أنوار التنزيل وأسرار التأويل - ج ٥

عبدالله بن عمر بن محمد الشيرازي الشافعي البيضاوي

أنوار التنزيل وأسرار التأويل - ج ٥

المؤلف:

عبدالله بن عمر بن محمد الشيرازي الشافعي البيضاوي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٥٧

بأربعة آخرين». وقيل ثمانية صفوف من الملائكة لا يعلم عدتهم إلا الله ، ولعله أيضا تمثيل لعظمته بما يشاهد من أحوال السلاطين يوم خروجهم على الناس للقضاء العام وعلى هذا قال :

(يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفى مِنْكُمْ خافِيَةٌ (١٨) فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ(١٩) إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ)(٢٠)

(يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ) تشبيها للمحاسبة بعرض السلطان العسكر لتعرف أحوالهم ، وهذا وإن كان بعد النفخة الثانية لكن لما كان اليوم اسما لزمان متسع تقع فيه النفختان والصعقة والنشور والحساب وإدخال أهل الجنة الجنة وأهل النار النار صح جعله ظرفا للكل. (لا تَخْفى مِنْكُمْ خافِيَةٌ) سريرة على الله تعالى حتى يكون العرض للاطلاع عليها ، وإنما المراد منه إفشاء الحال والمبالغة في العدل ، أو على الناس كما قال الله تعالى : (يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ) وقرأ حمزة والكسائي بالياء للفصل.

(فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ) تفصيل للعرض. (فَيَقُولُ) تبجحا. (هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ) هاء اسم لخذ ، وفيه لغات أجودها هاء يا رجل وهاء يا امرأة وهاؤما يا رجلان أو امرأتان ، وهاؤم يا رجال وهاؤن يا نسوة ، ومفعوله محذوف و (كِتابِيَهْ) مفعول (اقْرَؤُا) لأنه أقرب العاملين ، ولأنه لو كان مفعول (هاؤُمُ) لقيل اقرءوه إذ الأولى إضماره حيث أمكن ، والهاء فيه وفي (حِسابِيَهْ) و (مالِيَهْ) و (سُلْطانِيَهْ) للسكت تثبت في الوقف وتسقط في الوصل واستحب الوقف لثباتها في الإمام ولذلك قرئ بإثباتها في الوصل.

(إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ) أي علمت ، ولعله عبر عنه بالظن إشعارا بأنه لا يقدح في الاعتقاد ما يهجس في النفس من الخطرات التي لا تنفك عنها العلوم النظرية غالبا.

(فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ (٢١) فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ (٢٢) قُطُوفُها دانِيَةٌ (٢٣) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخالِيَةِ)(٢٤)

(فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ) ذات رضا على النسبة بالصيغة. أو جعل الفعل لها مجازا وذلك لكونها صافية عن الشوائب دائمة مقرونة بالتعظيم.

(فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ) مرتفعة المكان لأنها في السماء ، أو الدرجات أو الأبنية والأشجار.

(قُطُوفُها) جمع قطف وهو ما يجتنى بسرعة والقطف بالفتح المصدر. (دانِيَةٌ) يتناولها القاعد.

(كُلُوا وَاشْرَبُوا) بإضمار القول وجمع الضمير للمعنى. (هَنِيئاً) أكلا وشربا (هَنِيئاً) أو هنئتم (هَنِيئاً). (بِما أَسْلَفْتُمْ) بما قدمتم من الأعمال الصالحة. (فِي الْأَيَّامِ الْخالِيَةِ) الماضية من أيام الدنيا.

(وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِشِمالِهِ فَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتابِيَهْ (٢٥) وَلَمْ أَدْرِ ما حِسابِيَهْ (٢٦) يا لَيْتَها كانَتِ الْقاضِيَةَ (٢٧) ما أَغْنى عَنِّي مالِيَهْ (٢٨) هَلَكَ عَنِّي سُلْطانِيَهْ)(٢٩)

(وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِشِمالِهِ فَيَقُولُ) لما يرى من قبح العمل وسوء العاقبة. (يا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتابِيَهْ).

(وَلَمْ أَدْرِ ما حِسابِيَهْ يا لَيْتَها) يا ليت الموتة التي متها. (كانَتِ الْقاضِيَةَ) القاطعة لأمري فلم أبعث بعدها ، أو يا ليت هذه الحالة كانت الموتة التي قضت علي لأنه صادفها أمر من الموت فتمناه عندها ، أو يا ليت حياة الدنيا كانت الموتة ولم أخلق فيها حيا.

(ما أَغْنى عَنِّي مالِيَهْ) مالي من المال والتبع وما نفي والمفعول محذوف ، أو استفهام إنكار مفعول لأغنى.

٢٤١

(هَلَكَ عَنِّي سُلْطانِيَهْ) ملكي وتسلطي على الناس ، أو حجتي التي كنت أحتج بها في الدنيا ، وقرأ حمزة «عني مالي عني سلطاني» بحذف الهاءين في الوصل والباقون بإثباتها في الحالين.

(خُذُوهُ فَغُلُّوهُ (٣٠) ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ (٣١) ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُها سَبْعُونَ ذِراعاً فَاسْلُكُوهُ) (٣٢)

(خُذُوهُ) يقوله الله تعالى لخزنة النار. (فَغُلُّوهُ).

(ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ) ثم لا تصلوه إلا الجحيم ، وهي النار العظمى لأنه كان يتعظم على الناس.

(ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُها سَبْعُونَ ذِراعاً) أي طويلة. (فَاسْلُكُوهُ) فأدخلوه فيها بأن تلقوها على جسده وهو فيما بينها مرهق لا يقدر على حركة ، وتقديم ال (سِلْسِلَةٍ) كتقديم (الْجَحِيمَ) للدلالة على التخصيص والاهتمام بذكر أنواع ما يعذب به ، و (ثُمَ) لتفاوت ما بينها في الشدة.

(إِنَّهُ كانَ لا يُؤْمِنُ بِاللهِ الْعَظِيمِ (٣٣) وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ (٣٤) فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هاهُنا حَمِيمٌ (٣٥) وَلا طَعامٌ إِلاَّ مِنْ غِسْلِينٍ (٣٦) لا يَأْكُلُهُ إِلاَّ الْخاطِؤُنَ)(٣٧)

(إِنَّهُ كانَ لا يُؤْمِنُ بِاللهِ الْعَظِيمِ) تعليل على طريقة الاستئناف للمبالغة ، وذكر (الْعَظِيمِ) للإشعار بأنه هو المستحق للعظمة فمن تعظم فيها استوجب ذلك.

(وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ) ولا يحث على بذل طعامه أو على إطعامه فضلا عن أن يبذل من ماله ، ويجوز أن يكون ذكر الحض للإشعار بأن تارك الحض بهذه المنزلة فكيف بتارك الفعل. وفيه دليل على تكليف الكفار بالفروع ، ولعل تخصيص الأمرين بالذكر لأن أقبح العقائد الكفر بالله تعالى وأشنع الرذائل البخل وقسوة القلب.

(فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هاهُنا حَمِيمٌ) قريب يحميه.

(وَلا طَعامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ) غسالة أهل النار وصديدهم فعلين من الغسل.

(لا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخاطِؤُنَ) أصحاب الخطايا من خطئ الرجل إذا تعمد الذنب لا من الخطأ المضاد للصواب ، وقرئ «الخاطيون» بقلب الهمزة ياء و «الخاطون» بطرحها.

(فَلا أُقْسِمُ بِما تُبْصِرُونَ (٣٨) وَما لا تُبْصِرُونَ (٣٩) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ)(٤٠)

(فَلا أُقْسِمُ) لظهور الأمر واستغنائه عن التحقيق بالقسم ، أو ف (أُقْسِمُ) ولا مزيدة أو فلا رد لإنكارهم البعث و (أُقْسِمُ) مستأنف. (بِما تُبْصِرُونَ وَما لا تُبْصِرُونَ) بالمشاهدات والمغيبات وذلك يتناول الخالق والمخلوقات بأسرها.

(إِنَّهُ) إن القرآن. (لَقَوْلُ رَسُولٍ) يبلغه عن الله تعالى فإن الرسول لا يقول عن نفسه. (كَرِيمٍ) على الله تعالى وهو محمد أو جبريل عليهما الصلاة والسلام.

