أنوار التنزيل وأسرار التأويل - ج ٥

عبدالله بن عمر بن محمد الشيرازي الشافعي البيضاوي

أنوار التنزيل وأسرار التأويل - ج ٥

المؤلف:

عبدالله بن عمر بن محمد الشيرازي الشافعي البيضاوي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٥٧

(النَّارِ ذاتِ الْوَقُودِ (٥) إِذْ هُمْ عَلَيْها قُعُودٌ (٦) وَهُمْ عَلى ما يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ)(٧)

(النَّارِ) بدل من (الْأُخْدُودِ) بدل الاشتمال. (ذاتِ الْوَقُودِ) صفة لها بالعظمة وكثرة ما يرتفع به لهبها ، واللام في (الْوَقُودِ) للجنس.

(إِذْ هُمْ عَلَيْها) على حافة النار. (قُعُودٌ) قاعدون.

(وَهُمْ عَلى ما يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ) يشهد بعضهم لبعض عند الملك بأنهم لم يقصروا فيما أمروا به ، أو يشهدون على ما يفعلون يوم القيامة حين تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم.

(وَما نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلاَّ أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (٨) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ)(٩)

(وَما نَقَمُوا مِنْهُمْ) وما أنكروا. (إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ) استثناء على طريقة قوله :

ولا عيب فيهم غير أنّ سيوفهم

بهن فلول من قراع الكتائب

ووصفه بكونه عزيزا غالبا يخشى عقابه حميدا منعما يرجى ثوابه وقرر ذلك بقوله :

(الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) للإشعار بما يستحق أن يؤمن به ويعبد.

(إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذابُ الْحَرِيقِ (١٠) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ذلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ)(١١)

(إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ) بلوهم بالأذى. (ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذابُ جَهَنَّمَ) بكفرهم. (وَلَهُمْ عَذابُ الْحَرِيقِ) العذاب الزائد في الإحراق بفتنتهم. بل المراد ب (الَّذِينَ فَتَنُوا)(أَصْحابُ الْأُخْدُودِ) وب (عَذابُ الْحَرِيقِ) ما روي أن النار انقلبت عليهم فأحرقتهم.

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ذلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ) إذ الدنيا وما فيها تصغر دونه.

(إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ (١٢) إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ (١٣) وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ (١٤) ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ (١٥) فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ)(١٦)

(إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ) مضاعف عنفه فإن البطش أخذ بعنف.

(إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ يُبْدِئُ) الخلق ويعيده ، أو (يُبْدِئُ) البطش بالكفرة في الدنيا ويعيده في الآخرة.

(وَهُوَ الْغَفُورُ) لمن تاب. (الْوَدُودُ) المحب لمن أطاع.

(ذُو الْعَرْشِ) خالقه ، وقيل المراد ب (الْعَرْشِ) الملك ، وقرئ «ذي العرش» صفة ل (رَبِّكَ).

(الْمَجِيدُ) العظيم في ذاته وصفاته ، فإنه واجب الوجود تام القدرة والحكمة ، وجره حمزة والكسائي صفة ل (رَبِّكَ) ، أو ل (الْعَرْشِ) ومجده علوه وعظمته.

(فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ) لا يمتنع عليه مراد من أفعاله وأفعال غيره.

٣٠١

(هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ (١٧) فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ (١٨) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ (١٩) وَاللهُ مِنْ وَرائِهِمْ مُحِيطٌ)(٢٠)

(هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ) أبدلهما من الجنود لأن المراد ب (فِرْعَوْنَ) هو وقومه ، والمعنى قد عرفت تكذيبهم للرسل وما حاق بهم فتسل واصبر على تكذيب قومك وحذرهم مثل ما أصابهم.

(بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ) لا يرعوون عنه ، ومعنى الإضراب أن حالهم أعجب من حال هؤلاء فإنهم سمعوا قصتهم ورأوا آثار هلاكهم وكذبوا أشد من تكذيبهم.

(وَاللهُ مِنْ وَرائِهِمْ مُحِيطٌ) لا يفوتونه كما لا يفوت المحاط المحيط.

(بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ (٢١) فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ)(٢٢)

(بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ) بل هذا الذي كذبوا به كتاب شريف وحيد في النظم والمعنى ، وقرئ «قرآن مجيد» بالإضافة أي قرآن رب مجيد.

(فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ) من التحريف ، وقرأ نافع (مَحْفُوظٍ) بالرفع صفة لل (قُرْآنٌ) ، وقرئ «في لوح» وهو الهواء يعني ما فوق السماء السابعة الذي فيه اللوح.

عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «من قرأ سورة البروج أعطاه الله بعدد كل جمعة وعرفة تكون في الدنيا عشر حسنات».

٣٠٢

(٨٦) سورة الطارق

مكية وآيها سبع عشرة آية

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(وَالسَّماءِ وَالطَّارِقِ (١) وَما أَدْراكَ مَا الطَّارِقُ (٢) النَّجْمُ الثَّاقِبُ (٣) إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْها حافِظٌ)(٤)

(وَالسَّماءِ وَالطَّارِقِ) والكوكب البادي بالليل وهو في الأصل لسالك الطريق ، واختص عرفا بالآتي ليلا ثم استعمل للبادي فيه.

(وَما أَدْراكَ مَا الطَّارِقُ النَّجْمُ الثَّاقِبُ) المضيء كأنه يثقب الظلام بضوئه فينفذ فيه ، أو الأفلاك والمراد الجنس أو معهود بالثقب وهو زحل ، عبر عنه أولا بوصف عام ثم فسره بما يخصه تفخيما لشأنه.

(إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْها) أي إن الشأن كل نفس لعليها. (حافِظٌ) رقيب فإن هي المخففة واللام الفاصلة وما مزيدة. وقرأ ابن عامر وعاصم وحمزة لما على أنها بمعنى إلّا وإن نافية ، والجملة على الوجهين جواب القسم.

(فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ (٥) خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ (٦) يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرائِبِ)(٧)

(فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ) لما ذكر أن كل نفس عليها حافظ أتبعه توصية الإنسان بالنظر في مبدئه ليعلم صحة إعادته فلا يملي على حافظه إلا ما يسره في عاقبته.

(خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ) جواب الاستفهام و (ماءٍ) بمعنى ذي دفق ، وهو صب فيه دفع والمراد الممتزج من الماءين في الرحم لقوله :

(يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرائِبِ) من بين صلب الرجل وترائب المرأة وهي عظام صدرها ، ولو صح أن النطفة تتولد من فضل الهضم الرابع وتنفصل عن جميع الأعضاء حتى تستعد لأن يتولد منها مثل تلك الأعضاء ، ومقرها عروق ملتف بعضها بالبعض عند البيضتين ، فلا شك أن الدماغ أعظم الأعضاء معونة في توليدها ، ولذلك تشبهه ، ويسرع الإفراط في الجماع بالضعف فيه وله خليفة وهو النخاع وهو في الصلب وشعب كثيرة نازلة إلى الترائب ، وهما أقرب إلى أوعية المني فلذلك خصّا بالذكر. وقرئ «الصلب» بفتحتين و «الصلب» بضمتين وفيه لغة رابعة وهي «صالب».

(إِنَّهُ عَلى رَجْعِهِ لَقادِرٌ (٨) يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ (٩) فَما لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلا ناصِرٍ)(١٠)

(إِنَّهُ عَلى رَجْعِهِ لَقادِرٌ) والضمير للخالق ويدل عليه (خُلِقَ).

(يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ) تتعرف ويميز بين ما طاب من الضمائر وما خفي من الأعمال وما خبث منها ، وهو ظرف ل (رَجْعِهِ).

(فَما لَهُ) فما للإنسان. (مِنْ قُوَّةٍ) من منعة في نفسه يمتنع بها. (وَلا ناصِرٍ) يمنعه.

٣٠٣

(وَالسَّماءِ ذاتِ الرَّجْعِ (١١) وَالْأَرْضِ ذاتِ الصَّدْعِ)(١٢)

(وَالسَّماءِ ذاتِ الرَّجْعِ) ترجع في كل دورة إلى الموضع الذي تتحرك عنه ، وقيل الرجع المطر سمي به كما سمي أوبا لأن الله يرجعه وقتا فوقتا ، أو لما قيل من أن السحاب يحمل الماء من البحار ثم يرجعه إلى الأرض ، وعلى هذا يجوز أن يراد ب (السَّماءِ) السحاب.

(وَالْأَرْضِ ذاتِ الصَّدْعِ) ما تتصدع عنه الأرض من النبات أو الشق بالنبات والعيون.

(إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ (١٣) وَما هُوَ بِالْهَزْلِ (١٤) إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً (١٥) وَأَكِيدُ كَيْداً (١٦) فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً)(١٧)

(إِنَّهُ) إن القرآن. (لَقَوْلٌ فَصْلٌ) فاصل بين الحق والباطل.

(وَما هُوَ بِالْهَزْلِ) فإنه جد كله.

(إِنَّهُمْ) يعني أهل مكة. (يَكِيدُونَ كَيْداً) في إبطاله وإطفاء نوره.

(وَأَكِيدُ كَيْداً) وأقابلهم بكيد في استدراجي لهم وانتقامي منهم من حيث لا يحتسبون.

(فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ) فلا تشتغل بالانتقام منهم ، أو لا تستعجل بإهلاكهم. (أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً) إمهالا يسيرا والتكرير وتغيير البنية لزيادة التسكين.

عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «من قرأ سورة الطارق أعطاه الله بعدد بكل نجم في السماء عشر حسنات».

٣٠٤

(٨٧) سورة الأعلى

مكية وآيها تسع عشرة آية

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (١) الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى)(٢)

(سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى) نزه اسمه عن الإلحاد فيه بالتأويلات الزائغة وإطلاقه على غيره زاعما أنهما فيه سواء وذكره لا على على وجه التعظيم ، وقرئ «سبحان ربي الأعلى». وفي الحديث «لما نزلت (فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ) قال عليه الصلاة والسلام اجعلوها في ركوعكم ، فلما نزلت (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى) قال عليه الصلاة والسلام اجعلوها في سجودكم» وكانوا يقولون في الركوع اللهم لك ركعت وفي السجود اللهم لك سجدت.

(الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى) خلق كل شيء فسوى خلقه بأن جعل له ما به يتأتى كماله ويتم معاشه.

(وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى (٣) وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعى (٤) فَجَعَلَهُ غُثاءً أَحْوى) (٥)

(وَالَّذِي قَدَّرَ) أي قدر أجناس الأشياء وأنواعها وأشخاصها ومقاديرها وصفاتها وأفعالها وآجالها. (فَهَدى) فوجهه إلى أفعاله طبعا واختيارا بخلق الميول والإلهامات ونصب الدلائل وإنزال الآيات.

(وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعى) أنبت ما ترعاه الدواب.

(فَجَعَلَهُ) بعد خضرته. (غُثاءً أَحْوى) يابسا أسود. وقيل (أَحْوى) حال من المرعى أي أخرجه (أَحْوى) أي أسود من شدة خضرته.

(سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى (٦) إِلاَّ ما شاءَ اللهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَما يَخْفى)(٧)

(سَنُقْرِئُكَ) على لسان جبريل عليه الصلاة والسلام ، أو سنجعلك قارئا بإلهام القراءة. (فَلا تَنْسى) أصلا من قوة الحفظ مع أنك أمي ليكون ذلك آية أخرى لك مع أن الإخبار به عما يستقبل ووقوعه كذلك أيضا من الآيات ، وقيل نهي والألف للفاصلة كقوله (السَّبِيلَا). (إِلَّا ما شاءَ اللهُ) نسيانه بأن نسخ تلاوته ، وقيل أراد به القلة والندرة. لما روي أنه عليه الصلاة والسلام «أسقط آية في قراءته في الصلاة فحسب أبيّ أنها نسخت فسأله فقال : نسيتها». أو نفى النسيان رأسا فإن القلة تستعمل للنفي. (إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَما يَخْفى) ما ظهر من أحوالكم وما بطن ، أو جهرك بالقراءة مع جبريل عليه الصلاة والسلام وما دعاك إليه من مخافة النسيان فيعلم ما فيه صلاحكم من إبقاء وإنساء.

(وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرى (٨) فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى (٩) سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشى)(١٠)

(وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرى) ونعدك للطريقة اليسرى في حفظ الوحي ، أو التدين ونوفقك لها ولهذه النكتة قال (نُيَسِّرُكَ) لا نيسر لك عطف على (سَنُقْرِئُكَ) ، و (إِنَّهُ يَعْلَمُ) اعتراض.

٣٠٥

(فَذَكِّرْ) بعد ما استتب لك الأمر. (إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى) لعل هذه الشرطية إنما جاءت بعد تكرير التذكير وحصول اليأس من البعض لئلا يتعب نفسه ويتلهف عليهم كقوله : (وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ) الآية ، أو لذم المذكرين واستبعاد تأثير الذكرى فيهم ، أو للإشعار بأن التذكير إنما يجب إذا ظن نفعه ولذلك أمر بالإعراض عمن تولى.

(سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشى) سيتعظ وينتفع بها من يخشى الله تعالى بأن يتأمل فيها فيعلم حقيقتها ، وهو يتناول العارف والمتردد.

(وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى (١١) الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرى (١٢) ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى)(١٣)

(وَيَتَجَنَّبُهَا) ويتجنب (الذِّكْرى). (الْأَشْقَى) الكافر فإنه أشقى من الفاسق ، أو (الْأَشْقَى) من الكفرة لتوغله في الكفر.

(الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرى) نار جهنم فإنه عليه الصلاة والسلام قال «ناركم هذه جزء من سبعين جزأ من نار جهنم» ، أو ما في الدرك الأسفل منها.

(ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيها) فيستريح. (وَلا يَحْيى) حياة تنفعه.

(قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (١٤) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى (١٥) بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا (١٦) وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقى)(١٧)

(قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى) تطهر من الكفر والمعصية ، أو تكثر من التقوى من الزكاء ، أو تطهر للصلاة أو أدى الزكاة.

(وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ) بقلبه ولسانه (فَصَلَّى) كقوله : (أَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي) ويجوز أن يراد بالذكر تكبيرة التحريم ، وقيل (تَزَكَّى) تصدق للفطر (وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ) كبره يوم العيد (فَصَلَّى) صلاته.

(بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا) فلا تفعلون ما يسعدكم في الآخرة ، والخطاب للأشقين على الالتفات أو على إضمار قل ، أو للكل فإن السعي للدنيا أكثر في الجملة ، وقرأ أبو عمرو بالياء.

(وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقى) فإن نعيمها ملذ بالذات خالص عن الغوائل لا انقطاع له.

(إِنَّ هذا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى (١٨) صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى)(١٩)

(إِنَّ هذا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى) الإشارة إلى ما سبق من (قَدْ أَفْلَحَ) فإنه جامع أمر الديانة وخلاصة الكتب المنزلة.

(صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى) بدل من الصحف الأولى.

قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم «من قرأ سورة الأعلى أعطاه الله عشر حسنات بعدد كل حرف أنزله الله على إبراهيم وموسى ومحمد عليهم الصلاة والسلام».

٣٠٦

(٨٨) سورة الغاشية

مكية وهي ست وعشرون آية

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْغاشِيَةِ (١) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خاشِعَةٌ (٢) عامِلَةٌ ناصِبَةٌ (٣) تَصْلى ناراً حامِيَةً (٤) تُسْقى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ)(٥)

(هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْغاشِيَةِ) الداهية التي تغشى الناس بشدائدها يعني يوم القيامة ، أو النار من قوله تعالى (وَتَغْشى وُجُوهَهُمُ النَّارُ).

(وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خاشِعَةٌ) ذليلة.

(عامِلَةٌ ناصِبَةٌ) تعمل ما تتعب فيه كجر السلاسل وخوضها في النار خوض الإبل في الوحل ، والصعود والهبوط في تلالها ووهادها ، أو عملت ونصبت في أعمال لا تنفعها يومئذ.

(تَصْلى ناراً) تدخلها وقرأ أبو عمرو ويعقوب وأبو بكر (تَصْلى) من أصلاه الله ، وقرئ «تصلّ» بالتشديد للمبالغة. (حامِيَةً) متناهية في الحر.

(تُسْقى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ) بلغت أناها في الحر.

(لَيْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلاَّ مِنْ ضَرِيعٍ (٦) لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ)(٧)

(لَيْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ) يبيس الشبرق وهو شوك ترعاه الإبل ما دام رطبا ، وقيل شجرة نارية تشبه الضريع ، ولعله طعام هؤلاء والزقوم والغسلين طعام غيرهم ، أو المراد طعامهم ما تتحاماه الإبل وتعافه لضره وعدم نفعه كما قال :

(لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ) والمقصود من الطعام أحد الأمرين.

(وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناعِمَةٌ (٨) لِسَعْيِها راضِيَةٌ (٩) فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ (١٠) لا تَسْمَعُ فِيها لاغِيَةً)(١١)

(وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناعِمَةٌ) ذات بهجة أو متنعمة.

(لِسَعْيِها راضِيَةٌ) رضيت بعملها لما رأت ثوابه.

(فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ) علية المحل أو القدر.

(لا تَسْمَعُ) يا مخاطب أو الوجوه ، وقرأ على بناء المفعول بالياء ابن كثير وأبو عمرو ورويس وبالتاء نافع. (فِيها لاغِيَةً) لغوا أو كلمة ذات لغو أو نفسا تلغو ، فإن كلام أهل الجنة الذكر والحكم.

(فِيها عَيْنٌ جارِيَةٌ (١٢) فِيها سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ (١٣) وَأَكْوابٌ مَوْضُوعَةٌ (١٤) وَنَمارِقُ مَصْفُوفَةٌ (١٥) وَزَرابِيُّ مَبْثُوثَةٌ)(١٦)

٣٠٧

(فِيها عَيْنٌ جارِيَةٌ) يجري ماؤها ولا ينقطع والتنكير للتعظيم.

(فِيها سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ) رفيعة السمك أو القدر.

(وَأَكْوابٌ) جمع كوب وهي آنية لا عروة لها. (مَوْضُوعَةٌ) بين أيديهم.

(وَنَمارِقُ) وسائد جمع نمرقة بالفتح والضم. (مَصْفُوفَةٌ) بعضها إلى بعض.

(وَزَرابِيُ) بسط فاخرة جمع زربية. (مَبْثُوثَةٌ) مبسوطة.

(أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (١٧) وَإِلَى السَّماءِ كَيْفَ رُفِعَتْ)(١٨)

(أَفَلا يَنْظُرُونَ) نظر اعتبار. (إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ) خلقا دالا على كمال قدرته وحسن تدبيره حيث خلقها لجر الأثقال إلى البلاد النائية ، فجعلها عظيمة باركة للحمل ناهضة بالحمل منقادة لمن اقتادها طوال الأعناق لينوء بالأوقار ، ترعى كل نابت وتحتمل العطش إلى عشر فصاعدا ليتأتى لها قطع البوادي والمفاوز ، مع مالها من منافع أخرى ولذلك خصت بالذكر لبيان الآيات المنبثة في الحيوانات التي هي أشرف المركبات وأكثرها صنعا ، ولأنها أعجب ما عند العرب من هذا النوع. وقيل المراد بها السحاب على الاستعارة.

(وَإِلَى السَّماءِ كَيْفَ رُفِعَتْ) بلا عمد.

