من طاف بالكعبة واعتكف بها».

٣٤٠