(وَما هُوَ بِقَوْلِ شاعِرٍ قَلِيلاً ما تُؤْمِنُونَ (٤١) وَلا بِقَوْلِ كاهِنٍ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ (٤٢) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ)(٤٣)

(وَما هُوَ بِقَوْلِ شاعِرٍ) كما تزعمون تارة. (قَلِيلاً ما تُؤْمِنُونَ) تصدقون لما ظهر لكم صدقه تصديقا قليلا لفرط عنادكم.

(وَلا بِقَوْلِ كاهِنٍ) كما تدعون أخرى. (قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ) تذكرون تذكرا قليلا ، فلذلك يلتبس الأمر

٢٤٢

عليكم وذكر الإيمان مع نفي الشاعرية والتذكر مع نفي الكاهنية ، لأن عدم مشابهة القرآن للشعر أمر بين لا ينكره إلا معاند بخلاف مباينته للكهانة ، فإنها تتوقف على تذكر أحوال الرسول ومعاني القرآن المنافية لطريقة الكهنة ومعاني أقوالهم. وقرأ ابن كثير ويعقوب بالياء فيهما.

(تَنْزِيلٌ) هو تنزيل. (مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ) نزله على لسان جبريل عليه‌السلام.

(وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ (٤٤) لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (٤٥) ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ (٤٦) فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ)(٤٧)

(وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ) سمي الافتراء تقولا لأنه قول متكلف والأقوال المفتراة أقاويل تحقيرا لها كأنه جمع أفعولة من القول كالأضاحيك.

(لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ) بيمينه.

(ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ) أي نياط قلبه بضرب عنقه ، وهو تصوير لإهلاكه بأفظع ما يفعله الملوك بمن يغضبون عليه ، وهو أن يأخذ القتال بيمينه ويكفحه بالسيف ويضرب به جيده ، وقيل اليمين بمعنى القوة.

(فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ) عن القتل أو المقتول. (حاجِزِينَ) دافعين وصف لأحد فإنه عام والخطاب للناس.

(وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (٤٨) وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ (٤٩) وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكافِرِينَ (٥٠) وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ (٥١) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ)(٥٢)

(وَإِنَّهُ) وإن القرآن. (لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ) لأنهم المنتفعون به.

(وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ) فنجازيهم على تكذيبهم.

(وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكافِرِينَ) إذا رأوا ثواب المؤمنين به.

(وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ) لليقين الذي لا ريب فيه.

(فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ) فسبح الله بذكر اسمه العظيم تنزيها له عن الرضا بالتقول عليه وشكرا على ما أوحى إليك.

عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «من قرأ سورة الحاقة حاسبه الله تعالى حسابا يسيرا».

٢٤٣

(٧٠) سورة المعارج

مكية وآيها أربع وأربعون آية

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ (١) لِلْكافِرينَ لَيْسَ لَهُ دافِعٌ)(٢)

(سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ) أي دعا داع به بمعنى استدعاه ولذلك عدي الفعل بالباء والسائل هو النضر ابن الحرث فإنه قال (إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ) الآية أو أبو جهل فإنه قال (فَأَسْقِطْ عَلَيْنا كِسَفاً مِنَ السَّماءِ) سأله استهزاء أو الرسول عليه الصلاة والسلام استعجل بعذابهم وقرأ نافع وابن عامر (سَأَلَ) وهو إما من السؤال على لغة قريش قال :

سالت هذيل رسول الله فاحشة

ضلت هذيل بما سالت ولم تصب

أو من السيلان ويؤيده أنه قرئ «سال سيل» على أن السيل مصدر بمعنى السائل كالغور والمعنى سال واد بعذاب ومضى الفعل لتحقق وقوعه إما في الدنيا وهو قتل بدر أو في الآخرة وهو عذاب النار.

(لِلْكافِرينَ) صفة أخرى لعذاب أو صلة ل (واقِعٍ) وإن صح أن السؤال كان عمن يقع به العذاب كان جوابا والباء على هذا لتضمن (سَأَلَ) معنى اهتم. (لَيْسَ لَهُ دافِعٌ) يرده.

(مِنَ اللهِ ذِي الْمَعارِجِ (٣) تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ)(٤)

(مِنَ اللهِ) من جهته لتعلق إرادته (ذِي الْمَعارِجِ) ذي المصاعد وهي الدرجات التي يصعد فيها الكلم الطيب والعمل الصالح أو يترقى فيها المؤمنون في سلوكهم أو في دار ثوابهم أو مراتب الملائكة أو في السموات فإن الملائكة يعرجون فيها.

(تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ) استئناف لبيان ارتفاع تلك المعارج وبعد مداها على التمثيل والتخيل والمعنى أنها بحيث لو قدر قطعها في زمان لكان في زمان يقدر بخمسين ألف سنة من سني الدنيا وقيل معناه تعرج الملائكة والروح إلى عرشه في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة من حيث إنهم يقطعون فيه ما يقطع الإنسان فيها لو فرض لا أن ما بين أسفل العالم وأعلى شرفات العرش مسيرة خمسين ألف سنة لأن ما بين مركز الأرض ومقعر السماء الدنيا على ما قيل مسيرة خمسمائة عام وثخن كل واحدة من السموات السبع والكرسي والعرش كذلك وحيث قال (فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ) يريد زمان عروجهم من الأرض إلى محدب السماء الدنيا وقيل (فِي يَوْمٍ) متعلق ب (واقِعٍ) أو (سَأَلَ) إذا جعل من السيلان والمراد به يوم القيامة واستطالته إما لشدته على الكفار أو لكثرة ما فيه من الحالات والمحاسبات أو لأنه على الحقيقة كذلك والروح جبريل عليه‌السلام وإفراده لفضله أو خلق أعظم من الملائكة.

(فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً (٥) إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً (٦) وَنَراهُ قَرِيباً (٧) يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ (٨) وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ)(٩)

٢٤٤

(فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً) لا يشوبه استعجال واضطراب قلب وهو متعلق ب (سَأَلَ) لأن السؤال كان عن استهزاء أو تعنت وذلك مما يضجره أو عن تضجر واستبطاء للنصر أو ب (سَأَلَ) لأن المعنى قرب وقوع العذاب (فَاصْبِرْ) فقد شارفت الانتقام.

(إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ) الضمير للعذاب أو يوم القيامة (بَعِيداً) من الإمكان.

(وَنَراهُ قَرِيباً) منه أو من الوقوع.

(يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ) ظرف ل (قَرِيباً) أي يمكن (يَوْمَ تَكُونُ) أو لمضمر دل عليه (واقِعٍ) أو بدل من (فِي يَوْمٍ) إن علق به والمهل المذاب في «مهل» كالفلزات أو دردي الزيت.

(وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ) كالصوف المصبوغ ألوانا لأن الجبال مختلفة الألوان فإذا بست وطيرت في الجو أشبهت العهن المنفوش إذا طيرته الريح.

(وَلا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً (١٠) يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ (١١) وَصاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ (١٢) وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ (١٣) وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ يُنْجِيهِ)(١٤)

(وَلا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً) ولا يسأل قريب قريبا عن حاله وعن ابن كثير (وَلا يَسْئَلُ) على بناء المفعول أي لا يطلب من حميم حميم أو لا يسأل منه حاله.

(يُبَصَّرُونَهُمْ) استئناف أو حال تدل على أن المانع من هذا السؤال هو التشاغل دون الخفاء أو ما يغني عنه من مشاهدة الحال كبياض الوجه وسواده وجمع الضميرين لعموم الحميم. (يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ وَصاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ) حال من أحد الضميرين أو استئناف يدل على أن اشتغال كل مجرم بنفسه بحيث يتمنى أن يفتدي بأقرب الناس إليه وأعلقهم بقلبه فضلا أن يهتم بحاله ويسأل عنها وقرأ نافع والكسائي بفتح ميم (يَوْمِئِذٍ) وقرئ بتنوين (عَذابِ) ونصب (يَوْمِئِذٍ) به لأنه بمعنى تعذيب.

(وَفَصِيلَتِهِ) وعشيرته الذين فصل عنهم (الَّتِي تُؤْوِيهِ) تضمه في النسب أو عند الشدائد.

(وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً) من الثقلين أو الخلائق (ثُمَّ يُنْجِيهِ) عطف على (يَفْتَدِي) أي ثم ينجيه الافتداء و (ثُمَ) للاستبعاد.