(وَإِلَى الْجِبالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (١٩) وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ)(٢٠)

(وَإِلَى الْجِبالِ كَيْفَ نُصِبَتْ) فهي راسخة لا تميل.

(وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ) بسطت حتى صارت مهادا ، وقرئ الأفعال الأربعة على بناء الفاعل المتكلم وحذف الراجع المنصوب ، والمعنى (أَفَلا يَنْظُرُونَ) إلى أنواع المخلوقات من البسائط والمركبات ليتحققوا كمال قدرة الخالق سبحانه وتعالى ، فلا ينكروا اقتداره على البعث ولذلك عقب به أمر المعاد ورتب عليه الأمر بالتذكير فقال :

(فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ (٢١) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ (٢٢) إِلاَّ مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ (٢٣) فَيُعَذِّبُهُ اللهُ الْعَذابَ الْأَكْبَرَ)(٢٤)

(فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ) فلا عليك إن لم ينظروا ولم يذكروا إذ ما عليك إلا البلاغ.

(لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ) بمتسلط ، وعن الكسائي بالسين على الأصل وحمزة بالإشمام.

(إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ) لكن من تولى وكفر.

(فَيُعَذِّبُهُ اللهُ الْعَذابَ الْأَكْبَرَ) يعني عذاب الآخرة. وقيل متصل فإن جهاد الكفار وقتلهم تسلط ، وكأنه أوعدهم بالجهاد في الدنيا وعذاب النار في الآخرة وقيل هو استثناء من قوله (فَذَكِّرْ) أي فذكر إلا من تولى وأصر فاستحق العذاب الأكبر ، وما بينهما اعتراض ويؤيد الأول أنه قرئ «ألا» على التنبيه.

(إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ (٢٥) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ)(٢٦)

(إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ) رجوعهم ، وقرئ بالتشديد على أنه فيعال مصدر فيعل من الإياب ، أو فعال من الأوب قلبت واوه الأولى قلبها في ديوان ثم الثانية للإدغام.

(ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ) في المحشر ، وتقديم الخبر للتخصيص والمبالغة في الوعيد.

عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «من قرأ سورة الغاشية حاسبه الله حسابا يسيرا».

٣٠٨

(٨٩) سورة الفجر

مكية وآيها ثلاثون آية

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(وَالْفَجْرِ (١) وَلَيالٍ عَشْرٍ (٢) وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ)(٣)

(وَالْفَجْرِ) أقسم بالصبح أو فلقه كقوله : (وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ) أو بصلاته.

(وَلَيالٍ عَشْرٍ) عشر ذي الحجة ولذلك فسر (الْفَجْرِ) بفجر عرفة ، أو النحر أو عشر رمضان الأخير وتنكيرها للتعظيم ، وقرئ (وَلَيالٍ عَشْرٍ) بالإضافة على أن المراد بالعشر الأيام.

(وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ) والأشياء كلها شفعها ووترها ، أو الخلق لقوله : (وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ) والخالق لأنه فرد ، ومن فسرهما بالعناصر والأفلاك أو البروج والسيارات أو شفع الصلوات ووترها ، أو بيومي النحر وعرفة ، وقد روي مرفوعا ، أو بغيرها فلعله أفرد بالذكر من أنواع المدلول ما رآه أظهر دلالة على التوحيد ، أو مدخلا في الدين أو مناسبة لما قبلهما أو أكثر منفعة موجبة للشكر ، وقرئ «والوتر» بكسر الواو وهما لغتان كالحبر والحبر.

(وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ (٤) هَلْ فِي ذلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ)(٥)

(وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ) إذا يمضي كقوله : (وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ) والتقييد بذلك لما في التعاقب من قوة الدلالة على كمال القدرة ووفور النعمة ، أو يسرى فيه من قولهم صلّى المقام وحذف الياء للاكتفاء بالكسرة تخفيفا ، وقد خصه نافع وأبو عمرو بالوقف لمراعاة الفواصل ولم يحذفها ابن كثير ويعقوب أصلا ، وقرئ «يسر» بالتنوين المبدل من حرف الإطلاق.

(هَلْ فِي ذلِكَ) القسم أو المقسم به (قَسَمٌ) حلف أو محلوف به. (لِذِي حِجْرٍ) يعتبره ويؤكد به ما يريد تحقيقه ، وال (حِجْرٍ) العقل سمي به لأنه يحجر عما لا ينبغي كما سمي عقلا ونهية وحصاة من الإحصاء ، وهو الضبط والمقسم عليه محذوف وهو ليعذبن يدل عليه قوله :

(أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ (٦) إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ (٧) الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها فِي الْبِلادِ)(٨)

(أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ) يعني أولاد عاد بن عوص بن إرم بن سام بن نوح عليه‌السلام ، قوم هود سموا باسم أبيهم كما سمي بنو هاشم باسمه.

(إِرَمَ) عطف بيان لعاد على تقدير مضاف أي سبط (إِرَمَ) ، أو أهل (إِرَمَ) إن صح أنه اسم بلدتهم. وقيل سمي أوائلهم وهم «عاد الأولى» باسم جدهم ومنع صرفه للعلمية والتأنيث. (ذاتِ الْعِمادِ) ذات البناء الرفيع أو القدود الطوال ، أو الرفعة والثبات. وقيل كان لعاد ابنان شداد وشديد فملكا وقهرا ، ثم مات شديد فخلص الأمر لشداد وملك المعمورة ودانت له ملوكها ، فسمع بذكر الجنة فبنى على مثالها في بعض صحاري عدن جنة وسماها إرم ، فلما تمت سار إليها بأهله ، فلما كان منها على مسيرة يوم وليلة بعث

٣٠٩

الله عليهم صيحة من السماء فهلكوا. وعن عبد الله بن قلابة أنه خرج في طلب إبله فوقع عليها.

(الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها فِي الْبِلادِ) صفة أخرى لاسم والضمير لها سواء جعلت اسم القبيلة أو البلدة.

(وَثَمُودَ الَّذِينَ جابُوا الصَّخْرَ بِالْوادِ (٩) وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتادِ (١٠) الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ (١١) فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسادَ)(١٢)

(وَثَمُودَ الَّذِينَ جابُوا الصَّخْرَ) قطعوه واتخذوه منازل لقوله : (وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً). (بِالْوادِ) وادي القرى.

(وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتادِ) لكثرة جنوده ومضاربهم التي كانوا يضربونها إذا نزلوا ، أو لتعذيبه بالأوتاد.

(الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ) صفة للمذكورين «عاد» (وَثَمُودَ وَفِرْعَوْنَ) ، أو ذم منصوب أو مرفوع.

(فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسادَ) بالكفر والظلم.

(فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذابٍ (١٣) إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ)(١٤)

(فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذابٍ) ما خلط لهم من أنواع العذاب ، وأصله الخلط وإنما سمي به الجلد المضفور الذي يضرب به لكونه مخلوط الطاقات بعضها ببعض ، وقيل شبه بال (سَوْطَ) ما أحل بهم في الدنيا إشعارا بأنه القياس إلى ما أعد لهم في الآخرة من العذاب كالسوط إذا قيس إلى السيف.

(إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ) المكان الذي يترقب فيه الرصد ، مفعال من رصده كالميقات من وقته ، وهو تمثيل لإرصاده العصاة بالعقاب.

(فَأَمَّا الْإِنْسانُ إِذا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (١٥) وَأَمَّا إِذا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهانَنِ)(١٦)

(فَأَمَّا الْإِنْسانُ) متصل بقوله : (إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ) كأنه قيل إنه (لَبِالْمِرْصادِ) من الآخرة فلا يريد إلا السعي لها فأما الإنسان فلا يهمه إلا الدنيا ولذاتها. (إِذا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ) اختبره بالغنى واليسر. (فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ) بالجاه والمال. (فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ) فضلني بما أعطاني ، وهو خبر المبتدأ الذي هو (الْإِنْسانُ) ، والفاء لما في «أما» من معنى الشرط ، والظرف المتوسط في تقدير التأخير كأنه قيل : فأما الإنسان فقائل ربي أكرمني وقت ابتلائه بالإنعام ، وكذا قوله :

(وَأَمَّا إِذا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ) إذ التقدير وأما الإنسان إذا ما ابتلاه أي بالفقر والتقتير ليوازن قسيمه. (فَيَقُولُ رَبِّي أَهانَنِ) لقصور نظره وسوء فكره ، فإن التقتير قد يؤدي إلى كرامة الدارين ، والتوسعة قد تفضي إلى قصد الأعداء والانهماك في حب الدنيا ولذلك ذمه على قوليه وردعه عنه بقوله :

(كَلاَّ بَلْ لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ (١٧) وَلا تَحَاضُّونَ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ (١٨) وَتَأْكُلُونَ التُّراثَ أَكْلاً لَمًّا (١٩) وَتُحِبُّونَ الْمالَ حُبًّا جَمًّا)(٢٠)

(كَلَّا) مع أن قوله الأول مطابق لأكرمه ولم يقل فأهانه وقدر عليه كما قال : (فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ) لأن التوسعة تفضل والإخلال به لا يكون إهانة ، وقرأ ابن عامر والكوفيون «أكرمن» و «أهانن» بغير ياء في الوصل والوقف. وعن أبي عمرو مثله ووافقهم نافع في الوقف وقرأ ابن عامر (فَقَدَرَ) بالتشديد.

(بَلْ لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ) ولا يحضّون على طعام المسكين أي بل فعلهم أسوأ من قولهم وأدل على

٣١٠

تهالكهم بالمال وهو أنهم لا يكرمون اليتيم بالنفقة والمبرة ، ولا يحثون أهلهم على طعام المسكين فضلا عن غيرهم ، وقرأ الكوفيون (وَلا تَحَاضُّونَ).

(وَتَأْكُلُونَ التُّراثَ) الميراث وأصله وراث. (أَكْلاً لَمًّا) ذا لم أي جمع بين الحلال والحرام فإنهم كانوا لا يورثون النساء والصبيان ويأكلون أنصباءهم ، أو يأكلون ما جمعه المورث من حلال وحرام عالمين بذلك.

(وَتُحِبُّونَ الْمالَ حُبًّا جَمًّا) كثيرا مع حرص وشره ، وقرأ أبو عمرو وسهل ويعقوب «لا يكرمون» إلى «ويحبون» بالياء والباقون بالتاء.

(كَلاَّ إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا (٢١) وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (٢٢) وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرى)(٢٣)

(كَلَّا) ردع لهم عن ذلك وإنكار لفعلهم وما بعده وعيد عليه. (إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا) أي دكا بعد دك حتى صارت منخفضة الجبال والتلال ، أو (هَباءً مُنْبَثًّا).

(وَجاءَ رَبُّكَ) أي ظهرت آيات قدرته وآثار قهره مثل ذلك بما يظهر عند حضور السلطان من آثار هيبته وسياسته. (وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا) بحسب منازلهم ومراتبهم.

(وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ) كقوله تعالى : (وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ) وفي الحديث «يؤتى بجهنم يومئذ لها سبعون ألف زمام مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها». (يَوْمَئِذٍ) بدل من إذا دكت الأرض والعامل فيهما. (يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ) أي يتذكر معاصيه أو يتعظ لأنه يعلم قبحها فيندم عليها. (وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرى) أي منفعة الذكرى لئلا يناقض ما قبله ، واستدل به على عدم وجوب قبول التوبة ، فإن هذا التذكر توبة غير مقبولة.

(يَقُولُ يا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي (٢٤) فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذابَهُ أَحَدٌ (٢٥) وَلا يُوثِقُ وَثاقَهُ أَحَدٌ)(٢٦)

(يَقُولُ يا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي) أي لحياتي هذه ، أو وقت حياتي في الدنيا أعمالا صالحة ، وليس في هذا التمني دلالة على استقلال العبد بفعله فإن المحجور عن شيء قد يتمنى أن كان ممكنا منه.

(فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذابَهُ أَحَدٌ وَلا يُوثِقُ وَثاقَهُ أَحَدٌ) الهاء لله أي لا يتولى عذاب الله ووثاقه يوم القيامة سواه إذ الأمر كله له ، أو للإنسان أي لا يعذب أحد من الزبانية مثل ما يعذبونه ، وقرأهما الكسائي ويعقوب على بناء المفعول.

(يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (٢٧) ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً (٢٨) فَادْخُلِي فِي عِبادِي (٢٩) وَادْخُلِي جَنَّتِي)(٣٠)

(يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ) على إرادة القول وهي التي اطمأنت بذكر الله ، فإن النفس تترقى في سلسلة الأسباب والمسببات إلى الواجب لذاته فتستفز دون معرفته وتستغني به عن غيره ، أو إلى الحق بحيث لا يريبها شك أو الآمنة التي لا يستفزها خوف ولا حزن ، وقد قرئ بهما.

(ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ) إلى أمره أو موعده بالموت ، ويشعر ذلك بقول من قال : كانت النفوس قبل الأبدان موجودة في عالم القدس أو البعث ، (راضِيَةً) بما أوتيت. (مَرْضِيَّةً) عند الله تعالى.

(فَادْخُلِي فِي عِبادِي) في جملة عبادي الصالحين.