(كَلاَّ إِنَّها لَظى (١٥) نَزَّاعَةً لِلشَّوى (١٦) تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى (١٧) وَجَمَعَ فَأَوْعى)(١٨)

(كَلَّا) ردع للمجرم عن الودادة ودلالة على أن الافتداء لا ينجيه (إِنَّها) الضمير للنار أو مبهم يفسره (لَظى) وهو خبر أو بدل أو للقصة و (لَظى) مبتدأ خبره.

(نَزَّاعَةً لِلشَّوى) وهو اللهب الخالص وقيل علم للنار منقول من اللظى بمعنى اللهب وقرأ حفص عن عاصم (نَزَّاعَةً) بالنصب على الاختصاص أو الحال المؤكدة أو المتنقلة على أن (لَظى) بمعنى متلظية والشوى الأطراف أو جمع شواة وهي جلدة الرأس.

(تَدْعُوا) تجذب وتحضر كقول ذي الرمة :

تدعو أنفه الريب.

مجاز عن جذبها وإحضارها لمن فرّ عنها وقيل تدعو زبانيتها وقيل تدعو تهلك من قولهم دعاه الله إذا أهلكه (مَنْ أَدْبَرَ) عن الحق (وَتَوَلَّى) عن الطاعة.

(وَجَمَعَ فَأَوْعى) وجمع المال فجعله في وعاء وكنزه حرصا وتأميلا.

٢٤٥

(إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً (١٩) إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً (٢٠) وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً)(٢١)

(إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً) شديد الحرص قليل الصبر.

(إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ) الضر (جَزُوعاً) يكثر الجزع.

(وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ) السعة (مَنُوعاً) يبالغ بالإمساك والأوصاف الثلاثة أحوال مقدرة أو محققة لأنها طبائع جبل الإنسان عليها و (إِذا) الأولى ظرف ل (جَزُوعاً) والأخرى ل (مَنُوعاً).

(إِلاَّ الْمُصَلِّينَ (٢٢) الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ (٢٣) وَالَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ (٢٤) لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (٢٥) وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ)(٢٦)

(إِلَّا الْمُصَلِّينَ) استثناء للموصوفين بالصفات المذكورة بعد من المطبوعين على الأحوال المذكورة قبل لمضادة تلك الصفات لها من حيث إنها دالة على الاستغراق في طاعة الحق والإشفاق على الخلق والإيمان بالجزاء والخوف من العقوبة وكسر الشهوة وإيثار الآجل على العاجل وتلك ناشئة من الانهماك في حب العاجل وقصور النظر عليها.

(الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ) لا يشغلهم عنها شاغل.

(وَالَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ) كالزكوات والصدقات الموظفة.

(لِلسَّائِلِ) الذي يسأل (وَالْمَحْرُومِ) الذي لا يسأل فيحسب نفسه غنيا فيحرم.

(وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ) تصديقا بأعمالهم وهو أن يتعب نفسه ويصرف ماله طمعا في المثوبة الأخروية ولذلك ذكر (الدِّينِ).

(وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (٢٧) إِنَّ عَذابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ (٢٨) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ (٢٩) إِلاَّ عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (٣٠) فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ)(٣١)

(وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ) خائفون على أنفسهم.

(إِنَّ عَذابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ) اعتراض يدل على أنه لا ينبغي لأحد أن يأمن عذاب الله وإن بالغ في طاعته.

(وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ) سبق تفسيره في سورة «المؤمنين».

(وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ (٣٢) وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهاداتِهِمْ قائِمُونَ (٣٣) وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ (٣٤) أُولئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ)(٣٥)

(وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ) حافظون وقرأ ابن كثير لأمانتهم يعني لا يخونون ولا ينكرون ولا يخفون ما علموه من حقوق الله وحقوق العباد.

والّذين هم بشهادتهم قائمون وقرأ يعقوب وحفص (بِشَهاداتِهِمْ) لاختلاف الأنواع.

(وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ) فيراعون شرائطها ويكملون فرائضها وسننها وتكرير ذكر الصلاة ووصفهم بها أولا وآخرا باعتبارين للدلالة على فضلها وإنافتها على غيرها وفي نظم هذه الصلاة مبالغات لا تخفى.

٢٤٦

(أُولئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ) بثواب الله تعالى.

(فَما لِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ (٣٦) عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ عِزِينَ (٣٧) أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ)(٣٨)

(فَما لِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ) حولك (مُهْطِعِينَ) مسرعين.

(عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ عِزِينَ) فرقا شتى جمع عزة وأصلها عزوة من العزو وكأن كل فرقة تعتزى إلى غير من تعتزى إليه الأخرى. كان المشركون يحتفون حول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حلقا حلقا ويستهزئون بكلامه.

(أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ) بلا إيمان وهو إنكار لقولهم لو صح ما يقوله لنكون فيها أفضل حظا منهم كما في الدنيا.

(كَلاَّ إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ (٣٩) فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِبِ إِنَّا لَقادِرُونَ (٤٠) عَلى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْراً مِنْهُمْ وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ)(٤١)

(كَلَّا) ردع لهم عن هذا الطمع (إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ) تعليل له والمعنى أنهم مخلقون من نطفة مذرة لا تناسب عالم القدس فمن لم يستكمل بالإيمان والطاعة ولم يتخلق بالأخلاق الملكية لم يستعد لدخولها أو إنكم مخلوقون من أجل ما تعلمون وهو تكميل النفس بالعلم والعمل فمن لم يستكملها لم يتبوأ في منازل الكاملين أو الاستدلال بالنشأة الأولى على إمكان النشأة الثانية التي بنوا الطمع على فرضها فرضا مستحيلا عندهم بعد ردعهم عنه.

(فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِبِ إِنَّا لَقادِرُونَ عَلى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْراً مِنْهُمْ) أي نهلكهم ونأتي بخلق أمثل منهم أو نعطي محمدا بدلكم من هو خير منكم وهم الأنصار. (وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ) بمغلوبين إن أردنا ذلك.

(فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (٤٢) يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ سِراعاً كَأَنَّهُمْ إِلى نُصُبٍ يُوفِضُونَ (٤٣) خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ)(٤٤)

(فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ) مر في آخر سورة «الطور».

(يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ سِراعاً) مسرعين جمع سريع (كَأَنَّهُمْ إِلى نُصُبٍ) منصوب للعبادة أو علم (يُوفِضُونَ) يسرعون وقرأ ابن عامر وحفص (إِلى نُصُبٍ) بضم النون والصاد والباقون من السبعة (نُصُبٍ) بفتح النون وسكون الصاد وقرئ بالضم على أنه تخفيف (نُصُبٍ) أو جمع.

(خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ) مر تفسيره (ذلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ) في الدنيا.

عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «من قرأ سورة (سَأَلَ سائِلٌ) أعطاه الله ثواب الذين هم (لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ)».

٢٤٧

(٧١) سورة نوح

مكية وآيها تسع أو ثمان وعشرون آية

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١) قالَ يا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (٢) أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ (٣) يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللهِ إِذا جاءَ لا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ)(٤)

(إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ) أي بأن أي بالإنذار ، أو بأن قلنا له (أَنْذِرْ) ، ويجوز أن تكون مفسرة لتضمن الإرسال معنى القول ، وقرئ بغير (أَنْ) على إرادة القول. (قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) عذاب الآخرة أو الطوفان.

(قالَ يا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ) مر في «الشعراء» نظيره وفي (أَنِ) يحتمل الوجهان.

(يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ) يغفر لكم بعض ذنوبكم وهو ما سبق فإن الإسلام يجبه فلا يؤاخذكم به في الآخرة (وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) هو أقصى ما قدّر لكم بشرط الإيمان والطاعة. (إِنَّ أَجَلَ اللهِ) إن الأجل الذي قدره. (إِذا جاءَ) على الوجه المقدر به آجلا وقيل إذا جاء الأجل الأطول. (لا يُؤَخَّرُ) فبادروا في أوقات الإمهال والتأخير. (لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) لو كنتم من أهل العلم والنظر لعلمتم ذلك ، وفيه أنهم لانهماكهم في حب الحياة كأنهم شاكون في الموت.

(قالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهاراً (٥) فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلاَّ فِراراً (٦) وَإِنِّي كُلَّما دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْباراً (٧) ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهاراً (٨) ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْراراً)(٩)

(قالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهاراً) أي دائما.

(فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلَّا فِراراً) عن الإيمان والطاعة ، وإسناد الزيادة إلى الدعاء على السببية كقوله : (فَزادَتْهُمْ إِيماناً).