(وَادْخُلِي جَنَّتِي) معهم أو في زمرة المقربين فتستضيء بنورهم ، فإن الجواهر القدسية كالمرايا المتقابلة ، أو ادخلي في أجساد عبادي التي فارقت عنها ، وادخلي دار ثوابي التي أعدت لك.

٣١١

عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «من قرأ سورة الفجر في الليالي العشر غفر له ، ومن قرأها في سائر الأيام كانت له نورا يوم القيامة».

٣١٢

(٩٠) سورة البلد

مكية ، وآيها عشرون آية

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ (١) وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ (٢) وَوالِدٍ وَما وَلَدَ)(٣)

(لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ) أقسم سبحانه بالبلد الحرام وقيده بحلول الرسول عليه الصلاة والسلام فيه إظهارا لمزيد فضله ، وإشعارا بأن شرف المكان بشرف أهله. وقيل (حِلٌ) مستحل تعرضك فيه كما يستحل تعرض الصيد في غيره ، أو حلال لك أن تفعل فيه ما تريد ساعة من النهار فهو وعد بما أحل له عام الفتح.

(وَوالِدٍ) عطف على (بِهذَا الْبَلَدِ) والوالد آدم أو إبراهيم عليهما الصلاة والسلام. (وَما وَلَدَ) ذريته أو محمد عليه الصلاة والسلام ، والتنكير للتعظيم وإيثار ما على من لمعنى التعجب كما في قوله (وَاللهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ).

(لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ (٤) أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ (٥) يَقُولُ أَهْلَكْتُ مالاً لُبَداً)(٦)

(لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ) تعب ومشقة من كبد الرجل كبدا إذا وجعت كبده ومنه المكابدة ، والإنسان لا يزال في شدائد مبدؤها ظلمة الرحم ومضيقة ومنتهاها الموت وما بعده ، وهو تسلية للرسول عليه الصلاة والسلام مما كان يكابده من قريش والضمير في :

(أَيَحْسَبُ) لبعضهم الذي كان يكابد منه أكثر ، أو يفتر بقوته كأبي الأشد بن كلدة فإنه كان يبسط تحت قدميه أديم عكاظي ويجذبه عشرة فيتقطع ولا تزال قدماه ، أو لكل أحد منهم أو للإنسان. (أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ) فينتقم منه.

(يَقُولُ) أي في ذلك الوقت (أَهْلَكْتُ مالاً لُبَداً) كثيرا ، من تلبد الشيء إذا اجتمع ، والمراد ما أنفقه سمعة ومفاخرة ، أو معاداة للرسول عليه الصلاة والسلام.

(أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ (٧) أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ (٨) وَلِساناً وَشَفَتَيْنِ (٩) وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ)(١٠)

(أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ) حين كان ينفق أو بعد ذلك فيسأله عنه ، يعني أن الله سبحانه وتعالى يراه فيجازيه ، أو يجده فيحاسبه عليه ثم بين ذلك بقوله.

(أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ) يبصر بهما.

(وَلِساناً) يترجم به عن ضميره. (وَشَفَتَيْنِ) يستر بهما فاه ويستعين بهما على النطق والأكل والشرب وغيرها.

٣١٣

(وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ) طريقي الخير والشر ، أو الثديين وأصله المكان المرتفع.

(فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (١١) وَما أَدْراكَ مَا الْعَقَبَةُ (١٢) فَكُّ رَقَبَةٍ (١٣) أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ(١٤) يَتِيماً ذا مَقْرَبَةٍ (١٥) أَوْ مِسْكِيناً ذا مَتْرَبَةٍ)(١٦)

(فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ) أي فلم يشكر تلك الأيادي باقتحام العقبة وهو الدخول في أمر شديد ، و (الْعَقَبَةَ) الطريق في الجبل استعارها بما فسرها به من الفك والإطعام في قوله :

(وَما أَدْراكَ مَا الْعَقَبَةُ فَكُّ رَقَبَةٍ أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيماً ذا مَقْرَبَةٍ أَوْ مِسْكِيناً ذا مَتْرَبَةٍ) لما فيهما من مجاهدة النفس ولتعدد المراد بها حسن وقوع لا موقع لم فإنها لا تكاد تقع إلا مكررة ، إذ المعنى : فلا فك رقبة ولا أطعم يتيما أو مسكينا. والمسغبة والمقربة والمتربة مفعلات من سغب إذا جاع وقرب في النسب وترب إذا افتقر ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو والكسائي فك رقبة* أو أطعم على الإبدال من (اقْتَحَمَ) وقوله : (وَما أَدْراكَ مَا الْعَقَبَةُ) اعتراض معناه إنك لم تدر كنه صعوبتها وثوابها.

(ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَواصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ (١٧) أُولئِكَ أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ) (١٨)

(ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا) عطفه على (اقْتَحَمَ) ، أو (فَكُ) ب (ثُمَ) لتباعد الإيمان عن العتق والإطعام في الرتبة لاستقلاله واشتراط سائر الطاعات به. (وَتَواصَوْا) وأوصى بعضهم بعضا. (بِالصَّبْرِ) على طاعة الله تعالى. (وَتَواصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ) بالرحمة على عباده ، أو بموجبات رحمة الله تعالى.

(أُولئِكَ أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ) اليمين أو اليمن.

(وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا هُمْ أَصْحابُ الْمَشْأَمَةِ (١٩) عَلَيْهِمْ نارٌ مُؤْصَدَةٌ)(٢٠)

(وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا) بما نصبناه دليلا على الحق من كتاب وحجة أو بالقرآن. (هُمْ أَصْحابُ الْمَشْأَمَةِ) الشمال أو الشؤم ، ولتكرير ذكر المؤمنين باسم الإشارة والكفار بالضمير شأن لا يخفى.

(عَلَيْهِمْ نارٌ مُؤْصَدَةٌ) مطبقة من أوصدت الباب إذا أطبقته وأغلقته. وقرأ أبو عمرو وحمزة وحفص بالهمزة من آصدته.

عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «من قرأ لا أقسم بهذا البلد أعطاه الله سبحانه وتعالى الأمان من غضبه يوم القيامة».

٣١٤

(٩١) سورة الشمس

مكية ، وآيها خمس عشرة آية

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(وَالشَّمْسِ وَضُحاها (١) وَالْقَمَرِ إِذا تَلاها (٢) وَالنَّهارِ إِذا جَلاَّها)(٣)

(وَالشَّمْسِ وَضُحاها) وضوئها إذا أشرقت ، وقيل الضحوة ارتفاع النهار والضحى فوق ذلك ، والضحاء بالفتح والمد إذا امتد النهار وكاد ينتصف.

(وَالْقَمَرِ إِذا تَلاها) تلا طلوعه طلوع الشمس أول الشهر أو غروبها ليلة البدر ، أو في الاستدارة وكمال النور.

(وَالنَّهارِ إِذا جَلَّاها) جلى الشمس فإنها تتجلى إذا انبسط النهار أو الظلمة ، أو الدنيا أو الأرض وإن لم يجر ذكرها للعلم بها.

(وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشاها (٤) وَالسَّماءِ وَما بَناها (٥) وَالْأَرْضِ وَما طَحاها)(٦)

(وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشاها) يغشى الشمس فيغطي ضوءها أو الآفاق ، أو الأرض. ولما كانت واوات العطف نوائب للواو الأولى القسمية الجارة بنفسها النائبة مناب فعل القسم من حيث استلزمت طرحه معها ، ربطن المجرورات والظرف بالمجرور والظرف المتقدمين ربط الواو لما بعدها في قولك : ضرب زيد عمرا وبكر خالدا على الفاعل والمفعول من غير عطف على عاملين مختلفين.

(وَالسَّماءِ وَما بَناها) ومن بناها وإنما أوثرت على من لإرادة معنى الوصفية كأنه قيل : والشيء القادر الذي بناها ودل على وجوده وكمال قدرته بناؤها ، ولذلك أفرد ذكره وكذا الكلام في قوله :

(وَالْأَرْضِ وَما طَحاها).

(وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها (٧) فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها)(٨)

(وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها) وجعل الماءات مصدرية يجرد الفعل عن الفاعل ويخل بنظم قوله :

(فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها) بقوله (وَما سَوَّاها) إلا أن يضمر فيه اسم الله للعلم به وتنكير (نَفْسٍ) للتكثير كما في قوله : (عَلِمَتْ نَفْسٌ) أو للتعظيم والمراد نفس آدم وإلهام الفجور والتقوى إفهامهما وتعريف حالهما أو التمكين من الإتيان بهما.

(قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها (٩) وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها) (١٠)

(قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها) أنماها بالعلم والعمل جواب القسم ، وحذف اللام للطول كأنه لما أراد به الحث على تكميل النفس والمبالغة فيه أقسم عليه بما يدلهم على العلم بوجود الصانع ووجوب ذاته وكمال صفاته الذي هو أقصى درجات القوة النظرية ، ويذكرهم عظائم آلائه ليحملهم على الاستغراق في شكر نعمائه الذي

٣١٥

هو منتهى كمالات القوة العملية. وقيل هو استطراد بذكر بعض أحوال النفس ، والجواب محذوف تقديره ليدمدمنّ الله على كفار مكة لتكذيبهم رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما دمدم على ثمود لتكذيبهم صالحا عليه الصلاة والسلام.

(وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها) نقصها وأخفاها بالجهالة والفسوق ، وأصل دسى دسس كتقضى وتقضض.

(كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْواها (١١) إِذِ انْبَعَثَ أَشْقاها (١٢) فَقالَ لَهُمْ رَسُولُ اللهِ ناقَةَ اللهِ وَسُقْياها)(١٣)

(كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْواها) بسبب طغيانها ، أو بما أوعدت به من عذابها ذي الطغوى كقوله : (فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ) وأصله طغياها وإنما قلبت ياؤه واوا تفرقة بين الاسم والصفة ، وقرئ بالضم ك (الرُّجْعى).

(إِذِ انْبَعَثَ) حين قام ظرف ل (كَذَّبَتْ) أو طغوى. (أَشْقاها) أشقى ثمود وهو قدار بن سالف ، أو هو ومن مالأه على قتل الناقة فإن أفعل التفضيل إذا أضفته صلح للواحد والجمع وفضل شقاوتهم لتوليهم العقر.

(فَقالَ لَهُمْ رَسُولُ اللهِ ناقَةَ اللهِ) أي ذروا ناقة الله واحذروا عقرها. (وَسُقْياها) وسقيها فلا تذودوها عنها.

(فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوها فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاها (١٤) وَلا يَخافُ عُقْباها)(١٥)

(فَكَذَّبُوهُ) فيما حذرهم منه من حلول العذاب إن فعلوا. (فَعَقَرُوها فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ) فأطبق عليهم العذاب وهو من تكرير قولهم ناقة مدمومة إذا ألبسها الشحم. (بِذَنْبِهِمْ) بسببه. (فَسَوَّاها) فسوى الدمدمة بينهم أو عليهم فلم يفلت منهم صغير ولا كبير ، أو ثمود بالإهلاك.

(وَلا يَخافُ عُقْباها) أي عاقبة الدمدمة أو عاقبة هلاك ثمود وتبعتها فيبقي بعض الإبقاء ، والواو للحال وقرأ نافع وابن عامر فلا على العطف.

عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «من قرأ سورة والشمس فكأنما تصدق بكل شيء طلعت عليه الشمس والقمر».

٣١٦

(٩٢) سورة والليل

مكية ، وآيها إحدى وعشرون آية

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى (١) وَالنَّهارِ إِذا تَجَلَّى (٢) وَما خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (٣) إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى) (٤)

(وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى) أي يغشى الشمس أو النهار أو كل ما يواريه بظلامه.

(وَالنَّهارِ إِذا تَجَلَّى) ظهر بزوال ظلمة الليل ، أو تبين بطلوع الشمس.

(وَما خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى) والقادر الذي خلق صنفي الذكر والأنثى من كل نوع له توالد ، أو آدم وحواء وقيل (ما) مصدرية.

(إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى) إن مساعيكم لأشتات مختلفة جمع شتيت.

(فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى (٥) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى (٦) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى)(٧)

(فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى) تفصيل مبين لتشتت المساعي. والمعنى من أعطى الطاعة واتقى المعصية وصدق بالكلمة الحسنى وهي ما دلت على حق ككلمة التوحيد.

(فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى) فسنهيئه للخلة التي تؤدي إلى يسر وراحة كدخول الجنة ، من يسر الفرس إذا هيأه للركوب بالسرج واللجام.

(وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنى (٨) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى (٩) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى)(١٠)

(وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ) بما أمر به. (وَاسْتَغْنى) بشهوات الدنيا عن نعيم العقبى.

(وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى) بإنكار مدلولها.

(فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى) للخلة المؤدية إلى العسر والشدة كدخول النار.

(وَما يُغْنِي عَنْهُ مالُهُ إِذا تَرَدَّى (١١) إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى (١٢) وَإِنَّ لَنا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولى)(١٣)

(وَما يُغْنِي عَنْهُ مالُهُ) نفي أو استفهام إنكار. (إِذا تَرَدَّى) هلك تفعل من الردى ، أو تردى في حفرة القبر أو قعر جهنم.

(إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى) للإرشاد إلى الحق بموجب قضائنا أو بمقتضى حكمتنا ، أو (إِنَّ عَلَيْنا) طريقة الهدى كقوله سبحانه وتعالى : (وَعَلَى اللهِ قَصْدُ السَّبِيلِ).

(وَإِنَّ لَنا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولى) فنعطي في الدارين ما نشاء لمن نشاء ، أو ثواب الهداية للمهتدين ، أو فلا يضرنا ترككم الاهتداء.

(فَأَنْذَرْتُكُمْ ناراً تَلَظَّى (١٤) لا يَصْلاها إِلاَّ الْأَشْقَى (١٥) الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى (١٦) وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى (١٧)

٣١٧

الَّذِي يُؤْتِي مالَهُ يَتَزَكَّى)(١٨)

(فَأَنْذَرْتُكُمْ ناراً تَلَظَّى) تتلهب.

(لا يَصْلاها) لا يلزمها مقاسيا شدتها. (إِلَّا الْأَشْقَى) إلا الكافر فإن الفاسق وإن دخلها لا يلزمها ولذلك سماه أشقى ووصفه بقوله :

(الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى) أي كذب الحق وأعرض عن الطاعة.

(وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى) الّذي اتقى الشرك والمعاصي فإنه لا يدخلها فضلا عن أن يدخلها ويصلاها ، ومفهوم ذلك أن من اتقى الشرك دون المعصية لا يجنبها ولا يلزم ذلك صليها فلا يخالف الحصر السابق. (الَّذِي يُؤْتِي مالَهُ) يصرفه في مصارف الخير لقوله : (يَتَزَكَّى) فإنه بدل من (يُؤْتِي) أو حال من فاعله.

(وَما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى (١٩) إِلاَّ ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى (٢٠) وَلَسَوْفَ يَرْضى)(٢١)

(وَما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى) فيقصد بإيتائه مجازاتها.

(إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى) استثناء منقطع أو متصل عن محذوف مثل لا يؤتى إلا ابتغاء وجه ربه لا لمكافأة نعمة.

(وَلَسَوْفَ يَرْضى) وعد بالثواب الذي يرضيه. والآيات نزلت في أبي بكر رضي الله تعالى عنه حين اشترى بلالا في جماعة تولاهم المشركون فأعتقهم ، ولذلك قيل : المراد بالأشقى أبو جهل أو أمية بن خلف.

عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «من قرأ سورة والليل أعطاه الله سبحانه وتعالى حتى يرضى وعافاه من العسر ويسر له اليسر».

٣١٨

(٩٣) سورة والضحى

مكية ، وآيها إحدى عشرة آية

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(وَالضُّحى (١) وَاللَّيْلِ إِذا سَجى (٢) ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى)(٣)

(وَالضُّحى) ووقت ارتفاع الشمس وتخصيصه لأن النهار يقوى فيه ، أو لأن فيه كلم موسى ربه وألقي السحرة سجدا ، أو النهار ويؤيده قوله : (أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا ضُحًى) في مقابلة (بَياتاً).

(وَاللَّيْلِ إِذا سَجى) سكن أهله أو ركد ظلامه من سجا البحر سجوا إذا سكنت أمواجه ، وتقديم (اللَّيْلِ) في السورة المتقدمة باعتبار الأصل ، وتقديم النهار ها هنا باعتبار الشرف.

(ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ) ما قطعك قطع المودع ، وقرئ بالتخفيف بمعنى ما تركك وهو جواب القسم. (وَما قَلى) وما أبغضك ، وحذف المفعول استغناء بذكره من قبل ومراعاة للفواصل. روي أن الوحي تأخر عنه أياما لتركه الاستثناء كما مر في سورة «الكهف» ، أو لزجره سائلا ملحا ، أو لأن جروا ميتا كان تحت سريره أو لغيره فقال المشركون : إن محمدا ودعه ربه وقلاه فنزلت ردا عليهم.

(وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى (٤) وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى) (٥)

(وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى) فإنها باقية خالصة عن الشوائب وهذه فانية مشوبة بالمضار ، كأنه لما بين أنه سبحانه وتعالى لا يزال يواصله بالوحي والكرامة في الدنيا وعد له ما هو أعلى وأجل من ذلك في الآخرة ، أو لنهاية أمرك خير من بدايته ، فإنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا يزال يتصاعد في الرفعة والكمال.

(وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى) وعد شامل لما أعطاه من كمال النفس وظهور الأمر وإعلاء الدين ، ولما ادخر له مما لا يعرف كنهه سواه ، واللام للابتلاء دخل الخبر بعد حذف المبتدأ والتقدير : ولأنت سوف يعطيك لا للقسم فإنها لا تدخل على المضارع إلا مع النون المؤكدة ، وجمعها مع سوف للدلالة على أن الإعطاء كائن لا محالة وإن تأخر لحكمة.

(أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى (٦) وَوَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدى (٧) وَوَجَدَكَ عائِلاً فَأَغْنى)(٨)

(أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى) تعديد لما أنعم عليه تنبيها على أنه كما أحسن إليه فيما مضى يحسن إليه فيما يستقبل وإن تأخر. و (يَجِدْكَ) من الوجود بمعنى العلم و (يَتِيماً) مفعوله الثاني أو المصادفة و (يَتِيماً) حال.

(وَوَجَدَكَ ضَالًّا) عن علم الحكم والأحكام. (فَهَدى) فعلمك بالوحي والإلهام والتوفيق للنظر. وقيل وجدك ضالا في الطريق حين خرج بك أبو طالب إلى الشام أو حين فطمتك حليمة وجاءت بك لتردك إلى جدك ، فأزال ضلالك عن عمك أو جدك.

(وَوَجَدَكَ عائِلاً) فقيرا ذا عيال. (فَأَغْنى) بما حصل لك من ربح التجارة.

٣١٩

(فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ (٩) وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ (١٠) وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ)(١١)

(فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ) فلا تغلبه على ماله لضعفه ، وقرئ «فلا تكهر» أي فلا تعبس في وجهه.

(وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ) فلا تزجره.

(وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ) فإن التحدث بها شكرها ، وقيل المراد بالنعمة النبوة والتحديث بها تبليغها.

عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «من قرأ سورة والضحى جعله الله سبحانه وتعالى فيمن يرضى لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يشفع له وعشر حسنات ، يكتبها الله سبحانه وتعالى له بعدد كل يتيم وسائل».

٣٢٠