(وَإِنِّي كُلَّما دَعَوْتُهُمْ) إلى الإيمان. (لِتَغْفِرَ لَهُمْ) بسببه. (جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ) سدوا مسامعهم عن استماع الدعوة. (وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ) تغطوا بها لئلا يروني كراهة النظر إلي من فرط كراهة دعوتي أو لئلا أعرفهم فأدعوهم ، والتعبير بصيغة الطلب للمبالغة. (وَأَصَرُّوا) وأكبوا على الكفر والمعاصي مستعار من أصر الحمار على العانة إذا صر أذنيه وأقبل عليها. (وَاسْتَكْبَرُوا) عن اتباعي. (اسْتِكْباراً) عظيما.

(ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهاراً ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْراراً) أي دعوتهم مرة بعد أخرى وكرة بعد أولى على أي وجه أمكنني ، و (ثُمَ) لتفاوت الوجوه فإن الجهار أغلظ من الإسرار والجمع بينهما أغلظ

٢٤٨

من الإفراد لتراخي بعضها عن بعض ، و (جِهاراً) نصب على المصدر لأنه أحد نوعي الدعاء ، أو صفة مصدر محذوف بمعنى دعاء (جِهاراً) أي مجاهرا به أو الحال فيكون بمعنى مجاهرا.

(فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً (١٠) يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً (١١) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهاراً)(١٢)

(فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ) بالتوبة عن الكفر. (إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً) للتائبين وكأنهم لما أمرهم بالعبادة قالوا : إن كنا على حق فلا نتركه وإن كنا على باطل فكيف يقبلنا ويلطف بنا من عصيناه ، فأمرهم بما يجب معاصيهم ويجلب إليهم المنح ولذلك وعدهم عليه ما هو أوقع في قلوبهم. وقيل لما طالت دعوتهم وتمادى إصرارهم حبس الله عنهم القطر أربعين سنة ، وأعقم أرحام نسائهم فوعدهم بذلك على الاستغفار عما كانوا عليه بقوله :

(يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهاراً) ولذلك شرع الاستغفار في الاستسقاء. و (السَّماءَ) تحتمل المظلة والسحاب ، والمدرار كثير الدرور ويستوي في هذا البناء المذكر والمؤنث ، والمراد بال (جَنَّاتٍ) البساتين.

(ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً (١٣) وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْواراً)(١٤)

(ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً) لا تأملون له توقيرا أي تعظيما لمن عبده وأطاعه فتكونوا على حال تأملون فيها تعظيمها إياكم ، و (لِلَّهِ) بيان للموقر ولو تأخر لكان صلة للوقار ، أو لا تعتقدون له عظمة فتخافوا عصيانه ، وإنما عبر عن الاعتقاد بالرجاء التابع لأدنى الظن مبالغة.

(وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْواراً) حال مقررة للإنكار من حيث إنها موجبة للرجاء فإنه خلقهم (أَطْواراً) أي تارات ، إذ خلقهم أولا عناصر ، ثم مركبات تغذى بها الإنسان ، ثم أخلاطا ، ثم نطفا ، ثم علقا ، ثم مضغا ، ثم عظاما ولحوما ، ثم أنشأهم خلقا آخر ، فإنه يدل على أنه يمكن أن يعيدهم تارة أخرى فيعظمهم بالثواب وعلى أنه تعالى عظيم القدرة تام الحكمة ، ثم أتبع ذلك ما يؤيده من آيات الآفاق فقال.

(أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللهُ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً (١٥) وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً)(١٦)

(أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللهُ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً) أي في السموات وهو في السماء الدنيا وإنما نسب إليهن لما بينهن من الملابسة. (وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً) مثلها به لأنها تزيل ظلمة الليل عن وجه الأرض كما يزيلها السراج عما حوله.

(وَاللهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً (١٧) ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيها وَيُخْرِجُكُمْ إِخْراجاً (١٨) وَاللهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِساطاً (١٩) لِتَسْلُكُوا مِنْها سُبُلاً فِجاجاً)(٢٠)

(وَاللهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً) أنشأكم منها فاستعير الإنبات للإنشاء لأنه أدل على الحدوث والتكون من الأرض ، وأصله (أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ) إنباتا فنبتم نباتا ، فاختصره اكتفاء بالدلالة الالتزامية.

(ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيها) مقبورين. (وَيُخْرِجُكُمْ إِخْراجاً) بالحشر ، وأكده بالمصدر كما أكد به الأول دلالة على أن الإعادة محققة كالإبداء ، وأنها تكون لا محالة.

(وَاللهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِساطاً) تتقلبون عليها.

(لِتَسْلُكُوا مِنْها سُبُلاً فِجاجاً) واسعة جمع فج ومن لتضمن الفعل معنى الاتخاذ.

٢٤٩

(قالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مالُهُ وَوَلَدُهُ إِلاَّ خَساراً)(٢١)

(قالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي) فيما أمرتهم به. (وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَساراً) واتبعوا رؤساءهم البطرين بأموالهم المغترين بأولادهم بحيث صار ذلك سببا لزيادة خسارهم في الآخرة ، وفيه أنهم إنما اتبعوهم لوجاهة حصلت لهم بالأموال والأولاد وأدت بهم إلى الخسار ، وقرأ ابن كثير وحمزة والكسائي والبصريان (وَوَلَدُهُ) بالضم والسكون على أنه لغة كالحزن والحزن أو جمع كالأسد.

(وَمَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً (٢٢) وَقالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُواعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً)(٢٣)

(وَمَكَرُوا) عطف على (لَمْ يَزِدْهُ) والضمير لمن وجمعه للمعنى. (مَكْراً كُبَّاراً) كبيرا في الغاية فإنه أبلغ من كبار وهو من كبير ، وذلك احتيالهم في الدين وتحريش الناس على أذى نوح.

(وَقالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ) أي عبادتها. (وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُواعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً وَلا تَذَرُنَ) هؤلاء خصوصا ، قيل هي أسماء رجال صالحين كانوا بين آدم ونوح فلما ماتوا صوروا تبركا بهم ، فلما طال الزمان عبدوا. وقد انتقلت إلى العرب فكان ود لكلب ، وسواع لهمدان ، ويغوث لمذحج ، ويعوق لمراد ، ونسر لحمير. وقرأ نافع (وَدًّا) بالضم وقرئ «يغوثا» و «يعوقا» للتناسب ، ومنع صرفهما للعلمية والعجمة.

(وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيراً وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلاَّ ضَلالاً (٢٤) مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا ناراً فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْصاراً)(٢٥)

(وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيراً) الضمير للرؤساء أو للأصنام كقوله : (إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً). (وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلالاً) عطف على (رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي) ، ولعل المطلوب هو الضلال في ترويج مكرهم ومصالح دنياهم لا في أمر دينهم ، أو الضياع والهلاك كقوله : (إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ).

(مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ) من أجل خطيئاتهم ، و «ما» مزيدة للتأكيد والتفخيم ، وقرأ أبو عمرو «مما خطاياهم». (أُغْرِقُوا) بالطوفان. (فَأُدْخِلُوا ناراً) المراد عذاب القبر أو عذاب الآخرة ، والتعقيب لعدم الاعتداد بما بين الإغراق والإدخال ، أو لأن المسبب كالمتعقب للسبب وإن تراخى عنه لفقد شرط أو وجود مانع ، وتنكير النار للتعظيم أو لأن المراد نوع من النيران. (فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْصاراً) تعريض لهم باتخاذ آلهة من دون الله لا تقدر على نصرهم.

(وَقالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً (٢٦) إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلاَّ فاجِراً كَفَّاراً (٢٧) رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلاَّ تَباراً)(٢٨)

(وَقالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً) أي أحدا وهو مما يستعمل في النفي العام فيعال من الدار ، أو الدور وأصله ديوار ففعل به ما فعل بأصل سيد الأفعال وإلا لكان دوارا.

(إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلَّا فاجِراً كَفَّاراً) قال ذلك لما جربهم واستقرى أحوالهم ألف سنة إلا خمسين عاما فعرف شيمهم وطباعهم.

(رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَ) لملك بن متوشلح وشمخا بنت أنوش وكانا مؤمنين. (وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ) منزلي أو مسجدي أو سفينتي. (مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ) إلى يوم القيامة. (وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَباراً) هلاكا.

عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «من قرأ سورة نوح كان من المؤمنين الذين تدركهم دعوة نوح».

٢٥٠

(٧٢) سورة الجن

مكية ، وآيها ثمان وعشرون آية

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقالُوا إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً (١) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً)(٢)

(قُلْ أُوحِيَ إِلَيَ) وقرئ «أحي» وأصله وحى من وحى إليه فقلبت الواو همزة لضمتها ووحى على الأصل وفاعله : (أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِ) والنفر ما بين الثلاثة إلى العشرة ، و (الْجِنِ) أجسام عاقلة خفية يغلب عليهم النارية أو الهوائية. وقيل نوع من الأرواح المجردة وقيل نفوس بشرية مفارقة عن أبدانها ، وفيه دلالة على أنه عليه الصلاة والسلام ما رآهم ولم يقرأ عليهم وإنما اتفق حضورهم في بعض أوقات قراءته فسمعوها فأخبر الله به رسوله. (فَقالُوا) لما رجعوا إلى قومهم. (إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً) كتابا. (عَجَباً) بديعا مباينا لكلام الناس في حسن نظمه ودقة معناه. وهو مصدر وصف به للمبالغة.

(يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ) إلى الحق والصواب. (فَآمَنَّا بِهِ) بالقرآن. (وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً) على ما نطق به الدلائل القاطعة على التوحيد.

(وَأَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا مَا اتَّخَذَ صاحِبَةً وَلا وَلَداً (٣) وَأَنَّهُ كانَ يَقُولُ سَفِيهُنا عَلَى اللهِ شَطَطاً (٤) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللهِ كَذِباً)(٥)

(وَأَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا) قرأه ابن كثير والبصريان بالكسر على أنه من جملة المحكي بعد القول ، وكذا ما بعده إلا قوله : (وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا وَأَنَّ الْمَساجِدَ) ، (وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ) فإنها من جملة الموحى به ووافقهم نافع وأبو بكر إلا في قوله : (وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ) على أنه استئناف أو مقول ، وفتح الباقون الكل إلا ما صدر بالفاء على أن ما كان من قولهم فمعطوف على محل الجار والمجرور في (بِهِ) كأنه قيل : صدقناه وصدقنا (أَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا) أي عظمته من جد فلان في عيني إذا عظم ، أو سلطانه أو غناه مستعار من الجد الذي هو البخت ، والمعنى وصفه بالتعالي عن الصاحبة والولد لعظمته أو لسلطانه أو لغناه وقوله : (مَا اتَّخَذَ صاحِبَةً وَلا وَلَداً) بيان لذلك ، وقرئ «جدا» على التمييز «جدّ ربنا» بالكسر أي صدق ربوبيته ، كأنهم سمعوا من القرآن ما نبههم على خطأ ما اعتقدوه من الشرك واتخاذ الصاحبة والولد.

(وَأَنَّهُ كانَ يَقُولُ سَفِيهُنا) إبليس أو مردة الجن. (عَلَى اللهِ شَطَطاً) قولا ذا شطط وهو البعد ومجاوزة الحد ، أو هو شطط لفرط ما أشط فيه ، وهو نسبة الصاحبة والولد إلى الله.

(وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللهِ كَذِباً) اعتذار عن اتباعهم السفيه في ذلك بظنهم أن أحدا لا يكذب على الله ، و (كَذِباً) نصب على المصدر لأنه نوع من القول أو الوصف المحذوف ، أي قولا مكذوبا فيه ، ومن قرأ (أَنْ لَنْ تَقُولَ) كيعقوب جعله مصدرا لأن التقول لا يكون إلا (كَذِباً).

٢٥١

(وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزادُوهُمْ رَهَقاً (٦) وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَما ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللهُ أَحَداً)(٧)

(وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِ) فإن الرجل كان إذا أمسى بقفر قال أعوذ بسيد هذا الوادي من شر سفهاء قومه. (فَزادُوهُمْ) فزادوا الجن باستعاذتهم بهم. (رَهَقاً) كبرا وعتوا ، أو فزاد الجن الإنس غيا بأن أضلوهم حتى استعاذوا بهم ، والرهق في الأصل غشيان الشيء.

(وَأَنَّهُمْ) وأن الإنس. (ظَنُّوا كَما ظَنَنْتُمْ) أيها الجن أو بالعكس ، والآيتان من كلام الجن بعضهم لبعض أو استئناف كلام من الله تعالى ، ومن فتح أن فيهما جعلهما من الموحى به. (أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللهُ أَحَداً) ساد مسد مفعولي (ظَنُّوا).

(وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً (٨) وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً)(٩)

(وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ) طلبنا بلوغ السماء أو خبرها ، واللمس مستعار من المس للطلب كالجس يقال لمسه والتمسه وتلمسه كطلبه واطلبه وتطلبه. (فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَساً) حراسا اسم جمع كالخدم. (شَدِيداً) قويا وهم الملائكة الذين يمنعونهم عنها. (وَشُهُباً) جمع شهاب وهو المضيء المتولد من النار.

(وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ) مقاعد خالية عن الحرس والشهب ، أو صالحة للترصد والاستماع ، و (لِلسَّمْعِ) صلة ل (نَقْعُدُ) أو صفة ل (مَقاعِدَ). (فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً)

أي شهابا راصدا له ولأجله يمنعه عن الاستماع بالرجم ، أو ذوي شهاب راصدين على أنه اسم جمع للراصد ، وقد مر بيان ذلك في «الصافات».

(وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً (١٠) وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذلِكَ كُنَّا طَرائِقَ قِدَداً)(١١)

(وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ) بحراسة السماء. (أَمْ أَرادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً) خيرا.

(وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ) المؤمنون الأبرار. (وَمِنَّا دُونَ ذلِكَ) أي قوم دون ذلك فحذف الموصوف وهم المقتصدون. (كُنَّا طَرائِقَ) ذوي طرائق أي مذاهب ، أو مثل طرائق في اختلاف الأحوال أو كانت طرائقنا طرائق. (قِدَداً) متفرقة مختلفة جمع قدة من قدّ إذا قطع.

(وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللهَ فِي الْأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَباً (١٢) وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدى آمَنَّا بِهِ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخافُ بَخْساً وَلا رَهَقاً)(١٣)

(وَأَنَّا ظَنَنَّا) علمنا. (أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللهَ فِي الْأَرْضِ) كائنين في الأرض أينما كنا فيها. (وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَباً) هاربين منها إلى السماء ، أو لن نعجزه في الأرض إن أراد بنا أمرا ولن نعجزه هربا إن طلبنا.

(وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدى) أي القرآن. (آمَنَّا بِهِ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخافُ) فهو لا يخاف ، وقرئ «فلا يخف» والأول أدل على تحقيق نجاة المؤمنين واختصاصها بهم. (بَخْساً وَلا رَهَقاً) نقصا في الجزاء ولا أن يرهقه ذلة ، أو جزاء بخس لأنه لم يبخس لأحد حقا ولم يرهق ظلما ، لأن من حق المؤمن بالقرآن أن يجتنب ذلك.

٢٥٢

(وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً (١٤) وَأَمَّا الْقاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً)(١٥)

(وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقاسِطُونَ) الجائرون عن طريق الحق وهو الإيمان والطاعة. (فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً) توخوا رشدا عظيما يبلغهم إلى دار الثواب.

(وَأَمَّا الْقاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً) توقد بهم كما توقد بكفار الإنس.

(وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً (١٦) لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذاباً صَعَداً)(١٧)

(وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا) أي أن الشأن لو استقام الجن أو الإنس أو كلاهما. (عَلَى الطَّرِيقَةِ) أي على الطريقة المثلى. (لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً) لوسعنا عليهم الرزق ، وتخصيص الماء الغدق وهو الكثير بالذكر لأنه أصل المعاش والسعة ولعزة وجوده بين العرب.

(لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ) لنختبرهم كيف يشكرونه ، وقيل معناه أن لو استقام الجن على طريقتهم القديمة ولم يسلموا باستماع القرآن لوسعنا عليهم الرزق مستدرجين لهم لنوقعهم في الفتنة ونعذبهم في كفرانهم. (وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ) عن عبادته أو موعظته أو وحيه. (يَسْلُكْهُ) يدخله وقرأ غير الكوفيين بالنون. (عَذاباً صَعَداً) شاقا يعلو المعذب ويغلبه مصدر وصف به.

(وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَداً (١٨) وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللهِ يَدْعُوهُ كادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً)(١٩)

(وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ) مختصة به. (فَلا تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَداً) فلا تعبدوا فيها غيره ، ومن جعل (أَنَ) مقدرة باللام علة للنهي ألغى فائدة الفاء ، وقيل المراد ب (الْمَساجِدَ) الأرض كلها لأنها جعلت للنبي عليه الصلاة والسلام مسجدا. وقيل المسجد الحرام لأنه قبلة المساجد ومواضع السجود على أن المراد النهي عن السجود لغير الله ، وآرابه السبعة أو السجدات على أنه جمع مسجد.

(وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللهِ) أي النبي عليه الصلاة والسلام وإنما ذكر بلفظ العبد للتواضع فإنه واقع موقع كلامه عن نفسه ، والإشعار بما هو المقتضى لقيامه. (يَدْعُوهُ) يعبده (كادُوا) كاد الجن. (يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً) متراكمين من ازدحامهم عليه تعجبا مما رأوا من عبادته وسمعوا من قراءته ، أو كاد الإنس والجن يكونون عليه مجتمعين لإبطال أمره ، وهو جمع لبدة وهي ما تلبد بعضه على بعض كلبدة الأسد ، وعن ابن عامر «لبدا» بضم اللام جمع لبدة وهي لغة. وقرئ «لبدا» كسجدا جمع لا بد و (لِبَداً) كصبر جمع لبود.

(قُلْ إِنَّما أَدْعُوا رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً (٢٠) قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَداً)(٢١)

قال (إِنَّما أَدْعُوا رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً) فليس ذلك ببدع ولا منكر يوجب تعجبكم أو إطباقكم على مقتي ، وقرأ عاصم وحمزة (قُلْ) على الأمر للنبي عليه الصلاة والسلام ليوافق ما بعده.

(قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَداً) ولا نفعا أو غيا ، عبر عن أحدهما باسمه وعن الآخر باسم سببه أو مسببه إشعارا بالمعنيين.

(قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً (٢٢) إِلاَّ بَلاغاً مِنَ اللهِ وَرِسالاتِهِ وَمَنْ يَعْصِ

٢٥٣

اللهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً (٢٣) حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ ناصِراً وَأَقَلُّ عَدَداً)(٢٤)

(قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللهِ أَحَدٌ) إن أراد بي سوءا. (وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً) منحرفا أو ملتجأ وأصله المدخل من اللحد.

(إِلَّا بَلاغاً مِنَ اللهِ) استثناء من قوله لا أملك فإن التبليغ إرشاد وإنفاع وما بينهما اعتراض مؤكد لنفي الاستطاعة ، أو من ملتحدا أو معناه أن لا أبلغ بلاغا وما قبله دليل الجواب. (وَرِسالاتِهِ) عطف على (بَلاغاً) و (مِنَ اللهِ) صفته فإن صلته عن كقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «بلغوا عني ولو آية». (وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ) في الأمر بالتوحيد إذ الكلام فيه. (فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ) وقرئ «فإن» على فجزاؤه أن. (خالِدِينَ فِيها أَبَداً) جمعه للمعنى.

(حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ) في الدنيا كوقعة بدر ، أو في الآخرة والغاية لقوله : (يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً) بالمعنى الثاني ، أو لمحذوف دل عليه الحال من استضعاف الكفار له وعصيانهم له. (فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ ناصِراً وَأَقَلُّ عَدَداً) هو أم هم.

(قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ ما تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَداً (٢٥) عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً(٢٦) إِلاَّ مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً)(٢٧)

(قُلْ إِنْ أَدْرِي) ما أدري. (أَقَرِيبٌ ما تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَداً) غاية تطول مدتها كأنه لما سمع المشركون (حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ) قالوا متى يكون إنكارا ، فقيل قل إنه كائن لا محالة ولكن لا أدري ما وقته.

(عالِمُ الْغَيْبِ) هو عالم الغيب. (فَلا يُظْهِرُ) فلا يطلع. (عَلى غَيْبِهِ أَحَداً) أي على الغيب المخصوص به علمه.

(إِلَّا مَنِ ارْتَضى) لعلم بعضه حتى يكون له معجزة. (مِنْ رَسُولٍ) بيان ل (مَنِ) ، واستدل به على إبطال الكرامات ، وجوابه تخصيص الرسول بالملك والإظهار بما يكون بغير وسط ، وكرامات الأولياء على المغيبات إنما تكون تلقيا عن الملائكة كاطلاعنا على أحوال الآخرة بتوسط الأنبياء. (فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ) من بين يدي المرتضى (وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً) حرسا من الملائكة يحرسونه من اختطاف الشياطين وتخاليطهم.

(لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ وَأَحاطَ بِما لَدَيْهِمْ وَأَحْصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً)(٢٨)

(لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا) أي ليعلم النبي الموحى إليه أن قد أبلغ جبريل والملائكة النازلون بالوحي ، أو ليعلم الله تعالى أن قد أبلغ الأنبياء بمعنى ليتعلق علمه به موجودا. (رِسالاتِ رَبِّهِمْ) كما هي محروسة من التغيير. (وَأَحاطَ بِما لَدَيْهِمْ) بما عند الرسل. (وَأَحْصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً) حتى القطر والرمل.

عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «من قرأ سورة الجن كان له بعدد كل جني صدق محمدا أو كذب به عتق رقبة».

٢٥٤

(٧٣) سورة المزمل

مكية ، وآيها تسع عشرة أو عشرون

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (١) قُمِ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً)(٢)

(يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ) أصله المتزمل من تزمل بثيابه إذا تلفف بها فأدغم التاء في الزاي وقد قرئ به ، وب «المزّمّل» مفتوحة الميم ومكسورتها أي الذي زمله غيره ، أو زمل نفسه ، سمي به النبي عليه الصلاة والسلام تهجينا لما كان عليه فإنه كان نائما ، أو مرتعدا مما دهشه من بدء الوحي متزملا في قطيفة أو تحسينا له. إذ روي : أنه عليه الصلاة والسلام كان يصلي متلففا بمرط مفروش على عائشة رضي الله تعالى عنها فنزلت. أو تشبيها له في تثاقله بالمتزمل لأنه لم يتمرن بعد في قيام الليل ، أو من تزمل الزمل إذا تحمل الحمل أي الذي تحمل أعباء النبوة.

(قُمِ اللَّيْلَ) أي قم إلى الصلاة ، أو داوم عليها فيه ، وقرئ بضم الميم وفتحها للإتباع أو التخفيف. (إِلَّا قَلِيلاً).

(نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً (٣) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً (٤) إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً)(٥)

(نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً أَوْ زِدْ عَلَيْهِ) الاستثناء من (اللَّيْلَ) و (نِصْفَهُ) بدل من (قَلِيلاً) وقلته بالنسبة إلى الكل ، والتخيير بين قيام النصف والزائد عليه كالثلثين والناقص عنه كالثلث ، أو (نِصْفَهُ) بدل من (اللَّيْلَ) والاستثناء منه والضمير في (مِنْهُ) و (عَلَيْهِ) للأقل من النصف كالثلث فيكون التخيير بينه وبين الأقل منه كالربع ، والأكثر منه كالنصف أو للنصف والتخيير بين أن يقوم أقل منه على البت وأن يختار أحد الأمرين من الأقل والأكثر ، أو الاستثناء من إعداد الليل فإنه عام والتخيير بين قيام النصف والناقص عنه والزائد عليه. (وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً) اقرأه على تؤدة وتبيين حروف بحيث يتمكن السامع من عدها من قوله ثغر رتل ورتل إذا كان مفلجا.

(إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً) يعني القرآن فإنه لما فيه من التكاليف الشاقة ثقيل على المكلفين سيما على الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذ كان عليه أن يتحملها ويحملها أمته ، والجملة اعتراض يسهل التكليف عليه بالتهجد ، ويدل على أنه مشق مضاد للطبع مخالف للنفس ، أو رصين لرزانة لفظه ومتانة معناه ، أو ثقيل على المتأمل فيه لافتقاره إلى مزيد تصفية للسر وتجريد للنظر ، أو ثقيل في الميزان أو على الكفار والفجار ، أو ثقيل تلقيه لقوله عائشة رضي الله تعالى عنها : رأيته عليه الصلاة والسلام ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد ، فيفصم عنه وإن جبينه ليرفض عرقا. وعلى هذا يجوز أن يكون صفة للمصدر والجملة على هذه الأوجه للتعليل مستأنف ، فإن التهجد يعد للنفس ما به تعالج ثقله.

٢٥٥

(إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلاً (٦) إِنَّ لَكَ فِي النَّهارِ سَبْحاً طَوِيلاً) (٧)

(إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ) إن النفس التي تنشأ من مضجعها إلى العبادة من نشأ من مكانه إذا نهض وقام قال :

نشأنا إلى خوص برى نهيا السّرى

وألصق منها مشرفات القماحد

أو قيام الليل على أن ال (ناشِئَةَ) له أو العبادة التي تنشأ بالليل أي تحدث ، أو ساعات الليل لأنها تحدث واحدة بعد أخرى ، أو ساعاتها الأول من نشأت إذا ابتدأت. (هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً) أي كلفة أو ثبات قدم ، وقرأ أبو عمرو وابن عامر (وَطْئاً) بكسر الواو وألف ممدودة أي مواطأة القلب اللسان لها ، أو فيها أو موافقة لما يراد منها من الخضوع والإخلاص. (وَأَقْوَمُ قِيلاً) أي وأسد مقالا أو أثبت قراءة لحضور القلب وهدوء الأصوات.

(إِنَّ لَكَ فِي النَّهارِ سَبْحاً طَوِيلاً) تقلبا في مهماتك واشتغالا بها فعليك بالتهجد ، فإن مناجاة الحق تستدعي فراغا. وقرئ «سبخا» أي تفرق قلب بالشواغل مستعار من سبخ الصوف وهو نفشه ونشر أجزائه.

(وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً (٨) رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً) (٩)

(وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ) ودم على ذكره ليلا ونهارا ، وذكر الله يتناول كل ما يذكر به من تسبيح وتهليل وتمجيد وتحميد وصلاة وقراءة قرآن ودراسة علم. (وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً) وانقطع إليه بالعبادة وجرد نفسك عما سواه ، ولهذه الرمزة ومراعاة الفواصل وضعه موضع تبتلا.

(رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ) خبر محذوف أو مبتدأ خبره : (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) وقرأ ابن عامر والكوفيون غير حفص ويعقوب بالجر على البدل من ربك ، وقيل بإضمار حرف القسم وجوابه (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ). (فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً) مسبب عن التهليل ، فإن توحده بالألوهية يقتضي أن توكل إليه الأمور.

(وَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً (١٠) وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً)(١١)

(وَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ) من الخرافات. (وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً) بأن تجانبهم وتداريهم ولا تكافئهم وتكل أمرهم إلى الله فالله يكفيكهم كما قال :

(وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ) دعني وإياهم وكل أمرهم فإن بي غنية عنك في مجازاتهم. (أُولِي النَّعْمَةِ) أرباب التنعم ، يريد صناديد قريش. (وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً) زمانا أو إمهالا.

(إِنَّ لَدَيْنا أَنْكالاً وَجَحِيماً (١٢) وَطَعاماً ذا غُصَّةٍ وَعَذاباً أَلِيماً (١٣) يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ وَكانَتِ الْجِبالُ كَثِيباً مَهِيلاً)(١٤)

(إِنَّ لَدَيْنا أَنْكالاً) تعليل للأمر ، والنكل القيد الثقيل. (وَجَحِيماً).

(وَطَعاماً ذا غُصَّةٍ) طعاما ينشب في الحلق كالضريع والزقوم. (وَعَذاباً أَلِيماً) ونوعا آخر من العذاب مؤلما لا يعرف كنهه إلا الله تعالى ، ولما كانت العقوبات الأربع مما تشترك فيها الأشباح والأرواح فإن النفوس العاصية المنهمكة في الشهوات تبقى مقيدة بحبها والتعلق بها ، عن التخلص إلى عالم المجردات متحرقة بحرقة الفرقة متجرعة غصة الهجران معذبة بالحرمان عن تجلي أنوار القدس ، فسر العذاب بالحرمان عن لقاء الله تعالى.

(يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ) تضطرب وتتزلزل ظرف لما في (إِنَّ لَدَيْنا أَنْكالاً) من معنى الفعل.

٢٥٦

(وَكانَتِ الْجِبالُ كَثِيباً) رملا مجتمعا كأنه فعيل بمعنى مفعول من كثبت الشيء إذا جمعته. (مَهِيلاً) منثورا من هيل هيلا إذا نثر.

(إِنَّا أَرْسَلْنا إِلَيْكُمْ رَسُولاً شاهِداً عَلَيْكُمْ كَما أَرْسَلْنا إِلى فِرْعَوْنَ رَسُولاً (١٥) فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْناهُ أَخْذاً وَبِيلاً)(١٦)

(إِنَّا أَرْسَلْنا إِلَيْكُمْ رَسُولاً) يا أهل مكة. (شاهِداً عَلَيْكُمْ) يشهد عليكم يوم القيامة بالإجابة والامتناع. (كَما أَرْسَلْنا إِلى فِرْعَوْنَ رَسُولاً) يعني موسى عليه الصلاة والسلام ولم يعينه لأن المقصود لم يتعلق به.

(فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ) عرفه لسبق ذكره. (فَأَخَذْناهُ أَخْذاً وَبِيلاً) ثقيلا من قولهم طعام وبيل لا يستمرأ لثقله ، ومنه الوابل للمطر العظيم.

(فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً (١٧) السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كانَ وَعْدُهُ مَفْعُولاً (١٨) إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً)(١٩)

(فَكَيْفَ تَتَّقُونَ) أنفسكم. (إِنْ كَفَرْتُمْ) بقيتم على الكفر. (يَوْماً) عذاب يوم. (يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً) من شدة هوله وهذا على الفرض أو التمثيل ، وأصله أن الهموم تضعف القوى وتسرع الشيب ، ويجوز أن يكون وصفا لليوم بالطول.

(السَّماءُ مُنْفَطِرٌ) منشق والتذكير على تأويل السقف أو إضمار شيء. (بِهِ) بشدة ذلك اليوم على عظمها وأحكامها فضلا عن غيرها والباء للآلة. (كانَ وَعْدُهُ مَفْعُولاً) الضمير لله عزوجل أو لليوم على إضافة المصدر إلى المفعول.

(إِنَّ هذِهِ) أي الآيات الموعدة. (تَذْكِرَةٌ) عظة. (فَمَنْ شاءَ) أن يتعظ. (اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً) أي يتقرب إليه بسلوك التقوى.

(إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللهِ وَآخَرُونَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَقْرِضُوا اللهَ قَرْضاً حَسَناً وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً وَاسْتَغْفِرُوا اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)(٢٠)

(إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ) استعار الأدنى للأقل لأن الأقرب إلى الشيء أقل بعدا منه ، وقرأ ابن كثير والكوفيون (وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ) بالنصب عطفا على (أَدْنى). (وَطائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ) ويقوم ذلك جماعة من أصحابك. (وَاللهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ) لا يعلم مقادير ساعاتهما كما هي إلا الله تعالى ، فإن تقديم اسمه مبتدأ مبنيا عليه (يُقَدِّرُ) يشعر بالاختصاص ويؤيده قوله : (عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ) أي لن تحصوا تقدير الأوقات ولن تستطيعوا ضبط الساعات. (فَتابَ عَلَيْكُمْ) بالترخص في ترك القيام المقدر ورفع التبعة فيه كما رفع التبعة عن التائب. (فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ) فصلوا ما تيسر عليكم من صلاة الليل ، عبر عن الصلاة بالقرآن كما عبر عنها بسائر أركانها ، قيل كان التهجد واجبا على التخيير المذكور فعسر عليهم القيام به فنسخ به ، ثم نسخ هذا بالصلوات الخمس ، أو فاقرؤوا القرآن بعينه كيفما تيسر عليكم. (عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى) استئناف يبين حكمة أخرى مقتضية للترخيص والتخفيف ولذلك كرر الحكم مرتبا

٢٥٧

عليه وقال : (وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللهِ) والضرب في الأرض ابتغاء للفضل المسافرة للتجارة وتحصيل العلم (وَآخَرُونَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ) المفروضة. (وَآتُوا الزَّكاةَ) الواجبة. (وَأَقْرِضُوا اللهَ قَرْضاً حَسَناً) يريد به الأمر في سائر الإنفاقات في سبل الخيرات ، أو بأداء الزكاة على أحسن وجه ، والترغيب فيه بوعد العوض كما صرح به في قوله : (وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً) من الذي تؤخرونه إلى الوصية عند الموت أو من متاع الدنيا ، و (خَيْراً) ثاني مفعولي (تَجِدُوهُ) وهو تأكيد أو فصل ، لأن أفعل من كالمعرفة ولذلك يمتنع من حرف التعريف ، وقرئ «هو خير» على الابتداء والخبر. (وَاسْتَغْفِرُوا اللهَ) في مجامع أحوالكم فإن الإنسان لا يخلو من تفريط. (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ).

عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «من قرأ سورة المزمل رفع الله عنه العسر في الدنيا والآخرة».

٢٥٨

(٧٤) سورة المدثر

مكية ، وآيها خمس وخمسون آية

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (١) قُمْ فَأَنْذِرْ)(٢)

(يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ) أي المتدثر وهو لابس الدثار. روي أنه عليه الصلاة والسلام قال «كنت بحراء فنوديت فنظرت عن يميني وشمالي فلم أر شيئا ، فنظرت فوقي فإذا هو على عرش بين السماء والأرض ـ يعني الملك الذي ناداه ـ فرعبت فرجعت إلى خديجة فقلت : دثروني ، فنزل جبريل وقال : (يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ) ولذلك قيل هي أول سورة نزلت. وقيل تأذى من قريش فتغطي بثوبه مفكرا ، أو كان نائما متدثرا فنزلت ، وقيل المراد بالمدثر المتدثر بالنبوة والكمالات النفسانية ، أو المختفي فإنه كان بحراء كالمختفي فيه على سبيل الاستعارة ، وقرئ «المدثر» أي الذي دثر هذا الأمر وعصب به.

(قُمْ) من مضجعك أو قم قيام عزم وجد. (فَأَنْذِرْ) مطلق للتعميم أو مقدر بمفعول دل عليه قوله: (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) أو قوله : (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً).

(وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (٣) وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ)(٤)

(وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ) وخصص ربك بالتكبير وهو وصفه بالكبرياء عقدا وقولا ، روي أنه لما نزل كبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأيقن أنه الوحي ، وذلك لأن الشيطان لا يأمر بذلك والفاء فيه وفيما بعده لإفادة معنى الشرط وكأنه قال : وما يكن فكبر ربك ، أو الدلالة على أن المقصود الأول من الأمر بالقيام أن يكبر ربه عن الشرك والتشبيه ، فإن أول ما يجب معرفة الصانع وأول ما يجب بعد العلم بوجوده تنزيهه ، والقوم كانوا مقرين به.

(وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ) من النجاسات فإن التطهير واجب في الصلوات محبوب في غيرها ، وذلك بغسلها أو بحفظها عن النجاسة بتقصيرها مخافة جر الذيول فيها ، وهو أول ما أمر به من رفض العادات المذمومة ، أو طهر نفسك من الأخلاق الذميمة والأفعال الدنيئة ، فيكون أمرا باستكمال القوة العملية بعد أمره باستكمال القوّة النظرية والدعاء إليه ، أو فطهر دثار النبوة عما يدنسه من الحقد والضجر وقلة الصبر.

(وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (٥) وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ (٦) وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ)(٧)

(وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ) فاهجر العذاب بالثبات على هجر ما يؤدي إليه من الشرك وغيره من القبائح ، وقرأ يعقوب وحفص (وَالرُّجْزَ) بالضم وهو لغة كالذكر.

(وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ) أي لا تعط مستكثرا ، نهى عن الاستفزار وهو أن يهب شيئا طامعا في عوض أكثر ، نهي تنزيه أو نهيا خاصا به لقوله عليه الصلاة والسلام «المستفزر يثاب من هبته» والموجب له ما فيه من الحرص والضنة ، أو (لا تَمْنُنْ) على الله تعالى بعبادتك مستكثرا إياها ، أو على الناس بالتبليغ مستكثرا به الأجر منهم أو مستكثرا إياه ، وقرئ «تستكثر» بالسكون للوقف أو الإبدال من تمنن على أنه من من بكذا ، أو

٢٥٩

(تَسْتَكْثِرُ) بمعنى تجده كثيرا وبالنصب على إضمار أن ، وقد قرئ بها وعلى هذا يجوز أن يكون الرفع بحذفها وإبطال عملها ، كما روي : احضر الوغى. بالرفع.

(وَلِرَبِّكَ) لوجهه أو أمره. (فَاصْبِرْ) فاستعمل الصبر ، أو فاصبر على مشاق التكاليف وأذى المشركين.

(فَإِذا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ (٨) فَذلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ (٩) عَلَى الْكافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ)(١٠)

(فَإِذا نُقِرَ) نفخ. (فِي النَّاقُورِ) في الصور فاعول من النقر بمعنى التصويت وأصله القرع الذي هو سبب الصوت ، والفاء للسببية كأنه قال : اصبر على زمان صعب تلقى فيه عاقبة صبرك وأعداؤك عاقبة ضرهم ، و «إذا» ظرف لما دل عليه قوله :

(فَذلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ عَلَى الْكافِرِينَ) لأن معناه عسر الأمر على الكافرين ، وذلك إشارة إلى وقت النقر ، وهو مبتدأ خبره (يَوْمٌ عَسِيرٌ) و (يَوْمَئِذٍ) بدل أو ظرف لخبره إذ التقدير : فذلك الوقت وقت وقوع (يَوْمٌ عَسِيرٌ). (غَيْرُ يَسِيرٍ) تأكيد بمنع أن يكون عسيرا عليهم من وجه دون وجه ويشعر بيسره على المؤمنين.

(ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً (١١) وَجَعَلْتُ لَهُ مالاً مَمْدُوداً (١٢) وَبَنِينَ شُهُوداً)(١٣)

(ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً) نزلت في الوليد بن المغيرة ، و (وَحِيداً) حال من الياء أي ذرني وحدي معه فإني أكفيكه ، أو من التاء أي ومن خلقته وحدي لم يشركني في خلقه أحد ، أو من العائد المحذوف أي من خلقته فريدا لا مال له ولا ولد ، أو ذم فإنه كان ملقبا به فسماه الله به تهكما ، أو إرادة أنه وحيد ولكن في الشرارة أو عن أبيه فإنه كان زنيما.

(وَجَعَلْتُ لَهُ مالاً مَمْدُوداً) مبسوطا كثيرا أو ممدا بالنماء ، وكان له الزرع والضرع والتجارة.

(وَبَنِينَ شُهُوداً) حضورا معه بمكة يتمتع بلقائهم لا يحتاجون إلى سفر لطلب المعاش استغناء بنعمته ، ولا يحتاج إلى أن يرسلهم في مصالحه لكثرة خدمه ، أو في المحافل والأندية لوجاهتهم واعتبارهم. قيل كان له عشرة بنين أو أكثر كلهم رجال ، فأسلم منهم ثلاثة خالد وعمارة وهشام.

(وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً (١٤) ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ) (١٥)

(وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً) وبسطت له الرياسة والجاه العريض حتى لقب ريحانة قريش والوحيد أي باستحقاقه الرياسة والتقدم.

(ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ) على ما أوتيه وهو استبعاد لطمعه إما لأنه لا مزيد على ما أوتي ، أو لأنه لا يناسب ما هو عليه من كفران النعم ومعاندة المنعم ولذلك قال :

(كَلاَّ إِنَّهُ كانَ لِآياتِنا عَنِيداً (١٦) سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً)(١٧)

(كَلَّا إِنَّهُ كانَ لِآياتِنا عَنِيداً) فإنه ردع له عن الطمع وتعليل للردع على سبيل الاستئناف بمعاندة آيات المنعم المناسبة لإزالة النعمة المانعة عن الزيادة ، قيل : ما زال بعد نزول هذه الآية في نقصان ماله حتى هلك.

(سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً) سأغشيه عقبة شاقة المصعد ، وهو مثل لما يلقى من الشدائد. وعنه عليه الصلاة والسلام «الصعود جبل من نار يصعد فيه سبعين خريفا ثم يهوي فيه كذلك أبدا».

(إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (١٨) فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (١٩) ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ) (٢٠).

٢٦٠